ShrElRawayat

Share to Social Media

بقاعة استقبال الأهالي للزيارة المساجين بالسجن, كانا يجلسان بركن منزوٍ إلى حد ما, نظراتها إليه كان بها من الشوق واللهفة,
ما يُعبر عن حبها للجالس أمامها بأريحية لا تتناسب مع الوضع,
يمج من لفافة تبغ رديئة, مع ملامح وجهه المتجهمة بتفكير, عيناه شاردتان بالفراغ أمامه, يستمع إلى محدثته بعدم اهتمام, فهي تثرثر دون توقف منذ أن وصلت,
هو قد اكتفى من المعلومات, فقد حصل على ما يريد,
معرفة أحوال رجاله, وكيف يسير الأمر بغيابه,
أمسك اللفافة بين إصبعيه, ينفث دخانها سريعًا,
هاتفًا بخشونة حادة:" بس رغي.."
توقفت بغتة من أمره, تعقد حاجبيها بامتعاض دون تعليق,
فيمط شفتيه للجانب بحنق, يرمقها بنظرات خاطفة,
قبل أن يلتفت حوله,
يراقب المتواجدين حوله, والضوضاء المنتشرة بسبب باقي الزائرين من أهالي السجناء,
ما بين بكاء وشوق, لهفة, وتبرم, تأفف من المكان الذي
لا يُناسب البعض, إلا أنه قد فُرض عليهم,
وهو لا يكترث, فالمكان لا يختلف كثيرًا عما اعتاد عليه,
فقط ما يزعجه من الأمر, هو أن يستولي أحدهم على مكانته التي وصل إليها, أن يُنصب أحد صبيته نفسه مكانه, فيكون المعلم,
ويُصبح هو في طي النسيان حين يخرج, لكن مع وجودها, ونقلها للأخبار, مع بعض رجاله وصبيانه المُخلصين له, يشعر ببعض الراحة..
التفت ينظر إليها مجددًا, يسألها باقتضاب:" بت يا شوشو.. أخبار الراجل إياه إيه؟.."
عبست بعدم فهم لسؤاله؛
فعاد يوضح:" بتاع الخليج.."
هزت رأسها متفهمة, تمط شفتيها المطليتين بأحمر فاقع رديء الصنع,
مع باقي زينة وجهها التي لا تُناسب المكان, وكأنها ذاهبة لزفاف شعبي, تفوقت فيه على نفسها بتلطيخ وجهها بمساحيق التجميل؛ لتبدو أكثر جمالاً في نظرها,
لا يمكن إنكار جمالها, عيناها الخضراوين, بشرتها البيضاء,
إلا أنها لا تعترف بالجمال الطبيعي, فتشوهه بما يقلل منه, لا يبرزه..
ترد عليه بنبرة ممتعضة؛ وكأنها تستنكر ما يحدث:" ده راجل مهفوف في نافوخه يا خويا.. الراجل الشايب العايب عايز يتجوزني.."
ارتفع حاجبه من حديثها, يتطلع إليها بصمت, وهي تُضيف بغيظ:" قال إيه مش قادر على بُعدي وعايزني معاه, ويا حلاوة لو جبتله الواد اللي نفسه فيه.. هينغنغني بالفلوس.."
تراجع بظهره قليلاً يتمطى, مع تمريره لأصابعه على جانب رأسه الحليق, والمُزين بعلامة مميزة من "مديه" إثر أحد الشجارات,
يسألها بتعجب:" ومالك زعلانة كده ليه!.. وإيه يعني!.."
عقدت حاجبيها الرفيعين, تنظر إليه بدهشة, مرددة:" زعلانة!.. طبعا زعلانة, اتجوزه إزاي؟.. وإنتَ؟.."
عاد يأخذ أنفاسًا من لفافة تبغه, قبل أن يلقيها بعد أن انتهت,
قائلاً ببساطة:" أنا لسه قدامي كام سنة على ما أطلع من هنا.. والحالة مقشفرة أوي يا شوشو.."
ارتفع أحد حاجبيها مع ازدياد انعقادهما, تسأله بترقب:" قصدك إيه؟.. خليك دوغري.."
