قوم إذا عشقوا ماتوا: قصص الحب العربية القديمة
الكلام عن الحب في الشعر والنثر على السواء، شكَّل صفات متناقضة للحب العذري والحب الحسي السافر، مؤسسًا لنمط رائع من التراث العاطفي الذي لا يُنسى.
كان العصر الأموي (40/660-132/750) عصر تشكيل حدثت فيه تغييرات رئيسية في الأدب العربي، شعره ونثره. ففي هذا العصر احتلت قصص الحب في اللغة العربية، خاصة في الحجاز، مكانها البارز من الصف الأمامي، مشيرةً إلى ظهور تيار عاطفي في الأدب جاء جوابًا على القلق العميق الذي استولى على عرب الجاهلية بظهور دين جديد مسيطر على كل شيء، وعلى التغيرات المفاجئة والتناقضات التي أحدقت بالحياة العربية والصعوبة في التكيف مع المدنية الجديدة النامية.
أضف إلى ذلك تجريد الحجاز من وضعها السابق كمركز للحياة السياسية، والقلق الذي أصاب أشرافها المحبطين الذين بقوا هناك. لقد حدث صراع سياسي رفع آمال البعض وأحبط الآخرين. كما كان هناك تغير اجتماعي كبير جاء به نمط الحياة الجديد المتمثل بالمدنية الناشئة وقدوم الكثرة من غير العرب إلى المدن التي أخذت تنمو، سواء منها القديمة والجديدة، بمن في هؤلاء الإماء والقيان.
لقد كانت هناك مقاومة نفسية لنمط الحياة الجديدة التي كانت تهدّد الموروث والأعراف والعادات الراسخة التي أبدت مرونة أمام التغيير؛ وكانت هناك فرصة تغري بالهجرة إلى البقاع الأكثر خصوبة، بعيدًا عن بيئة الصحراء الحبيبة، لكن القاحلة، التي استوطنها تاريخهم وأعرافهم قرونًا لا تحصى. وبالرغم من التحسن الكبير الذي غيّر حظوظ المسلمين الجدد وفتح لهم آفاقًا واسعة، فإن التغييرات التي فُرضت عليهم قد أربكتهم وأخافتهم وأشعرتهم بالحنين للحياة المفقودة، خاصة حياة البداوة.
وكانت ثمة حاجة لدى الأدب للتغيير باعتباره فنًا. فبعد كل هذا التحول الهائل، وما كان للغة القرآن وأسلوبه من أثر، برزت ضرورة ملحة للتغيير في مادة الموضوع، وفي لغة الأدب وأسلوبه. كان الأدب يحتاج إلى منافذ مختلفة تعكس العصر الضجِر الجديد. بسبب ذلك كان القلق العام الذي شمل المراكز المختلفة للعالم العربي المتمدد. كانت الحجاز أولى المراكز الجديدة للأدب في العصر الأموي، وهي مولد الإسلام ومهده الأول الذي فقد من فوره قوته المركزية للأمويين في دمشق. وكان العراق المركز الثاني، وهو بؤرة الكفاح والضجر الأبدية؛ كذلك تبوأت دمشق، حيث موطن القوة، المركز الثالث. وكان لكل من هذه المراكز صفات أدبية مختلفة. فبينما كانت دمشق تشجع المديح بشكل خاص، فإن شعراء البصرة والكوفة، وكان أشهرهم الفرزدق (24/640-111/729) وجرير (33/653-113/727)، مالوا إلى الهجاء الطريف.
أما بقية بلاد العرب، خاصة الحجاز، بلاد الأحلام المحبطة، فقد ركزت أكثر على أدب الحب، وكانت مركزًا للموسيقى والغناء وقصص الحب. فإن كان للهجاء العنيف في العراق أثر من رومانسية مبتذلة اكتُسبت مبكرًا جدًّا، فإن نوعًا من الرومانسية أنقى وأكثر مباشرة قد أضاء الأدب العاطفي الثر، خاصة لدى العشاق العذريين في العصر الأموي.
عزا الكثيرون من مؤرخي الأدب ظاهرة قصص الحب بصورة رئيسية إلى أسباب اجتماعية وسياسية: فالحجاز، حيث وُلدت أعظم ثورة روحية، ومن حيث جاءت أقوى اندفاعة إلى العالم قبل ما لا يزيد على بضعة عقود، أصبحت، في العهد الأموي، تعاني مواتًا سياسيًّا بعد انتقال سدّة الحكم إلى دمشق، انتقالًا أُريد منه تجريد الحجاز من الزخم السياسي ما أمكن. بيد أنها كانت فترة قلق عظيم للعرب جميعًا، وهم من تغيرت حياتهم كلها على مدى جيل واحد فقط. ذلك أنهم لم يستطيعوا على الفور هضم ما استولى عليهم بهذه السرعة من تغير جذري في كمية الثروة وفي نمط الحياة والآمال، فوجدوا أنفسهم وقد أحاطت بهم القلاقل السياسية، والحروب المدنية، والانقسامات الطائفية. فكان التنفيس عن النفوس المتشنجة مدفوعًا بالحاجة إلى الهروب والتعبير الحسي عما يجيش في النفس. ولم يقتصر التعبير عن حالهم على التمرد الشخصي وحده، بل عُبِّر عنه أيضًا بالشعر العاطفي الحسي في الحجاز، والشعر الهجائي الذي ترددت أصداؤه في الأسواق الأدبية الشهيرة في العراق، سوق المربد في البصرة والكُناسة في الكوفة. وهذان الجنسان إنما هما نوع من التنفيس، فالعاطفي الحسي والهجائي كلاهما لقيا طلبًا شعبيًّا كبيرًا.
