ShrElRawayat

Share to Social Media

دخل فريد للمشغل بابتسامةٍ وقورة لا تفارق وجهه، مُلقيًا التحية على الجميعِ ببشاشةٍ،وبفصحى مَرحة لمسامعِهن.
" السلام عليكُن .. كيف حالكُن يا صبايا "
ابتسمن له بخجلٍ، مرددين التحية.
" وعليكم السلام ورحمة الله "
" إزيك يا أستاذ فريد "
" غيبت علينا المرّة دي "
" قهوتك حالًا هتكون جاهزة يا أستاذ فريد "
والمزيد، والمزيد مِن التعبيرات المُرحّبة لفريد الذي يساعد جميع مَن بالمشغلِ فيما يحتاجونه، والجميع بداخل المشغل يعتبرونه أخ لهن .. أو أب لصغارِالسّن منهن؛ وخاصة بعد معرفتهن بحكايتِه مع صاحبةِ مشغلهن؛ وكم وقف بجوارِها بعد أن تخلى عنها جميع أهلها، وكل مَن يعرفونها!
اقترب منها في وقفتِها وراء مكتبها الصغير، ودقات قلبه تعلن الحرب في حضرتِها،كل ما يظهر منها هو عينيها فقط.. فقط!!
عينان كحيلتان..كفيلتان بقلبِ موازين كيانه في لحظةٍ.
" إزيك يا... إلهام "
همسها ببحةٍ لم يسيطر عليها، بل خرج اسمها بشوقٍ لا يرحمه.. أما هي فأغمضت عينيها تُداري لهفتها؛ فكل ما فيها غير قابل لا لِلّهفةِ.. ولا للشوقِ، ولكن صوتها خانها وتآمر ضدها فخرج مهزوزًا.
" الـ.. الحمد لله.. إزيك أنت.. يا أستاذ فريد "
تنهد فريد بأسى؛ فمازالت حصونها المزعومة مقامة،
ليهمس بعتابٍ حنون.
" لسه مُصرّة على كلمة أستاذ دي يا إلهام؟! "
أغمضت عينيها بأسى منه،ومِن نفسِها، ومما يشعره، ثم همست بإقرارٍ.
" لازم تبقى موجودة، العين متعلاش على الحاجب.. أنا أولًا وأخيرًا(زانية).. ولا نسيت!! "
قالت آخر كلماتها بقسوةٍ غير موجهة نحوه، ولكنها لم تحسب حساب انحنائه اتجاهها بكلِّ هذه الهيبة التي يملكها، رغم بساطة مَلبسه وعدم تكلّفه أبدًا.. بقميصِه الأبيض المُموه بخطوطٍ عرضية باللونِ الأزرق،وبنطالِه الجينز أزرق اللون.
وكل هذا لم يقلّل مِن وسامتِه،وملامحِه الرجولية التي تزيّنها لحيته، وشاربه المُشذّبين.. احمرت ملامحها تحت نقابِها، وخجلت من نفسِها؛ فجلدتها بإبعادِ عينيها عنه.
أما هو فقال من بين أسنانِه:
" مسمحلكيش تهيني نفسك بالطريقة دي.. ولو رددتي الكلمة دي تاني اعتبري نفسك بتهينيني أنا "
رأى إجفال عينيها للحظةٍ، فابتعد ململمًا شتات روحه، وخاصة مع اقترابِ الفتاة التي أخبرته أنها ستعدّ له القهوة.
" أحلى قهوة لأحلى أستاذ فريد في الدنيا "
قالتها الفتاة بمحبةٍ،وتقدير، فبادلها فريد كلماتها بابتسامةٍ شاكرة، ثم جلس بسيطرةٍ على الكرسي المتهالك الموضوع أمام المكتبِ، وأراد تغيير الجو المشحون بينهما قائلا :
" أخبار لميا.. وضياء إيه؟ "
وبالفعلِ نجح في مَسعاه.. راقبها تجلس على كرسيها،وتوترها يفضحها وهي تجيب:
" كويسين.. الحمد لله "
ثم تابعت،والحُمرة تعلو خديها مِن تحت غطاءِ وجهها، وكأنها مراهقة..
