أنا الحُلم الذي وُئِدَ بمهده..
أنا الأمنية التي عاشت بجنبات القلب حتى فقد نبضاته.. وما بين حلمٍ موءود وأمنيةٍ مفقودة خرج الأمل!
"أووه لا أصدق أبي أنني قد تخرّجت أخيرا, لقد بدأت أظن أنني لن أتخرّج أبدا من تلك الكلية"
قالتها حُلم وهي تزفر براحة ليقهقه والدها قبل أن يقول:
"مَن يسمعكِ يظن أنكِ في الكلية منذ عشر سنوات, إنهم فقط خمس"
"فقط خمس! هذه الخمس القليلة بنظركَ جعلت الشيب يغزو رأسي و.."
هتفت مصطنعة الجدية لتقاطعها ضربة من والدها على رأسها لتضحك بمشاكسة وهي تقول:
"حسنا حسنا سأصمت ولكن أين هديتي؟"
ابتسم وهو يقول بمكر:"وأخيرا تذكّرتِ السؤال عنها"
أجابته بمشاكسة:"أنا أتذكّر جيدا فقط لم أُرِد أن أحرجكَ في حال نسيتها"
ضحك عاليا وضمّها بحب قبل أن يمنحها مفتاحا لتنظر للمفتاح دون فهم وهي تقول:"ما هذا؟"
"هديتكِ"
قالها بهدوء لتفغر فاها قبل أن تقفز فرحة:
"أحضرت لي سيارة شكرا لك أبي"
ضربها على رأسها وهو يقول بتوبيخ:
"وهل هذا مفتاح سيارة يا خرّيجة الصيدلة؟"
"احم, لا تحرجني يا حاج"
قالتها بمرح قبل أن تتابع وهي مازالت لا تفهم لأي شيء
المفتاح:"حسنا ما هذا؟"
"مفتاح الصيدلية خاصتكِ"
قالها بهدوء وهو يتوقع انفجارها بأي وقت وصدق حدسه فقد ظلّت مشدوهة للحظات قبل أن تقفز عدة قفزات مرحة وهي تهتف:"يعيش أبي, يا يعيش يا يعيش"
ضحك عاليا لتضمّه بقوة وهي تقول:
"أحبكَ أبي, حرمني الله من أمي ولكنكَ عوضّتني الكثير, بارك الله بعمركَ أبي وأبقاكَ لي"
صمتت للحظات قبل أن تبتعد عنه وهي تقول:
"هل تعلم أبي.. قوّتي أستمدها من وجودكَ جواري دوما, كلما انتقدني أحدهم فكّرت بكلامك لي أنه إذا اقتنعت بشيء وليس به حُرمانية إذا لأفعل ما أريد وليس لأحد عليّ مأخذ.. وقتها أرد بقوة ولا أهتم بأحد"
ابتسم لها بحنو قبل أن يقول:"قوتكِ تنبع من داخلكِ حبيبتي, أنا فقط مُؤازِر لكِ طالما لا شيء يغضب الله"
وضعت رأسها على كتفه بهدوء وهي تفكر أن والدها ليس فقط مصدر قوتها بل أمانها أيضا.
******
بعد عدة سنوات
"حُلم, استيقظي حبيبتي"
همسة خافتة من والدها جعلتها تفتح عينيها رامقة إياه بحب قبل أن تعقد حاجبيها وهي تقول:"أبي؟ متى عدت؟"
ابتسم بحنو وهو يربّت على شعرها بحب هامسا:
"أريدكِ دوما فتاة قوية حُلم, أريدك مرفوعة الرأس لا يحني هامتكِ شيء"
"أبي! ماذا هناك؟"
قالتها وقلبها ينتفض من الرعب ليبتسم لها بتعاطف قبل أن تشعر بقبلة على جبينها مع همسته الدافئة:
"تذكري أنني أحبكِ كثيرا"
شهقت بقوة وهي تنتفض على فراشها وتكتشف أن كل ما حدث كان حُلما!
استغفرت الله قبل أن تنهض من الفراش وهي تتمتم:
"بالتأكيد أضغاث أحلام لأنني نمتُ عن صلاة الفجر"
توضّأت وصلّت قبل أن يصل إليها رنين جرس الباب فعقدت حاجبيها وذهبت لتفتح ليزداد انعقاد حاجبيها وهي تجد عمها وزوجته!
"مرحبا تفضّلا"
قالتها مرحبّة رغم دهشتها قبل أن تلاحظ وجهيهما
"هل هناك شي عمي؟"
لم يتحدث بل ضمّها بقوة وخلفه زوجة عمها تشهق بالبكاء لتنتفض بين ذراعيه وهي تسأله بخوف:"عمي!"
