أبواب الشرور كثيرة ولكل باب طريق أو سبيل يقود إليه، ويصاحب الإنسان في هذا الطريق إما نفسه الأمارة بالسوء أو الشيطان، فهما الدالان على الباب وما خلف الباب كان أعظم.
يدخل الإنسان إلى إحدى تلك السبل إن ترك أو ضل عن الصراط المستقيم.
قال تعالى:
{وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
يضل الإنسان طريقه في الصراط فتجده في سبيل أحد أبواب الشر وهذا ليس بالطبع بعمى الأبصار ولكنه عمى القلوب كما هو معلوم.
فلنفترض أن الإنسان عمى قلبه، وصاحبه الشيطان إلى أحد الأبواب، فسأسوق إليك بعضًا من أهم الأبواب المغلقة والتي يريد الشيطان أن يصاحب الإنسان إليها.
كما ذكرت فإن آفات القلوب تأتي من فراغه، وفراغ القلوب تعني فقرها ولذلك أقول إن من أكبر آفات القلوب هي:
أولًا: الخوف من الفقر
نرى كثير من الناس يخاف من الفقر خوفًا شديدًا فيمنع نفسه من زكاة نفسها {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ (31)} وأخذ في الادخار وكنز الذهب والفضة والمال فأنسته حقيقة الأمور وهي قِصر الدنيا مهما طال العمر، وهذا يحثه أيضًا على الزيادة الدائمة أيًّا كان مصدرها حلالًا كان أم حرامًا، فالمهم الزيادة فلا يكتفي بمنزل فاخر بل يريد القصور ولا يكاد يرى النعمة والخير بل يريد الشرور!!
ولا يتوقف فراغ قلبه عند ذلك الحد فالقلب لديه ليس له حد باطني بل ظاهري فقط، ولذلك يطمع في الناس وما عند الناس فلا يهدأ له بال حتى يكون ما عند الناس عنده.
وذلك من الطمع ولو نظرت لاسم "الطمع" لوجدت أن حروف الاسم كلها مغلقة ومجوفة " ط + م + ع " إلا العين ولكنها آخر الاسم يعني تأثيرها بعد الطاء والميم، وهذا ما يدل عليه الاسم فتلك الحروف جعلت الاسم غير مشبع لصاحبه، فنجد الطماع لا يشبع من كثرة مال أو طعام أو شراب أو أي شيء كان، فلا يهدأ له بال إلا بالمزيد وهو مع كل ذلك لا يشبع ولا حتى يمتلئ بسبب الطمع، ومع وجود حرف العين "ع" آخر الاسم فهو يعرف حقيقة نفسه ولا يستطيع مواجهتها!
وكل ذلك من خوف الفقر فنجده بعد التملك والغنى ما زال فقيرًا فارغًا يعبد الهوى فيظن أن ما به من نعم إنما هي منه ونسي نعمة الله عليه بل هي فتنة.
قال تعالى:
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
بل هي أسهل فتنة لمن اتبع سبل الهوى فيفتتن فيرى أن ما به من علمه أو خطئه وعمله في ذاته ومنه، ولقارون خير مثال.
قال تعالى:
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)}
ولو علموا نهايته ما تمنوا أبدًا بدايته!!
وذلك الخوف من الفقر والحرص على جمع الكنوز يجعل الإنسان بخيلًا، بخيلًا على نفسه أولًا في أنه لا يزكيها مع علمه أو جهله بضرر ذلك عليه، وبخيلًا مع الناس ماديًّا ومعنويًّا، فلا تكاد تخرج منه الكلمة الطيبة إلا في المناسبات وذلك لأن الكلام الطيب محله الصدر، والصدر فارغ فمن أين تأتي الثمار والأنوار.
فيكون في بيته بخيلًا مع أبنائه في المال والرفق واللين والحب، ومع زوجته ماديًّا ومعنويًّا، فتستحيل المعيشة معه وهي أقرب ما يكون إلى السجن والضنك لهم وكل ذلك لسبب واحد فقط وهو الخوف من الفقر!
ثانيًا: الغضب
دائمًا ما أقول لو أن الغضب غير مخلوق لأغلقت الكثير من أبواب جهنم.