مط شفتيه للجانب زافرًا بحنق, يجيبها بصبر:" قصدي تقلبي رزقك معاه ياختي.. اطلعي منه بقرشين.."
اتسعت عيناها بذهول, هاتفة بفاه مفغر:" اتجوزه يا ناصف!.. إنتَ واعي للي بتقوله؟.."
_أيوه واعي.. اتجوزيه..
انتفضت من مجلسها بحركة عنيفة, تتخصر صادحة بنبرة سوقية:" ناعم يا خويا.. أتجوزه؟.. وإنتَ!.. شكلك كده عايز تخلع مني يا ناصف.. بس لاااااا.. ده أنا......"
نبرتها العالية جذبت إليهما الأنظار,
مما دفعه أن يهدر فيها بشراسة آمرًا:" شوقية.. اتعدلي بدل مانتِ عارفة.. اترزعي.."
جزت على أسنانها بقوة, تجلس رُغمًا عنها, تهز ساقها بعصبية, مع زمها لشفتيها كابحة لسانها السليط من الانطلاق,
وناصف يقول بعبوس:" هبلك ده تبطليه شوية.. هتفضلي حمارة كده على طول.. الكهنة الخليجي ده هنقلب منه قرشين, ولما أخرج هترجعيلي.."
أشاحت بوجهها لا يُعجبها حديثه, فمال مقتربًا منها قليلاً,
يغمزها قائلاً بخفوت عابث:" يا بت يا شوشو ده إنتِ الحتة الشمال.. ولولا إني عارف إنك بتحبيني, ومش هتسبيني مكنتش قولتلك كده.."
لم تجبه بأي كلمة,
فعاد يقول بمهادنة ناعمة, مناقضة لخشونة ملامحه ليؤثر عليها:" يا بت أنا مش عايزك تتمرمطي وأنا بالسجن, ولا تفضلي رقاصة درجة تالتة في الأفراح والكباريهات.. الراجل ده هيعيشك مرتاحة, وينولنا من الحب جانب, ولا مش واثقة بناصف حبيبك!.."
ابتلعت ريقها بصعوبة, ويده تربت على ساقها بإيحاء
جعل اشتياقها له يزداد, فثقلت أنفاسها,
تهمس بخدر:" كلمتك سيف يا ناصف.. بس أنا عايزة أستناك.. إنتَ عارف أنا بحبك قد إيه.."
التوت شفتيه بابتسامة جانبية, يغمزها,
هامسًا بمكر:" وأنا مقدرش استغنى يا بت.. بس لحد ما ارجع تكوني اتريشتِ شوية.."
أخذت نفسًا عميقًا تزفره بعدم رضا, لكن عقلها يُفكر بحديثه,
أما هو فزفر بنفاذ صبر, وتلك الحمقاء تريد أن تُضيع مثل تلك الفرصة الذهبية, فعاد يقول بمهادنة:" اسمعي الكلام.. أنا عمري قولت حاجة مكنتش في مصلحتك.."
_الزيارة انتهت..
وتلك كانت جملة انتهاء اللقاء, التي انطلقت من أحد العساكر المتواجدين بالمكان للمراقبة,
نهضا من مجلسهما, وهي تنظر إليه بلهفة, وهو بترقب, رافعًا إصبعه قرب رأسه يحركه بحركة دائرية, مُكررًا:" قلبي الموضوع في راسك.. وبلاش هبل.. المصلحة دي هتعم ع الكل.."
هزت رأسها موافقة, قبل أن تقول سريعًا:" حاضر.. هتوحشني يا ناصف.."
اقترب منها, قائلاً بخفوت:" وإنتِ كمان يا شوشو.. يلا هستنى الزيارة الجايه تقوليلي أخبار حلوة.."
لمعت عيناها الخضراوين بعشق, تومئ موافقة بطاعة, مدلهة بحبه,
قائلة:" اللي تشوفه يا حبيبي.."
ومع وصول العسكري, يدفعه بخشونة:" يلا ياخويا الزيارة خلصت.."
فيتحرك معه بامتعاض,
هاتفًا:" ما بالراحة يا حـاصول, بنقول كلمتين ع الواقف.."