والكلام عن الحب، في الشعر والنثر على السواء، شكَّل صفات متناقضة للحب العذري والحب الحسي السافر، مؤسسًا لنمط رائع من التراث العاطفي الذي لا يُنسى والذي انتقل للخلف وبقي حيًّا للأبد.
هنا لا بد لنا من القول إن هذين النوعين من قصص الحب لم يكونا أمويين تمامًا؛ فالمسرح كان أعد من قبل في العصر الجاهلي بقصص مثل قصة "مداد ومي" (انظر ما يلي) المذكورة في كتاب التيجان. فقد كانت هذه شكلًا مبكرًا من قصص الحب العذري المأساوي الذي كان له أن ينتشر بقوة في العصر الأموي. إنها قصة حب لم يكتمل بين مداد، وهو شاب من أشراف مكة، وابنة عمه مي. وقد انتهت القصة بانتحار العاشقين عطشًا. ذلك أنهما، إذ حطمهما اليأس والوجد، امتنعا عن الماء وماتا عطشًا، كل منهما على حدة (وهو ما يُضفي الطبيعة المخالفة للإسلام في القصة).
هناك قصة أخرى، هي أقرب للعصر الأموي بسبب علاقة الشاعر المرقِّش الأكبر بها في القرن السادس. كانت قصة حبه لابنة عمه، أسماء، التي انتهت إلى المصير ذاته في قصص الحب الشهيرة الأخرى في العصر الأموي، حكاية علاقة يائسة، إذ تتزوج المحبوبة من رجل آخر، ويصاب العاشق بالهزال بحثًا عنها حتى يموت. ولم يبقَ لنا من شعر هذا الشاعر سوى ست قطع، لكن القصة نفسها سرد جميل معقد. لم تكن القصة عن حب المرقش لأسماء فحسب، بل عن الجشع والخيانة حين يرسله أبوها، وقد وعده بأن يزوجه إياها، ليبحث عن مَهر لها، ثم يزوجها من رجل غني؛ وعن القسوة والخداع حين تتركه الخادمة وزوجها اللذان رافقاه في بحثه عن أسماء ليموت وحيدًا في أحد الكهوف؛ وعن إخلاص الأخ حين يكتشف الوضع فيُهرع لمساعدته، لكنه يصل متأخرًا. إنها قصة معقدة تصلح لفيلم حديث.
ومن جانب آخرَ، هناك قصة من العصر الجاهلي أيضًا، هي قصة الشاعر المرقِّش الأصغر التي تنتمي لعالم الفاحشة. كان هذا الشاعر على علاقة مكتومة بأميرة يمانية بنت أحد ملوك اليمن، وكان أيضًا متعلقًا بجاريتها، فكانت قصته أكثر فحشًا من أي من قصص الفحش التي وصلتنا من العصر الأموي. وقد أحاط والد الأميرة ابنته بسياج من حرس لا يسمحون لرجل بأن يدخل المكان. غير أن المرقِّش كان يُحمل لها كل ليلة على ظهر جاريتها. لكن أحد الحراس انتبه إلى أن آثار قدمي الجارية كانت تغوص عميقًا في الرمل حين تدخل المضارب، ولم تكن كذلك حين تخرج، وبهذا اكتشفت الحقيقة.
وهناك من يعتقد أن هذه هي فاطمة بنت المنذر، ولكن هل كانت حقًّا أميرة يمانية؟ كذلك هناك رواية أكثر فحشًا عن أن المرقش كان يميل إلى الجارية، هند بنت عجلان، أكثر من سيدتها فاطمة. وكان له صديق يُشبهه تمامًا هو عمرو بن مالك، أدخله على فاطمة ليختلي هو بهند. لكن عمله انفضح، فعض على إصبعه حتى قطعه. وقد شبب في شعره بهند "أمن بنت عجلان الخيال المطرّح"، وكذلك طلب من فاطمة أن تصفح عنه "أفاطم إن الحب يعفو عن القلى."
بالرغم من القيود المفروضة على العشق من قبل قوم كانوا حريصين على نسائهم حتى إن قصصًا كثيرة، أغلبها مأساوي، حدثت خلال التاريخ العربي بسبب هذه القيود، فإن العشاق في العصور القديمة ما فتئوا يختارون مصيرهم بأنفسهم، ويتغزلون بمعشوقاتهم حتى تشي عواطفهم بما يعتريهم من شوق قد يبلغ حدّ الجنون، كما كان حال قيس بن الملوّح، المعروف بمجنون ليلى.
