hindawiorg

Share to Social Media

أصبحتصرامة تاجر جنيف في أمور العمل مَضرب المثل. لقد كانشريفًا على نحوٍ صارم
وعادلًا للغاية؛ فأيُّ عار سيَلحق بالسيد زخاريوس عندما يرى كلَّ الساعات التي صنَعها
بدقة بالغة تعود إليه من كل مكان؟
كان من المؤكَّد أن هذه الساعات توقَّفت فجأة، ومن دون أيِّ سبب واضح. لقد كانت
التروس في حالة جيدة ومُثبتة جيدًا، لكن الزنبركات فقَدت كل مرونتها. حاول الساعاتي
سُدًى أن يستبدل بها غيرها، لكن التروسظلَّت بلا حَراك. وأدَّت هذه الأعطال غير المعروفة
الأسباب إلى تشويه سُمعته بشدة. إن اختراعاته الفخمة أثارت شكوكًا عديدة حول عمله
بالسِّحر، وبدَت هذه الشكوك مؤكَّدةً الآن. وصلَت هذه الشائعات إلى جيراند، التي كانت
تَرتجِفنيابة عن والدها في أحيان كثيرة عندما كانت ترى النَّظرات الشريرة الموجَّهةصوبه.

ومع ذلك ففي صباح هذه الليلة التي شعر فيها السيد زخاريوس بالكرب، استأنَف
عمله ببعض الثقة. لقد أمدَّته شمس الصباح ببعض الشجاعة. أسرع أوبير للحاق به في
«. يوم سعيد » : الورشة، وحيَّاه زخاريوس بلُطف قائلًا
أنا أفضل. لا أعرفهذه الآلام الغريبة التي هاجمَت رأسيبالأمس، » : ثم أردَفالعجوز
«. لكن الشمس بدَّدتها تمامًا كما بدَّدَت غيوم الليل
«! في الحقيقة يا سيدي، أنا لا أحُب الليل مثلك تمامًا » : فأجاب أوبير
أنت مُحق يا أوبير. وإذا أصبحتَ رجلًا عظيمًا فسوف تَفهم أن النهار مُهم لك مثل »
«. الطعام؛ فالعالِم الجليل يجب أن يكون مُستعدٍّا دومًا لتلقي التقدير من رفاقه
«. سيدي، يبدو لي أن غرور العلم قد تملَّكك »
الغرور يا أوبير! دمَّر ماضيَّوانقضَّعلى حاضري، وبدَّد مستقبلي، وعندها سيكون »
مسموحًا لي أن أعيش في طي النسيان! يا لك مِن فتًى مسكين لا يفهم الأمور السامية التي
«؟ أكُرِّس لها فنِّي بالكامل! ألستَ سوى أداة في يدي
ليس بعد. سيد زخاريوس، لقد اعتززتُ أكثر من مرة بثنائك على » : فاستطرد أوبير
«. طريقة ضبطي للأجزاء البالغة الدقة في ساعات اليد وساعات الحائط
بلا شك يا أوبير؛ فأنتَ عامل ماهر من النوع الذي أحُبه؛ لكنَّك عندما تعمل تَعتقِد أن »
ما في يدك ليس سوى نُحاسوفِضة وذهب، ولا تفهم هذه المعادن التي تبثُّ فيها عبقريتي
«! الحياة، وتَجعلها تَنبضمثل اللحم الحي! بحيث لا تموت بموت أعمالك
ظل السيد زخاريوسصامتًا بعد هذه الكلمات، لكن أوُبير حاول الاستمرار في المحادثة.