"إنما الصبر عند الصدمة الأولى ابنتي"
"أبي!"
همستها بخفوت قبل أن تفقد وعيها بين ذراعيّ عمها.
****
جالسة بغرفتها بعد مغادرة الجميع بانتهاء أيام العزاء, لم يتبقَّ سوى عمها وزوجته اللذين لم تعلم كيف كانت لتحتمل ما حدث دونهما!
الآن أصبحت يتيمة بكل ما تعنيه الكلمة من معاني..
قبلا كانت يتيمة الأم وعلى الرغم من احتياجها لأمها بكل لحظات حياتها إلا أنها لم تكن واعية عند موتها فقد ماتت بعد ولادتها مباشرة فلا توجد أي ذكريات عنها سوى ما كان يقصّه عليها والدها رحمه الله.
تدافعت الدموع لعينيها من جديد وهي تفكر بوالدها الحبيب الذي كان مسافرا برحلة عمل وعاد منها وقد وافته المنيّة وذهب عمها وولده العائد بعطلة قصيرة بعد سنوات في الغربة حتى يجلبا جثمانه ليُدفن ببلده .
طرق خافت على باب غرفتها جعلها تلتقط حجابها وتفتح الباب لتجده عمها:"هيّا حُلم جهّزي أغراضكِ"
رمقته بعدم فهم وهي تسأله:"أي أغراض لا أفهم!"
"ستنتقلين للعيش معنا حبيبتي"
قالها بإقرار لترمقه بصدمة قبل أن تقول بخفوت:
"ولكن يا عمي أنا لا أريد.."
"إنه قرار نهائي حُلم, لن أترككِ تعيشين بمفردكِ ابنتي ورأسي يشم الهواء"
ارتجفت شفتيها ببوادر بكاء بالكاد توقّف.. لا تريد ترك منزل والدها ولكن ماذا ستفعل؟
عمها لديه الحق بكلامه.. لا يجوز أن تعيش بمفردها خاصة ومنزل عمها موجود ولا مانع أن تنتقل إليه مع سفر ابن عمها مرة أخرى.
أومأت بصمت وهي تدلف مرة أخرى تجهّز أغراضها لترحل مع عمها تاركة منزل والدها وتاركة معه ذكرياتها به.
ضحكة عالية كانت الرد على بحثه الذي اجتهد فيه لعامين قبل أن تهدأ ضحكات الأستاذ وهو يقول مرفقا جملته بابتسامة ساخرة:"انظر بني البحث خاصتك لا يشوبه شائبة, فقط كل ما في البحث يصلح لفيلم أمريكي من أفلام الخيال العلمي التي يبهرون بها عقول الشباب ولكن كبحث حقيقي لمركز البحوث هنا من خِرّيج حديث مثلك لن يلتفت إليه أحد أبدا"..
"ولكن أستاذ إن ال..."
حاول التحدث مع أستاذه وهو يصارع الإحباط من رد فِعل الأستاذ إلا أن أستاذه قاطعه بحسرة وهو يقول:
"صدّقني قاصد.. كل هذا لن يساوي شيئا هنا حيث الفقر والبطالة والقمع عنوان بلادنا.. لو استطعت اذهب لخارج البلاد ربما تجد مَن يهتم حقا ببحثكَ ويؤمن بكَ"
رمقه بصدمة من الرفض المهين قبل أن يومئ برأسه
باستسلام وهو يتركه بصمت ويغادر وأحلامه قد وُئِدَت بمهدها.
*****
"ألم أخبركَ قاصد هذه البلد لا فائدة منها, أخبرتك أنكَ تضيع وقتكَ وجُهدكَ بها.. لن تجد مَن يقدّرك أبدا فيها صدّقني"
قالها بلال في الهاتف بانفعال من أجل صديقه الذي بالكاد انتهى من قص ما حدث عليه.
"أجل بلال علمتُ بالطريقة الصعبة أنه لا فائدة تُرجَى منها".
زفر بلال بغضب قبل أن يقول:
"تعال إليّ قاصد, هنا حُلم العلماء, الكل يقصد البلد هنا من أجل العلم وكما ترى دوما العلماء يتم اكتشافهم هنا ولا يلتفت إليهم أحد من بلادهم سوى بعد حصدهم الجوائز"
"ولكن بلال..."
بدأ بتردد وفكرة مغادرة بلده تؤلمه فقاطعه بلال بحدة:
"ولكن ماذا قاصد؟ لو مكثت أكثر من ذلك سيتم تدميرك كليا, ما الذي يحدوك على المكوث عندك ها؟ لا وظيفة ولا مركز ولا..."
