ShrElRawayat

Share to Social Media

محفور على وجهها علامات الرعب والفزع، يبدو شاحبًا كالأموات، تكسوه بغزارة حبيبات العرق، ينتفض كامل جسدها، وتتعالى دقات قلبها تدوي بالمكان؛ فكاد أن يتوقف من شدة الهلع، بدأت تخرج الكلمات من فمها بتعثر بدت كهمهمات غير مسموعة أو مفهومة، ثوانٍ مرت من خلالها حدة معالمها وازداد على تعابيرها الألم، ارتفعت نبرتها قليلا وانكمشت معالم وجهها تبدوا كمن يتعرض للتعذيب؛ فتعكس مدى ما تعيشه من وَصَب. اتضحت بعض كلماتها فهي تردد جميع كلمات الاعتذار، وتقطع الوعود بالعدول عن أخطائها تطلب العفو، تقر بفعل كل ما يأمر به دون تفكير.
يديها مجمعتين معا متصلبتين، وكذلك قدميها كما لو كانت مقيدة والحقيقة خلاف ذلك. تجاهد لتحريك جسدها الآبي؛ فتحاول وتعيد المحاولة، تقاوم لتصرخ وتستغيث لعل هناك من يحررها من قيودها الخفية، ازدادت نبرتها ارتفاعاً حتى وضح صوتها ثم خرجت منها صرخة اهتزت لدَوِيها الأرجاء، انتشلتها من داخل كوابيسها؛ فانتفضت على الفراش جالسة تطالع المكان حولها بأعين مرتعبة فزعة لتجيب عن سؤال شائك، أين هي؟ يدوي بالمكان صوت انفاسها كما لو كانت تعدو لأميال طويلة، تستند بكفيها على الفراش خلفها.
ثوانٍ قليلة مرت حتي اقتحم الغرفة بلهفة وقلق، أضاء نورها يبحث بعينيه عن مكانها، اندفع إليها طوقها بذراعيه وضمها إليه باحتواء، يربت على ظهرها بحنان يمسد على رأسها بحب، وجدت بين ضلوعه الأمان، لفت ذراعيها تحاوطه وقبضت بكفيها على ملابسه تتشبث بها بقوة، ولازالت أنفاسها مسموعة وأعينها تفيض بالدمع، فصدح صوته يكسر حاجز الصمت
-نفس الحلم تاني؟
أومأت إيجابًا، فأغمض عينيه بألم وإشفاق من أجلها، سيطر على غضبه سريعا قبل أن يظهر لها، شق الصمت بكلماته
-انسي اللي فات يا ليلى، أنا جنبك ومعاكي، عمري ما أبعد.
خرج صوتها مهتزا بعد طول الصمت
-انت جنبي، بس..
صمتت لا تجد ما يمكنها قوله تعلم إنها الآن تتحمل نتيجة أفعالها وأن عليها دفع الثمن للنهاية؛ أما هو فكلماتها تلك ضغطت على جرح كرامته الغائر، فانتفض واقفا تتقاذف بعلقه ذكريات الماضي القريب فأنهت مفعول تخدير دموعها وخوفها؛ فتراجع للخلف خطوة وعينه مثبتة عليها، اختلفت تعابيره لم تعد حنونة مشفقة بل امتلأت بالحيرة والألم، والاها ظهره وتحرك نحو الباب مغادرا، حدثها دون أن يلتف لها ينهي الموقف ولو مؤقتا، بينما اخفضت هي وجهها خزياً.
-نامي يا ليلى، بطلي تفكري في اللي حصل.

