"رأيتك حُلم شغل قلبي.. فمن أنت!"
(مَن أنت!)
سؤال أرسلته وبطياته يحمل الفضول والحيرة، جنون تلبسها.. بأي حق تسأله وهي الغريبة والبعيدة، من هي وهو العَلم المشهور وهي المجهول بالنسبةِ له؟!
لعنت نفسها وقلمها، قضمت شفتها السفلية، تمنّت حذف سؤالها والهروب، ضاقت بها الأرض بما رحبت لتسكن كهف كلماتها؛ علّها تهرب من شبح سؤالها ومن تفكيرها اللعين، أغلقت حسابها الشخصي لعدة أيام هروبًا من فكرها الذي يُشعل بها النيران كلما حاولت الراحة لكن هيهات ما من خلاص، غُرفتها المحببة تحولت لسجن ظلت حبيسته طيلة تلك المدة.
حسمت أمرها، قررت المواجهة، فتحت أبواب حاسوبها بينما دقات قلبها تعلو كصوت دانات المدافع، تلقّت عدة إشعارات أهملتها وهي تبحث عن ضالتها المفقودة، كانت تلوك الرسائل والإشعارات التي وردت إلى حسابها، تَملّك اليأس منها، ظنت أنه حلم عبثي داعب مخيلتها عندما منّت نفسها بإجابة منه، إلا أنه قبل وأد ذلك الحلم بنصلِ التجاهل الحاد صدر قرار العفو عنه لتشرق شمس عهد جديد كتب فيه شهادة الحياة لقلبها؛ حينما رأت حروفه تتراقص على شاشة الحاسوب.. حينها لمعت عيناها، تورد مبسمها وهي تقرأ حروفه بكل مشاعرها، يدها تحذف جميع الرسائل التي تظهر أمامها لتعيق رؤية رسالته..
"أنا كاتب عشق القلم، تمنى الحياة لكنها كرهته وألقت به في جُب الظلمات لتخرج أسوأ ما فيه وهو مارده"
أثارت إجابته الفضول جعلها تتمنى أن تغوص داخل أعماقه لتخرج هذا السر الدفين، فقد زادت كلماته حيرتها جعلتها تبحر بين كتاباته لتستشف منها الحقيقة، سافرت بين سطوره وهي تشعر بالتيه! كيف لهذا العازف البارع على أوتار القلب أن يكون منبوذ من الحياة! كيف لصاحب الكلمات التي تقطر شهد الحب وتنشد قصائده يكون غريباً بلا مرسى ولا شطآن!
بيدٍ مُرتعشة وعينٍ زائغة أرسلت له رسالة أخرى علّها تشفي فضولها، لم تهتم بردة فعله أو سخطه، كل ما تمنته هو إجابة شافية..
"يا صاحب القلم الذهبي.. كيف لقلبك أن ينبذ وأنت الحياة؟!"
أرسلت كلماتها وبداخلها إعصار! هل ما تفعله هو الصواب؟ أم أنه تطفل سيقابل بحظر وصدّ من جهته، فهي لا تعرف طِباعه ولا تعرف رد فعله تجاه رسائلها! مشاعر داخلها تتحكم بها تشعر بأن التيار يقذفها نحو شطآنه بلا أدنى مقاومة، جلست تطالع شاشة حاسوبها وتردد كلماته العذبة، رددت كلماته بصوتٍ شجي، ثم قامت بتسجيلها لتحتفظ بذكرى تجمعها بعازف الحرف، تعلقت بكتاباته كطفل رضيع تعلق بعنق والدته خشية الفقد، ظلت تتفقد حسابها بين الحين والآخر علّه يجيب عن تساؤلها، انتظار رده كان أشبه بانتظار أسير حرب مفقود، وردتها رسالة منه دفعتها أكثر لاكتشافه...
"أنا الضاحك الباكي، غزلت من حروفي ثوب أتوارى به بين العباد علّ قلبي يهدأ وينتهي العذاب، ليس كل ظاهر حقيقة وليس كل خفي خداع"
قرأت حروف رسالته عدة مرات كمن يستذكر ليلة الامتحان، ما قصة هذا الغريب! لمَ تشعر بوجود رابط يجمعها به! تشعر كأنها قطعة معدنية تنجذب نحو المغناطيس، جميع حساباته الإلكترونية تحمل أشعاره فقط، لا توجد صورة شخصية أو أي معلومات، لكن لمَ يتملكها ذلك الشعور بأنه قريب منها وأن كلماته سمعتها من ذي قبل وكأنه يمس ذكرى بداخلها لا تبصرها عينها لكن قلبها يبصرها! أغمضت عيناها وهي ترددها علّها تقتبس بصيص نور يهديها نحو الطريق راجية من ذاكرتها الخربة إسعافها من شعور التيه القاتل.
