لم يكن الفيلسوف يَعي على الإطلاق أننيشربت جرعة من مستحضره؛ فقد استنتج،
وأنا أبديتُ تأييدًا ضمنيٍّا لهذا الاستنتاج، أنني أمسكت بالوعاء بدافع الفضول وأنني لما
وجلت من بريقه وومضات الضوء القوي المُنبعثة منه، أسقطته من يدي. لم أخُبره بحقيقة
الأمر قط. خبا وهَج المستحضر، وتبدَّدت رائحته العطرة، وبدأ الفيلسوف يَستعيد هدوءه،
وهو تصرُّف يليق بفيلسوف أن يتبعه حتى عند تعرُّضه لأشد الِمحَن، وطلب مني الانصراف
لنَيل قسط من الراحة.
لن أحاول أن أصف الجمال والغبطة اللذَين غمَرا رُوحي أثناء نومي في الساعات
المتبقية من هذه الليلة التي لا تُنسى، فكنت كأنني في الجنة. ولا يُمكن لأي وصف بالكلمات
أن يُعبِّر عن البهجة أو السرور الذي أثلج صدري عندما استيقظْتُ؛ فأي وصف من هذا
النوع سيكون باهتًا وسطحيٍّا. كنتُ كمن يطير في الهواء، وكانت أفكاري محلِّقة في عنان
السماء. بدَت لي الأرضوكأنها الجنة، وبدا وكأن إرثي الذي سأَترُكه عليها هو هذه النشوة
هكذا يكون الشعور بالشفاء من الحب. سأرى بيرثا اليوم » : التي أشعر بها. قلت في نفسي
وستجدُ حبيبها باردًا وغير مُهتمٍّ بها؛ ستجده سعيدًا جدٍّا لدرجة لا يَكترث فيها بازدرائها،
«! ومع ذلك سيُبدي فتورًا تامٍّا نحوها
مرَّ الوقت سريعًا، وبدأ الفيلسوف في تجهيز مُستحضره مرة ثانية، بعد أن اطمئنَّ
لنجاحه، وكان يعتقد أنه قد يَنجح في إعداده مرة أخرى. اختلى بذاته في صحبة كتبه
وعقاقيره، وحصلتُ أنا على إجازة. حرصتُ على ارتداء ملابس أنيقة، واستعملت درعًا
قديمًا لكنه مُلمَّع كمرآة أرى نفسي فيها، وخلتُ أن وسامتي ازدادت بنحوٍ رائع عن
ذي قبل. مضيتُ مسرعًا خارج حدود القرية ورُوحي طَرِبة، مُتأمِّلًا جمال السماء والأرض
من حولي. وتوجهتُ نحو القصر، وكان بإمكاني النظر إلى أبراجه الشاهقة وبالي خالٍ من
الهموم؛ ذلك لأنني شُفيت من الحب. رأتني بيرثا من بعيد وأنا أدنو من محيط القصر.
لا أعرف ما الذي حرَّك مشاعر بيرثا فجأة؛ فبُمجرَّد أن رأتْني وثبَت بخفة ظبي نازلة
على الدرج الرخامي، وتوجهت نحوي بسرعة. لكنني أدركتُ كذلك أن ثمَّة شخصًا آخر قد
رآني. العجوز الشمطاء الكريمة الأصل التي كانت تُسمي نفسها وليَّة أمرها، والتي كانت
في حقيقة الأمر الطاغية التي تُسيطِر عليها، قد رأتني كذلك، وصَعدَت إلى الشُّرفة بخطوات
عرجاء وأنفاسلاهثة. كانت هناك خادمة، قبيحة مثلها، تُمسك بذيل فستانها وتهوِّي عليها
ما الذي تنوين » : بمروحة بينما كانت تُهرول مسرعة لتَستوقِف فتاتي الجميلة وتقول لها
فعله الآن يا فتاتي الجريئة؟ إلى أين أنت ذاهبة بهذه السرعة؟ عُودي إلى قفصك؛ فالصقور
«! متربِّصة بالخارج
شبكت بيرثا يدَيها، وعيناها ما زالتا تُراقبان جسدي المقترب. رأيتُ النزاع الدائر. كم
أبغضتُ العجوز الشمطاء لأنها قيَّدَت الرغبات الحنونة التي كنَّها لي قلب بيرثا الذي بدأ
يلين. قبل هذه اللحظة كنتُ أتجنَّب الاحتكاك بصاحبة القصراحترامًا لمكانة بيرثا عندي،
أما الآن فقد أصبحتُ أستخفُّ بهذه الاعتبارات التافهة؛ فلقد شُفيت من الحب، وسمَوت
فوق جميع المَخاوف البشرية، فمضيتُ قدُمًا بخطًى سريعة حتى وصلت بعد برهة إلى
الشرفة. كم كانت بيرثا جميلة! عيناها كأنهما تُطلقان أَسهُمًا نارية، وخداها يتوهجان
حمرة مُنذِرة بنفاد الصبر والغضب، كانت تبدو ألطف وأكثر فتنةً ألف مرة مما كانت عليه
في السابق، لم أعُد أحُبها، لا بل يا للعجب! أصبحتُ أهواها وأعشقُها، بل أقدسها!