تركها مع كوابيسها وعاد حيث كان، انكمشت على نفسها اغمضت عينها بمرار شديد، ظلت على حالها لثواني، ثم تحركت بلا حياة، جلست على مكتبها أغلقت عينها بحسرة وهي تتذكر حوار دار بينهما بالماضي
يمشي جوارها يستمتعان بنسمات هواء باردة يمسك راحة يدها بحب واحتواء، تحدث وعلى وجهه بسمة هادئة بشوشة
-يعني أقصي حلم ليكي يكون عندك مكتب.
-انت مش فاهم يا جاسر، أنا طول عمري نفسي أقعد على المكتب كدة والكتب قدامي واحط ساعة صغيرة حلوة كدة و"فاز" صغيرة فيها وردة، مش اقعد في أي مكان، ويزعق ويضرب لأقل سبب.
-بصي خالي صعب، بس أكيد خايف عليكي وبيحبك.
-ممكن ما نتكلمش في الموضوع ده عشان دايما نتخانق بسببه.
-موافق، هاسكت مؤقتا، ولو على المكتب عيوني هيكون عندك مكتب جامد يا سيتي والوردة والزهرية عليا كمان.
توقفت عن السير التفت إليه، نظرت له تضيق أحد عينيها
-أولاً مش عايزة تريقة، ثانياً أنا خلصت مذاكرة يا أستاذ من زمان وباقي على فرحنا شهرين، ولا ناسي، ثالثا اسمها "فاز" مش زهرية.
أجابها بنفس طريقتها
-أولا، مش بتريق، أنا لقيت فعلا مكتب حلو، أبيض زي قلبك يا قمر، ثانيا، المكتب مش للمذاكرة بس، ابقي حطي حاجتك عليه وكتبك اللي بتقريها، ثالثا، اللغة العربية ما فيهاش حاجة اسمها "فاز" اسمها زهرية.
عادت من تلك الذاكرة مرتسم على وجهها ابتسامة ذابلة وهنة، تحركت بضعف كأن قلبها ثقلا داخلها، فتحت أحد الأدراج أخرجت منه دفتر وقلم وبدأت تخط كلماتها:
"هذه ليست مذكراتي، فأنا أقل من أن أدوّنها، ولن أبدأ بنشأتي رغم ما عانيته بها من ألم، فأنا فقدت طفولتي، لم أعشها يوماً؛ وكيف يتسنى لي ذلك؟ ووالدي يشعر دوما إنني نقطة سوداء بحياته؛ فأحكم إغلاق كل شيء عني، عاملني بشدة أعاقب لأبسط الأشياء، تذوقت منه الألم دون الحنان، شعرت بوقع ضرباته لا بحنان ضماته واحتوائه، تربي عقلي على كلمة العقاب دون الثواب.
سأكتفي بهذا القدر عن طفولتي فهذا ما فعله بي أبي، ولكنني سأدوّن هنا ثقل قلبي، همي وكوابيسي، معاناتي بنومي، معاناتي بالماضي القريب التي اقحمت نفسي بها ولا زلت أسدد ضريبة ما فعلته حتى الآن ولا أعلم إلى متى سأظل كذلك؟"
اغرورقت عينها بالدموع، فتركت القلم وعادت لفراشها، جلست عليه تضم نفسها، تحتضن قدميها إلى صدرها، عادت بذاكرتها تتذكر موقف أخر دار بينهما:
وقف جاسر يحدثها وهو يكظم غضبه منها، ويجاهد كي لا يعنفها
-انتِ دماغك دي أكبر عقاب ليكي.
أخفت ضيقها من كلماته، واصطنعت الهدوء وتحدثت به
-أنا مش فاهمة انت زعلان ليه؟ واحد تقدم لي وأنا موافقة، وجه يخطبني منك، وعايز يكتب الكتاب على طول، هو كويس ودخله معقول.
-فيه إنك ما تعرفيهوش من الأساس، انت عاجبك عضلاته وطوله اللي تقريبا ضعفك لو مش ازيد.
اقترب منها وطرق على رأسها بإصبعيه بخفة وأكمل
-الروايات السودا اللي بقيتي تقريها هتضيعك للنهاية.
ارتبكت قليلا ثم عادت لهدوئها وتحدثت تحاول إخفاء ترددها
-انت معترض ليه؟ مش فاهمة.
أجاب باهتمام ونبرة حانية
-عشان خايف عليكي خايف تضيعي، انت ما لحقتيش تهدي وتنظمي أفكارك وحياتك، إحنا لسه مطلقين يادوب خلصت شهور العِدة، يعني خارجة من تجربة داخلة على اللي بعدها على طول.
أجابت ببعض الحدة تشعر إنه تخلى عنها بسهولة
-أنا مش هرجع لك تاني.
بتلقائية حازمة ممزوجة بالألم أجاب
-الرجوع بقى مستحيل، ومش ده اللي بتكلم عليه.
أصاب كرامتها بمقتل وكذلك قلبها؛ فأجابت تصون القدر المتبقي منهما
-النقاش منتهي أنا موافقة خصوصا أنه موافق نعيش هنا في بيت بابا.
انكساره طغى على باقي مشاعره تحدث متسائلا
-يعني هتكوني قدامي طول الوقت، تمام ادام مُصرة تحملي النتيجة.
تركها وغادر الغرفة، بل البيت بالكامل، نظرت في أثره لا تدري ماهية ما تشعر، هل غضب منه؟ أم شوق إليه؟! تعلم أن جزء من حديثه سليم فما يجذبها إلى من تقدم لها هو تشابهه مع أبطال رواياتها، عنفوانه، بطلته يجذبها إليه وعنه، كما أن جانب منها يتمنى أن تشتعل غيرة جاسر فيرجعها إليه عنوة، ولكنه خيب رجاها الآن.
عادت من ذكراها تبتلع حنظل ريقها، يكاد يقتلها الألم، اتجهت إلى نافذة غرفتها فتحتها تحاول استنشاق هواء الفجر النقي، عسى أن يطفئ لهيب قلبها وضميرها.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.