الغضب من أكثر أنواع الشر والهلاك للإنسان ولو أن إنسانًا دخله لا يدري بأي شر يخرج ولا ينجو منه إلا بأعجوبة أو بهداية وافرة وتوفيق من الله.
الغضب اسم ثلاثي آخره حرف الباء، "غض + ب " ودائمًا ما أحذر من حرف الباء فكما ذكرنا في القلب، فهو حرف إقلاب "دخول أو خروج" يقلب ما قبله، وما قبله "غض" والغض هو المنع والكف والتقليل أي أن الباء يغير منه إقلابًا فيصبح الأمر على ما نراه من شتى أنواع الغضب!!
ولذلك في القرآن الكريم كثيرًا ما يذكر الله سبحانه الغضب مسبوقًا بالباء:
قال تعالى:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}
فذكر قبل الغضب الباء في بَاءُوا!!
وقال تعالى:
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
وباؤوا بغضب وتلك الباء الأولى مدخل أكبر من الباء في اسم غضب فلا تدري ماذا يلقون وبأي غضب سوف يرجعون!!
وهذا بالنسبة لاسم الغضب فهو باعث كبير على كل أنواع الشرور، فحين يغضب الإنسان يعمى قلبه ويطيح عقله ويهوى فؤاده فقد يسب أو يقتل أو يطلق أو ينتحر أو يخون أو يهون وفي جميع الحالات هو الخاسر لا محالة.
سُئل إبليس يومًا: كيف تغلب ابن آدم؟!
قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى.
- وقال سلمان لعلي : ما الذي يباعدني عن غضب الله ؟
قال: ألا تغضب.
وذلك لأن الغضب يعين الشيطان على الإنسان فلا يدري ماذا يفعل فيوجب غضب الله عليه وعلى لسانه وأفعاله.
- ولذلك قيل: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب!!
- وكتب إبرويز لابنه شيرويه: إن كلمة منك تسفك دمًا، وأخرى منك تحقن دمًا، وإن نفاذ أمرك مع كلامك، فاحترس في غضبك من قولك أنْ تخطئ، ومن لونك أن يتغير، ومن جسدك أن يخف، فإن الملوك تعاقب قدرة، وتعفو حلمًا.
- وكان يُقال قديمًا: أربع من كن فيه وجبت له الجنة:
من ملك نفسه حين يرغب.. وحين يذهب.. وحين يغضب.. وحين يشتهي!!
- وأربع ترفع الرجل وإن قل علمه:
الحلم.. والتواضع.. والسخاء.. وحسن الخلق.
- وقيل: إن الغاضب هو أقرب ما يكون للمجنون!
وذلك لما يبدو عليه من عدم الوعي في أفعاله وكلامه فيعجب الناس منه كيف لفلان أن يفعل ذلك؟! وهذا ما يحدث مع المجنون، وهو الإتيان بأمور يرفضها العاقل والرزين ويألفها الشيطان والمهين!
ولكن ما هي الأسباب التي تبعث الإنسان على الغضب؟!
ذكرنا أن الغضب أقوى الحروف المؤثرة في اسمه هو حرف الباء، وهذا بالإضافة إلى أن حرفيه الـ "غ" غين والـ "ض" ضاد هما من الحروف المنقوطة السلبية، ولكن حرف الباء هو المخرج الكبير للاسم وحرف يخرج من اسم "القلب" ولذلك عند الغضب، تزداد ضربات القلب والتي قد تؤدي إلى الوفاة إذا زادت عن الحد وإن لم يهدأ الإنسان ويغير من موضعه وحاله.
فازدياد معدل نبضات القلب أحيانًا تكون له أسباب خفية قد تسببه فيتسبب بعدها الغضب المفاجئ ومنها مثلًا:
(1) تناول المشروبات التي تحتوي على الكافيين.
يفرط الكثيرون في تناول مشروبات تحتوي على الكافيين فتعمل على زيادة ضربات القلب بل وتضر الجسم بشكل عام مما قد يؤدي إلى الغضب المفاجئ ومع التكرار يصبح الأمر وكأنه أمرًا عاديًّا أن يغضب الإنسان.
(2) التوتر الزائد.
