وفجأةً غمَرَ نورٌ قادم من بعيدٍ الواديَ بمساحته الشاسعة، التي تمتد عدة أميال، وكان
مصدره شعلة ذهبية تتقدَّم ببطء من أقصاه إلى أقصاه. بَدَتِ الأشجار ضئيلةً بالنسبة إلى
الشعلة، وبدا نورها سوادًا كالحًا مُقارَنةً بضيائها، واستحالت المنحدرات المحيطة بها
وأطيافها إلى ما يشبه الذهب المتوهج. أمامَ تلك الرؤيا، ولمعرفتهم بأساطير الجبال، أدرَكَ
الرجلان على الفور أن ما رأياه هو جنةُ عدن، أو حرَّاسها؛ ومن ثَمَّ انكبَّا على وجهَيْهما
وكأنهما تلقَّيَاضربةً أَرْدَتْهماصريعَيْن.
وحين واتَتْهما الجرأةُ لرفع أبصارهما مجددًا، وجدا الظلام يخيِّم على الوادي، لكنه لم
يَدُمْ سوى برهة ثم عاوَدَ النور الظهورَ مرة أخرى؛ رجع ككهرمانة متَّقِدة.
عندها نهضالراعي واقفًا وبدأ الركضَناحية الضوء مطلقًا صيحة، لكن رفيقه بلغ
منه الخوفُ مَبلغَه فلم يتبعه، بل وقف مشدوهًا، مذهولًا، مرتعبًا وهو يشاهد رفيقَه متجهًا
نحو الوهج المتقدِّم، ولم يَكَدِ الراعي ينطلق حتى صدرت ضجةٌ كالرعد، ضجة كخفقان
أجنحة غير مرئية مندفعة في الوادي، أثارَتْ فيه خوفًا عظيمًا ورهيبًا. في تلك اللحظة،
استدار صاحبُ الثمرة؛ ربما لم تزل أمامه فرصة للفرار. هرع الرجل دون تفكير صاعدًا
المنحدرَ مرةً أخرى، وهذا الهول يكتسح الوادي خلفَه، فتعثَّرَ في إحدى الشجيرات المتقزمة،
وإذا بثمرةٍ يانعة تسقط في يده. هذه الثمرة. بدأت أصواتُ الأجنحة والرعد تدنو منه فورًا
وتحيط به من كل ناحية، فسقط مغشيٍّا عليه، وحين أفاق وجد نفسه مجددًا بين أطلالِ
قريته المتفحمة، وكنتُ موجودًا هناك مع آخَرين لإسعاف الجرحى. رؤيا؟ لكن الثمرة
الذهبية لم تزل في يده. كان هناك آخَرون على عِلْمٍ بالأسطورة وبما قد تعنيه تلك الثمرة
«. وها هي ذي » : صمت الرجل برهةً ثم تابَعَ قائلًا «. الغريبة
كانت أغربَ قصةٍ تُروَى في عربة الدرجة الثالثة من قطار ساسيكس. بَدَا الأمر وكأن
الحقيقة لم تكن سوى حجابٍ يفصلنا عن الخيال، وها هو الخيال يطلُّ برأسه مخترِقًا ذلك
«؟ أهي تلك » : الحجاب. لم يَسَع السيد هينشكليف سوى أن يسأل
تنصُّالأسطورة على أن تلك الأجََمات بأشجارها المتقزمة المنتشرة حول » : قال الغريب
الحديقة إنما نمَتْ من التفاحة التي حملها آدم حين طُرِد هو وحواء. أحسَّ آدم بشيء في
يده، ولما فتحها وجدها التفاحةَ التي أكلا منها فطرحها جانبًا مغتَمٍّا، وهناك نمَتْ أشجارُ
التفاح في ذلك الوادي المُقفِر، تطوقها الثلوج الأبدية، أما السيوفُ المضطرمة فتحمي المكانَ
«. إلى يوم القيامة
ثم صمت برهةً قبل «… لكنني ظننتُ أن هذه الأمور كانت » : قال السيد هينشكليف
«… خرافات، حكايات رمزية بالأصح. أتقصد أن تخبرني أن هناك في أرمينيا » : أن يضيف
أجاب الغريب عن سؤاله، الذي لم يكتمل، بالثمرة المستقرة في يده المنبسطة.