حقٍّا يا سيدي، أنا أحُب أن أراك تعمل بلا توقُّف! ستكون مُستعدٍّا لمهرجان » : فقال
«. مؤسَّستنا؛ لأنني أرى أن العمل على هذه الساعة البلورية يتقدَّم على نحوٍ ممتاز
بلا شك يا أوبير، وسيكون شرفًا عظيمًا لي أن أتمكَّن من » : صاح الساعاتي العجوز
قَطعِ وتشكيل البلور على نحوٍ يُضاهي متانة الألماس! آه لقد أبلى لويس بيرجيم بلاءً حسنًا
«! في إتقان فنِّ قَطعِ الألماس، وهذا ما مكَّنني من صقل وثقب أصعب الأحجار
كان السيد زخاريوس يَحمل في يدَيه كثيرًا من أجزاء الساعات الصغيرة المصنوعة من
البلور المقطوع، وكانت مُتقَنة الصنع. كانت التروس ومَحاور الارتكاز وإطارات الساعات
كلها من المادة نفسها، وأظهر السيد زخاريوس مهارةً مُدهشة في أداء هذه المهمَّة البالغة
الصعوبة.

ألن يكون جيدًا رؤية هذه الساعة تَنبض أسفل غطائها » : ثم قال وقد احمرَّ وجهه
«؟ الشفاف، وأن نستطيع عد نبضات قلبها
أنا مُتأكِّد يا سيدي من أن دقاتها لن تتغيَّر ولو بمقدار ثانية » : فأجاب المتدرِّب الشاب
«. واحدة في السنة
لك أن تُراهن على هذا اليقين! ألم أضع فيها أصفى ما في قلبي؟ هل تتغيَّر دقات »
«؟ قلبي؟ قلبي أنا
لم يجرؤ أوبير على أن يرفع عينيه في وجه معلمه.
أخبرني بصراحة، ألم تَعتبرني رجلًا مجنونًا؟ ألا تعتقد أنني » : فقال العجوز بحزن
ينتابني أحيانًا حماقةٌ خطيرة؟ بلى، أليسكذلك؟ لقد رأيتُ نظرات الاستِهجان مرات عديدة
آهٍ! كم هو مؤلم أن يُسيء فهمَك أكثرُ » : ثم صاح كما لو كان يتألم «. في عينَي ابنتي وعينَيك
مَن تحب في هذا العالم! لكنني سوف أثُبت لك بنجاح يا أوبير أنني مُحِق! لا تهزَّ رأسك،
فلسوف يُفاجئك كلامي. في اليوم الذي ستُدرك فيه كيف تَسمعني وتفهمني، سوف ترى
«! أنني اكتشفتُ أسرار الوجود، أسرار الاتحاد الغامضبين الروح والجسد
في أثناء الحديث بهذه الطريقة بدا السيد زخاريوسمهيبًا في غروره؛ فقد لمعَت عيناه
ببريق غير طبيعي، وأضاء الغرور كل ملامحه. وفي حقيقة الأمر، لو كان من المُمكن أن
يكون الغرور مُبَرَّرًا لأحد، فسيكون ذلك الشخصهو السيد زخاريوس!