صمت وقد انتبه لما كان سيقوله ليكمل له قاصد بمرارة:
"ولا عائلة.. أكمِل بلال لماذا صمتّ؟"
زفر بلال بقوة قبل أن يقول:"لا أقصد أبدا صديقي,
أنا فقط غاضب من أجلك.. أنت تفوقني تفوّقا قاصد وانظر إلى حالك! عامين منذ التخرج ولا عمل جيّد بل لا عمل بمؤهلك العلمي حتى! عامان عملت بهما بجِدّ على البحث وفي النهاية ماذا حدث؟ تمّ إحباطكَ ووصف البحث أنه فيلم خيال علمي.. أنت لا تستحق هذا يا صديقي, لا تستحقه أبدا"
صمتٌ رَانَ على الهاتف للحظات قطعه بلال مرة أخرى وهو يقول:"ها أنا قد سافرت بل هاجرت وتركت البلد بأكملها وتراني أعيش أفضل أيام حياتي, لا تتردّد قاصد بل اعقِد العزم وتعال.. هنا مكانكَ صدّقني يا صديقي"
أومأ قاصد وكأن صديقه يراه قبل أن يقول بعزم:
"أجل بلال لا أستحق ما يحدث لي أبدا.. حسنا أنا قادم إليك".
****
بعد ثلاث سنوات
جالس بمطعمه المفضّل شعور بالضيق يكتنفه.. اشتاق لبلده كثيرا ولكنه لن يستطيع السفر إلا بعد الانتهاء من مشروعه الحالي والذي يعلم خطورته جيدا على أمن بلاده إلا أنه لم يملك الرفض على العمل عليه فهي فرصة لا تأتي مرّتين.
ثلاث سنوات قد مرّت منذ أتى إلى هنا وحقا كانت سنوات مثمرة بالعلم والخبرة..
صَدَق بلال عندما قال أنها حُلم العلماء وأنه سيجد بها ضالته على الرغم من الشعور الحارق بالاشتياق الذي
يراوده بين الحين والآخر إلا أنه لو ظلّ ببلده لما وصل إلى مكانته وعلمه وخبرته الحالية.
زفر بضيق قبل أن يشهق بقوة حالما شعر بلسعة السائل الحار الذي وقع عليه!
انتفض واقفا ليجد فتاة رائعة الجمال تقف أمامه متجمدة عينيها ممتلئتين بالدموع وهي تحاول الاعتذار منه بلغة أهل البلد الذي يعيش فيها حاليا..
"أعتذر منكَ, لا أعلم كيف حدث هذا! هل احترقت؟"
ظلّ مشدوها أمام جمالها الفاتن وهو يهمس بلغته الأم:
"أجل لقد احترقت واحترقت ولم يبقَ مني إلا الرماد"
عقدت حاجبيها قبل أن تقول بنفس لغته مع لكنة أجنبية:
"أنتَ عربيّ؟"
ارتفع حاجباه بدهشة قبل أن يهتف:
"هل أنتِ عربية؟"
أومأت وهي تبتسم له بلطف, ابتسامتها جعلته يفغر فاهه شدوها قبل أن يجلي صوته وهو يسمع إجابتها:
"أبي عربي ولكني لم أزُر بلده قط"
عضّ على شفتيه بعبث وهو يهمس:
"خسرت بلده الكثير بعدم زيارتك"
لم تسمع ما قاله جيدا فسألته:"ماذا؟"
ابتسم بمرح قبل أن يشعر بلسعة ألم بفخذه لتنكمش ملامحه بألم لتبادر هي رافعة ساق البنطال خاصته للأعلى حتى ترى الحرق رمقها بصدمة قبل أن يمسك بيدها يسألها بمرح:
"هل هذا تحرّش يا آنسة؟ أنا لا أمانع أبدا, فقط نتعرف أولا"
رمقته بصدمة وهي تسأله:"كيف تفعل هذا؟"
رمقها بريبة وهو يتلفّت حوله سائلا:"أفعل ماذا؟"
"تمزح وأنت تتألم هكذا! لقد احترقتُ بكل تأكيد فالقهوة كانت حارة.. هيّا دعني أراها حتى لا يسوء الحرق أكثر"
قالتها بصرامة كادت تُضحِكه ولكنه أخفى ضحكته وهو يرفع ساق البنطال قائلا:"حسنا ولكن هل لكِ خبرة بالأمر أم فقط تريدين رؤية ساقي الفاتنة؟"
ابتسمت رغما عنها وهي تطلب طحينا من النادل الذي رمقها بغرابة قبل أن تشرح له الأمر سريعا فهرع للداخل جالبا إياه.