كانت بيرثا قد تعرَّضت ذلك الصباح لمُضايَقات، أشد في حدَّتها من المعتاد، حتى تَقبل
بالزواج الفوري من غريمي. لامت نفسها لتَشجيعها له، وهُدِّدت بالطرد من القصرتجرُّ
أذيال العار والخزي. فرفَضت روحها الأبية الانصياعَ لهذا التهديد، بيد أنها عندما تذكَّرت
الاحتقار الذي عاملَتْني به، وأنها ربما تكون قد فقَدت الشخص الذي تراه الآن صديقها
الوحيد، أجهشَت بالبكاء في نَوبة ندم وغضب. وظهرتُ أنا في هذه اللحظة. صاحت قائلة:
وِنزي، خُذني إلى كوخ والدتك، اخطَفني بسرعة من الرفاهيات البغيضة والتعاسة التي »
«. أقُاسيها في هذا المكان الفخم، خُذني إلى الفقر والسعادة
ضمَمتُها بين ذراعَيَّ بعاطفة مُتقدة، واستشاطت العجوز غضبًا دون أن تَنطق ببنت
شفة، بيد أنها لم تبدأ في ذمِّنا بصوت مسموع إلا عندما مضَينا في طريقنا مُبتعدَين عنها
ومُتجهَين نحو الكوخ الذي شهد مولدي. استقبلَت والدتي الفتاة الجميلة الطريدة الهاربة
من قفصٍمُذهَّب إلى الطبيعة والحرية بحنان وسعادة، ورحَّب بها والدي الذي كان يُحبها
بحفاوة بالغة، لقد كان يومًا يعمه الفرح والبهجة، ولم أجد ذلك اليوم حاجةً إلى أيشراب
رُوحاني قد يكون حضَّره الخيميائي ليُشعرني بنشوة مُماثلة.
لم تمرَّ فترة طويلة بعد هذا اليوم الحافل حتى تزوَّجتُ بيرثا. ولم أعد أعمل لدى
كورنيليوس، لكنني ظلَلتُ صديقه. ولطالَما شعرت بالامتنان له لأنه، من دون قصد منه،
قد حضَّر هذا الإكسير الرُّوحاني اللذيذ الذي بدلًا من أن يَشفيني من الحب (ويا له من
شفاء تَعِس! فهو شفاء ينطوي على وحدة وكآبة مما كنتُ أظنه نِقمًا تبدو الآن لذاكرتي
نِعمًا)، منحني الشجاعة والحسم اللذَين مكَّناني من الفوز بحبيبتي بيرثا، التي تُعدُّ كنزي
الذي لا يُقدَّر بثمن.
كلما استحضرتُ ذكرى ذلك اليوم الذي كنتُ فيه في حالة أشبه بنَشوة الثمالة،
أصابتْني الدهشة؛ فلم يُحقِّقشراب كورنيليوس الغرضالذي أكَّد أنه حُضِّرمن أجله، بيد
أن آثاره كانت أكثر فاعلية ومنحَتني سعادة أكثر بكثير مما يُمكن للكلمات أن تعبر عنه.