ذلك أن قيسًا، بعد أن زُوِّجت ليلى برجل آخر من قبيلة أخرى، هام على وجهه في الفيافي، باكيًا عشقه بشعر جميل يحرك العاطفة. كان حبه، بكل ما أوقع فيه من عذاب، وصلًا يشتهيه أبد الدهر. ها هو ذا مجنون ليلى يتمسك بأستار الكعبة متضرعًا إلى ربه أن يزيد من حبه لليلى فلا يتزحزح عن قلبه. أما قصة قيس بن ذريح (ت 68/688) وحبه للبنى، زوجته الحبيبة التي لم تلد له ولدًا، وأجبر على طلاقها بمكائد من لدن والديه وإصرارهما الشديد، فإنها تروي الوجد ذاته وتصور الحيرة عينها، والبحث الجامح عن المحبوبة، والعذاب الذي لا يني والذي شهدناه عند العاشقين الآخرين.
والمذهل في هذه القصص ليس فقط ذلك الانتعاش الدائم في كل مرة يلقى العاشق معشوقته، بل حقيقة أنها تكشف لنا إخلاصًا لا يحول لدى الرجل العاشق، مكذبة ما يعتبر من صفات الذكورة: التقلب وعدم الثبات في الحب. وقد خلد عدد من هذه القصص المثالية عبر الزمن لأن أبطالها كانوا شعراء مشهورين. ولعل أشهرهم كان جميل بن معمر المعروف بجميل بثينة، الذي بقي على حبه لبثينة حتى وفاته في مصر عام 82/701. وقصة جميل هي القصة ذاتها عن الانفصال بالقوة وعن الإخلاص الدائم. كان جميل رجلًا معروفًا في الحجاز، فما من شك في أن قصته كانت صحيحة. وقد قال أجمل شعر الغزل وأرقه:
ألا أيها النُّوّامُ، ويحكُمُ، هُبّوا!
أُسائِلكُمْ: هل يقتلُ الرجلَ الحب؟
قصص الحب المأسوي التي تعكس الأوضاع المتطرفة كانت أيضًا تلائم المزاج العام. إلا أن تراكم هذا الكم من قصص الحب المتشابهة تشابهًا كبيرًا يشير إلى بروز نمط أدبي سائد كان يسيطر على اللحظة الأدبية في الحجاز لوقت ما، ثم اختفى. لكن النمط السائد ليس اتجاهًا. فهو يتشكل في الأدب عندما يتبنى عدد من الكُتّاب في فترة زمنية ما عملًا متفردًا للتعبير عن شيء مثير وملائم لمذاق سائد، فيدور دورته ثم يخبو حين تدهمه قوى التغيير، وغالبًا ما تكون بسبب تعب جمالي. أما الاتجاه، مقابل ذلك، فلا يختفي تمامًا، بل يتبدد، معطيًا الطريق تدريجيًّا لاتجاه جديد، غالبًا ما يكون تصحيحيًّا، فيتعايش معه لزمن ما. وهذه الحركة الداخلية في الأعمال الإبداعية تبين لماذا نجد دائمًا في بعض العصور الأدبية القديم والجديد، والتقليدي والمبتكر معا.
كذلك تعتبر القصص تمردًا ضمنيًّا على الأعراف الموجودة، واتهامًا للمحرمات الثقافية القاسية التي تشدد فيها الإسلام. لكن هذا التمرد لم يُستغل قط. فلم يكن هناك تحدٍّ لصاحب سلطة أبوية قاسي القلب أُنزل من سيادته الذكورية؛ كذلك بقيت عفة المرأة العربية إلى الأبد جوهر الأخلاق الرفيعة، وبرهان شرف الأسرة، وميثاق أخلاق لا يُنتهك مطلقًا. أمّا الشوق إلى الاختيار في الحب، وإلى بلوغ قمة النشوة، فقد بقي قابعًا في الروح العربية زمنًا طويلًا، متجاوزًا الزمن الحضري الغني للإمبراطورية، بنزعته الجنسية الملونة المحرمة، ومحاورته الصريحة للشهوانية، ليعود إلى الظهور ثانية في فترات وأماكن مختلفة في الوطن العربي، ثم ليؤكد قوته بين الشعراء والروائيين العرب في النصف الأول من القرن العشرين.
