(راقصةٌ تُتقن الإغواء.)
حيٌ صغيرٌ قَابعٌ وَسط بلدةٍ ساحليةٍ، تتمركز شمال إقليم الصِوِيرة، ذلك الإقليم التابع لولاية "آسفِي" جهة "مَراكِش" العاصمة المغربية.
إقليمٌ عجَّ باليهود المغاربَة ذوي القلوبِ الباردةِ الثقيلة.
يهودٌ احتلّوا الإقليم يذيعون فيه فسَادًا بما لذّ وطابَ لهم باستخدام السحر، وليس أيّ نوعٍ من السحر، إنه السحرُ الأسود الذي اشتهروا به، بل وكان رمزًا لثقافتهم وعَلمًا لذويهم ونفوسهم منذ نشأتِهم. استمرُّوا بممارسة أعمالهِم الخَفية، طامعيْن فِـي بعضِ القروش التي كانت تُلقَى لهم مِـن ذوي العقول الخائبة والإيمان الضعيف، الإيمان الضعيف الذي جعلهم يرْتحَـلون عَـن هذا الإقليم فـي هجرةٍ بلا عودةٍ.
هجرةٌ ارتفَـعتْ وتِـيرتُها لهؤلاء اليهود وأباطِرة السحر خِـلال عـام ١٩٦٧ من الميلاد، قاموا ببـيع مَـنازلهم الرّاقية بهـذا الإقليم الساحليّ إلى المُـسلمين المغَارِبة مِـمَّن سَكنوا حـول هذا الإقليم جنـوبًا وغـربًا.
فكـان ذلِك التاجر المُسلم، ربُّ أسرةٍ صغيرةٍ مِمَّن كان لهم نـصيبٌ فِـي شِراء أحد هذه المنازل.
(مَهدي).. تاجِر وَقُورٌ، البياضُ يُغطّي خُصلات شَعـره المعدودةِ، مُماثلًا لبَياض لحْيته التـي تَركها تنمو حتى غَطّت رقبته بالكامل، ملامِحه الطيبَة التـي كَساها مُرور الـدهر رِقةً وهشَاشةً أثبتت سِنَـه الذي انْحسر بيْن السِتين والسَبعين ربيعًا.
كان يُعيل أسرةً صغيرةً بأسْماك يُتاجِر بها بيعًا للجوعَى من حوله، تلاعب لصالحه مُستغلًا موقع بلدته على ساحل البحر الملئ بأسماك السردين والقُريدس، فأصبح البحر يمُدُّه بأموالٍ أعانته على العيش وإعالة أسرته الصغيرة، بعدما جاء لهذا المكان ببضع قروشٍ بالكاد أعانته على شراء منزلٍ من يهوديّ.
أسرتُه تكوَّنتْ مِـن زوجته الهادئة المُسمّاة (نجاة)، زوجةٌ كانت تَصغُره بخمسةِ أعوامٍ فقط، رُغم كِبَر سنِها واقترابهَا مِـن الشَيخُوخة، إلا أنّ ملامحها كانت تأسِر الناظِر فِـي شهد عينيها العَسليتين، وجهها الدائريّ مَـع شفتين ممتلئتين على نطَاق فمٍ ضيق، نعومةٌ طَغتْ على نقاء بشرتها البيضاء. امتلكتْ تلك السيدة أنفًا حادًا صغيرًا نصَّف خديها، جمالٌ خلّاقٌ أورثتُه لابنتها الوحيدة، جمالٌ كان سببًا في إذابة الجليد عن قلبه، ومنحِه مشاعر بشريةً لمْ يكن ليتخيّل اقترابها منه حتى.