تلاشت هذه الآثار تدريجيٍّا، بيد أنها ظلَّت موجودة لفترة طويلة، ولوَّنت حياتي بألوان
بالغة الروعة. تعجَّبَت بيرثا كثيرًا من صفاء بالي وسعادتي التي لم تَعتدْها مني؛ فلقد كنتُ
في السابق جادٍّا، بل حزينًا، بطبعي. وقد أحبَّتني أكثر في مزاجي المُبتهج، وكلَّل حياتنا
الفرح والسرور.
بعد مرور خمس سنوات، استُدعيت فجأةً للقاء كورنيليوس الذي كان على فراش
الموت. كان استدعاؤه لي على وجه السرعة، وطلب مني الذهاب إليه على الفور. وجدته
مُمدَّدًا على فراشه، وقد أصابه الوهن الشديد فيَحسبه الناظر ميتًا بالفعل، ولم تبدُ عليه من
أمارات الحياة إلا عيناه الثاقبتان، وكانتا مُثبتتَين على وعاء زجاجي مملوء بسائل وردي
اللون.
يا لِغرور أمنيات البشر! آمالي على وشك أن تُتَوَّج » : قال بصوت مُنكسِر وخفيض
مرة أخرى، وستَضيع هباءً كذلك مرة أخرى. انظر إلى هذا الشراب، كما تَذكر منذ خمس
سنوات مضَت حضرت نفس هذا الشراب، وكان بنفس فاعليته الآن، وقتئذٍ، والآن أيضًا،
كانت شفتاي الظمآنتان تَتُوقان لتذوُّق إكسير الخلود ذاك، لكنَّكَ حرَمتني منه حينها! والآن
«. قد فات الأوان
كان يتحدَّث بصعوبة ثم وضع رأسه على المخدة مرة أخرى. لم أَستطِع منع نفسي
من سؤاله:
«؟ كيف، يا سيدي المُبجَّل، يُمكن لدواء يشفي من الحب أن يُعيد لك الحياة »
ارتسمَت ابتسامة خفيفة على وجهه وأنا أنُصت بانتباه شديد إلى إجابته التي كانت
هو دواء يَشفي من الحب ومن كل العِلل، إنه إكسير الخلود. آه! لو » : بالكاد مفهومة. قال
«! شربتُه الآن، فسأعيش إلى الأبد
انبعَث وميضذهبي من السائل بينما كان يُحدثني، وملأ المكان عبيرٌ أتذكَّره جيدًا، ثم
رفع جذعه على الرغم من وهنه. بدا لي أن القوة قد دبَّت من جديد في جسده بفعل مُعجزة،
ثم بسط يده إلى الأمام، وأجفَلني صوت انفجار عالٍ وانبعثت شرارة من الإكسير، فانكسر
الوعاء الزجاجي الذي حواه إلى ذرات صغيرة مُتشرذِمة! نظرتُ إلى الفيلسوف، فوجدته قد
رقد مجددًا وعيناه جامدتان وملامحه متيبسة. لقد مات!
لكنني عشتُ، وسأعيش إلى الأبد! هذا ما قاله الخيميائي الشقي، وظللتُ مصدقًا
لكلماته لبضعة أيام. تذكَّرت حالة الثمالة الرائعة التي أعقبَت اختلاسي لجرعة العقار،
وتأمَّلت التغيير الذي شعرت به في جسدي وفي رُوحي بعدها؛ فالجسد صار مَرِنًا وثابًا،
والرُّوح صارت خفيفة ومُنتعشة. نظرت لصورتي في إحدى المرايا، فلم ألحظ ظهور أي
تغيير في ملامحي أثناء السنوات الخمس التي انقضَت. تذكَّرتُ الألوان البراقة والرائحة
الزكية لهذا الشراب اللذيذ — فهو بحقٍّ جديرٌ بالهبة التي يستطيع منحها — أنا إذًا
أصبحت خالدًا!
انقضَت بضعة أيام بدأتُ بعدها في السخرية من مدى سذاجتي. كان المثل القديم
مُنطبقًا في حالتي أنا ومُعلمي الراحل؛ فقد أحببتُه « لا كرامة لنبي في قومه » القائل بأن
كإنسان، واحترمته كحكيم، لكنَّني تهكَّمت على فكرة إمكانية تحكُّمه في قُوى الشروسَخِرت
من الأساطير والخرافات التي نسجها العامة عنه وهابُوه من أجلها. كان فيلسوفًا حكيمًا،
لكنه لم يكن على اتصالٍ بأي أرواح إلا تلك المكتسية باللحم والتي يَسري الدم في عروقها.