ترى رجل يقف بعيداً أمام شاطئ البحر يداعب الأمواج بقدميه، نسيم البحر يغلفه، يواليها ظهره، يخبر البحر عذب الكلمات (عيناكِ كالقدس جميلة، ألف عدو يتمنى احتلالها وأنا الساكن بين الرمش ولا أحظى بملاقاتها، غريب أنت يا قدري حينما تحرمني من شمسها، فهي وحدها تسكن القلب والروح فداء لها) ملامحه تستتر خلف قناع من الضباب، سحر يطوي الأرض من تحت قدميها يصلها به قبل أن تلمس كتفه لتتعرف عليه، حال بينهما حاجز ناري حاولت تخطيه إلا أنه أرتفع أعلى وأعلى، شقت الأرض من تحت قدميه لتبتلعه النيران أمام نظرها!
استيقظت تتصبب عرقًا، جميع أجزاء جسدها ترتعد كلما تذكرت ذلك الحائل الناري وكيف التهم جسده، جعل دموعها تنهمر كشلالٍ هادر، شعرت بغُصة اجتاحت كيانها، هرولت نحو حاسوبها تتفقد صفحته؛ فبداخلها شعور سيء فبرغم أنها لم تر وجهه ألا أنها تشعر أن مكروه ما أصابه!
تمَلّكها الغضب:
- لمَ كل هذا الغموض يحيط بحسابه! فلا توجد أي صورة أو معلومة عنه سوى اسم الحساب (عاشق كرهته الحياة)
رنين هاتفها أخرجها من بحثها لتجد صديقتها تخبرها أنها ستصل بعد عشر دقائق لتذهبا معا إلى العمل، أنهت المكالمة لترتدي ملابسها مسرعة، حاولت تناسي شعورها نحوه إلا أن القدر كان له كلمة أخرى، أضاء حاسوبها معلنًا وصول إشعار جديد يزينه اسمه، ظنت إنها إحدى أشعاره الجديدة، فتحت الإشعار بشغف لترتوي بكلماته إلا أن ما رأته جعل قلبها يسقط أرضًا، ترقرقت عيناها بالدموع وهي تقرأ كل حرف مما سطر أمامها
(الحمد لله نجوت مِن موتٍ أكيد)
انهالت التعليقات بالسؤال عن السبب والدعوة له بالسلامة، لم تجد سبيل لإنكار مشاعرها، فما كتب أكد ما حدث معها الليلة السابقة وأنه ساكن الحلم، أرسلت له فورًا على الخاص..
"كيف حالك؟ ماذا حدث؟ لقد حلمت بك وبما حدث معك"
لم يدم الصمت طويلًا حتى وجدته يجيب عن سؤالها، لم يتركها بدياجير الحيرة كما أعتاد بل انتشلها بحبل النور عندما سألها:
- ما هو الحلم؟!
- هل أستطيع مقابلتك بعد انتهاء دوامي فأنا الآن بالعمل؟
عاد من جديد لغموضه ولم يرسل لها إجابة شافية تروي ظمأ قلبها، لا تعلم لمَ يعاملها بهذا الجفاف والفتور! بعض الأشخاص يميلون للعزلة لكنهم ليسوا فظين هكذا!
- سوف أنتظرك في تمام الساعة الرابعة بكافية (المحروسة) المُطل على النيل.
حفظت العنوان بدقة وظلت تتابع عقارب الساعة المعاندة وهى تمر ببطءٍ قاتل، ما أن دقت الساعة الثالثة حتى شعرت إنها سجين حصل للتو على أمر الإفراج، حملت حقيبة يدها وغادرت فورًا لم تنتظر صديقتها، طوت الطريق طيًا حتى تصل إلى صاحب اللغز الغامض، فهي من رسمت له العديد من الصور واليوم سوف يكشف الستار عن ملامحه الحقيقية.. تُرى كيف ستكون هيئته هل طويل أم قصير! كيف هي ملامحه هل بهي الطلة أم عابس مقتضب ككلماته!