فيرمقه العسكري بنظرة مزدرئة, قائلاً وهو يدفعه مرةً أخرى:" خلصنا.. اتحرك.."
تحرك معه بضيق, وشوقية تهتف من خلفه:" مش هتأخر عليك يا ناصف.. ومتقلقش اللي قولت عليه هعمله.."
فيمنحها نظرة راضية باستحسان من فوق كتفه, ثم يتحرك حتى يختفي عن أنظارها,
فتزفر بحرارة ملتاعة, تتحرك اتجاه باب الخروج,
مهمهمة:" هتوحشني يا سيد الرجالة.."
*******
في الملهى الليلي يعلو صوت مطرب بصوت نشاز, لا يهتم أحد بأمره, أو يستمع إليه, فقط دوره يُصدر صوت بكلمات معظمها غير مفهوم,
يدور حول راقصة ببذلة رقص سوداء قطعتين, تحتضن جسدها البض, تتراقص على نغمات الأغنية الشعبية ذات الموسيقى الشرقية, بابتسامة متسعة,
تتمايل بإغواء وسط بعض العيون المراقبة لها بشهوة واضحة, يحملون بأيديهم كؤوس شفافة بسائل أصفر اللون مُغيب للعقل..
والبعض الآخر لاهٍ فيمن بجواره من فتيات, ترتدي من الملابس ما يُظهر من المفاتن, ما يجعل الناظر إليها يسيل لعابه..
وبأحد الطاولات كانت تجلس واضعة ساق على الأخرى, فيرتفع فستانها القصير مُظهرًا ساقيها البيضاوين الممتلئين بسخاء, مُشيحة بوجهها للجانب,
ناظرة بطرف عينها الناعسة بدلال مدروس, للجالس بجوارها, تتدلل عليه فترميه بنظرة, تهديه لمسة, وبعدها تتمنع عليه, جاعلة إياه يشتعل شوقًا إليها..
ابتلع ريقه بصعوبة, يُعيد حديثه إليها بنبرة ثقيلة راغبة:"وش قلتِ يا شوشو .. أنا أبيك.."
زفرت بصوت مسموع, زامة شفتيها المكتنزتين المطليتين بلون أحمر زاد من اكتنازهما,
تخبره بتأفف زائف:" إنتِ مش بتتعب من الكلام في الموضوع ده!.."
فيميل عليها مقتربًا أكثر, قائلاً بهيام:" لو تريحين قلبي وتوافقي.."
تراجعت بجسدها المغناج للخلف قليلاً, فتتحرك معها مفاتنها الظاهرة من فتحة فستانها منخفض الصدر,
تبتسم ابتسامة ملتوية ماكرة, قائلة بغرور:" ليا شروطي.."
اتسعت عيناه بقوة, يهز رأسه موافقًا, قائلاً بلهفة:" كل طلباتك تتنفذ.."
كتمت ابتسامتها المنتصرة باقتدار, تلتفت بجسدها إليه,
تخبره بخفوت متدلل:" عايزة شقة باسمي.. وكمان فلوس تضمن إنك مش هتاخد اللي عايزه وترميني.."
رقت نظراته المدلهة بها, يتنهد بهيام, قائلاً:" ما راح أسوي .. بس وافقي وبتصيرين ملكة .. إذا جبتي لي ولد.."
صمت قليلاً وقد لمعت عيناه بأمنيته الغالية, يُكمل بشرود:" اخلي العالم لك ملكك، بيدك.."
نظرت إليه بدهشة حقيقية, شاعرة بالغرابة من حديثه وخاصةً عن الطفل,
مترجمة حيرتها بسؤالها:" طب ما تتجوز غيري ومن بلدك.. اشمعنه أنا!.."
ابتسم بهدوء وقد ارتخت ملامحه, يجيبها ببساطة:" تحسبين إني ما سويت؟.. تزوجت كم مرة.. لكن رزقت بالبنات بس.."
تنهد بتثاقل, يُريح ظهره للخلف, مستطردًا بقلة حيلة:" أحبهن.. بس أبي الولد عشان يشيل اسمي, ويساندني إذا كبرت وصار الشعر أبيض.."