كانت العلوم التي يعتمد عليها ببساطة علومًا بشرية، والعلوم البشرية، كما نجحتُ في إقناع
نفسي بذلك بسرعة، يستحيل أن تَهزم قوانين الطبيعة، فتسجن الرُّوح للأبد في مسكنها
الجسدي الزائل. لقد حضَّرَكورنيليوس شرابًا يُنعش الروح — ويُسكر أكثر من النبيذ —
ومذاقه ورائحته أكثر حلاوة وأزكى من أي ثمرة فاكهة. قد يكون لهذا المُستحضرخصائص
طبية قوية، تُضفي على القلب البهجة وعلى أطراف الجسد الحيوية والنشاط، بيد أن آثاره
ستَتبدَّد؛ فهي بالفعل قد اضمحلَّت وتلاشت من جسدي. كنت محظوظًا لأنني تمكَّنت على
يد مُعلِّمي من التمتُّع بصحة جيدة وسعادة بالغة، وربما عمرٍ مديد، ولكن حظِّي توقف
عند هذا الحد؛ فالعمر المديد يختلف كل الاختلاف عن الخلود.
ظللتُ مُتمسِّكًا بهذا الاعتقاد لسنوات عديدة. وفي بعض الأحيان كانت تتسلَّل هذه
الفكرة إلى رأسي: هل كان الخيميائي متوهِّمًا حقٍّا؟ ولكنني كنتُ أعود لاعتقادي المعهود
بأنني مِثلي مثل جميع أبناء آدم وسنَلقى كلنا نفس المصير في أجل معلوم، ربما سيحدث
ذلك بعد عمر طويل، لكنه سيكون عمرًا طبيعيٍّا. مما لا شك فيه أنني ظللتُ مُحتفظًا برونق
شبابي، حتى إنَّني تعرضت للسخرية من غروري لأنني كنتُ أنظر في المرآة كثيرًا، لكن
تفحُّصيلنفسيفي المرآة لم يكن له جدوى؛ فجبيني لم تَظهر به التجاعيد، وخداي وعيناي
وجسدي بأكمله ظلت جميعها غير مشوبة بالتغيير كما لو أنني ما زلت في العشرين من
عمري.
كنت منزعجًا. فكلما نظرت إلى جمال بيرثا الآخذ في التلاشي، خِلتُ أنني أبدو وكأنني
ابنها. وبدأ جيراننا تدريجيٍّا في ملاحظة نفس الأمر، وتنامى إلى علمي أن الناس أصبحوا
يُطلِقون عليَّ لقب العالِم المسحور. وحتى بيرثا نفسها كانت حائرة، وأضحت غيورة
ومُتذمِّرة، وفي النهاية، بدأت تستجوبني بشأن هذا الأمر. لم نُرزَق بأطفال؛ فلم يكن لكلٍّ
مِنا سوى الآخَر، ولكن كلما تقدم بها العمر أصبحَت رُوحها المُفعَمة بالحيوية مقترنة
أكثر فأكثر بسوء المزاج، وتبدَّد جمالها بطريقة مُحزنة، بيد أن مَعَزَّتَها في قلبي لم تتغيَّر
كمحبوبتي التي عشقتها عشقًا كبيرًا، وزوجتي التي سعَيتُ جاهدًا لأحظى بها ونلتها في
النهاية بحبٍّ خالص.
أصبح الوضع غير مُحتمَل في نهاية المطاف؛ إذ بلَغت بيرثا الخمسين من عمرها،
وأنا ظللتُ في العشرين من عمري. واضطُررت، للأسف، إلى أن أتبع إلى حدٍّ ما عادات
الأشخاص المتقدِّمين في السن؛ فلم أعد أشارك الشباب المَرِحين في الرقص، لكن قلبي ظل
يَتمايل معهم بينما منعتُ قدمَيَّ من الانضمام لهم، وأصبحت أستحي وأخجل من شيوخ
القرية وحكمائها. بيد أن الأمور كانت قد اختلفَت بالفعل قبل ذلك الوقت، فقد نبَذَنا
الجميع، وكانت هناك إشاعات أننا — أو على الأقل أنا — على علاقة شرِّيرة بأحد أصدقاء
أستاذي السابق المَزعومين. كانوا يُشفِقون على بيرثا المسكينة، لكنَّهم هجروها. أما أنا،
فكانوا مذعورين مني ويبغضونني.