قد يتوتر البعض نتيجة لأمور اعتيادية يومية وأخرى لأمور مفاجئة، وفي الحالتين قد يتسبب ذلك في ارتفاع معدل نبضات القلب الذي قد يؤدي إلى الغضب والانفعال وعلى أتفه الأسباب، فخفف بين كل حين من حدة التوتر بالنوم العميق أو بالخروج للأماكن الفسيحة مثل " البحار – الحدائق وغيرها .... "
وهناك بعض الأمور التي تسبب الغضب عادة للإنسان ومنها:
- الإهانة:
من أكبر موجبات الغضب عند الإنسان الحر هي الإهانة والتصغير من قيمته فإنها تولد غضبًا داخليًّا تشعر به النفس وسرعان ما تنطلق للخارج لتُعبر عن ما بداخلها من غليان نتيجة للإهانة، ويزداد الغضب كلما كانت الإهانة أمام الناس وازدادت الحشود، وكلما كان أمام شخص تحبه أو أناس تحتاج لكرامتك أمامهم، وذلك لأن الله خلق الإنسان مُكرمًا غير الدواب والحيوانات!
فلا بد لك وأن تحفظ كرامتك ولو وجدت الذي أمامك لا يأخذ باله من كلامه أو طريقته في التوجيه أو الأمر فاطلب منه ذلك برفق ولين ولا تستحِ من أن تحفظ كرامتك من دون غرورٍ أو تعالٍ.
- الإجهاد:
عندما يُجهد الإنسان يتعرض لحالة من عدم الالتزام ونتيجة لذلك فإن الجسم يعاني من التعب العام أو الإعياء تجعله غير قادر على تحمل الكلام أو الأفعال من الناس حوله فيحدث الغضب وإن لم يستدعِ الأمر لذلك فهو رد فعل لا إرادي من الجسم تجاه الفعل والكلام المقابل.
يحدث الإجهاد غالبًا من المجهود الذهني أو البدني الزائد نتيجة التفكير المستمر في أمرٍ ما ومجهود بدني ما في العمل غير محسوب أضراره فكل ذلك يؤدي للإجهاد الذي يؤدي للغضب المفاجئ، وعليه فإن الإنسان مأمور بالحفاظ على نفسه من الإجهاد فتقسيم وقته للبدن وللتفكير فالمجهود البدني يكون أفضله في النهار ووسط اليوم، أما المجهود الذهني والتفكر يكون في طرفي النهار والليل وبذلك يتعود الجسم على التسبيح الصحيح لله سبحانه وتعالى ويتجنب الإجهاد المفاجئ وغير المطلوب.
- العجز والإحباط:
العجز قد يؤدي للإحباط، والإحباط قد يؤدي للعجز فكلٌّ منهما طريق الآخر، يعجز الإنسان عندما تُسد أمامه كل فرص تحقيق الهدف، ويُحبط عندما يتكرر فشله مرات عديدة، والعجيب أن الكثيرين لا يعلمون أن الفشل ضروري لتصبح على الطريق السليم مثلما تمامًا المعصية واجبة "غير مقصودة" لتعرف منها اسم الغفور الرحيم!
الإحباط قد يأتي كذلك نتيجة المقارنة بالغير والنظر إلى نجاحات الآخرين وهو أمر خاطئ تمامًا، فحين يقارن الإنسان نفسه بغيره في مثل سنّه مثلًا ولكنه قد يكون أنجح منه أو أشهر أو أغنى فإنه يُصاب بالإحباط وذلك لأن العين الناقصة ترى من منظور أحادي سطحي ولا ترى كافة الأبعاد والجوانب والسلبيات في حياة الغير وهو ما يسبب الإحباط ومثلما لا يرى الآخر أيضًا الجوانب السلبية في حياتك.
فعليك بالتركيز في نفسك والنظر إلى قلبك والاستعانة باسم الله القيوم حينما تداهمك لحظات الإحباط أو العجز، فهو قيوم السماوات والأرض ولا يعجزه شيء في السماوات والأرض.
- الحالات الاجتماعية والأسرية:
لا يخفى على أيّ منا أن أكثر الغضب موجود في خلف الأبواب في البيوت، وقد تمر يومًا أمام محاكم الأسرة لترى إلى ما أفضى إليه الغضب بين الأسر والأزواج.