أسندت ذراعها على الطاولة, مرتكزة بكوعها, تضع يدها المضمومة أسفل وجنتها تنظر إليه,
وهو يسترسل بحديثه شاردًا أمامه بالمكان:" أخوي متزوج وله ثلاث عيال.. العود اسمه راشد, الصدق إني اغليه كأنه ولدي.. بس لما اشوف بناتي أحس بالحسرة لإنهن بدون سند الأخو.."
عاد ينظر إليها بابتسامة صافية, مُكملاً بلطف:" أبي أجرب حظي معك.. أنا أبيك وشاريك, وأبي ولد منك.."
هزت رأسها بتفهم غير مبالية, تخبره بفتور:" وماله.. بس الشقة عقدها يكون بإيدي قبل ما أمضي قسيمة الجواز.."
_ابشري..
*****
في الزيارة التالية كانت تنتظره بقاعة الزيارات, وحين دلف للقاعة جابت عيناه المكان يبحث عنها؛ فعبس حين لم يجدها,
لكن اتسعت عيناه بذهول؛ حين رآها تلوح له بيدها من بعيد,
اقترب بخطوات متكاسلة وعلى ثغره ابتسامة غير مصدقة,
فمن أمامه تختلف عن شوقية خاصته, وإن كانت لا تزال هي بوجهها المصبوغ بمساحيق التجميل, علكتها التي تلوكها بفمها, إلا أن ملابسها تغيرت تمامًا فبعد أن كانت ترتدي عباءة سوداء مفتوحة يظهر من أسفلها ملابسها العادية,
الآن ترتدي ملابس محتشمة إلى حد ما, يظهر عليها الثراء,
حين وقف أمامها ولا تزال ابتسامته على وجهه, يهز رأسه للجانب قليلاً,
يهتف بإعجاب:" اش اش اش.. إيه ده كله يا شوشو؟.. شكل البليه لعبت معاكِ يا بت.."
نظرت إليه بنظرات عاشقة كالمعتاد, تبتسم بنعومة, قائلة باعتذار ملهوف:" وحشتني يا ناصف.. غبت عنك أنا عارفة.."
جلس على الأريكة الخشبية المتآكلة, نظراته تجري عليها من أعلى رأسها لأخمص قدميها, غير مبالي بكلماتها,
يسألها بفضول:" إيه العز ده كله؟.."
جلست بجواره تتنهد بضيق, تلتصق به, تتنفس رائحته المُعبقة بالسجائر وكأنها أفخر العطور, تجيبه بامتعاض:" عملت اللي قولتلي عليه واتجوزته.."
ارتفع حاجباه يفغر فاهه بانشداه, قبل أن يهز رأسه باستحسان, مربتًا على ساقها, قائلاً برضا:" جدعة.. شفتِ كان عندي حق إزاي.. يا بت ده أنا معرفتكيش في النضافة.."
زمت شفتيها للجانب بحنق, تغمغم بنزق:" خلاص يا خويا.. محسسني إني كنت معفنة قبل كده.."
ضحك بصوت عالٍ, يضربها بكفه بخشونة, قائلاً بلا مبالاة:" مش القصد ياختي.. بس العز باين عليكِ.. شكله متكيف منك ع الآخر.."
زفرت بقوة وقد تجهمت ملامحها, قائلة بضيق:" متكيف ياخويا.. ولازقلي.. كنت بشوفه مرة كل شهرين.. دلوقتشي بشوفه كل شهر.. تقولش الراجل خايف لاهرب!.."
اتسعت ابتسامته مظهرة أسنانه الصفراء, ماسحًا عليها بطرف لسانه, يشاكسها بوقاحة:" ليه حق يا بت.. ده إنتِ شوشو.."
غامزًا إياها بطريقة موحية, يُذكرها بلياليهما سويًا,
دفع ابتسامة عابثة لترتسم على شفتيها, قائلة بحرارة:" وهو حد زيك يا ناصف.. كلهم ما يسووش جمبك حاجة.."