ما الذي كان بوسعِنا فعله؟ كنا نَجلس بجانب المدفأة في الشتاء، وقد عرَف الفقرُ
طريقه إلينا؛ إذ لم يُقدِم أحد على شراء منتجات مزرعتي، وعادةً ما كنتُ أضطر لقطع
عشرين ميلًا لأصل لمكان لا يعرفني فيه أحد حتى أبيع ممتلكاتي. كنا ندَّخر ما يُعيننا
لمواجهة الأيام العصيبة، وها قد أتت تلك الأيام.
جلسنا بجانب مدفأتنا وحيدَين؛ الشاب ذو القلب العجوز، وزوجته العجوز. ومرة
أخرى أصرَّت بيرثا على معرفة الحقيقة؛ فردَّدَت على مسامعي جميع الإشاعات التي سمعَتها
عني، وأضافت ما لاحظته بنفسها أيضًا، واستحلفَتْني أن أبُطل مفعول التعويذة؛ فبدأَت
تصف لي مدى بهاء الشَّعر الأبيضوكيف أنه أجمل بكثير من خصلات شعري الكستنائية،
وأسهَبت في وصف التبجيل والاحترام اللذَين يحظى بهما المرء بفضل تقدُّمه في السن،
وكيف أن ذلك أفضل من عدم إسداء الاحترام الكافي لمن هم أصغر سنٍّا. هل أتصور أن هدايا
الشباب والوسامة التافهة التي مُنحتُ إياها تستحقَّان مقابلهما وصمي بالعار وكراهيتي
وازدرائي؟ لا، ففي نهاية المطاف، سأعُاقَب بالحرق على ممارستي لفنون السحر الأسود،
بينما هي، التي لم أتفضَّل عليها بنصيبٍ من حظي الوافر، قد تتعرَّض للرجم باعتبارها
متواطئة معي. وفي النهاية، لمَّحَت إلى أنني يجب أن أتقاسَم سرِّي معها، وأن أهَبها عطايا
مُشابهة لتلك التي أتمتع بها، وإلا سوف تتنكَّر مني، ثم أجهشت بالبكاء.
والآن، وبعد أن ضيَّقت عليَّ الخناق بإلحاحها، ارتأيتُ أنه من الأفضل أن أخبرها
بالحقيقة. كشفتُ لها عنها برفقٍ قدرَ المستطاع، فلم أحُدثها إلا عن أنني سأعيش عمرًا
مديدًا جدٍّا، ولم أخُبرها شيئًا عن خلودي، وفي الحقيقة كان ما أخبرتها به هو الأقرب تمثيلًا
لمُعتقداتي في هذا الشأن. وعندما انتهيتُ من حديثي، نهضتُ وقلت لها:
والآن يا عزيزتي بيرثا، هل ستتنكَّرين من حبيبك منذ أيام الصبا؟ أعلم أنكِ لن »
تفعلي ذلك، ولكن الأمر شاقٌّ عليكِ جدٍّا، يا زوجتي المسكينة، أعلم أنكِ تعانين بشدة من
حظي التَّعِس ومن فنون كورنيليوس الملعونة. سأترككِ، فأنتِ تَمتلكين مقدارًا كافيًا من
الثروة، وأصدقاؤك سيعودون حتمًا لمُرافقتك في غيابي. سأذهب؛ فشبابي البادي عليَّ وقوتي
التي ما زلتُ محتفظًا بها سيمكنانني من العمل وكسب الرزق بين أنُاسٍ غرباء عني، لا
يعرفونني ولا يشكُّون فيَّ. أحببتُكِ في شبابك، ويشهد الرب أنني لن أَهجرك لكبرك في السن،
«. بل لأن سلامتَك وسعادتك تتطلبان ذلك
أخذتُ قبعتي ثم سرتُ باتجاه الباب، وفي لحظة كانت ذراعا بيرثا ملفوفتَين حول
لا، يا زوجي وحبيبي وِنزي. لن أدعك تذهَب » : عنقي، وشفتاها تُقبِّلان شفتَيَّ. قالت
