hindawiorg

Share to Social Media

كان البروفيسور تشالنجر في أسوأ حالاته المزاجية المُمكنة. وبينما كنتُ أقف بباب حجرة
مكتبه، يدي على مقبض الباب، وقدمي على الدوَّاسة، سمعتُ حوارًا جرى على هذا النحو؛
كانت الكلمات تخرج كأنها قذائف، ويتردَّد صداها في أرجاء المنزل:
أجل، أقول لك إنها المُكالَمة الخاطئة الثانية. الثانية في الصباح نفسه! أتظنُّ أن »
رجلًا من رجالات العلم يصحُّ أن يُقاطَع عملُه العظيم من أحمق ما على الطرف الآخَر من
الهاتف؟ لن أقبل بذلك. أرسل هذا الأمر العاجل إلى المدير. أوه! أنت هو المدير. حسنًا، لمَ
لا تقوم بعملك إذن؟ نعم، أنت تعمل بلا شك على تشتيت انتباهي عن عملي الذي يعجز
عقلُك عن إدراك مدى أهميته. إليَّ بالمُراقِب. ليس موجودًا؟ كان عليَّ أن أتوقَّع ذلك. سوف
أقُاضيك إن حدَث هذا الأمر ثانيةً. لقد قُضيأمر الديوك الناعقة. لقد فصلتُ فيه بنفسي. إذا
كان هذا ما حدَث للديوك الناعقة، فلمَ لا يَحدُث للأجراس المُزعجة؟ المسألة منتهية. أريد
«. اعتذارًا كتابيٍّا. جيدٌ جدٍّا. سأنظر في الأمر. عِمتَ صباحًا
في تلك اللحظة غامرتُ بالدخول إلى الغرفة. كانت لحظةً مشئومة بلا شك. وقفتُ
قبالته وقد أنهى مكالمتَه للتوِّ، وبدا لي أسدًا ثائرًا. كانت لحيته السوداء الكثة مُنتفشةً من
شدة الغضب، وصدره العريضينتفخ سخطًا، وعيناه الرماديتان المتجبِّرتان تتفحَّصانني
من رأسيإلى أخمصقدمي، بينما يُفرِغ غضبَه عليَّ أنا.
الأوغاد، الملاعين، الكسالى، الذين يتقاضَون أكثر مما يستحقُّون! يُمكنني » : انفجر قائلًا
أن أسمع صوت ضحكاتهم بينما أنا أبسُط شكواي التي معي فيها كلُّ الحق. إنها مؤامرة
تهدف إلى تكدير صفوي. والآن أنت؛ الشاب مالون، تأتي ليَكتمل بك هذا الصباح الكارثي.
آلة التفكيك
هل أنت هنا — إن كان لي أن أسأل — لأمرٍ يخصُّك؟ أم أن جريدتك الصفراء كلَّفتك بإجراء
مقابلة معي؟ أنت مرحَّبٌ بك بصفتك صديقًا، أما بصفتِك الصحافية فوجودك يتخطَّى
«. حدود المقبول
كنتُ أفتِّشفي جيبي بارتباك، بحثًا عن خطاب مكاردل، حينما قفزَت إلى ذهنه مَظلمة
جديدة. قلَّبَت يداه الضخمتان المُشعرتان الصحف الموضوعة على مكتبه، إلى أن استخرج
أخيرًا من بينها قصاصة من صحيفة.