التفاهم بين الرجل والمرأة أصبح أمرًا نادرًا نتيجة لأمور كثيرة جدًا منها الاختيار الخاطئ في بادئ الأمر لكل منهما، الأمور المادية المعيشية، عدم التوافق الاجتماعي أو الثقافي والفكري، وعدم وجود ثقة بينهما تجعل الحياة بينهما على المحك وهو ما يزيد من اختلاف وجهات النظر بينهما وهو ما قد يجعل الخيانة واردة في النهاية والتسرع في اتخاذ قرار الزواج من قِبل الرجل أو المرأة وإرغام المرأة على الزواج من شخص بعينه وغيرها الكثير من الأسباب التي تجعل الزواج فاشلًا أو تكون سببًا في نشوب الغضب بين الأزواج والتي تجعل النتائج النهائية غير محمودة!
- سبب آخر من أسباب الغضب يترتب على الظروف الاجتماعية أو الأسرية الخاطئة وهو الحرمان:
البيوت غير السوية والتي لها العديد من المشاكل والنزاعات ينتج عنها نتيجة كبيرة من الحرمان لدى الأطفال، وهذا الحرمان له أبواب كثيرة منها الحرمان العاطفي، فالأبوان دائمًا في حالة شجار فقليل حين يشعر الطفل بالحنان والعطف لأنهم في حالة غضب دائمة، ومنها الحرمان المادي وهذا قد يأتي نتيجة عناد الأب أو الأم أو غير رضاهما عن الحياة بصفة عامة فينتج عن ذلك عدم رضاهما عن الاستمتاع مع أطفالهما وحرمانهما من العديد من الأمور، وغيرها الكثير من أنواع الحرمان لدى الأطفال والتي تجعله يشعر بالنقص ومع الزمن يتحول ذلك إلى الانطواء الشديد أو الغضب الشديد!!
- آخر أسباب الغضب على سبيل المثال وليس الحصر وهو الاكتئاب:
الاكتئاب عامة يحدث نتيجة تمسك وتعلق القلب بشيء أو شخصٍ ما ومن ثم فقدانه على غير توقع الفؤاد "المخ" فيؤدي بالإنسان إلى العزلة والحزن الشديد ومن ثم الاكتئاب الذي بدوره يعزز فرص الغضب الشديد وإن لم يكن في جميع الحالات، ففي بعض الحالات للاكتئاب يقوم الشخص بكتمان الغضب كاملًا بداخله لفترات طويلة.
وأقصر طريق لعلاج الوحدة أو الاكتئاب غير الطرق العلاجية الدوائية هي قراءة سورة "طه" يوميًّا لمدة ثلاثة أيام ومعها سوف يشعر الإنسان بتأثير "الطاء" على نفسه إن شاء الله.
ولذلك على الإنسان أن ينجي نفسه دائمًا من الغضب ويمنع عنه طرق الوصول إليه ويتحلى بالحلم والعفو في حياته بل ويدرب نفسه عليهما ويجعل نفسه مع المحسنين.
قال تعالى:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
وروي أن جبريل نزل على النبي فقال: يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
وقال أيضًا : "إن الله يحب الحليم الحَيّ، ويبغض الفاحش البذيء".
- وقال بعض الشعراء:
وفي الحِلم ردع للسفيه عن الأذى وفي الخَرق إغراء فلأنك أخرقا
- وحكيم آخر يقول: ثلاثة لا يُعرفون إلا في ثلاث مواطن:
لا يُعرف الجواد إلا في العُسرة، والشجاع إلا في الحرب، والحليم إلا في الغضب.
- وذكر في التوراة مكتوبًا: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب، أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق.
- وكقول أحدهم: الحِلم حجاب الآفات.
ولعلك لاحظت التشابه في علم الأسماء بين الحِلْم والحُلُم، الأولى التي هي العفو والصفح، والأخرى ما يراه المرء في منامه، وهذا التشابه منطقي ولكن لنرى كيف رأى الأدباء والفلاسفة معنى الحِلم:
- قال الجاحظ: الحِلم ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب.
- وقال غيره: هو ترك الغضب مخافة الظلم.