(زهرة).. تلك الفتاةُ الشابةُ حبيْسة سِن العشرين، شبيهةُ والدتَها شكلًا، وريثة والدها طِيبةً ورِقةً. مُدللة والديها التقِّيَين، ابنةٌ رزقهما الله بها بعد شقاء أحد عشر عامًا مِـن انتظارها، عانا فكرة عدم إنجابهما لطفلٍ يُنير حياتيهما هذه المدة الطويلة، وعجز أطباء ذلك الزمن عَـن مُساعدتهما. حتى شاءَ الله، فَكانت هذه الطفلةُ بين ذراعيّ والدتها تبكي رضيعةً. شَبَّت ونَمَت بقربهما، حُبُّهما الشديد لها كَان طاغيًا على حياتها. وبالرغم مِـن هذا، لمْ يمنعاها مِـن مُـمارسة حياتها الطبيعية. على العكس، فكان دلالُهما الزَائِد لها مفتاحَ تغَيُّرها وارتباطِها الوثيقِ بالعالم مِـن حولها.
أحبَّتْ (زهرة) التواصل مَـع غيرها، استباحتْ الحديث مَـع الجنسِ الآخرِ مِـن الذكور، قَضتْ طفولتها تلهو هنا وتلعب هناك. حتى بدأتْ فترةُ مُراهقتها، بتغيُّر تفاصيل حياتها، بِدءًا مِـن جسدها الذي أصبحَ مثاليًا بشكلٍ جَعل لُعاب الجنس الآخر يَسيل عليه. فزادتْ عيناها العسليتان جَذبًا للناظر، اتساعهُما مَـع رُموشها الكثيفة وإحاطتها لهما بالكُحل الأسودِ كان يأسِر الناظِر فِـي شهدهما. امتلاء خدَيها وتلك الحفرة المُسمَّاة بالغمازة بأيسرهما، مَـع اكتناز شفتيها المغلِّفتين لفمٍ ضيقٍ صغيرٍ، بالإضافة لشعرها الأسود الثقيل الذي اعتادتْ التفاخر بنصفه خارج وشاحها، يسقطُ ناعمًا على طُول ظهرها المستقيم وحتى نهايته، مع غُرَّةٍ تُغطي جبينها تزيد إطلالتها جَمالًا، هذه التفاصيل الدقيقة خلقتْ أُنثى مثالية المظهر جميلةً.
كانت (زهرة) بِسَنتها الثالثة من الجامعة، التحقتْ بالمدرسة العُليا للتكنولوچيا، ولُحسن حظّها أنها شبّت طالبةً جامعيةً عام ١٩٩٢. في زمنٍ ازدهر فيه خروج الفتيات للتعليم الجامعيّ والعالي في المغرب، وساعدها على ذلك حبُّ والديها لها، ابنتهما الوحيدة ولمْ يكونا ليبخلا عليها بأن تحصل على تعليمها العالي، خاصةً إن كان مكان حصولها على هذه الفرصة بالقُرب من منزلها.
ولكنّ (زهرة) لمْ تكُن تلك الفتاة الذّكية، مَـن تمتلك عقلًا سريعًا بالتفكير وحَلِّ أسئلة المواد الدراسية بسرعةٍ وسهولةٍ، ولكنها لمْ تكُن ضعيفة التفكير أيضًا. إلّا أنها كانت تشغلُ تفكيرها بمَـن حولَها، الموضةُ والأزياء، المجوهراتُ والأحذية، المظهر الخارجيّ وتصفيفاتُ الشعر المختلفة. وكانت نقطةً سيئةً لصالح والديها؛ أن تركاها هكذا دون تنبيهٍ لثيابها التي بدأ طولها واحتشامها يقل يومًا بعد يومٍ. وهذا الأمر كان غريبًا بالنسبة لوالدٍ يؤدي فروض دينه، فلطالما علِمنا أنّ مَن يلتزم في صلاته من البشر المسلمين يُعتبر تقيًا، أو يأخذ لقب المُلتزم بين أقرانه من البشر، ولكن الجميع فهِم أنّ حبّهما ودلالهما لابنتهما الوحيدة (زهرة) كان حاجزًا قويًا بينهما وبين إرغامها على شيءٍ.