في الواقع، كان فن صناعة الساعات حتى وقت زخاريوس ما يزال في مَهدِه؛ فمنذ
أن اخترع أفلاطون، قبل أربعة قرون من الميلاد، الساعةَ الليلية التي تُشبه الساعة المائية،
والتي تُوضِّح ساعات الليل بصوت وعزف الناي، ظلَّ العلم ثابتًا تقريبًا. فلقد أَولى المُعلمون
الفنَّ اهتمامًا أكبر من اهتمامهم بالميكانيكا، وكانت هذه الفترة فترة الساعات الجميلة
المصنوعة من الحديد والنُّحاس والخشب والفِضة، والتي كانت كثيرة النقوش مثل إبريقَي
تشيلليني. لقد صنعوا تُحفًا من الحَفر على المعادن كانت تَقيس الزمن على نحوٍ غير
مضبوط، لكنها كانت تُحَفًا رغم ذلك. وعندما كان خيال الفنان غير موجَّه نحو إجادة
التشكيل، كان يَنطلِق نحو صناعة ساعات ذات أشكال مُتحرِّكة وأصوات عذبة جذَب
مظهرُها كلَّ الانتباه. بالإضافة إلى ذلك، من كان سيَشغل نفسه في تلك الأيام بضبط انقضاء
الزمن؟ إن التأجيلات القانونية لم تكن قد اختُرعت بعد، والعلوم الفيزيائية والفلكية لم
تكن بعدُ قد أسَّست حساباتها على قياسات مضبوطة بدقة، ولم تكن توجد مؤسسات تُغلِق
في ساعة معينة، ولم يكن يوجد قطارات تُغادر في لحظة معيَّنة. وفي المساء كان يدقُّ جرس

الحظر، بينما يُعلَن عن انقضاء الساعات في الليل وسط الصمت التام. من المؤكَّد أن الناس
لم يعيشوا وقتًا طويلًا، هذا لو قِسنا الوجود بكمِّ العمل المُنجَز؛ لكنهم عاشوا أفضل. لقد
أثرَوا عقولهم بالأفكار النبيلة التي نشأت عن تأمُّل التُّحَف الفنية. كانوا يَبنون الكنيسة
خلال قرنَين، وكان الرسام يَرسم صورًا قليلة على مدار حياته، وكان الشاعر يؤلِّف عملًا
عظيمًا وحيدًا فحسب؛ لكنها كلها كانت تُحَفًا فنية كثيرة تُقدِّرها الأجيال القادمة.
وأخيرًا، عندما بدأت العلوم الدقيقة تُحرِز بعض التقدُّم، بدأت صناعة ساعات اليد
وساعات الحائط تَحذو حذوها، على الرغم من أنها كان يُعرقِلها دائمًا صعوبة لا يمكن
التغلُّب عليها؛ ألا وهي القياس المنتظم والمُستمر للوقت.
ووسط هذا الركود اخترع السيد زخاريوس ميزان الساعة الذي مكَّنه من الحصول
على انتظامٍ حسابيٍّ من خلال إخضاع حركة البندول لقوة مُستديمة. لقد قلب هذا الاختراع
رأس العجوز. إن الغرور الذي ملأ قلبه مثلما يَملأ الزئبق الترمومتر، بلغ منزلة بالغة
الحماقة. وبالِمثل فقد سمحَ لنفسه بالانجذاب إلى استنتاجات مادية، وأثناء صُنعِ الساعات
تخيَّل أنه اكتشف أسرار الاتحاد بين الروح والجسد.
لذلك، عندما أدرك السيد زخاريوس في ذلك اليوم أن أوبير يَستمع له بانتباه، حدَّثه
بنبرة اقتناع محضقائلًا:
أتعلم يا بُني ما هي الحياة؟ هل فهمت عمل تلك الزنبركات التي تُنتج الوجود؟ هل »
فحصت نفسك؟ لا. ورغم ذلك لا بد أنك لاحظتَ، بعُيون العلم، العلاقة الوثيقة الموجودة بين
«. عمل الرب وعملي؛ لأنني حاكَيتُ ما خلَق كي أصنع تركيبات التروسالموجودة في ساعاتي
سيدي، هل تستطيع أن تُقارن آلة نحاسية أو فولاذية بنَفَس » : فأجاب أوبير في اهتمام
الرب، المُسمى الرُّوح، التي تُحرِّك أجسادنا مثلما يُحرِّك النسيم الأزهار؟ أي آلية يُمكن أن
«؟ تكون مضبوطة بدقة لدرجة أنها تلهمنا التفكير
فأجاب السيد زخاريوس برفق، وبكل عنادِ الرجل الأعمى الذي يسير نحو الهاوية:
ليسهذا هو السؤال، ومن أجل أن تَفهمني يجب أن تتذكَّر السبب الذي اخترعتُ من أجله »
ميزان الساعة. عندما رأيتُ عدم انتظام عمل الساعات، فهمتُ أن الحركة الكامنة داخلها
ليست كافية، وأن من الضروري إخضاعها لنظام قوة مُستقلة. ثم فكَّرت أنَّ ترس الميزان
قد يقوم بذلك، ونجحتُ في تنظيم الحركة! والآن، ألم تكن هذه الفكرة التي خطَرت لي فكرةً
سامية، فكرة أن أعيد لترسالميزان قوته المَفقودة من خلال عمل الساعة نفسها التي زُوِّدت
«؟ بالتنظيم

فأومأ أوبير بالموافقة.