" على طول بيسألوا عليك "
ثم تمتمت والبسمة ترتسم على شفتيها..
" وعلى ياسر "
كاذبةٌ هي؛ فطفليها انطوائيان؛ وتعاملهما مع الجميع شبه معدوم!
أما هو، فكان يُطيل النظر إليها للحظات ربما.. أو دقائق لا يعلم!
ما يعلمه أنه أسيرٌ لرمشةٍ مِن عينيها الظاهرتين..
ليخرج حينها صوته أجشًا.. مبحوحًا.
" وحشتـ.. وحشوني "
فتتقطع حروفه كما يتفتت قلبه في محرابِها،رأى انتفاضة نظراتها إليه، عالمًا بالنتيجةِ المؤلمة له، ولكنه تغاضى عنردةِ فعلها،وكأنه نصل خنجر يصل لعمق قلبه..وصوتها يأتي مُراضيًا.. محبًا،ملهوفًا بدون إرادةٍ منها.
" ياسر عامل ايه؟ "
فيجيب دون أن يحيد عن عينيها.
" كويس.. مُشتاق بس "
قطبت ما بين حاجبيها،تشعر أنه لا يقصد ابنه بالكلمةِ الأخير، ولكنها تجاهلت الرد، فقال مغيّرًا الموضوع حتى يرحم قلبه..
" جايلك النهارده كوسيط "
رفع فنجان قهوته يرتشف منه القليل، ثم وضعه مكانه ثانيةً، ليتابع مكملًا..
" حد قصدني أتوسط ليه عندك "
تعقد إلهام حاجبيها وتشوشها لا يسعفها التفكير فيما يقصده، فقال بتوضيحٍ:
" فيه صحفية جت لي المكتب وسألت عليكِ "
يرفع الفنجان ثانية لفمِه يرتشف منه المزيد، ثم يعاود وضعه، ويتابع..
" استغربت في الأول مجييها،بس واضح إنها عملت تحرياتها عنكِ كويس جدًا"
تنظر إليه وهو يقول موضحًا وجهة نظره.
" على أساس إني المحامي بتاعك "
لم تفصح عمّا يدور في خلدِها،بل كانت تستمع لكل ما يقوله، وأخيرًا نطقت باختصار.
" عارفاها.. كلمتني من فترة "
تعجّب من ردِها.. فتساءل عاقدًا حاجبيه..
" كلمتكِ؟!.. مقولتيليش يعني! "
لاحظ انقباض أصابعها على القلمِ القابع بين أصابع إحدى يديها ، بينما تجيبه بصوتِها المتشنج.
" عادي.. محبتش أشغلك.. "
تتابع وعينيها تنظران لعمق عينيه قائلة كلامها دفعة واحدة.
" بقينا حمل تقيل عليك، وأظن جه الوقت اللي تشوف فيه حياتك بعيد عننا"
صمت مَهيب حلق فوقهما، جعل توترها يصل لأعلاه؛ وخاصة حين لمحت ابتسامة ظهرت على جانبِ شفتيه لا تصفها إلا بـ
( شريرة )
وكانت على حقٍ في توصيفِها لابتسامتِه.
" واضح إنك فهمتي تهاوني، وتساهلي غلط "
وتابع من بين أسنانِه.
" فهمتي إني لما أديكِ وقتكِ تتقبّلي وجودي إن دا ضعف! لأ يا إلهام "
وأضاف مضيقًا عينيه.
" دا مش ضعف.. دا إصرار.. وجودي في حياتكم غير قابل للتغير.. أو التعديل.. أو التبديل "
أنهى كلامه بابتسامةٍ عابثة تفضح تملّكه الذي يفرضه عليها فرضًا، ليس سوءًا به..أو بها..
وإنما إدراكًا لكونِها هي الأخرى ترغب به،وبوجودِه، ولكنها تكابِر تلك الرغبة، وتحاول وأدها كلما طفت على صفحةِ مشاعرها.