كان الحب العذري الأموي، كما اصطلح على تسميته إشارة إلى قبيلة عذرة في الحجاز التي كانت تفخر بعدد العشاق فيها ممن أهلكهم العشق ("قوم إذا عشقوا ماتوا")، (كان هذا الحب) حربًا يُهزم فيها العشاق دومًا، وما مقاومتهم وثباتهم إلا رمز لروح مهزومة تجلدت بشهامة. أما التغير في العصر الأموي في الثروة ونمط الحياة واحتمالاتها، فلم يوقف الاتجاه القوي نحو الحب العفيف. ففي النظرة الأولى يحسب المرء أن لا فرق بين قصة وأخرى. فالرجال على العشق ثابتون، وفي الوجد غارقون، ولا عزاء لهم إذ هم متيمون؛ أما النساء فقد كنّ على الأغلب مستسلمات، يعشقن بصمت، وبمعاناتهن الصامتة، وإذعانهن الذي لا منعة له، يهيئن المسرح لملايين النساء في المستقبل العربي الطويل. أما الاختيار في الحب فمحرم على الطرفين.
لم يكن للجلد في العشق، وما كان له قط، أن يشوبه الأمل في الوصال والسعادة. فعلى الأغلب أن ينتهي بغير نتيجة، وأحيانًا بالجنون فالموت، كما كان حال مجنون ليلى. بيد أن على قصة العشق التي تطمح إلى الخلود أن تدور بحكم الظروف حول الحرمان والخسارة ومحاولة تجاوزهما أو تحديهما بالإصرار القوي على الثبات. فأفضل الأدب وأكثره التصاقًا بالذاكرة لا يتخلق عادة من السعادة بكبت العاطفة ومنع الوصال الدائم..
من الممتع جدًّا أن نلاحظ الأوضاع المتناقضة في العصر الأموي. فبينما كان المسرح الشعبي الأقوى يحدث في دمشق حيث انتقلت سدة الحكم، وعلى التخوم الواسعة للأملاك العربية سريعة التمدد، فقد كان في الحجاز تركيز كبير على التجارب الخاصة جدًّا، حيث أشارت الرقابة الذاتية (self-absorption) في هذه القصص إلى التراجع عن المشاركة الشعبية، وإلى سماع للصوت الحميم الآتي من العشاق المحرومين، بدل الطاقة النشطة التي كانت تملأ آفاق المنطقة قبل ذلك ببضعة عقود. ويتجلى في هذه القصص جوهر العاشق، وهو موقف يعتبر اليوم علامة للرواية الحديثة.
بيد أن علينا أن نتذكر في العصر الأموي، إلى جانب العشق العفيف والفاشل، ذلك النمط المغاير الآخر، فبينما كان أولئك العشاق البؤساء، وأغلبهم من البدو، يبكون مصيرهم، كانت هناك، خاصة في مدن الحجاز المزدهرة يومئذ، مجموعةٌ من العشاق الآخرين ذات ثروة محدثة ومندفعة نحو فن الموسيقى والغناء وتعرف جيدًا كيف تستمتع بالحياة. وكانت، بقيادة ذلك الشاعر ذي الروح المرحة، عمر بن أبي ربيعة (23/643-93/711)، لا تطيق في العشق صبرًا ولا ثباتًا ولا وجدًا. وكانت الكثرة منهم شعراء، وقد نُسجت حول بعضهم أكثر القصص سحرًا. ولقد كانت كلتا التجربتين وليدة الدافع ذاته: الحاجة إلى الهروب.
وسواء أكانت تلك القصص جميعًا حقيقية تعود إلى أشخاص حقيقيين في التاريخ أم لا (بعضها، كقصة جميل بثينة، حقيقية قطعًا)، فإن وجودها كقصص مطولة في عصر الشهوانية تبقى الاهتمام الرئيسي لهذا البحث. ولقد كانت تعكس ثقافة شكّلت تجربتهم الوجودية، ليست بكابتة ولا سامحة. بيد أن الشعبية الكبرى، على ما يبدو، كانت لتجربة العشاق الفاشلة والعفيفة الذين حملوا عشقهم المبرح مدى الحياة. وكما قلنا سابقًا، كان هناك فحش حتى في القرن الأول، ولكنه كان في الأغلب مستورًا. وهذا الجانب من العشق كان له أن يتطور مع الزمن وأن ينحرف جزء منه إلى الشذوذ الجنسي لدى العشاق في طول الإمبراطورية الإسلامية وعرضها، من قرطبة إلى بغداد.
أشهر 10 قصص حب بالتراث العربي.. أبطالها شعراء !
في التراث العربي الكثير من قصص العشق والهيام، منها ما انتهى نهاية سعيدة ومنها ما وصل إلى طريق مسدود ومات الحبيب في نهاية الأمر بشكل مأساوي وهو لم يبلغ وصله، ولعلنا سمعنا بقصة قيس وليلى أو عنترة وعبلة، وربما سمعنا بقصص أخرى.
وهنا سوف نتوقف مع أبرز هذه القصص أو ثنائيات الحب في التراث التي كان أبطالها في الغالب شعراء بل هم كذلك، ولكأن الشعر هو نديم الهيام، ولا ننسى أن القصائد كانت تفتتح بالغزل والنسيب، ولعل في ذلك دفعًا للذات والنفس بأن تكون قادرة على اقتلاع ما فيها، وتحريكها لكي تبوح حيث يكون الغزل بداية لتحرر كبير يفتح شغف القول لما هو أعمق وأبعد في القصيدة من حكايات وقصص أخرى ومرويات وحكم.
