(بعدك على بالي.. يا قمر الحلوين يا سهري بتشرين يا دهب الغالي.
بعدك على بالي.. يا حلو يا مغرور يا حبق ومنتور على سطح العالي)
صدح صوت فيروز في مقهى "شام" للسيد (مروان بن منصور الدمشقي) يوم مشرق للعم مروان فهو يحتفل بعيد مولده الستين وبمرور خمسة أعوام على افتتاح مقهاه أيضاً، لقد اختار ذلك المكان بالتحديد بالقرب من برج "إيڤل" الذي تمنى منذ صغره أن يراه عن قرب، وها هو قد حقق حلمه، صممه على الطراز الشامي كاملاً، كأنه أراد نقل قطعة من سوريا إلى باريس، حتى الملابس شامية، العطور، الموسيقى، حتى الحلوى والمشروبات كلها شرقية شامية.
منذ الصباح بدأ في توزيع أطباق تحوي حلوى (البقلاوة والمبرومة) لكل زبائنه مجاناً.
أتت في ميعادها المعتاد وجودها فيه داخل مقهى الدمشقي، تمشي بطريقة راقية، تقفز بين الفينة والأخرى فوق برك الماء التي أحدثتها الأمطار بالأرض، تشد معطفها حول خصرها وتخبئ شعرها الأسود الفاحم بشالٍ بهيجٍ مليء بالألوان، يليق بلون السعادة في عيونها البُنية الحانية، وبشرتها الخمرية الناعمة، تدلف من الباب سريعًا وهي تبتسم وتقول:
- عيد ميلاد سعيد عمو.
تضع بين يديه لفافة من الورق وقبلة صغيرة فوق جبينه، يضحك العم مروان وقد اهتزت بطنه الضخمة وهو يقول:
- لشو جيباتلي هدية، أنا ستين سنة عمو مو ست سنين.
نظرت له (صافية) وهي تقول:
- لا ترد هديتي أرجوك عمو أنا عملتهالك بإيدي.
فتح مروان اللفافة فوجد شالًا صوفيًا بألوان علم سوريا، دمعت عيونه عندما تذكر وطنه البعيد الذي تركه منذ سنوات، مسح دمعه سريعاً وقال بصوت مختنق:
- وليش تعبتي حالك صافية، أنا بكفيني شوفتك كل يوم، بشم فيكي ريحة بنتي، مصرية أي لكن عربية وهاد بيكفي لتكوني چاري يوم ميلادي لأحس بوچودي.
- ماتبكيش ومتقولش أي حاجة تاني، وبعدين فين طبق المبرومة بتاعي والقهوة؟ هتاكل حقي بقى ولا إية؟
ابتسم مروان وقد ذهب لإحضار طلبها، في حين إنها ذهبت لطاولتها المحجوزة لها دائماً، وضعت حقيبتها أمامها وأخرجت منها رواية يبدو أنها بدأت في قراءتها منذ فترة قريبة، وانغمست فيها ولم تشعر إلا بصوت الأغاني يملأ المكان، نظرت لساعتها فقد أصبحت الثانية عشر بعد منتصف الليل، قضمت قطعتي مبرومة وارتشفت قهوتها الباردة وقامت تغني وترقص مع عاملين المقهى الذين يحتفلون بعيد ميلاد رب عملهم، والفرنسيون يشاركون بالضحكات والتصفيق من حين لآخر.
دخل في وسط كل هذا الضجيج شاب في أواخر عقده الرابع، وجهه شاحب قليلاً، هزيلاً أو هكذا تبدو بنيته الجسمانية، شعره بُني ناعم يرتدي معطف أسود طويل أسفله بدلة سوداء وقبعة صغيرة سوداء، جلس عند طاولة تجاور طاولتها المطلة على الشارع، انتبهت صافية لوجوده عندما وقف بجوار طاولتها وأمسك روايتها يتصفحها ثم وضعها ثانية وعاد لطاولته، دقائق معدودة ثم رحل في هدوء.