لكنك لا تدري ما إذا كانت تلك ثمرة شجرة المعرفة » : فأضاف السيد هينشكليف
«… أم لا. ربما كان الرجل … يتوهَّم مثلًا. افترضأن
«. انظرْ إليها » : رد الغريب قائلًا
حين نظر إليها السيد هينشكليف وجدها بلا شكٍّ كرةً غريبةَ المنظر، ليست تفاحةً في
الحقيقة، ورأى لونًا ذهبيٍّا برَّاقًا غريبًا، وكأنَّ الضوء نفسه كامن داخل مادتها. وحين دقَّقَ
النظرَ فيها، بدأت تتجلَّى أمامه صورةٌ حية للوادي المُقفِر بين الجبال، والسيوف النارية
الحارسة، والآثار الغريبة للقصة التي سمعها لتوِّه. فرك السيد هينشكليف عينَيْه ثم قال:
«… لكن »
لقد ظلَّتْ على حالها هذا، ملساء وبضَّة، طوالَ ثلاثة أشهر، » : فقاطَعَه الغريب بقوله
«. بل أطول قليلًا الآن. لم تيبس، ولم تذوِ، ولم تفسد
«… وأنت تعتقد شخصيٍّا أنها » : قال السيد هينشكليف
«. الثمرة المحرَّمة » : قاطعه الرجل قائلًا
ثمرة » : كانت جدية الرجل وسلامته العقلية باديتين على نحو واضح. وقد أضافقائلًا
«. المعرفة
افترِضْأنها كذلك. » : صمَتَ السيد هينشكليف برهةً ثم ردَّ دون أن يرفع عينيه عنها
لكنها على أي حال ليست مجالَ معرفتي؛ المعرفةُ التي أسعى إليها ليسَتْ من هذا النوع.
«. أعني أن آدم وحواء قد أكلاها بالفعل
لكننا نرث خطاياهما، لا مَعارِفهما. إن ذلك سيجعلها جلِيَّةً ومتألقةً » : أجابه الغريب
ثانيةً. ينبغي أن نسبر أغوارَ كلِّ شيء، أن نَنْفُذ إلى ماهية كل شيء، ونستجلي أعمق
«… حقائقه
«؟ لماذا لا تأكلها إذن » : طرح السيد هينشكليف فكرةً راوَدَتْه لتوِّه
لقد أخذتُها بنِيَّة أكلها. لقد هبط الإنسان من الجنة بسببها. إن مجرد » : أجاب الغريب
«… تناوُلها ثانيةً لن
«. المعرفةُ قوة » : قاطَعَه السيد هينشكليف بقوله
لكنْ أتجلِبُ السعادة؟ أنا أكبرُ منك سنٍّا، أكبرك بأكثر من ضعف عمرك. لقد حملتُ »
تلك التفاحةَ مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة أجد قلبي يخذلني كلما خَطَرَ ببالي كلُّ تلك الأمور
التي قد تتكشَّف للمرء، جلاء البصيرة المفزع. هَبْ أن العالَمَ بأكمله صار فجأةً بهذا
«؟ الوضوح القاسي
«. أعتقد أن ذلك سيكون ميزةً عظيمة، في المجمل » : أجاب السيد هينشكليف قائلًا
هَبْ أنك نفَذْتَ إلى قلوبِ كلِّ مَن حولك وعقولِهم، إلى مكنونات ضمائرهم؛ مَن » : قال
«. أحببْتَهم ومَن قدرتَ حبَّهم لك
سرعان ما ستكتشف » : أجاب السيد هينشكليف، وقد صدمَتْه الخاطرة صدمةً هائلة
«. المخادعين
والأسوأ هو أنْ تعرف نفسَك مجرَّدةً من أوهامها الدفينة، أنْ ترى ذاتك » : قال الرجل
بقدرها الحقيقي، كل ما منعَتْك شهواتُك وضَعْفُك من أن تراه. ستراها من منظورٍ لا يعرف
«. الرحمة
تعلم هذه الحكمة، ،« اعرفنفسك » . ربما يكون ذلك أمرًا رائعًا أيضًا » : قال هينشكليف
«؟ أليس كذلك
«. لا تزال شابٍّا غِرٍّا » : أجاب الغريب
إذا لم تكن مهتمٍّا بتناوُلها، ووجودُها يزعجك، فلِمَ لا تتخلَّص » : قال هينشكليف
«؟ منها
ربما لن تفهمني. بالنسبة إليَّ، كيف يسع المرء التخلُّصمنشيءٍ كهذا، » : أجابه الرجل
متوهِّج ورائع؟ ما إنْ تَحُزْها، تصبح مُلتزمًا بها. لكنك، من ناحيةٍ أخرى قد تتنازل عنها!