1- عنترة وعبلة
وهي من القصص الشهيرة بطلها عنترة بن شداد من قبيلة بني عبس وعبلة، وهو ذلك الفارس الذي بزّ الأعداء في حرب داحس والغبراء، وأمه كانت جارية، وبعد أن أثبت قدراته في الحروب، ألحق نسبه ببني عبس، وأصبح من الأحرار بحسب تقاليد ذلك الزمان.
وقد أحب عنترة ابنة عمه عبلة بنت مالك، ولكن المنال لم يكن سهلًا إلى أن أنجز مهمة أسطورية في تلبية طلب والدها بجلب النوق العصافير من الملك النعمان، ليكلل الهيام بالمراد، رغم ما قيل إنه خانها فيما بعد.
وقد ذكر عنترة عبلة في أشعاره كثيرًا، ومعلقته الشهيرة، كقوله:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي
2- جميل وبثينة
وهي قصة انتهت بالصدّ، فجميل بن معمر الذي عاش في العصر الأموي، وأحب بثينة، وكلاهما من بني عذرة مع اختلاف الفرع، وقد تقابلا في مرابع الإبل في مشادة بسبب الهجن في البداية انتهت إلى هيام، لم ينل وطره من بثينة، إذ مانعه أهلها. لكنه لم يقتله الحب، رغم أن محبوبته ذهبت لزواج رجل آخر بإملاء الأهل، وظلت في نفسها مع هواها الأول والأخير، ويقال إنهما كانا يتقابلان سرًّا أحيانًا ليتبادلا الأشواق، ولكن في لقاء عفيف بحسب المرويات. ويشار إلى أن كلمة "الحب العذري" جاءت من هذه القبيلة "بني عذرة" وسياق قصة جميل وبثينة، أي ذلك الحب العفيف والطاهر.
بعد زواج بثينة ضاق الحال بجميل، فسافر إلى اليمن لأخواله، ثم عاد إلى مرابع الأهل في وادى القرى لاحقًا دون أن ينسى هواه، فوجد أن بثينة قد غادرت مع أهلها إلى الشام، فقرر أن يهاجر إلى مصر، وظل هناك إلى أن مات يتذكر حبه القديم، وهناك أنشد في أيامه الأخيرة قبل رحيله:
وما ذكرتك النفس يا بثين مرة
من الدهر إلا كادت النفس تتلف
وإلا علتني عبرة واستكانة
وفاض لها جار من الدمع يذرف
تعلقتها والنفس مني صحيحة
فما زال ينمى حب جمل وتضعف
إلى اليوم حتى سلّ جسمي وشفني
وأنكرت من نفسي الذي كانت أعرف
وقيل إن بثينة عرفت بالخبر ففجعت وأنشدت شعرًا في رثاء الحبيب المكلوم، ويجب الإشارة إلى أن الرواة قد تفاوتوا في توصيف شخصية جميل، فثمة من رآه عفيفًا ومن قال إنه كان ماجنًا، وفي نهاية الأمر فإن القصة أخذت طابعًا أسطوريًّا وجماليًّا أكثر من عمقها الحقيقي، مثلها مثل كل قصص الحب عند العرب.
3- كثير وعزة
كثير بن عبدالرحمن الأسود الخزاعي، من شعراء العصر الأموي، عرف بعشقه لعزة بنت جميل الكنانية، فقد والده في الصغر وعاش يتيمًا، وقيل إنه كان سليط اللسان منذ صباه، وقد رباه عمه في مرابع الإبل وأبعده عن الناس حتى يصونه عن الطيش، وقد اشتهر بهيامه بعزة حتى إنه كُنِّي بها فصار يلقب بـ"كثير عزة"، ويذكر أنه أولع بها عندما أرشدته مرة إلى موضع ماء لسقاية الإبل في إحدى رحلاته بالمراعي وقد كانت صغيرة السن.
وكأغلب قصص الحب عند العرب لم يتزوج أبطالها، لأن عادة العرب كانت ألا يزوجوا من يتغزل شعرًا ببناتهم.
وقد تزوجت بثينة وغادرت من المدينة المنورة إلى مصر مع زوجها، ولحق بها جميل هناك. لكنه عاد إلى المدينة وتوفي بها.
ومن قوله:
رأيت جمالها تعلو الثنايا
كأن ذرى هوادجها البروج
وذكر أن عبدالملك بن مروان سمع بقصصه، فلما دخل عليه ذات يوم وقد كان كثير قصير القامة نحيل الجسم كما قيل إنه كان أعور كذلك.
قال عبدالملك: أأنت كثير عزة؟
وأردف: أن تسمع بالمعيدى خير من أن تراه!
فأنشده قولًا القصيدة الشهيرة التي مطلعها:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفـي أثـوابـه أســد هـصـورُ
ويعجـبـك الطـريـر إذا تـــراهُ
ويخلفُ ظنكَ الرجـلُ الطريـرُ
بغـاث الطيـر أكثرهـا فراخـًا
وأم الصقر مقلات نزور
فقال عبدالملك: لله دره، ما أفصح لسانه، وأطول عنانه! والله إني لأظنه كما وصف نفسه.