لقد كنتَ كريمًا بما يكفي بإشارتك إليَّ في » : قال لي وهو يُلوِّح بالصحيفة في وجهي
واحد من تقاريرك الأخيرة. كان ذلك في سياق ملاحظاتك السخيفة إلى حدٍّ ما، بخصوص
بقايا العَظَاءات المُكتشَفة حديثًا في محجر سولنهوفن الأثري؛ فقد بدأت إحدى الفقرات
«… بهذه الكلمات: البروفيسور جي إي تشالنجر، الذي يُعدُّ أحد أعظم علمائنا المعاصرين
«؟ وماذا في ذلك يا سيدي » : سألته
لمَ هذه التوصيفات والقيود غير العادلة التي كبَّلتَني بها؟ ربما يُمكنك أن تَذكر لي »
مَن هم هؤلاء العلماء المُضارعون لي الذين تَزعُم أنهم يقفون على قدم المساواة معي، أو
«؟ لعلهم يَفوقونني عظمة
لقد خانني التعبير بشدة. بكل تأكيد، كان عليَّ أن أقول: أعظم علمائنا » : أقررتُ
ففي النهاية، كان هذا هو ما أعتقده بصدق. وقد بدَّد اعترافي «. المُعاصرين على الإطلاق
بخطئي غمامة غضبه.
يا صديقي العزيز الحديث السن، إيَّاك أن تظن أني كثير المطالب، لكنني » : قال لي
محاط كما ترى بزملاء مخابيل مُشاكسين؛ مما يجعل المرء مضطرٍّا إلى القيام بما يجب
عليه فعله. إن الاعتداد بالذات أمرٌ غريبٌ عن طبيعتي، إلا أنه ينبغي لي أن أتمسَّك بموقفي
«؟ أمام المُناوئين. هلم! اجلس هنا! تُرى ما سبب زيارتك لي
كان عليَّ أن أخطو بحذر؛ لأنني كنتُ أعرف كم من السهل دفع الأسد إلى الزئير مرةً
سيدي، هل تسمح لي بأن أقرأ عليك هذا الخطاب؟ » : أخرى. فَتحتُ خطاب مكاردل، وقلت
«. إنه من مكاردل؛ المُحرِّر الذي أعمل معه
«. أتذكَّر هذا الرجل … ليس من النوعية المناوئة من المحرِّرين »
إنه — على الأقل — يُكنُّ لك إعجابًا وتقديرًا كبيرَين. ولطالَما رجع إليك مرارًا وتكرارًا »
«. كلما احتاج إلى أرفع مُستوَيات الأداء في تحقيقٍ ما. وهذا هو الحاصل الآن

وما » : تحت تأثير ذلك الإطراء، بدا تشالنجر متباهيًا كطائر مُنتفِش الريش، وسألني
كان يجلسواضعًا مرفقَيه على مكتبه، وقد تشابكَت يداه اللتان «؟ الذي يَصبو إليه مُحرِّرك
تُشبهان يدي الغوريلا، وانتصب شعر لحيته أمامه، وصوَّب إليَّ نظرةً ثابتة خَلَتْ من أي
شر، بعينَيه الرماديتَين الواسعتَين نصف المغلقتَين بفعل تهدُّل جفنَيه العُلويَّين. كان رجلًا
من العيار الثقيل في كل ما كان يفعله، وكانت كفَّة حسناته أرجح كثيرًا من كفة سيئاته.
سأقرأ عليك مذكرته التي كتبها لي. إنه يقول:
من فضلك، اتصل بصديقنا المبجَّل، البروفيسور تشالنجر، واطلب منه أن يَتعاون
معنا بشأن الأمور الآتية: هناك رجل نبيل من لاتفيا، يُدعى ثيودور نِمور، يعيش
في وايت فريارز مانشنز، في هامستد، يَزعم أنه اخترع آلة من طراز فريد، لدَيها
القدرة على تفكيك أي جسم يُوضَع في مجال تأثيرها. تتحلَّل مادة الجسم وتتحوَّل
إلىصورتها الجزَيئية أو الذرية. وعند عكسالعملية، يُمكن إعادة تجميع الجسم.
يبدو ذلك ادِّعاءً أهوج، ولكنْ ثمَّة دليل دامغ على أن للأمر أساسًا ما، وعلى أن
الرجل قد وضَع يدَيه على كشفٍ استثنائي.