انظر الآن يا أوبير إلى نفسك! ألا تدرك » : استطرد العجوز، وقد زاد حماسه، فقال
أن بداخلنا قوَّتين مميَّزتين، إحداهما الرُّوح والأخرى الجسد — أي إنهما الحركة والمُنظِّم؟
الرُّوح هي أساس الحياة؛ أي إنها الحركة. وسواء أكانت ناتجة عن وزن أم عن زنبرك أم
عن مؤثر غير مادي، فإنها تَكمُن في القلب. إلا أنه بدون الجسد ستكون هذه الحركة غير
مُتساوية وغير منتظمة ومستحيلة! ولذلك، فالجسم يُنظِّم الروح، وكما هو الحال مع ترس
الميزان، فهو خاضع لتذبذبات منتظمة. وهذا صحيحٌ للغاية لدرجة أن المرء يمرضعندما
يكون شرابه وطعامه ونومه ووظائف جسمه باختصارٍ غير منظَّمين على نحوٍ صحيح،
تمامًا كما هو الحال في الساعات عندما تمنح الرُّوحُ للجسد القوة التي فقَدها بسبب
تذبذُباته. حسنًا، ما الذي ينتج هذا الاتحاد الوثيق بين الروح والجسد غير ميزان رائع
تتداخَل من خلاله تروس أحدهما بالآخر؟ هذا ما اكتشفتُه وطبَّقتُه، ولم تعد توجد أيُّ
«. أسرار محجوبة عني في هذه الحياة، وهذه آلية عبقرية على أيِّ حال
بدا السيد زخاريوس مُنتشيًا بهذه الهلوسة التي أوصلته إلى أكبر ألغاز المُطلَق. إلا أن
ابنته جيراند التي كانت واقفة عند عتبة الباب سمعَت كلشيء. فاندفعت إلى ذراعَي والدها،
«؟ ما خطبُك يا بنيتي » : وضمَّها بقوة إلى صدره، وسألها
لو كان لديَّ زنبركٌ هنا، لما أحببتُك كما أحُبُّك » : فقالت وهي تَضع يدها على قلبها
«. يا أبي
فنظر السيد زخاريوس إلى جيراند في تركيز ولم يُجب. وأطلق صيحة فجأة، ووضع
يده بقوَّة على قلبه، وسقط مغشيٍّا عليه على كرسيِّه الجلدي القديم.
«؟ أبي ما الخطب »
«! النجدة! يا سكولاستيك » : فصاح أوبير
لكن سكولاستيك لم تَحضُر على الفور؛ فقد كان أحد الأشخاص يَطرق على الباب
الأمامي وذهبَت كي تفتحه، وعندما عادت إلى الورشة، وقبل أن تتمكَّن من أن تفتح فمها
كان الساعاتي العجوز قد استعاد وعيه، وقال:
أظنُّ أيتها العجوز سكولاستيك أنكِ أحضرتِ لي ساعة أخرى من هذه الساعات »
«. اللعينة التي توقَّفت
«! سيدي، هذا حقيقي » : فأجابتْه سكولاستيك وهي تناول الساعة إلى أوبير
«! قلبي لا يُمكن أن يخطئ » : فتنهَّد العجوز وقال
في هذه الأثناء أخَذ أوبير يلفُّ الساعة بحرصلكنها لم تتحرك
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.