وحدك، خذني معك، سنَقتلع جذورنا من هذا المكان وسنكون، كما قلت، بين أنُاس غرباء،
فلن يشكَّ أحدٌ فينا وسنَصير آمنين. أنا لستُ كبيرة في السن للدرجة التي قد تُشعرك بالخجل
منِّي يا حبيبي وِنزي، وأظن أن التعويذة سيَبطل مفعولها قريبًا، وببركة الرب، ستظهر
«. عليك أمارات كبر السن، كما ينبغي أن يكون الأمر، ولن تتركني
لن أتركك يا عزيزتي » : بادلتُها، تلك المرأة ذات الرُّوح الطيبة، العناق بحرارة. وقلت
بيرثا؛ أنا لم أفُكِّر في الرحيل إلا من أجل مصلحتك. سأظل دائمًا زوجك المُخلِص والوفي
«. ما دمتُ حيٍّا، وسألتزم بواجبي نحوك حتى النهاية
جهَّزنا أنفسنا في اليوم التالي لهِجرتنا السرية، وحُملنا على بذلِ تضحيات مادية
ضخمة؛ فلم يكن بإمكاننا تجنُّب ذلك. لم نأخُذ سوى جزء من المال يكفي على الأقل
لإعانتنا طوال فترة حياة بيرثا، ثم رحَلنا، دون توديع أحد من قريتنا لنلجأ إلى منطقة
معزولة في غرب فرنسا.
كان نقل بيرثا المسكينة من قريتها، وإقصاؤها عن أصدقاء شبابها، إلى بلدٍ جديد
له لغة وعادات جديدة أمرًا شديد القسوة. وكان هذا النُّزوح غير مُهمٍّ بالنسبة لي بسبب
السر الغريب لمصيري، أما هي فقد أشفقتُ لحالها كثيرًا، وسعدتُ عندما رأيتُها تحظى
بتعويضٍعن سوء الحظ الذي واجهته في عدة ظروف سخيفة. سعت بيرثا، بصرف النظر
عن جميع العلامات الدالة على سنِّها، إلى تقليل التفاوت الواضح بين أعمارنا باستخدام
الكثير من فنون التجميل الأنثوية؛ أحمر الشفاه، والفساتين الشبابية، والتصرُّف بتصابٍ.
لم يسعني أن أغضب من تصرُّفاتها؛ ألم ألبسأنا الآخر قناعًا؟ فلماذا إذًا أعُاتبها على لبسها
قناعًا لمجرَّد أنه أقل نجاحًا في إخفاء سنِّها؟ حزنتُ كثيرًا عندما تذكرت أن حبيبتي بيرثا
التي أحببتُها بشغف، وحظيتُ بها بعاطفة متَّقدة — تلك الفتاة الداكنة العينين والشعر
بابتسامتها اللعوب الساحرة وخطوتها الوثابة كخطوة ظبْي — هي نفسها هذه المرأة
العجوز التي تخطو بخطوات متصنَّعة، وتَبتسم بتكلُّف، وتملؤها الغيرة. كان ينبغي أن
أبُدي احترامي لخصلات شعرها الرمادية وخدَّيها الذابلَين؛ أنا أعرف أن هذا واجب عليَّ،
ومع ذلك لم أَستطِع منع نفسيمن استهجان هذا النوع من الضعف الإنساني الذي أبدته.
لم تهدأ غيرتها قط. وكان همُّها الوحيد هو أن تكتشف أنني أتقدَّم في السن، على
الرغم من مظهري الخارجي الذي لا يدلُّ على ذلك. أعتقد حقٍّا أن هذه المرأة المسكينة قد
أحبَّتني بصدق في قرارة قلبها، لكنني لم أرَ قطُّ امرأة تُظهر حبها بهذه الطريقة المعذِّبة.