• وأقول في الحِلم هو:
" تجاوز زمن الغضب المؤقت إلى زمن الرحمة الأبقى"
وهذا الذي يجعل تشابه الأسماء بين الحِلم والحُلُم وذلك أن الاسمين يتجاوزا زمن الحدث الواقعين فيه والحليم لا يؤاخذ بالذنب في وقته ويرى ما هو أبعد من حدود الخطأ وهذا ما نراه في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
فحِلم الله سبحانه وتعالى هنا أنه لم يأتِ بأمور ما في وقتٍ كانت تسوء المؤمنين ولكن بحلمه سبحانه أجلها إلى الوقت المناسب.
وكقوله تعالى:
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}
فحلم الله أن يرى ما بعد الصدقة فلو أن بعدها أذى كالتفاخر والنفاق وغيرها فالقول المعروف أفضل لأن امتداده أطول وأدوم.
ومثل ذلك الحُلُم الذي يراه المرء في منامه فهو يكون متجاوزًا زمن ومكان النائم فقد يرى مستقبلًا وقد يرى ماضيًا.
ولذلك نقول بلوغ الحُلُم أي بلوغ الزمن الذي أنت فيه إلى رشد أبعد ترى من خلاله الأمور من زوايا أخرى وأشمل!
فكن حليمًا عزيزي ترى بُعدًا في الحياة لم تكن لتراه إلا في الحُلُم!!!
وأبعد عنك الغضب تكن منشرح الصدر، سليم القلب، وتملك الناس بسلطان العفو والجذب، فافهم ما أقول لك وتأنّ في قراءته تكن ملكًا!
ثالثًا: الكِبـــر:
لم نكن لتعيش على الأرض إلا لوجود الكبر، قال تعالى:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
وذلك الاستكبار جعله يوسوس لآدم ليخرجه من جنة ربه كما خرج هو من قبله وتوعد بإغواء ذريته من بعده حتى يوم الساعة وما ذلك إلا من الكبر في صدره!!
فكل فساد ظهر كان يسبقه الكّبر، وأقبح ما في الكبر هو العلو الزائف دون وجه حق عن كل حق.
يعني أن الإنسان المتكبر لا ينفعه النصح ولا تقربه القلوب فيملأ القلب العُجب فلا يبصر الفضائل، ولا يأبه بالرذائل فيصير إلى ما صار إليه إبليس من الطرد واللعن وتلك نهاية كل متكبر من بعد ما انتشر فساده!
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)}
فذلك الاستكبار بغير الحق هو ما يهلك صاحبه، لأن الله هو المتكبر خالق كل شيء وهو أكبر منهم جميعًا، أما الإنسان فلو بلغ مُلكه ما بلغ ما زال مملوكًا عبدًا لخالقه وبارئه فكيف يتكبر وأين يستكبر؟!
ذلك الكبر حتى لو بالعبادة فهو مُهلك لأنها ليست منه فضيلة ولن تفيد أو تنفع غيره فكيف يتكبر بها وعلى مَن، ويا ليت يعلم المرء أنها ليست دار خلود، فإبليس لم يرَ آدم بمنظور شامل؛ فرآه خلقًا جديدًا ضعيفًا من طين فاستصغره وله سجدتْ وسُخِّر كل خلق الله فى العلم الأول و ذلك قبل أن يؤمر إبليس أصلًا بالسجود ولذلك قال الله :
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}
ولذلك قال رسول الله "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكِبر".
فخرج منها فأصبح صاغرًا وأدرك حدود قدراته وإمكاناته فما كان له فيما بعد لإغواء بني آدم غير الوسوسة، والكِبر حمله على أذى ذرية وبني آدم على الرغم من أنهم لم ولن يؤذوه في شيء ولكنه التكبر حين يتملك المخلوق.
وهذا ما يفعله الكِبر مع بني آدم فإنه يحملهم على الشر والأذى دون وجه حق وذلك لأن الكِبر أساسًا كان دون وجه حق.
قال تعالى:
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}
فما لهم لا يتركون عباد الله تعبده في أرضه وهيهات ذلك والكبر يملكهم ولذلك قال لهم شعيب
{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}
وذلك الحق المبين فتح بينه وبين القوم الكافرين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين!!
فعُذبوا في دارهم لأنها دار عذاب وذلك غير الجنة دار الحق ولذلك طُرد وهبط منها إبليس حين تجاوز الحق واستكبر!!
الكِبر إذا تمكن من مَلِك انتشر الفساد كانتشار النار في الحطب وذلك لأن الملك مُمَكَّن من الله في أرضه وهذا ما حدث مع فرعون وقارون والنمرود وغيرهم...