وبصباح يومٍ دراسيّ مملٍ بالنسبة لها، خرجتْ (زهرة) مِـن منزلها ذي الطابقين والباحة الأمامية الواسعة، والذي قام والدها بتجديده منذ شهرٍ وتعمير حديقته الصغيرة بالكثير من الأشجار والزهور ذات الروائح المُحبَّبة للبشر والتي ينفرونها هم ويُفضّلون البخور ولبان الجاوي مُشتعلًا. سعتْ (زهرة) لإفطارٍ سريعٍ مع توديعٍ أسرع لوالديها كعادتها الصباحية منذ التحاقها بهذه المدرسة للتعليم العالي، تحمل حقيبة يدها مع ثلاثة كُتبٍ ودفترٍ صغيرٍ وتسير بغنجٍ، تُقدِّم قدمًا وتؤخِّر الأخرى في كل خطوةٍ كقطةٍ متهاديةٍ سالبةً الأرواح من خلفها. تستعدُّ مُسرعةً للحاق بالحافلة التي ستُقلُّها لمكان دراستها خلال مدةٍ تصل للنصف ساعة، غافلةٌ عن عينيّ جارتها (فضِيلة) التي تشتعل النيران بفحمهما، تلك السمينة صاحبة العينين الحادتين والشعرِ الغجريّ الأسود، الواقفة بشرفة الطابق العلويّ من منزلها، والذي لا يبعدُ سوى مترًا واحدًا عن منزل (زهرة) في حيّ مغربيّ اشتُهِر بسكّانه من الطبقة الوسطى.
«أُمّاه، هل ستقفين طويلًا لمطالعة تلك المغرورة؟ سمعتُ أنّ شابًا جديدًا تقدَّم لخطبتها بالأمس ورفضه عمي مَهدي كما العادة. لماذا يتقدَّم الكثيرون لخطبتها؟ هي حتى ليست بالفتاة الجميلة، كمْ أكرهها!»
الحقد كان يلمعُ واضحًا ببؤبؤيّ عينيّ تلك الفتاة القصيرة المدعوّة (حسناء)، شبيهة والدتها جارة (زهرة)، نفس حدة العينين، ونفس قِصر القامة، ونفس الشعر الأسود الغجريّ القصير، ولكن مع اختلافٍ في الوزن؛ فالابنة كانتْ نحيفةً جدًا مقارنةً بوالدتها السمينة. فلمْ يكُن من والدتها سوى أن لوَت ثغرها الواسع بطريقةٍ غريبةٍ، ثم دخلتْ من الشرفة تتَمتم بكُرهٍ واضحٍ:
«ربما هذه الساحرة المدعوَّة زهرة قامت بعمل سحرٍ ما لتوقِع هؤلاء الشباب في سحرها. أكاد أجُنُّ وأنا أراها تسيرُ متهاديةً كراقصةٍ تُتقن الإغواء.»
«سِحر! أتعتقدينَ أنها فعلتْ هذا حقًا أُماه؟»
تساءلتْ (حسناء) مضيّقةً عينيها السوداوين، أتقنت لَويَ شفتيها بانزعاجٍ بنفس طريقة والدتها. فما كان مِـن (فَضيلة) سِوى أن توسَّدت منتصف الفراش الوحيدِ بهذه الغرفةِ الواسعة، أخفضتْ عَينيها تُطالع الأرضَ بتفكيرٍ، أطلقتْ العنان لشيطانها يتحكّم بها، فرفعتْ رأسها بشكلٍ مفاجئٍ تُطالع ابنتها الواقفةِ أمامها بابتسامةٍ أظهرت تعكُّر قلبها، تردُّها بخبثٍ:
«ولِمَ لا؟ هذه الفكرة هي الأقرب لقدرة هذه الحمقاء على جذب الشباب. لنْ يضُرَّ مُمارسة بعضِ ألاعيبها، غدًا صباحًا سنذهبُ لذلك الساحر اليهوديّ بشمال البلدة، والآن اذهبي لجامعتكِ.»