«… تتنازل عنها لشخصٍمتعطِّش للمعرفة، لشخصٍلا يرى بأسًا في ذلك الإدراك الواضح
«. لا شك أنها قد تكون ثمرةً مسمومة » : قال السيد هينشكليف متأملًا
ثم لمحَتْ عيناه شيئًا ساكنًا لا يتحرَّك، طرف لوحةٍ بيضاءَ ذاتِ أَحْرُف سوداء خارجَ
«! يا إلهي! هولموود » : فبادَرَ مختلجًا بقوله ،« موود …» : نافذةِ العربة. قرأ السيد هينشكليف
وإذا بمدركاته الغامضة التي أخذت بلُبِّه تتلاشىأمامَ الواقع العملي.
كان السيد هينشكليف في اللحظة التالية يفتح بابَ العربة، حامِلًا حقيبته في يده.
كان الحارس يشير بعلمه الأخضربالفعل، فوثَبَ هينشكليف من العربة، ثم تعالى صوتٌ
ولما التفَتَ رأى عينَي الغريب الداكنتين تلتمعان ولمح الثمرةَ «! ها هي » : من ورائه قائلًا
الذهبية في يده الممدودة من باب العربة المفتوح، مُشرِقة وبادية دون غطاء، فالتقَطَها دون
تفكيرٍ بينما كان القطار يتحرَّك بالفعل.
وحاوَلَ انتزاعَها وكأنه يرغب في استردادها. «! لا» : صرخ الغريب
صاح الغريب بشيءٍ «. ابتعِد » : صاح الحارسالقروي وهو يندفع متقدِّمًا لإغلاق الباب
وقد دفع برأسه وذراعه بانفعالٍ خارجَ النافذة، لكن السيد هينشكليف لم يتبيَّنْه، ثم أظلَّ
الغريبَ الجسرُ، وسرعان ما احتجَبَ عن نظر السيد هينشكليف، الذي وقف مذهولًا محدِّقًا
في نهاية العربة الأخيرة وهي تتوارى عند منعطفٍ، وحاملًا التفاحةَ العجيبة في يده. ارتبَكَ
عقله لوهلة، ثم أدرك أنَّ ثَمة شخصينأو ثلاثة فوق رصيفالمحطة يراقبونه باهتمام. أليس
هذا هو الظهور الأول له كمدرس جديد بالمدرسة الثانوية؟ خطر بباله أنهم سيعتبرونه
شخصًا غريب الأطوار يهم بالتهام ثمرة شبيهة بالبرتقال، بحسب استنتاجهم، في مكان
عام، فاحمرَّ وجهه خجلًا ودفع بالثمرة إلى جيبه، لكنها تسبَّبَتْ في انتفاخ الجيب على نحوٍ
غير لائق، لكن لم تكن بيده حيلة؛ لذلك مضىنحوهم، في محاوَلةٍ حمقاءَ لإخفاء إحساسه
بالحَرَج، ليسألهم عن الطريق إلى المدرسة الثانوية ووسيلة لنقل حقيبته والصندوقين
الصفيحيَّيْن الملقيَيْن بعيدًا على رصيف المحطة؛ فلم يكن بمقدوره أن يخبرهم بحكايته
الغريبة مع صاحب التفاحة!
وجد السيد هينشكليف أن أمتعتَه يمكن أن تُنقَل في عربةِ شحنٍ مقابلَ ستة بنسات،
بينما يتقدَّمها سَيْرًا على قدمَيْه. خُيِّلَ إليه أن هناك نبرةَ سخريةٍ في الأصوات حوله. وقد كان
مدركًا إدراكًا مريرًا لهيئته الغريبة.
إن الجدِّيةَ الغريبة التي أبداها الرجلُ على متن القطار، والسحرَ المثيرَ للقصة التي
رواها، كان من شأنهما أن يغيرا مسار خواطره؛ لقد مرت القصة كصفحةِ ضبابٍ حجبَتْ
مخاوفه الآنيَّة. نيران تتردَّد جيئةً وذهابًا! لكنَّ انشغالَه بمنصبه الجديد، والانطباعَ الذي
يلزم أن يتركه على هولموود في العموم، وعلى الناسفي المدرسة على وجه الخصوص، استعادا
السيطرةَ على تفكيره بقوةٍ متجددة قُبَيْلَ مغادرته للمحطة، وأسهَمَا في صفاء عقله. لكنه
أمرٌ غريبٌ أن إضافةَ ثمرةٍ ملساءَ ذات لون ذهبي متألِّق، لا يصل محيطها إلى ثلاث بوصات،
قد تُفسِد مظهرَ شابٍّ مُرهَف الحس في كامل أناقته. شكَّلَتِ التفاحة انتفاخًا كريهًا في جيب
سترته السوداء، وأفسدَتْ كاملَ هيئته. مرَّ السيد هينشكليف بسيدةٍ عجوزٍ ضئيلةِ الحجم
متَّشِحةٍ بالسواد، وأحسَّ بعينَيْها وقد وقعتا على انتفاخ جيبه على الفور. كان يرتدي
أحد قفازيه ويحمل الآخَر، وكان يُمسِك بعصاه فوق ذلك؛ ومن ثَمَّ كان حمْلُ الثمرة أمرًا
مستحيلًا. توقَّفَ السيد هينشكليف في مكانٍ ما، حيث بَدَا الطريق إلى البلدة منعزلًا، وأخرَجَ
ذلك العبءَ القابع في جيبه وحاوَلَ إخفاءَه داخل قبعته، لكنَّ الثمرة كانت كبيرةً للغاية
بحيث راحَتِ القبعة تتأرجح فوق رأسه على نحو كان من شأنه أن يثير السخرية، وفي تلك
اللحظة التي أخرَجَها من القبعة ثانيةً، وجد صبيَّ أحدِ الجزارين يمرُّ مُسرِعًا بالقرب منه.