كانت تحاول تمييز التجاعيد في وجهي والعجز في مشيتي، بينما أنا أمضيبخطوات وثابة
تملؤها حيوية الشباب، وأبدو أكثر نضارة من الشباب الذين في سنِّ العشرين. لم أجرؤ
قط على مخاطبة امرأة أخرى. ذات مرة، اعتقدَت أن أجمل بنات القرية كانت تَنظر لي في
إعجاب، فاشترت لي شعرًا مستعارًا رماديٍّا. ولطالَما أخبرَت معارفها أنني على الرغم من
مظهري الشاب، فأنا أتهالَك وأضمحلُّ من الداخل، وأكَّدَت لهم أن أسوأ عرَضٍمن أعراض
هذا الاضمحلال هو الصحة البادية عليَّ ظاهريٍّا. كانت تقول إن شبابي مرض، وإنني يجب
أن أكون مستعدٍّا على الدوام، إن لم يكن لموت مفاجئ ومفجع، على أقل تقدير، لصباح يوم
أستيقظ فيه لأجد شَعري قد ابيضَّوظهري قد انحنى وقد بدت عليَّ جميع أمارات التقدم
في السن. كنتُ أدعها تتحدث، بل أحيانًا كنتُ أصدق علىصحة تخميناتها. كانت تحذيراتها
متوافِقة مع تخميناتي التي لا تنتهي بشأن حالتي، وأبدَيتُ اهتمامًا جديٍّا، ومُضنيًا كذلك،
بالاستماع إلى جميع ما أتت به بديهتها السريعة وخيالها الجامح بخصوصهذا الموضوع.
لكن ما الفائدة من الإسهاب فيسرد هذه التفاصيل الصغيرة؟ لقد عِشنا معًا لسنوات
طويلة. وفي نهاية المطاف، أصبحت بيرثا طريحة الفراش وأصابَها الشلل: فمرَّضتُها كما
تُمرِّضالأم ابنها. لقد أصبَحَت شديدة الوهن، لكنها مع ذلك ظلَّت تُلحُّ في سؤالها عن المدة
التي سأَعيشها بعد رحيلها. وجدتُ عزاءً كبيرًا في أنني قد أديتُ واجبي تجاهها بكل تفانٍ.
لقد كانت لي في شبابها، ولي في كبرها، والآن وفي نهاية المطاف، وأنا أهُيل التراب على جثتها،
انتحبتُ كمَدًا على فقداني لكل ما كان يربطني بالبشرية.
كم من مؤرِّقات وأحزان شهدتُ منذ يوم رحيلها، وكم تضاءلت مباعث بهجتي وخوت
من أي متعة! سأكفُّ عن حكي هذا الجزء من قصتي، ولن أواصلسرده أكثر من ذلك. فقد
كنتُ كبحَّارٍ من دون دفَّة أو بوصلة، ألُْقِيَ في بحر هائج. كنت كمُسافر تائه في أرضبور
شاسعة، دون علامة أو نجمة واحدة يهتدي بها. هكذا كنت، بل إنني كنت أكثر تيهًا ويأسًا
من كلَيهما؛ فقد تستطيع سفينة قريبة أو ضوء منبعث من كوخ صغير بعيد إنقاذهما، أما
أنا، فلا بريق أمل لي سوى الموت.
الموت! هذا الصديق الغامضمشئوم الطلعة للإنسانية الضعيفة! لماذا، من بين جميع
الفانين، حَرَمْتَني من الالتجاء لكنفكَ الحامي؟ أوه، كم أتوق لسلام القبر! كم أتوق للصمت
العميق للضريح المربوط بالحديد! كانت هذه الفكرة تكفُّ عن التطور أبعد من ذلك في
عقلي، وقلبي يتوقف عن الشعور بأيشيء إلا بأشكال جديدة من الحزن!
هل أنا خالد؟ ها أنا أعود لسؤالي الذي بدأت به. أولًا: أليسمن المرجح أن يكونشراب
الخيميائي يهَب العمر المديد بدلًا من الحياة الأبدية؟ كان هذا ما أمَّلت فيه. ثانيًا: فإنني
حسب ما أَذكُر شربت نصف الجرعة التي حضَّرها فقط. ألا يلزم شرب الجرعة بأكملها
حتى تكتمل التعويذة؟ فشرب نصف جرعة من إكسير الخلود قد يَعني أنني نصف خالد،
وأن أبديَّتي قد انتُقِصمنها وأصبحت مُنتفيَة.
ولكن من الذي بيده تحديد عدد السنوات التي يستغرقها نصف الخلود؟ كثيرًا ما
حاولت تخيُّل القاعدة التي تحكم تقسيم الخلود. وأحيانًا أتصور أن العجز يَقترب مني.