وقيل إنه عند وفاته شُيّع بواسطة النساء أكثر من الرجال وكن يبكينه ويذكرن عزة في ندبهن.
4- مجنون ليلى
هو قيس بن الملوح، عشق ليلى بنت مهدي بن ربيعة بن عامر "ليلى العامرية" وعاشا في البادية بنجد في العصر الأموي، وككل القصص السابقة لابد من رعي الإبل، حيث يبدأ الحب في المرابع، وهي ابنة عمه، وكانت لهما طفولة مشتركة وقد أحبها في سن صغيرة.
وكما يحدث في العادة، فقد رفض طلب زواجه حيث زوجت ليلى لرجل آخر أخذها بعيدًا عن الديار إلى الطائف، فبدأت القصة الملهمة التي دخلت التاريخ، قصة مجنون ليلى التي فيها حب غير عادي، فالرجل فعل فيه الهيام الأفاعيل، فقد أصبح يطارد الجبال والوهاد ويمزق الثياب ويستوحش من الناس ويكلم نفسه، وهل بعد ذلك إلا الجنون!!
وقيل إنه تعلق بأستار الكعبة وهو يدعو الله أن يريحه من حب ليلى، وقد ضربه أبوه على ذلك الفعل، فأنشد:
ذكرتك والحجيج له ضجيج
بمكة والقلوب لها وجيب
فقلت ونحن في بلد حرام
به لله أُخُلصت القلوب
أتوب إليك يا رحمن مما
عملت فقد تظاهرت الذنوب
وأما من هوى ليلى وتركي
زيارتها فإني لا أتوب
وكيف وعندها قلبي رهين
أتوب إليك منها وأنيب
وعاد للبرية لا يأكل إلا العشب وينام مع الظباء، إلى أن ألفته الوحوش، وصارت لا تنفر منه، كما يرد في القصة "الأسطورة"، وقد بلغ حدود الشام، وكان يعرف علته برغم "جنونه" فقد رد على أحد سائليه بقوله:
كأن القلب ليلة قيل يُغدى
بليلى العامرية أو يراحُ
قطاة عزها شرك فباتت
تجاذبه وقد علِق الجناح
وقيل إنه وجد ميتًا بين الأحجار في الصحراء وحمل إلى أهله فكانت نهاية مأساوية للعاشق المجنون، ووجدته ميتًا امرأة كانت تحضر له الطعام.
وقد خط قبل موته بيتين من الشعر تركهما وراءه هما:
تَوَسَّدَ أحجارَ المهامِهِ والقفرِ
وماتَ جريح القلبِ مندملَ الصدرِ
فياليت هذا الحب يعشقُ مرةً
فيعلمَ ما يلقى المُحب من الهجرِ
5- مجنون لبنى
اسمه قيس بن ذريح الليثي الكناني، عاش في زمن خلفاء الرسول، وقد أحب لبنى بنت الحباب الخزاعية، وقد عشقها لأول مرة يوم أن زار مرابع بني حباب أهل لبنى فطلب سقي الماء، فجاءت له بها، فأغرم من وقتها وقد كانت مديدة القامة، بهية الطلة وعذبة الكلام.
وقد أنشد بعد فراقه لبنى:
فيا ليت أني متّ قبل فراقها
وهل تَرْجِعَنْ فَوْتَ القضيةِ ليتُ
ولكن اختلاف قصته أنه تزوجها بخلاف الآخرين ثم طلقها لأنها كانت عاقرًا، وقد فعل ذلك تحت ضغط الأسرة لاسيما والده الذي كان يرى عارًا أن يقطع نسله.
ويروى أنه ذكر لرفاقه: هجرني أبواي اثنتي عشرة سنة، أستأذن عليهما فيرداني، حتى طلقتها.
ومما أنشد في لوم نفسه:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت
فللدهر والدنيا بطون وأظهر
كأني في أرجوحة بين أحبل
إذا فكرة منها على القلب تخطر
ومن ثم ربما أنه أنكر فعله فجرى فيه ما جرى وهو يهيم بالصحاري ينشد الشعر وقد ساء حاله. وإن كانت قد تزوجت لبنى بعده فقد كان المنال صعبًا إلى حين، وكانت – هي – هائمة به لم تنسه، وهذا أغضب زوجها الذي خيّرها بينه وهذا الـ"مجنون"، فاختارت الطلاق وتزوجت من جديد بقيس، ولكن بعدها لم يعيشا طويلًا، ماتت هي أولًا وهو ثانيًا.
6- توبة وليلى الأخيلية
ليلى الأخيلية كانت شاعرة مثل الخنساء، وقد هام بها توبة بن الحمير، وفي هذه القصة بخلاف قصص الحب الأخرى فإن البطولة للمرأة، فهي التي ذاع صيت شعرها أكثر، في حين كان الرجل هو الحبيب الذي يتغزل فيه حتى لو أنه كان شاعرًا مثلها. وقد عاشا في صدر الإسلام والعصر الأموي، وعرفا بعشق متبادل لا شك فيه.
