- هذه هي نتيجة الخيانة ياعزيزتي، وتذكري أنكِ من بدأتِ في أول الأمر ولستُ أنا.
ثم تابع حديثه قائلًا:
- العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.
تفوه بتلك الكلمات وغادر المكان مسرعًا دون رأفة منه بحالي، وذلك بعدما تعالت ضحكاته الساخرة وكادت أن تصل لعنان السماء، فبعد أن لملمتُ ما تبقى من أنوثتي التي تبعثرت تحت قدميه خرجتُ من ذلك العقار وأنا عاقدة النية والعزم على الانتقام والثأر، الانتقام على فعلته الشنعاء التي جعلتني بعدها جثةً هامدةً بلا حراك، والانتقام من نفسي على تلك الخطيئة التي اقترفتها فأصبحت عالقة فوق كاهلي. ظللتُ أتحرك بعناء في شوارع المدينة الساهرة التي كانت مليئة بالمارة ذهابًا وإيابًا، وكأنهم يحتفلون بي بدلًا من الاحتفال بليلة رأس السنة المنتظرة، فواصلتُ السير مجددًا دون أن أبالي لنظراتهم التي تلخصت في الدهشة والتعجب من أمري حتى وصلتُ لشارعي الذي أقطن فيه منذ سنتين ونصف، فسرتُ بين أرجاءه في تخاذل شديد لأن جسدي الهالك قد أصابه الهذيان والضعف، حينما انقض علىَّ ذلك الطاغية الذي رسم لي مفردات الحياة المتلونة التي كنتُ راغبةً فيها بكل كياني، بل تربعت داخل فؤادي واعتلت قمته، وحينما صعدتُ درجات سلم منزلي وحاولت أن أفتح باب شقتي توقفت مكاني من هول الصدمة الساحقة وعلى إثرها انحبست أنفاسي وتبددت قوتي التي لا وجود لها في تلك الليلة، لقد وجدتهما أمامي ينظران لي نظرات قاتلة وكأنها سهام مارقة اخترقت جسدي، فتلاشى وأصبح فانيًا بتلك السهام التي تحمل في طياتها القصاص والنهاية، وبعد أن تشخصت عيناي جراء ما شاهدت، وجدت نفسي أعود بالزمن للوراء وتذَّكر حياتي التي كنتُ فيها فريسة لأحلامي التي هي في الأساس سراب لا وجود له.
أنا هدى في الخامسة والعشرون من عمري، لقد بدأت حكايتي وأنا في السنة النهائية بكلية الآداب جامعة القاهرة، كنتُ محط أنظار دفعتي وبالأخص الشباب قبل الفتيات اللواتي ينظرن لي نظرات الغيرة الحارقة التي أفهمها جيدًا، وذلك لأنني أتمتع بجمال آخاذ لا مثيل له، بالإضافة لجسدي الممشوق الذي كنت أتباهى به وأحاول أن أظهر مفاتنه للجميع بتلك الحركات المفتعلة التي لم أتوان عنها مرة واحدة، وبسبب تلك الحركات قد دق العقل والقلب معًا من قبل زميلي جاسر، فكان يتمتع بوسامة شديدة بعكس غرار باقي دفعتي، بالإضافة لعيونه الزرقاء التي جعلتني أسبح بين نظراته وأنسى عالمي، فأصبحتُ من بعدها متيمة به لأن جمالي الآخاذ ووسامته المفرطة لابد وأن تكون حديث كل من يعرفنا.
وبعد أن تلاقت عيوننا مرات عديدة قد جاء إلىًّ وحدثني بذلك الأمر الذي كنت في انتظاره دومًا، فحدثني قائًلا:
- هل من الممكن أن أبوح لكِ بما هو داخلي؟ أم أن ما يحمله فؤادي إدعاءات فارغة لا وجود لها سوى في مخيلتي أنا فقط.
فتبسمت له إثر حديثه الذي تميز بالجدية المصحوبة بالخجل، ثم تفوهت قائلة:
- من أخبرك ياجاسر بأن ما يحمله فؤادك وفؤادي إدعاءات لا دلالة لها، بالعكس ما نحمله بين ضلوعنا ما هو إلا حب نابض قد حان وقته من أجل مواصلة طريقه المنشود.
فظهرت الابتسامة المشرقة على ملامحه ثم حدثني مجددًا:
- إنكِ أول حب صادق في حياتي ياهدى، ولذلك سوف أعدك بالوفاء طيلة عمري.
فتبسمتُ له مجددًا، ثم تحدثت:
- مرحبًا بذلك الحب الناهض داخلنا، ولذلك سوف أعدك بالانتظار لحين قدومك إلى منزلي كي تتقدم لي ونعلن حبنا للعالم بأكمله.
وبعد هذا الحديث الذي أنعش فؤادنا تكررت مقابلتنا داخل الحرم الجامعي وخارجه حتى بعدما انتهينا من المرحلة الجامعية وبدأت مسيرته في البحث عن عمل ومسيرتي في الانتظار كأنثى حالمة.
وفي يوم ما عندما تقابلنا سويًا كعادتنا، وجدته ينظر لي نظرة تأملية لا أفهمها جيدًا ثم حدثني قائًلا:
- أخاف أن يمر علينا قطار العمر بسرعة البرق دون فائدة من حبنا.
فحدثته متعجبة:
- ماذا تقصد بحديثك هذا؟!! هل تقصد الظروف الجبرية التي هي في الأساس ظروف كل الشباب في بلادنا؟ أم تقصد ضياع حبنا بفعل عريس المستقبل الذي أصررت على رفضه مرارًا وتكرارًا.
فأجابني بنبرة مليئة بالشجن:
- الإثنان ياحبيبتي... أخاف أن يكون عريس المستقبل نتيجة لظروفي الحالكة التي أصبحتُ أبغضها وناهرًا لها بكل ما أوتيت من قوة.
فنظرتُ له نظرة عميقة وتنهدت باسم الحب، ثم حدثته:
- لا تخف يا حبيب العمر حبك ينبض داخل فؤادي وسيظل هكذا حتى تلتقي أرواحنا سويًا تحت عش الزوجية الهادئ.
ثم غاص كفه بكفي وتجولنا في أنحاء المكان المنار بلوعة حبنا وكأننا بلابل مغردة فوق الأغصان، ولكن بعد تلك السعادة التي تربعت داخلنا أفًقتُ على عاصفة رعدية أطاحت بنا وهي....