وجدت شعرة رمادية واحدة. يا لي من أحمق! هل أرثي حالي؟ نعم، فالخوف من التقدُّم في
السن والموت يتسلَّل مرارًا إلى قلبي ببرود، وكلما عشتصرت أخاف من الموت على الرغم
من مقتي للحياة. يا له من لغزٍ مُحيِّر عندما يدخل رجل مثلي — وُلد ليَفنى — حربًا مع
القوانين الثابتة التي تحكم طبيعته!
ولكن لولا هذا الشعور الخارج عن المألوف في حد ذاته لمتُّ حتمًا؛ فمُستحضر
الخيميائي لن يكون مُقاومًا للنار — أو السيف — أو الاختناق غرَقًا في المياه. فكم من
المرات حدقت في أعماق البحيرات الزرقاء الساكنة، والعديد من الأنهار المائجة العظيمة،
وقلت لنفسي إنني حتمًا سأجد السلام في أعماقها، ومع ذلك حوَّلتُ خطواتي بعيدًا عنها،
لتُكتب لي الحياة ليوم آخر. سألت نفسي ما إذا كان الانتحار سيعدُّ جريمة إذا ارتكبها
شخص لن تُفْتَح له أبوابُ العالم الآخر إلا بهذه الطريقة. فعلتُ كل شيء إلا أن أصبح
جنديٍّا أو مبارزًا، أي أن أصبح وسيلةً لتدمير أقراني الفانين، لا بل ليسوا أقراني في هذه
الحالة، ولذلك تملَّصتُ من هذه الخطوة؛ فهم ليسوا أقرانًا لي؛ فشعلة الحياة التي لا تخبو
أبدًا في جسدي، في مقابل وجودهم الزائل، جعلانا متناقضَين ومتباعدَين تباعُد القطبَين،
ولم تُطاوعني نفسي أن أوذي لا أضعفَهم ولا أقواهم.
هكذا عشتُ سنوات طويلة — وحيدًا ومتعَبًا من ذاتي — أتمنى الموت، لكنني لا أناله
أبدًا؛ فأنا الخالد الفاني. لم يتمكَّن الطموح أو الطمع من التسلل إلى عقلي يومًا، والحب
المُتقد الذي تنخر ذكراه في قلبي، لن يعود مرة أخرى، ولن يتبعه أبدًا حب مساوٍ يكون
امتدادًا له، ولن تبقى سوى هذه الذكرى لتُعذبني.
فكرت في ذلك اليوم في طريقة أستطيع بها إنهاء كلشيء — دون أن ألجأ إلى الانتحار،
أو أن أدع أحدًا يَقتلني — إذ فكرت في الذهاب في رحلة لن يستطيع الجسد الفاني الصمود
أمامها أبدًا، حتى وإن كان قد وُهب الشباب والقوة اللذَين يَتمتع بهما جسدي. هكذا
سأختبر خلودي؛ فإما أن أجد الراحة الأبدية التي أصبو إليها، أو أن أعود كأعجوبة تُحير
البشر وكرجل خيِّر يقدم لهم المساعدة.
دفَعني غروري البائس إلى أن أكتب هذه الصفحات قبل رحيلي؛ فأنا لم أشأ الموت
دون أن يعرف أحد اسمي. مرَّت ثلاثة قرون منذ أن تجرَّعتُ الشراب المشئوم، ولن تمضيَ
سنة أخرى قبل أن أسُلِّم هذا الجسد — هذا القفصالعنيد جدٍّا الذي يأوي روحًا متعطشة
للحرية — لعُنصرَي الهواء والماء المدمِّرَين، وذلك بمواجهتي لمخاطر جسيمة، ومحاربتي
قوى الصقيع في عُقر دارها، ومحاصرة نفسي بالمجاعات والأزمات والعواصف. لكن إذا
نجوت، فسيذيع صيتي بين بني البشر، وسأتبنَّى طُرقًا أكثر حزمًا؛ إذ سأدُمِّر جسدي
وأبُعثر ذراته وأفُنيها، وهكذا أحُرِّر الروح التي سُجنَت بداخله وحُرمت بكل قسوة من
التحليق بعيدًا عن هذه الأرضالمظلمة إلى فضاءٍ أكثر ملاءمة لجوهرها الخالد.