" ودلوقتي.. "
قالها بمزاجٍ رائق، وحال متغيّر تمامًا عمّا كان عليه منذ لحظات، ثم تابع.
" إيه رأيكِ في طلب الصحفية؟ "
ونجح فيما أراد من تحويلِ مسار الحديث ليخرجها عن تلك الشحنة التي اكتنفتهما سويًا، سمع تنهدها.. ويكاد قلبه ينخلع من أجلِها، وصوتها يصيب كيانه بخنجرٍ.
" مش موافقة طبعًا "
لينظر لها بعمقِ متسائلًا.
" مش موافقة ليه؟ دي فرصة تتكلمي عن اللي حصل والناس تسمع منكِ"
يراها تغمض عيناها الظاهرتان من فتحةِ نقابها، فيكاد يقع صريعًا لتلكما العينين، وصوتها يخرج منفعلًا..
مكسورًا..
مهزوزًا..
" عاوزني أحكي ايه؟وأتكلم أقول إيه؟ أقول إزاي اعتدى عليا قدام ابني؟! وصوت عياطه مخلاهوش يرحمني؟ .. "
لتسكت قليلًا ثم تتابع بقهرٍ.
" ولا أقول إزاي جوزي لفق ليا قضية زِنا، واتفضحت بين الناس إني بجيب رجّالة بيتي في غيابه.. ولا أحكي عن أختي الـ.. "
" كفاااية "
وهذا كان أمره الشرس.. الغاضِب.. المصاحب لضربتِه على سطحِ المكتب الفاصل بينهما..
التفّت لهما عيون العاملات في المشغلِ بعد صرختِه، ولكنهما كانا في ملكوت بعيد عن محيطِهما..
ملكوت ليس فيه سواهما..
ملكوت يظلله ماضي قذر جمعهما..
وصوته الناهي يتخلل هذا الملكوت مخترقًا له.
" لآخر مرة هسمحلك تتكلمي عن اللي حصل بالشكل دا "
فبدون إرادة منها تنكمش داخليًا وخارجيًا بتوترٍ ملحوظ لعينيه، ولكنه سأم.. يقسم أنه سأم إهانتها المستمرة لنفسها..
يكفي تحمّله، وكبته لجنونِه وتملّكه..
تكفيه سيطرته على غيرتِه التي تكاد تطيح بالأخضرِ واليابس بينهما، بينما يتقبّل ويتغاضى، ويحاول جاهدًا دفن ما حدث لها في خندقٍ بعيد بداخلِه حتى يقوى على الاستمرار.
استقام من مكانِه بعنفٍ واضح لعينيها، ثم مال تجاهها وبينهما المكتب حاجزًا له عنها.. وكم يحمد ربه على وجودِ هذا المكتب في هذه اللحظة..
العيون في اتصالٍ سافر..
والغضب تنطق به ملامحه..
وصوته يصلها نافذ الصبر.
" فكري يا إلهام.. فكرة إنكِ تتكلمي.. تطلعي اللي جواكِ "
يصمت للحظة ثم يتابع وصوته يخرج مهزوزًا.. مرتعشًا بدونِ قصد..
" يمكن تخفي من وجعكِ.. اللي واجعني "
ثم يغادر أمام ناظريها، بينما تتابع انصرافه العنيف بقلبٍ متألّم.. وعينين تتحجّر فيهما الدموع رفضًا للضعف.
***
في المساء
تجلس على الأرضِ بصحبةِ طفليها- "لمياء" ذات الثمان سنوات، و"ضياء" ذا الأربع سنوات -، ملتفين حول طاولة(طبلية) مستديرة،قصيرة الأرجل.. والطفلان كل منهما يقوم بواجباتِه المدرسية.
بينما هي تشرد بعقلها فيما حدث، متسائلة بينها وبين نفسها.. كيف ستتخطى ما يحدث؟!
كيف يطالب بحقِه فيها، بينما هي بكلّ تِلك القذارة؟!
لقد لُوِّثَت من قبلِ..
لقد أُنتُهِكَ عِرضها وتم الاعتداء عليها..