ظلت الأسئلة تجول برأسها كما تجول هي ببصرها جميع من بالمكان، تمنت أن تتعرف عليه وتجده في انتظارها لكن ما هذا الجنون كيف ينتظرني وهو لا يعرفني وكيف أبحث عنه وأنا لا أعرفه! الحل الأمثل أن أرسل له رسالة قد يكون أحد الحاضرين هنا، قالتها وهي تخرج هاتفها من حقيبة يدها، عبثت بالأزرار مرسلة له رسالة ثم توجهت نحو طاولة كراسيها ألوانها زاهية ومريحة بجوار السور المطل على النيل العظيم وأشعة الشمس تتراقص على صفحته، ظلت تتابع هذا المنظر وهي تنقر بأظافرها على الطاولة لحن الأغنية المذاعة بالراديو بينما تختلس النظر كلما رأت شخص يدخل من الباب، تقدم نحوها النادل يسألها طلبها لكنها أخبرته أنها تنتظر شخص قادم، انصرف من أمامها، لحظات مرت كالسويعات تفقدت خلالها ساعتها التي تزين معصمها عشرات المرات، لم تجد سوى خمس دقائق فقط التي مرت.
رجل في منتصف الثلاثينات يزين وجهه لحية مهندمة، سواد الليل يسكن رأسه، العسل ينسكب من عينيه، طويل القامة، جسده ممشوق كأبطال الأثقال، يرتدي قميص زهري اللون وسروال من الجينز، يجول ببصره داخل المكان كصقرٍ يبحث عن فريسته.
راودها شعور بأنه هو - هو صاحب الكلمة وعازف الحرف ـ تعالت نبضات قلبها عندما حمل هاتفه وعبث بأزراره لتجد رسالة تغرد بهاتفها..
"لقد حضرت إلى المكان المحدد أرتدي قميص باللون الزهري وسروال من الجينز، أين أجدك؟"
قفزت من موضعها كما قفز قلبها عندما تيقنت أنه المنشود، شعور داخلها يحدثها أن قلبها يعرفه من زي قبل لكنها لا تحمل تفسير لهذا الشعور، تمنت أن تتقدم نحوه بسرعة البرق لتخبره أنها تنتظره دهور وسنين، كبتت ذلك الشعور الجامح، اكتفت بأن تشير له بيدها عندما دار ببصره نحوها، مع كل خطوة يتقدمها نحوها يتراقص قلبها على وقع نغماته:
- أهلاً بك أنا مَن تنتظرها.
مَا أن لامست أناملها أنامله حتى شعرت أنه قريب من قلبها، جلسا سويًا، سرقت نظرات خلسة منه بين الحين والآخر، لا تعرف لمَ تشعر بسحرٍ يجذبها نحوه! قالتها بصوتٍ خافت وشفاه مرتعشة وهي تطالعه على استحياء، تقدم نحوهما النادل ليخرجها عن صمتها عندما بادرها بالسؤال عن طلبها، فقد قام هو باستدعائه:
- كأس من عصير المانجا
- فنجان من القهوة (قالها هو)
انصرف النادل لإحضار المشروبات، نظر نحوها ليسألها عن حلمها، وسبب رسالتها! اهتزت شفتيها خرجت الكلمات من فمها متلعثمة:
- لقد رأيت حائط من النيران يحول بيني وبينك، حاولت الصراخ ومد يد العون لك إلا أن الأرض غارت من تحت قدماي لأصبح حبيستها، بينما النيران تحيط بك، هذا ما رأيت أثناء نومي، ما الحادث الذي مررت به؟!
- حادث حريق.. لقد تسرب الغاز بشقتي لولا عناية الرحمن لكنت في عداد الموتى الآن.
حينما سمعت كلمته الأخيرة فرت دمعتها وهي تدعو له بطول العمر والصحة.. "لن أقبل أن أخسرك مرة أخرى"
خرجت كلماتها من فَمِها دون إرادة منها، نظر نحوها باندهاش ليسألها:
- هل أعرفكِ من قبل، أشعر أننا تقابلنا سابقًا بمكان ما؟!
تمنت حينها أن تخبره أنها تشعر بوجود ماضٍ يجمعهما إلا أنها خشيت ردة فعله، خشيت فقدانه وكأنها فقدته سابقًا؛ أجابته بهدوء جاهدت نفسها أن تتقنه:
- أشعر نحوك نفس الشعور لكن لا أعلم أين ألتقينا! هل لي بسؤالك؟
- بالتأكيد تفضلي
- لِمَ نظراتك يملأها الحزن؟ كلماتك تحمل بين طياتها السعادة والأمل لكنها تخفي وجع غامض!
تبدلت ملامحه بعد سؤالها، بدأ يفرك يداه بعضهما البعض بحركة لا إرشادية، ثم حمل هاتفه بعدما أدعى ضرورة المغادرة لأمرٍ خاص يتعلق به، دفع فاتورة المشروبات وغادرها...