ابتسم بتصنع لزج, يعود لتفحصها فيسترعي انتباهه تلك الأساور الذهبية المزينة لرسغها,
فيضحك بهزء متهكمًا بسخرية:" وكمان دهب.. دي زهزهت معكِ يا بنت الحفيانين.."
تجهمت ملامح وجهها بانزعاج من سبه لها, مهمهمة بكلمات غير مفهومة, لمزاحه الثقيل,
إلا أنه عاد يسألها بجدية علت تقاسيم وجهه:" إلا قوليلي بتشوفي حد تبعنا؟.."
زفرت بخفوت, تجيبه بتلقائية:" أنا سبت الشغل في الكباريه علشان حمدان شرط عليا بكده, بس من وقت للتاني بتجيلي البت مُهجة, وبتقولي على الأخبار.."
ارتفع حاجبه ينظر إليها بترقب, يهز رأسه يحثها على الحديث, فتُكمل:" البوليس شادد حيله اليومين دول أوي.. خصوصي بسبب موضوع خطف العيال.."
صمت شاردًا يرفع يده يحك بها ذقنه بتفكير, يقول وكأنه يُحدث نفسه:" لحد دلوقتِ مفيش أي أمارة.. ومحدش وصل السجن قريب يقول النظام.."
ثم عاد ينظر إليها, يأمرها بجدية:" لما تقابلي البت مُهجة تاني ابقي قوليلها المعلم بيقولكم هدوا اللعب لحد ما اللبش يخلص.."
هزت رأسها موافقة بخنوع, تُحاول الحديث, لكنه نهض من مكانه بملامح جامدة مُخيفة, يود الذهاب لأحدهم, يُخبرها بفتور:" اتيسري إنتِ دلوقتِ, ومتنسيش اللي قولتلك عليه.."
نهضت من مكانها بخيبة, تقول بخفوت:" ماشي.."
تحرك من أمامها دون وادع, فعادت تنادي عليه بلهفة:" ناصف.."
التفت بوجهه ينظر إليها من فوق كتفه بضيق, لكنها أكملت سريعًا:" أنا سيبالك قرشين كده فـ الأمانات لحد الزيارة الجاية.."
هز رأسه بلا اهتمام, وعاد يُكمل طريقه بعيدًا عنها, وهي تراقب انصرافه بكتفين متهدلين..
****
بشقتها تجلس بأريحية على الأريكة, تثني إحدى ساقيها أسفل منها, والأخرى تؤرجحها ببطء, واضعة يدها على بطنها المنتفخة,
تدندن مع الموسيقى المنطلقة من الراديو المُجاور لها, وابتسامة مُغوية مرتسمة على شفتيها,
وبجوارها يجلس زوجها, ينظر إليها بابتسامة ناعمة, يراقبها وهي تأكل بعض حبات العنب من الطبق الموضوع على ساقها,
والتي أعدته لها الخادمة التي أحضرها لها كي تخدمها بعد أن ثقُل حملها,
عيناه تتركزان على بطنها بعينين حانيتين, يترقب بشوق قدوم الصغير ولم يتبقى سوى القليل..
التفتت تنظر إليه تراه شارد, فتسأله:" مالك يا حمدان؟.."
رفع نظراته إليها, دون أن يفقد ابتسامته, يجيبها:" سلامتك.."
ارتفع حاجبها بعدم تصديق, فعاد يُكمل بنبرة حالمة:" متحمس لجيته.. مدري كيف باصبر على باقي الأيام!.."
قلبت عيناها بملل, تلوي شفتيها بامتعاض,
قائلة بضجر:" خلاص هانت.. أنا أصلاً جبت آخري وحاسة نفسي هفرقع.."
ضحك بخفوت, يهز رأسه بخفة, قائلاً بمرح:" جيبي الولد وراح ترجعين مثل قبل.."
ثم غمزها بعينه, يُكمل بتلاعب:" أنا أشوفك حلوة بكل حالاتك.."
هزت رأسها مع نظراتها الساخطة, تسأله بفتور:" يا خوفي بعد ما أولد وتطلع بت يتغير ده كل.."