إنني في حاجة إلى عدم المُبالَغة في تقدير الطبيعة الثورية لمثل هذا الاختراع،
وكذلك الأهمية البالغة له باعتباره سلاحًا يُمكِن استخدامه في الحروب. إن قوةً
يُمكن بواسطتها تفكيك سفينة حربية، أو تحويل كتيبة من الجنود — حتى
لو كان ذلك لبعضالوقت فقط — إلى مجموعة من الذرات، يُمكنها أن تُسيطِر
على العالم. ولأسباب اجتماعية وسياسية، يجب أن نُسارع إلى استجلاء حقيقة
هذا الأمر دون توانٍ. الرجل يسعى إلى جذب الأضواء إليه؛ إذ إنه مُتلهِّف لبيع
اختراعه؛ ولذا لن نجد صعوبة في الاقتراب منه. البطاقة المُرفَقة ستفتح أبوابه.
ما أرجوه هو أن تستدعيَه أنت والبروفيسور تشالنجر، وتَتَحَقَّقا من اختراعه،
وتكتبا لصالح الجريدة الرسمية تقريرًا مُعتبَرًا عن القيمة الفعلية للاكتشاف.
أتطلع إلى تلقِّي ردكما هذه الليلة.
آر مكاردل
لديَّ تعليماتي يا بروفيسور. وأتمنى بصدق أن تأتي » : قلت بينما أعُيد طيَّ الخطاب
«؟ معي؛ إذ كيف لي بقدراتي المحدودة أن أتصرَّف وحدي في أمرٍ كهذا

صحيح يا مالون! أنت على حق! فعلى » : قال الرجل العظيم بصوت يُشبه القرقرة
الرغم من أنك لا تَفتقِر إلى الذكاء الطبيعي بأي حال من الأحوال، فإني أوُافِقك الرأي في
أنه سيَشق عليك التصرف في مثل هذا الأمر، مثلما يتراءى لي. لقد تعطَّل عملي هذا الصباح
بالفعل، بسبب هؤلاء المتصلين المُستعصِين على الوصف، فلن يُحدث مزيدٌ من التعطيل فرقًا
كبيرًا. إنني مُنشغِل بالرد على ذلك المهرِّج الإيطالي مازوتي، الذي أثارت حفيظتي آراؤه
حول نموِّ يرقات النمل الأبيض الاستوائي، ووجدتها هزلية، لكنَّني سأرُجئ المواجَهة مع
«. هذا المُحتال إلى المساء. وحتى ذلك الحين، أنا في خدمتك
وهكذا شاءت الأقدار أن أجدَ نفسي في صبيحة ذلك اليوم من شهر أكتوبر، في قطار
الأنفاق عميقًا تحت الأرضبصُحبة البروفيسور، نُسارع الخطى إلى شمال لندن، في التجربة
التي سيتبيَّن أنها الأكثر تفرُّدًا بين تجاربي الحياتية الرائعة.
كان عليَّ قبل مغادرة إنمور جاردنز التحقُّق عبر الهاتف — المُساء استغلالُه كثيرًا —
من أن رجُلَنا موجود في منزله، وأخطرتُه بقدومنا. كان يعيش في شقة مُريحة في هامستد،
وقد أبقانا منتظرَين في الرَّدهة حوالي نصف ساعة، ريثما يُجري محادثة حيوية مع
مجموعة من زوَّاره، الذين بَدَوا من أصواتهم — وقد همُّوا بمغادرة غرفة الجلوسأخيرًا —
أنهم رُوس. لمحتُهم عبر الباب نصف المفتوح، وتكوَّن لدي انطباع سريع بأنهم رجال
أذكياء ومُترَفون؛ إذ كانوا يرتدون معاطف ذات ياقات من الفرو، وقبَّعات برَّاقة، إلى آخر
ما هنالك من مظاهر الرفاه البرجوازية، التي لا تُخطئها عين الشيوعي الحق. أغُلق باب
الرَّدهة وراءهم، وعلى الفور حضرإلينا ثيودور نِمور. لكأنني أراه الآن وهو يقفأمامنا وقد
غمره ضوء الشمس، وأخذَت كفاه النحيلتان الطويلتان تَفرُك إحداهما الأخرى، وتفحَّصَنا
بابتسامته العريضة وعينَيه الصفراوَين الماكرتين.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.