وضعت الطحين على ساقه المحترقة وهي تقول:
"أجل معي شهادة تمريض لا تقلق"
وقفت مرة أخرى وهي تقول بجدية:"لا تتحرك حتى آتِ"
وقبل أن يرد عليها كانت قد اختفت لتعود بعد فترة قصيرة ومعها دهان للحروق وضعت طبقة منه على ساقه وهو يتابعها بنظرات معجبة حتى تعجّب من نفسه!
هل كل هذا لحُسنها وفتنتها؟ لم يحدث هذا معه قبلا
فلِمَ الآن؟!
*****
"كيف حالكِ حُلم؟"
بادرتها الجارة لتعض باطن خدّها وهي تفكر بتجاهل المرأة ولكن تربيتها أجبرتها على الالتفات وهي تتصنّع الهدوء..
"بخير"
قالتها باقتضاب لم يردع الأخرى وهي تقول:
"ألن تباركِ لي"
"علامَ؟"
قالتها وهي تُصِر على أسنانها.. تعلم أن خلف ندائها وكلامها معها معلومة تريد أن توصلها لها أو إهانة مبطّنة كعادتها ولم يَخِب ظنّها فقد أجابتها الجارة:
"عبير ابنتي ما شاء الله عليها خُطِبَت الجمعة الماضية والعريس يريد الزفاف بأسرع وقت, خطفت قلبه بجمالها وحُسنها وصِغَر سنها"
جاهدت لترسم ابتسامة على شفتيها وهي تُلقي بمباركة سريعة لتتابع طريقها إلا أن الجارة أم عبير لم تكن قد انتهت فمازال بجعبتها الكثير على ما يبدو..
"بالواقع خال العريس كان يبحث عن عروس وقد رشّحتكِ له"
رمقتها بدهشة ولسان حالها يقول ومنذ متى هذا الحب والحنان لتتسع عيناها بصدمة والجارة تتابع:
"هو لا يهمه جمال العروس أو سنّها, فقط يريد أمّا لأولاده لأن عمله يضطره للسفر كثيرا, وقتها علمتُ أنكِ
ستناسبيه"
ابتلعت غصّة وقفت بمنتصف حلقها وهي تجاهد للنطق..
تعلم أن سنوات عمرها التاسعة والثلاثين تجعل فُرَصَها للزواج قليلة إن لم تكن نادرة فحتى كبار السن يريدون فتاة صغيرة فما بالكم بفتاة عانِس ودميمة مثلها!
أجل هي تعرف أنها لا تحمل من الجمال شيئا..وجهها قبيح وقد قيلت لها بأكثر من مناسبة لذا دميمة وعانس مزيج لا يريده أحد أبدا.
فقط مربية لأولاده وربما يتزوج هو بالخارج تاركا إياها تحمد الله أنه أنقذها من العنوسة"شكرا لكِ أم عبير ولكني لا أريد الزواج"
قالتها بجمود لتتابع الجارة غرز الخناجر بقلبها وهي تقول:"لماذا يا ابنتي؟ إلى متى ترفضين هذه الفُرص النادرة؟ أصبحتِ بمفردكِ بعد وفاة والدكِ وبعده عمكِ وليس لديكِ أحد والعمر يمر بكِ دون زوج أو أطفال.. فكّري حُلم إنه فرصة لا تعوّض لكِ"
أصبح وجهها شاحبا بعد كلامها وهي تعلم بداخلها أنها على حق.. فلا جمال ولا شباب فلماذا سيتقدّم لها شاب لم يسبق له الزواج؟
لا سند ولا عزوة ولم يتبقّ لها سوى زوجة عمها التي تريد السفر لولدها فهل ستعيش بمفردها في مجتمع يراها ناقصة فقط لأنها أنثى؟!
هبطت الدَرَج بعدما تركت الجارة بإيماءة غير واضحة المعنى أستفكر أم لا؟ ثم توجّهت لعملها بالصيدلية وهي تفكّر أن فترة كبيرة مرّت على وفاة والدها وعمها وحياتها كما هي دون أي تغيير حتى عملها هو نفسه بالصيدلية التي افتتحها لها والدها حال تخرّجها بالبناية التي بها شقتهم والتي هجرتها بعد وفاة والدها.
زفرت بقوة وهي تشعر بالتعاسة تكتنفها, ماذا ستفعل بحياتها عندما تسافر زوجة عمها؟!
هل ستعيش بمفردها؟! وهل سيتركها المجتمع بحالها لو فعلت؟!
هل سيتركها الناس دون كلام يمس سمعتها؟!
لم تكد تستدير لتدلف لشارع منزلها القديم حتى كادت تصطدم بشخص فعادت للخلف توازن خطواتها وهي تنظر للأعلى وتهتف بدهشة:"بشير! متى عدت؟"