وقيل إن ليلى كانت باهرة الجمال وقوية الشخصية وفصيحة، فيما كان توبة شجاعًا وفصيحًا هو الآخر، وقد افتتن بها عندما رآها في إحدى الغزوات.
ورغم حبهما إلا أن والد ليلى حال دون زواجهما، حتى إنه اشتكى إلى الخليفة من توبة. فعاشا حبًا عذريًّا إلى أن قُتِل توبة، وقيل إنه قتل في إحدى المعارك، كما قيل إنه كان يمارس النهب على القوافل وهذا سبب قتله، فرثته ليلى تقول:
لعَمرك ما بالموت عارٌ على الفتى
إذا لم تصبه في الحياة المعابرُ
وما أحدٌ حيا وإن كان سالما
بأخلد ممن غيّبته المقابرُ
ومن كان مِما يُحدثُ الدهر جازعًا
فلابد يومًا أن يُرى وهو صابر
وليس لذي عيش من الموت مذهبٌ
وليس على الأيام والدهر غابِرُ
ولا الحيُ مما يُحدث الدهر معتبٌ
ولا الميت إن لم يصبر الحيُ ناشرُ
وكل شبابٍ أو جديد إلى بِلى
وكل امرئ يومًا إلى الله صائرُ
فأقسمتُ لا أنفكُ أبكيك ما دعت
على فننٍ ورقاءُ أو طار طائرُ
ويروى أنها ماتت بجوار قبره عندما كانت تزوره بشكل متكرر، وذات مرة سقطت من على الهودج بجوار القبر فأخذتها المنية.
ومن أشعار توبة في ليلى قوله:
لكل لقاء نلتقيه بشاشة
وإن كان حولًا كل يوم أزورها
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
وقد رابني منها صدود رأيته
وإعراضها عن حاجتي وبسورها
ألا إن ليلى قد أجد بكورها
وزمت غداة السبت للبين عيرها
فما أم سوداء المحاجر مطفل
بأحسن منها مقلتين تديرها
ويشار إلى أن البعض يخلط بين أشعار توبة بن الحمير مجنون ليلى الأخيلية وأشعار قيس بن الملوح مجنون ليلى العامرية.
7- أبونواس وجنان
جنان هي عشيقة أبونواس، وهي تقريبًا الوحيدة التي أخلص لها برغم أنه كان متقلب الهوى، وهنا تختلف القصة عن باقي القصص في أن الهيام ليس كذلك الأبدي الذي يؤدي إلى الحتف. وقد أنشد فيها الأبيات الشهيرة:
حامل الهوى تعب يستخفه الطربُ
إن بكى يحق له ليس ما به لعب
تضحكين لاهية والمحب ينتحبُ
تعجبين من سقمي صحتي هي العجبُ!
وقيل إنه رغم إدمانه الخمر تبعها في رحلة إلى الحج وهناك أنشد قصيدته المعروفة التي يتبتل بها للخالق ومطلعها:
إلهنا ما أعدلك مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك والليل لما أن حلك
ويقال إن جنان لم تكن تحبه كما أحبها، ربما لطيشه وخوفها من الغدر، لكن ذلك لم يستمر إذ استطاع أن يغويها بشعره لها، وقيل إن سبب تغير رأيها أنها سمعته ينشد:
جِنانُ إن وجُدتِ يا منايَ بما آمُلُ لم تقطُرِ السماءُ دما
وإن تمادى ولا تماديتِ في منعك أصبح بقفرةٍ رِمما
عَلِقتُ من لو أتى على أنفس الماضينَ والغابرين ما ندما
لو نظرت عينه إلى حجرِ ولّد فيه فُتوُرها سقما
8- أبوالعتاهية وعتبة
أحب الشاعر أبوالعتاهية جارية اسمها عتبة، قال فيها:
عُتبَ ما للخيال خبريني.. وما لي؟
لا أراه أتاني زائرًا مُذ ليالي
لو رآني صديقي رق لي أو رثى لي
أو يراني عدوي لانَ من سوء حالي
وأبوالعتاهية من مواليد الحجاز وقد نشأ بالكوفة وسكن بغداد، وقد دفعه حبه لعتبة أن يقول فيها الشعر لكنها لم تقابله بمثل ما يكنه لها، حيث واجهته بالصد والهجران، إلى أن كاد يفقد عقله فسمي بـ"أبي العتاهية".
وقد أوصله اليأس من هوى عتبة إلى الزهد، فصار علامة في شعر الزهاد.