أومأتْ الفتاة الشابة لوالدتها بحذرٍ دون أنْ تُكلّف نفسها عناء الردّ على كلماتها؛ فنظرات والدتها الخبيثة كانت مانعًا للفتاة للتحدُّث ومناقشتها في قولها حتى. خرجتْ (حسناء) من هذه الغرفة مُتجهةً لغرفتها المُجاورة لها مُباشرةً في منزلهم الواسع ذي الطابق الواحد، وعقلها يلُف ويدور بحديث والدتها عن السحر والساحر اليهوديّ في شمال البلدة الذي ذكرته، حتى تنهّدتْ تزفُر بقوةٍ تزيح هذه الأفكار مع زفرتِها وأغلقتْ باب غرفتها ما إن دخلتها تُكمِل ارتداء ملابسها استعدادًا لجامعتها.
عكس (زهرة) التي كانتْ قد وصلتْ للمدرسة العُليا بالفعل في تمام الثامنة إلّا عشر دقائق، مارستْ يومها الدراسيّ بشكلٍ اعتياديّ، ولمْ يخلُ بالطبع مِـن بعض المُضايقات مِـن الشباب بالحَرم وخارجه. مَـن يتغزّل بِها، مَـن يُؤْسَر بجمال عينيها، مَن يحاول التقرُّب منها وفتح الأحاديث معها، مَن يضايقها بالكلمات المُغازِلة، وكعادتها لمْ تلق لأحدهم بالًا حتى.
انتهى يومها الدراسيّ في الثالثة عصرًا، وخرجتْ مِـن المدرسة العليا تسيرُ مَـع صديقةٍ لها تُدعى (ثُريا) تتحدثان، حتى توقفتْ عينا (زهرة) فجأةً على ذلكَ الطويلِ نحيفِ الجسد أخضرَ العينين الذي وقفَ يُطالعها بهدوءٍ اعتادته منه. وجدتْ نفسها تشرُدُ فِـي النظر له، حتى نبَّهتها صديقتها لذلك؛ فابتلعت (زهرة) لُعابها ببطءٍ وأكملتْ الطريق بابتسامةٍ نَمت تلقائيًا على ثغْـرها الصغير.
إنهُ (أنيس)، زميلها بالمدرسة العليا، بنفس سِنِّها ولكن بقسمٍ آخر. اعتادتْ على نظراتِه الهادئةِ لها بعد كل يومٍ دراسيّ، اعتادتْ على سيره خلفها بهدوءٍ سوَاء كانت بمفردها أم مع إحدى صديقاتها؛ حتى يتأكَّد أنها دخلتْ منزلها فيعود مِـن حيث أتى. اعتادتْ على فِكرة إعجابها بِـه، اعتادتْ على تلك الابتسامة التي تنير وجهها حال رؤيته.
كان كالعادةِ السيئة فِـي حياتها، كَنَّتْ لَـه المشاعر، ولكنها لمْ تجرُؤ على إلقاءِ التحية عليه حتى. هذا الوضع مستمرٌ مُنذ سبعة شهور، وبدأ هذا الأمر يُثير رَيبَتها قليلًا.
«هل تظُنينَ أنّـه مجنون؟»
أفاقتْ من سيل أفكارها على سؤال صديقتها (ثُريا)، كانتا قَد ابتعدتا عَـن المكان كثيرًا ووصلتا لمحطة الحافلات، ولا زال هذا الغريبُ يُلاحقهما، فأخفضتْ رأسها للأرض، وداعبتْ خصلات شعرها الظاهرة من مقدمة وشاحها فِـي حركةٍ خَجِلة منها تُجيب بخفوتٍ:
«لا أعلم، يلاحقني للبيت هكذا منذ سبعة شهور، ولكن لمْ يُفكِّر حتى بالحديث معي، أمرهُ مُريب.»
«رُبما يكونُ أحد مُعجبيكِ، ولكن يبدو أنه وصل لحد الهَوس.»
-'هُـمْ لا يُحبُون الحديـث،
يرتـاحُـون بمُراقبة سـلامة مَـن يهْوُوهُم بِصمتٍ.'
*١٩٦٧: عامُ جلاءِ اليهودِ عن إقليم آسفي المغربي.