وما قامت الحروب ورأيت سقوط القتلى بالملايين في كل العصور، وليست العصور الحديثة فقط إلا بسبب كِبر الحُكام والرؤساء والملوك أو الأمراء ويا ليتهم جنحوا للسلم ومنعوا الدماء، ولذلك نقول إن الكِبر مفسدة عظيمة رئـيسها بغير حق هو إبليس وأما هي فهي لله العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون.
ولذلك قال رسول الله لعمه العباس "أنهاك عن الشرك بالله والكبر، فإن الله يحتجب منهما". فهما لله وحده فلا تنازعه فيهما فتهلك ولن تنازعه جل وعلا.
والذي يجعل الكبر مفسدة عظيمة أن حدوده لا غاية لها لأن خلق الله في الكون أوسع وأكبر مما تدركه عقولنا ولذلك الكبر ليس له حد فقد يبلغ كِبر الإنسان إلى ما يفوق عقله ولا يصدقه قلبه وصدره فيزرع في نفسه العجب والخيلاء فينتظر كل مدح من المقربين وإطراءٍ من المنافقين سواء كان فيه ما يقولون أو أن الكذب أعماهم فلا يأبهون.
وذلك مثل ما قيل سابقًا "عجبت لمن قيل فيه الخير وليس فيه، كيف يفرح؟ وعجبت لمن قيل فيه الشر وهو فيه، كيف يغضب؟!"
- وقول الشاعر:
يهوى الثناء مُبَرَّزُ ومُقصِّر حب الثناء طبيعة الإنسان.
وما روي عن النبي قال "إياكم والتمادح فإن الذبح إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب، ولا أزكي على الله أحدًا".
وأقول لمن تَمكَّن وتواضع ارتفع ولمن تملك وتكبر انخشع!
ومثل ذلك ما قيل عن سليمان أنه ارتفع يومًا بجنده في الهواء حتى سمع تسبيح الملائكة ثم نزل حتى أصاب بقدميه البحر، فسمع صوتًا يقول لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من الكِبر لخُسِفَ به.
- قال بعض الصالحين: رأيت رجلًا في الطواف ومعه خدم يمنعون الناس من الطواف لأجله ثم رأيته بعد ذلك على جسر بغداد يسأل الناس، فسألته عن ذلك فقال: تكبرت في موضع تتواضع الناس فيه فأهانني في موضع يتكبر الناس فيه!!
• وهنا أرى موضعًا كبيرًا لذنب الكِبر وهو مخافتي على العبد أن لا تدركه التوبة لأن كل من رأيتهم في القرآن ذنوبهم من الكِبر لم تُقبل توبتهم المتأخرة أو لم يتمكنوا منها كإبليس وفرعون وغيرهما ومن كانت ذنوبهم من الشهوة واللذات غفر لهم وتقبلت توبتهم كآدم وغيره....، فليحذر كل متكبر!!
فلا تنسَ أخي الإنسان أولك، ولا تتناسَ آخرك فقد كنت نطفة، وقبل النطفة لم تكن لتّذكر ولم تُعرف لتُنكر .
{هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}
فمن أنت لتتكبر؟! فكن مؤمنًا تتذكر وتواضع حتى لو تتـنكر، فمن دام تواضعه كثر صديقه وحسن خليقه، ومن ساء خلقه ضاع رزقه وتقلب حالُه.
- وكما قيل قديمًا: من أظهر عيب نفسه فقد زكَّاها.
وأقول إذا رأيت من أخيك كِبرًا فانصحه لذلك، فإن المتكبر يكون غالبًا عامي القلب والبصيرة عن ذلك للأسباب التي ذكرناها، فالواجب عليك النصح له وتوجيهه للرشاد بالقول اللين لعله يتذكر أو يخشى.