ومن بدائع ما قال في هجران عتبة:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي فبشروا الأكفان عاجلِ
ولا تلوموا في اتباع الهوى فإنني في شُغلٍ شاغلِ
وإذا كانت عتبة هي جارية الخليفة المهدي في العصر العباسي، وكان أبوالعتاهية واسمه إسماعيل بن القاسم، دميم الشكل، فربما كان ذلك سببًا في نفران عتبة منه، ويروى أن الخليفة قد سمع بتغزله فسجنه عقابًا على إنشاده الشعر في جاريته، وقد أطلق سراحه بعد أن مدح الخليفة.
ومن أشعاره في الزهد قوله:
ما يجهل الرشد من خاف الإله
ومن أمسى وهمته في دينه الفكر
فيما مضى فكرة فيها لصاحبها
إن كان ذا بصر بالرأي معتبر
أين القرون وأين المبتنون بها
هذي المدائن فيها الماء والشجر
9- ابن زيدون وولادة بنت المستكفي
وهي من القصص الشائعة في العصر الأندلسي، حيث عاش ابن زيدون حياة رغدة، وكان أديبًا وشاعرًا وكان بمثابة وزير المعتضد بالله بن عباد في إشبيلية، وفي المقابل فإن ولادة بنت المستكفي كان أبوها حاكمًا على قرطبة، وقد قتل، وقد كانت من الأديبات الشهيرات في زمانها، وقد التقت بالعديد من الأدباء والشعراء لكن لم يلقَ أحدهم طريقًا إلى قلبها سوى ابن زيدون، الذي بادلها الحب كذلك. وهنا تتشابه القصة مع توبة وليلي الأخيلية في أن الطرفين شاعران.
وعاش الاثنان حياة حب لفترة ومن ثم كان الجفاء والممانعة من قبل ولادة، لكن بين الشد والجذب ولدت أقوى قصة حب في الأندلس دخلت التاريخ العربي، ومن أروع ما أنشده ابن زيدون قصيدته النونية التي جاء فيها عن الجفوة:
أضحى التنائي بديلًا من تدانينا وناب عن طيبِ لُقيانا تجافينا
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقًا إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
ليُسق عهدكم عهد السرور فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا من لو على البعد حيا كان يحيينا
عليك مني سلام الله ما بقيت صبابة بكِ نُخفيها فتخفينا
ويبدو أن ولادة كانت متحركة القلب، فبعد ابن زيدون سعت إلى كسب قلب الوزير “ابن عبدوس″ الذي تزوجها فعلًا وسجن ابن زيدون لهجائه له بعد أن شعر باليأس، وبقيت ولادة في المقابل خالدة رغم كل شيء بسبب ابن زيدون.
لكن للقصة وجه آخر حيث ورد أن ابن زيدون تعلق بإحدى جواري ولادة، ليثير غيرتها، أو أن ذلك حدث وهي تتغالى عليه، ما أثار غضب ولادة وقد أوردته شعرًا، بعد الفراق:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا
لم تهوَ جاريتي ولم تتخيَّرِ
وتركت غصنًا مثمرًا بجماله
وجنحت للغصن الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأنني بدر السما
لكن ولعت لشقوتي بالمشتري
ومن شعر ولادة على قلته قولها في بيتين مشهورين لها:
أنا والله أصلح للمعالي
وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها
أمكنُ عاشقي من صحن خدِّي
وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها
10- ابن رهيمة وزينب
عرف ابن رهيمة بأنه من شعراء الغزل العفيف وإن لم ينل الاهتمام الكافي به في التراث الأدبي، وقد كانت محبوبته زينب بنت عكرمة بن عبد الرحمن، وبعد أن شاع أمر عشقه فقد استعداه هشام بن عبد الملك، فأمر بضربه 500 سوط، وأن يباح دمه إن عاد لذكرها، فهرب وأنشد:
إن كنت أطردتني ظالما لقد كشف الله ما أرهبُ
ولو نلت مني ما تشتهي لقلَّ إذا رضيت زينبُ
وما شئت فاصنعه بي بعد ذا فحبي لزينب لا يذهبُ
ويرجح أنه لم يطرق قلبه الهوى إلا في سن كبيرة لما أورده شعرًا:
أقْصدت زينبُ قلبي بعدما ذهب الباطل عني والغزل
وعلا المفرق شيبٌ شاملٌ واضحٌ في الرأسِ مني واشتعل
وكان قد عرف في شعره بالوضوح والصراحة، كقوله:
إنما زينب همي بأبي تلك وأمي
بأبي زينب لا أكني ولكني أسمي
بأبي زينب مِن قاضِ قضى عمدًا بظلمي
بأبي من ليس لي في قلبه قيراط رحمِ
ومأساته أن قصته على ما يبدو كانت من طرف واحد، ما زاده ألمًا وجعله يعيش وحشته، كما في قوله:
أقْصدت زينبُ قلبي وسَبَت عقلي ولُبي
تركتني مستهامًا أستغيُث الله ربي
ولها عندى ذنوبٌ في تنائيها وقربي!!
وقد انتهت حياته بغموض، بعد هروبه من الخليفة، والأغلب أنه مات هائمًا وهو يتذكرها رافضًا الزواج، ففي أغلب القصص أنهم يهيمون ثم يموتون.