بعد عدة أيام مرت كعادة أيام تشرين، باردة ثقيلة هادئة، دخل المقهى ذلك الرجل الهادئ الهزيل ذو المعطف الأسود بكامل أناقته وكأنه لم يبرح مكانه بالمقهى قط، هذه المرة جلس بالطاولة التي تنتصف المقهى، دقائق أتت له فتاة فرنسية شابة تبادلا نظرات سريعة مع ابتسامة عريضة منها تقدمها لكل زائر مع قائمة المشروبات والحلوى، ونصف ابتسامة منه تدل أن تلك الفتاة أعجبته.
نظرت صافية له من أسفل نظارتها الطبية ثم عادت لروايتها ثانية، لم تشعر صافية بالارتياح فكلما رفعت عينيها عن كتابها رأته ينظر لها وكأنه يناديها بعينيه، حاولت أن تصب تركيزها في كتابها لم تفلح فأغلقت الكتاب، ثم أخرجت ورقة كتبت بداخلها بضعة أسطر ووضعتها داخل الكتاب.
نادت صافية على العم مروان حين صدح صوت فيروز بأغنية تعشقها جداً بأن يرفع الصوت قليلاً، فنفذ مبتسماً مع إيماءة منه لها، أدارت صافية جسدها نحو زجاج المقهى المطل على الشارع تتابع من خلاله حركة المارة، وترى رذاذ المطر ينهمر فوق كل شيء وخلفها فيروز تناجي حبيبها:
(زعلي طول أنا وياك وسنين بقيت.. جرب فيهن أنا أنساك ماقدرت أنسيك)
في الزجاج ظهر انعكاس أحدهم يقف خلفها، فقالت بلهجة فرنسية قوية:
- هل ستعيد لي ما أخذته من كتابي المرة السابقة؟
جلس قبالتها وهو يناولها ورقة صغيرة ثم قال:
- أبهرتني كلماتك حول تلك الرواية التي تقرئينها، لقد سألت صديق لي عنها وأشاد بها وقال أن من يقرأ لتلك الكاتبة له ذوق رفيع في الأدب.
التفتت إليه صافية وهي تعدل من وضع شالها الملون فوق شعرها وقالت:
- وماذا قال أيضاً صديقك هذا؟
- قال" اذهب لتلك الفتاة وهي من ستشرح لك ماهية هذه الرواية" ثم أتيت إليكِ الآن.
- إن تلك الرواية تدعى (لقيطة إسطنبول) لكاتبة تركية اسمها (إليف شفق) وتحكى عن أسرة ما أنجبت إحدى بناتها فتاة دون زواج، وبين صراعات أسرة لا يعيش فيها رجلًا طويلاً، وكل ما تبقى منها نساء، تحاول عبثاً إخفاء حقيقة ابنة إحدى البنات بتلك العائلة، ووصمها بلقب لقيطة، تشرح الكاتبة معاناة الأرمن مع الأتراك في مجازر ومذابح حدثت لهم ليتركوا بلادهم ويتشتتوا في كل مكان.
صمت السيد الغامض وعلى وجهه نظرة ملل وعدم فهم واضحين، فقالت له صافية بسؤال متشكك:
- هل قرأت يوماً في الأدب؟
أجاب بنظرة نافذة إلى عينيها:
- انا لا أحب الأدب، سخيف، ساذج، مليء بمشاعر كُتاب حمقى يملأون بها رؤوس قراء مراهقين.
غضبت صافية وهمت أن تدافع عن الأدب ولكنه قام عن الكرسي وأسكتها قائلاً:
- عفواً عزيزتي، ليس لدي وقت لسماع حديثك عن الأدب والذي بادي على وجهك، أنا (فرانك چونز) رسام، أتي إلى هذا المقهى الجميل كل أحد وثلاثاء فقط، أراكِ قريباً.
ابتعد خطوات وعندما اقترب من الباب قال بلكنة عربية متكسرة:
- تحياتي لك صوفيا.
"لا يعلم الكثير منا متى يأتي موعده مع الحب، فالقدر دوماً له ورقات احتياطية أسفل طاولة اللعب، كلما أراد أن يفاجئنا يخرج إحداهن ليقلب لنا موازين الحياة ويضعنا في مفترق طرق كلها تؤدي للهلاك"