«! تبٍّا » : قال السيد هينشكليف
كان بوسعه أن يأكل تلك الثمرةَ ويحظى بالمعرفة الكلية غير المحدودة في الحال، لكنه
كان سيبدو في منتهى السخف أن يُقبِل على البلدة وهو يَلُوك ثمرةً غضَّةً غنيةً بالعصير،
ولا شكَّ أنها كانت تبدو غنيةً بالعصير حقٍّا. لو أن أحدَ الصِّبْية مرَّ بجواره، فلربما سبَّبَتْ
مشاهدتُه بهذا الوضعضررًا بالغًا لهَيْبته، وقد يجعل العصير وجهَه دبقًا فضلًا عن أنه قد
يسيل على أكمامه، أو من المحتمل أن يكون عصيرًا حامضًا في قوة الليمون، فيُزِيل الألوانَ
عن ملابسه.
ثم أقبَلَ من منعطف في الزقاق طيفان لفتاتين مَلِيحتين زادَتْهما أشعةُ الشمسوَضاءةً
وحُسْنًا. كانت الفتاتان تسيران على مهلٍ نحوَ البلدة وتتجاذبان أطرافَ الحديث، وربما
التفَتَتَا في أي لحظة لترَيَا خلفهما شابٍّا مرتبكًا حاملًا شيئًا يشبه الطماطم الصفراء الفاقعة
اللون! ما من شكٍّ أن الضحك سيغلبهما.
وبحركةٍ خاطفة ألقى ذلك الثِّقل الجاثم على قلبه، «! اللعنة » : قال السيد هينشكليف
فطارت فوق الجدار الحجري لبستانِ فاكهةٍ متاخم للطريق. وحين اختفَتِ الثمرة، أحسَّ
السيد هينشكليف بغصَّةٍ خافتة لفَقْدها، لكنها لم تتجاوز اللحظة، ثم عدَّلَ بعدَها وضْعَ
عصاه وقفازه في يده، ومضىفي طريقه، معتدلًا وواثقًا، ليجتاز الفتاتين.
لكن حين حلَّ الليل بظلمته رأى السيد هينشكليف رؤيا في منامه، تراءى أمامَه خلالها
الوادي، والسيوف المستَعِرَة، والأشجار الملتوية، وأدرَكَ أن التفاحة التي ألقاها غير مبالٍ بها
إنما هي تفاحةُ شجرةِ المعرفة حقٍّا، فأفاق من نومه مغتمٍّا مكروبًا.
حين استيقظ السيد هينشكليف صباحًا كان إحساسه بالندم قد تلاشى، لكنه عاد
لاحقًا وعكَّرَ صفوه، غير أنه لم يكن يساوِره قطُّ حالَ فرحه أو انشغاله. وأخيرًا، في ليلةٍ
مُقمِرة في حوالي الحادية عشرة قبل منتصف الليل، حين خيَّمَ السكون على هولموود، عاوَدَتْه
مشاعِرُ الندم ثانيةً لكنْ بحدَّةٍ مضاعَفة، وجلبَتْ معها تلك المرة دافعًا قويٍّا للمغامرة. انسَلَّ
السيد هينشكليف خارجًا من بيته واجتاز جدارَ الملعب، ثم اخترق البلدةَ الساكنة متَّجِهًا
إلى محطة القطار، وتسلَّقَ حائط البستان الذي ألقى الثمرةَ داخلَه. لكنه لم يعثر على أدنى
أثرٍ للثمرة بين العشب المبتَل بقطرات الندى وزهيرات الهندباء الرقيقة الكروية الساقطة
على الأرض.