ولمن يعرف عيب نفسه من داء الكِبر وأراد أن يتداوى أن يتذكر الموت، فهو أكبر واعظ، وأن يزور القبور والمرضى في المستشفيات ليرى حقيقة ضعف الإنسان وضعف نفسه ولينظر بعين البصيرة حِلم الله عليه مع تكبره وضعفه وليعوِّد نفسه لفترة على المساعدة المباشرة ليس لأن يفعل أعمال الخير دون أن يراها بل ليفعل ذلك بنفسه بين الناس ليرى ما في حاله من نِعَم، وما أفاض الله عليه من الفضل والرحمة والحِلم ليكسر نفوذ الكِبر في الصدر ويستدل ذلك بالعطف والتواضع حتى تتمكن الملائكة من ملاطفة قلبه وتنعيم فؤاده وليتخلص من داء الكِبر والغرور ويملأ بدلًا منه صدره بالحب والسلام ويطرد عن قلبه الشرور والأسقام، فلا تستهِن بالأمر واجلب لنفسك خير القَدَر!!
رابعًا: الغّيرَة:
خلق الله كل الخلائق ناقصة إما في خلقها أو شكلها أو حركتها وذلك ما جعلها تحتاج لغيرها ولذلك خلق سبحانه من كل شيء زوجين لينفرد بالوحدانية والصمدية فتلجأ كل الخلائق إليه.
ولكن لما كان نفخ الروح منه سبحانه أيضًا إلى الإنسان، ظن البعض من بني آدم أنه قد يصل إلى الكمال بسبب تلك النفخة من الروح التي مكنته من الخلائق ومن التحكم في أمور كثيرة أصاب بها سلطان أو مُلكٍ ما ونسى أنه مجرد عبد من عباده ناقص يحتاج إلى غيره ليعيش ويصل إلى درجة عالية من الكمال الذي لن يصل إليه.
وبسبب ما قلناه عاليًا أصاب الكثير من الناس داءٌ ما يسمى بالغيرة!
والغيرة تنقسم إلى قسمين:
(1) غيرة محمودة. (2) غيرة مذمومة.
أولًا: الغيرة المحمودة
وهي التي يكتمل معها مثلث الحب وهو التملك والحُب والغيرة، فإذا سقط أحدهما سقط المثلث كله، فنجد البعض يغار على حبيبه وهو لا يملكه فهنا تكون غيرة خاطئة، ونجد من يغار على من يحب دون أن يحبه الطرف الآخر وقد لا يشعر به من الأساس وتلك أيضًا غيرة خاطئة تصيب صاحبها سلبيًّا، فأما الإيجابية فهي التي يكتمل معها الحب والتملك فتكون غيرتك معتدلة وتكون للصالح العام لمثلث الحب لكلا الطرفين.
ونوع آخر من الغيرة المحمودة وهي التي ترفع صاحبها للنجاح والتفوق فلا يكره نجاح آخر ويعترف بنقصان نفسه وبالفطرة التي فطر الله الناس عليها "لا تبديل لخلق الله" فيتجه بغيرته نحو تحسين حاله وملء هذا النقصان ملئًا إيجابيًّا فيُحب ما يعمل أولًا ثم يتملكه حتى يصير إلى ما يصبو إليه فتشعر حينها نفسه بالكمال المؤقت ولا بأس به حينها طالما شعر بالعبودية وهي أقرب الطرق للوصول إلى حافة الكمالية.
ثانيًا: الغيرة المذمومة:
هي التي يشعر بها صاحبها نتيجة نقصان ما داخله وهو أمر افتراضي على كل الخلائق كما ذكرنا ولكن صاحب تلك الغيرة قد لا يعرف ذلك أو لا يريد الاعتراف بها، فيشعر بالغيرة من وجود غَيره وتفوقه عليه في أمر ما أو يشعر بالغيرة عامة من أي اهتمام يحدث بعيدًا عنه وهو ما يدفعه بعد ذلك إلى فعل أفعال الشرور من فكر ومكيدة ولؤم وسرعان ما يمتلئ قلبه بأمراضها فيصيبه الغل والحقد والحسد وغيرها من أسقام الصدور وكل ذلك نتيجة وجود غَيرة وعدم اعترافه أو معرفته بحقيقة نقصه والتي خلق الله الخلائق كلها عليها.
وهنا يفتح لنا بابًا كبيرًا وهو باب " الحسد " والذي بِدءه يكون بالغيرة وأحيانًا يكون للكِبر، والحسد هو من الأسماء الثلاثة الأولية في الحياة الدنيا فلا يفلتك ولن تفلته وتتفاوت درجات البشر في الإصابة به وفي فعله!!