أخذ نفسًا عميقًا يبتسم بوجهها بسماحة,
قائلاً بنفس راضية:" هذا قدري.. بس بحبها وأعاملها باللي يرضي الله.. أنا مو شخص يترك عياله حتى لو كانن بنات .. لإن إكرامهن واجب علي.."
شعرت بغضب داخلي مع حقد دفين من حديثه, فشتان بينه وبين معاملته لبناته,
وبين معاملة والدها القاسية, والذي ما إن اشتد عودها حتى ألقاها بالشارع بتحريض من زوجة والدها,
وقد اكتفى منها ومن حِملها, مكتفيًا بباقي أطفاله وأنها تقاسمهم طعامهم الذي بالكاد يكفيهم, لتتلطم بكل مكان, ولولا جمالها الواضح, وتعرفها على ناصف وإيواؤه لها لم تكن لتنجو..
زمت شفتيها بقوة, وقد أظلمت عيناها, تنهض من مكانها ببطء بسبب ثقل حملها,
تخبره بنبرة قاتمة:" لما نشوف يابو البنات.."
****
بالمشفى تجلس شبه مستلقية على الفراش ذو الشرشف الأبيض, يقف بجوارها حمدان بعينين متسعتين, تنظران للصغير بين ذراعيه بفرح, وابتسامة مشرقة,
حامدًا الله على عطيته, وأنه أنعم عليه بالولد بعد سنوات, مُكبرًا بأذنه, داعيًا الله أن يجعله خير الذرية, سندًا له, ولشقيقاته..
بجهد أبعد نظراته عن وجه الصغير, ينظر لشوقية بامتنان, يقترب منها بتأني, قائلاً بتأثر:" مبروك يا غالية .. حققتي لي حلمي.."
رفعت رأسها تنظر إليه بوجه مُرهق من الولادة, ترى ملامحه المُشرقة, وكأنه قد صغر سنوات وسنوات, يكاد يتقافز من السعادة..
مال إليها بحذر, يضع الصغير بين ذراعيها, قائلاً بلهفة طفل يود أن يُري العالم أجمل هدية:" سمي بالله.. وشوفي.."
تلقفته منه, ما إن نظرت إليه حين وضعه بأحضانها, ترى بشرته البيضاء, ملامحه التي تكاد تشابهها كثيرًا, وحين فتح عينيه وجدتهما خضراوين كعينيها,
حتى هتفت سريعًا دون تفكير:" هسميه ناصف.."
عقد حمدان حاجبيه بتعجب, قبل أن يردد الاسم بشفتيه, ثم ابتسم موافقًا:" ناصف.. للي تبينه يا غالية.. ربي يجعله ذخر لنا.."
مال إليهما يقبل الصغير على جبينه برقة, ثم يقبل جبينها, قبل أن يعتدل, قائلاً:" بروح أبشر أهلي.."
هزت رأسها بلا مبالاة, عيناها مسلطتان على الصغير, ترد عليه بلا مبالاة:" ماشي.."
أسرع بخطواته يكاد يُهرول, حتى يتصل بعائلته يبشرها بقدوم صغيره..
وفي الهاتف حين رد عليه شقيقه, هتف مُهللاً:" الله رزقني بالولد يا أخوي .. الله رزقني بناصف.."
ابتسم شقيقه بهدوء, سعيدًا لفرحة أخيه,
يهنئه:" مبروك يا أخوي.. الله ينبته نبات حسن.. يتربى بعزك إن شاء الله.."
ضحك بسعادة, قبل أن يأمره بلطف:" عطيني أم مريم اعلمها.."
هز شقيقه رأيه موافقًا وكأنه يراه, ثم نادى على زوجة أخيه, يُعطيها سماعة الهاتف,
فتتلقفها بلهفة:" أبو مريم.."
وصلتها أنفاسه اللاهثة, يُصحح لها:" أبو ناصف.. لقد جاء ناصف.."
رمشت بعينيها تبتلع غصة مسننة استحكمت بحلقها, قبل أن تبتسم بوهن, قائلة:" مبروك يا أبو ناصف.. مبروك.."
ثم أردفت بهدوء وكأنها تُذكره:" بتجيبهم سوا صح؟.."
أومئ مؤكدًا:" أي نعم.. بجبيهم معي.."
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.