بمعنى أوضح وصريح..
( لقد تمَّ اغتصابها )
وكيف؟!..
أمام طفلِها الذي لم يكن يتعدى السنة، وصوت بكاؤه يصاحب انتهاك جسدها.
كم مضى؟!
ثلاث سنوات!
حتى الآن لا تحتمل صوت بكاء طفل..
لا تحتمل..
لا تحتمل سخونة تحلّ بجسدِ طفلتها..
فلولا مرض طفلتها يوم الحادث لَما خرجت من بيتِها ليلتها،وتعرّضت لِما تعرّضت له.
" أبلة ابتسام أخدت أجازة "
أخرجها من شرودِها صوت ابنتها فانتبهت لها.
" ليه؟ "
فترد ابنتها دون أن تنظر لها،بينما تتابع كتابة دروسها.
" بيقولوا هتتجوز "
لتجيبها والدتها بطبيعيةٍ.
" ربنا يسعدها "
ثم تميل لتلثّم وجنة ابنتها قائلة:
" عقبالك يا قلبي "
ثم تبتعد عن ابنتِها.. وبعد مرور لحظات تجيبها طفلتها بتقريرٍ..
" بس أنا مش هتجوز "
فتتسمّر إلهام في حركتها تنظر لطفلتها التي تنظر لها،ثم تسألها بصوتٍ متحشرج خوفًا.
" ليه يا حبيبتي بتقولي كدا؟ "
فتجيبها الطفلة _الصغيرة الكبيرة _ بصوتٍ ثابت.. مُصرّ.
" لأني بَكره الرجّالة "
ثم تؤكد بنبرةٍ شرسة.
" كلهم "
بينما تتابع الطفلة بصوتٍ يترقق تلقائيًا.
" ماعدا عمو فريد "
تبتلع إلهام ريقها، ثم تسألها بصوتٍ خافت.. متقطّع.
" اشمعنا.. عمو.. فريد؟ "
فتجيب الطفلة ببراءتِها، وحلاوة طفولتها، وصدقها.
" لأنه الوحيد اللي صدّق براءتكِ"
ثم تضيف بسلاسةٍ.
" وساعدكِ "
كانت إلهام تحارب ضعفها،تكابِر احتياجها الفعلي لفريد، تعاند تصديق كلام ابنتها الصادق،تعافِر حقيقة ما حدث..
وما يحدث..
تعافِر عطب طال طفليها.
وبدونِ كلام آخر استقامت إلهام من مكانِها لتقف ظاهريًا بثباتٍ كاذب..
وداخليًا تحارب تمزّق طال كل ما فيها.
" خلّصي واجبكِ.. وساعدي أخوكِ.. وبعدها ادخلوا ناموا "
ثم تتحرك متجهة لغرفتِها دون إضافة المزيد، وحين استقرت على فراشِها بانكماشٍ واضح، وأطرافٍ مرتعشة.
تضم ركبتيها لصدرِها، قبل أن تبدأ الحركة للأمامِ وللخلفِ برتابةٍ مريضة، وعقلها يزحف بها ليومِ الحادث..
يوم تغيّرت فيه حياتها كليةً..
يوم كان الفَيصل بين حياة قضتها في كنفِ زوج عويل..
وبين حياة قضتها كمذنبةٍ..
كزانيةٍ كما وصفتها الجرائد.
صوت صراخ مِن الماضي يصمّ سمعها بينما يزداد طنين أذنيها..
فترفع كفي يديها تضعهما على أذنيها، في محاولةٍ منها لتوقِف هذا الصراخ، ولكنها تشعره يعلو.. ويزداد..تشهق بعنفٍ،ولم تكن تعلم أنها تكتم أنفاسها.
وفجأة انتفضت من مكانِها لتقف ممسكة بهاتفِها بين أصابعها بتهورٍضاغطة على رقمٍ بعينِه، وحين أتاها الصوت الأنثوي الثابت..قالت إلهام بدونِ مقدمات
" أنا موافقة أحكيلكِ حكايتي " .
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.