إصراره على البقاء
قِيل لي إنَّ رجال المدينة الذين كانوا حاضِرين ظنُّوا أن الوسيط كان مُتنَكِّرًا في ثيابٍ غريبةٍ
لإدخال مزيدٍ من الانبهار على سكان الجزيرة، لكنَّهم نهضوا من مقاعِدِهم وصاحُوا في
ثم استداروا وفرُّوا هاربين من حجرةِ «! إنه جون نيوبجين! إنه جوني بالتأكيد » : إجماع
الدَّرس وهم يُطلِقُون صيحاتٍ مُوحِشَة، وقد تَمَلَّكَهم رعبٌ فِطريٌّ من رؤية الشَّبَح.
تقدَّم جون نيوبجين في هدوءٍ وأذْكَى شُعلةَ مِصباح الكيروسين الوحيد الذي كان يُلقِي
بضوءٍ متذبذبٍ على الجلسة. ثم جلسفي مقعدِ المُدرس، وعَقَد ذراعَيه ونظرَ حوله بلامُبالاة.
يُمكنكم أن تفُكُّوا قيْدَ الوسيطِ الرُّوحاني؛ فأنا » : وأخيرًا وبعد فترةٍ طويلةٍ أفصَحَ قائلًا
«. أنوي البقاء في الحالة المادية
وبالفعل بَقِي. وحين غادرت المجموعة مبنى المدرسة كان جون نيوبجين يَمشيبينهم
كإنسانٍ من لحمٍ ودمٍ مثلهم تمامًا. ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن وهو يعيش كأحد سكان
جزيرة بوكوك، يأكل ويشرب (ماءً فقط) ويَنام مثل البشر. قد يَعتقِدُ أصحاب اليخوت،
الذين أبحروا إلى مرفأ بار صباح اليوم التالي مباشرة، أنه مُحتالٌ استعانَ به السيد إي من
أجل تلك المناسبة، لكنَّ أهل بوكوك الذين جهَّزُوا جُثَّتَه للدفن وحفروا قبره ووضعوه فيه
منذُ أربعِ سنواتٍ يعرفون جيدًا أن جون نيوبجين قد عادَ لهم من أرضٍ لا يعلمون عنها
شيئًا.
عضو فريد في المجتمع
في بادئ الأمر لم تكن فكرة وجود شبح — وإن كان مُكَثَّفًا بعض الشيء أكثر من الشبح
التقليدي — كفرد في المجتمع من الأفكار السارَّةِ لسكان جزيرة بوكوك الذين يُناهزون
٣١١ شخصًا؛ بل إنَّهم حتى يومنا هذا ما زالوا يَستشعرون حساسيةً بعض الشيء تِجاه
هذا الموضوع؛ إذ لديهم إحساس قاطع بأن الأمر إنْ ذاع في الخارج، فقد يضرُّ بمبيعات
زيت البغروس الممتاز؛ مُنتَج الصناعة الوحيدة التي يعملون بها. هذا الإحجام عن إعلان
السر، بالإضافة إلى بطء هؤلاء البُلَدَاء الفاتِرِي الهمَّة الواقعيِّين في إدراك الأهمية الفائقة
للأمر، هو التفسير الذي يجب قَبوله لوجود روح جون نيوبجين على الأرضلمدَّةٍ تَرَاوَحت
بين ثلاثة وأربعة أشهر دون أن يَذيعَ أمر هذه الواقعة الفريدة عبرَ جميع أنحاء البلاد.
لكن أخيرًا أدرك أهل بوكوك أنه ليس من الضروري أن تكون الرُّوح شرِّيرة، ولمَّا
تقبَّلُوا وجوده كأمرٍ واقِعٍ بأسلوبهم المُتبَلِّد الذي لا يحكمه مَنطِق،صاروا ودُودِين مع السيد
نيوبجين وأحبُّوا مخالطته.
«؟ هل ثَمَّةَ دليلٌ كافٍ على أنه قد مات من الأساس » : أعلم أن سُؤالك الأول سيكون
ورَدِّي على هذا السؤال بِلا تردُّدٍ هو: نعم؛ فقد كان شخصية معروفة للغاية، وكثير من
الناس رأَوا الجثَّة بما لا يسمح بوجود أي خطأ من هذه الناحية. وأزيد على ذلك أنه في
مرحلةٍ ما كان ثَمَّةَ اقتراح بإخراج الرُّفات الأصلي من القبر، لكن ذلك الاقتراح نُبذ احترامًا
لرغبةِ السيد نيوبجين، الذي استشْعَر حساسيةً فطريَّةً تِجاه بعثرة أول مجموعة عظامٍ له
بداوفع فضولية بحتة.
حوار مع ميت
سيَسهل عليك أن تصدِّق أنني انتهزتُ الفرصة لرؤية جون نيوبجين والتحدُّث معه. وقد
وجدتُه لطيفًا بل وثرثارًا. إنه مُدرِك تمامًا لوضعه الغامض ككائن، لكن تَحْدُوه آمالٌ في
أن يصير هناك تشريع مُستقبلًا يُحَدِّد وضعَه ووضع أيِّ روحٍ قد تَتْبعه للعالم المادي على
نحوٍ صحيح. الأمر الوحيد الذي يَتكتَّم بشأنه هو تجربته خلال السنوات الأربع المُنصرمة
ما بين موته وظُهوره مُجدَّدًا في بوكوك. لنا أن نفتَرِض أن الذِّكرى ليست سعيدة؛ فهو لا
يتحدَّث عن هذه الفترة مُطلقًا. غير أنه يعتَرِفصراحةً أنه سعيد بالعودة إلى الأرض، وأنه
انتَهز أول فرصة ليتجَسَّد في شكلٍ مادي.
يقول السيد نيوبجين إنه نادِم أشدَّ الندمِ على السنوات الضائعة من حياته الماضية.
والحق أن سلوكه خلال الأشهر الثلاثة الماضية يُثبت أن نَدَمَه حقيقي؛ فقد نَبَذَ حُلَّته
الغريبة، وصار يرتدي ملابس تليق برُوحٍ مُتزنة. كما أنه لم يَلمَس الخمر منذ ظهوره
مجدَّدًا. وانخرط في تجارة زيت البغروس وتُنافس صفقاته صفقات هودجدون، شريكه
القديم في ماري إيميلين وباتيبوت. بالمناسبة، يُهدِّدُ نيوبجين بمقاضاةِ هودجدون للحصول
على نَصِيبِه كاملًا غير مَنقُوص في كلا القارِبَين؛ ومن ثَمَّ يُرجَّحُ أن تحظَى هذه القضية
المُثيرة للاهتمام بتحقيقٍ شاملٍ في المحاكم.
إنه يَلقى احترامًا بوجهٍ عامٍّ كرجل أعمال. وإن كان ثَمَّةَ إحجام ملحوظ عن إعطائه
قروضًا طويلةَ الأجل. إيجازًا، إنَّ السيد جون نيوبجين مُواطن يحظَى ببالغِ الاحترامِ (إن
كان يُمكِنُ لرجلٍ ميتٍ أن يكون مُواطنًا)؛ حتَّى إنه أعلن عن نيَّتِه الترشُّح في انتخابات
المجلس التشريعي القادمة!
خلاصة القول
والآن يا عزيزي، لقد أخبرتُكَ بخلاصة كلِّ ما أعرِفُه فيما يخصُّ هذه القضية الشديدة
الغرابة؛ لكن لمَ هي غريبة على أيِّ حال؟ لقد صدَّقْنَا تجسُّد الأرواح في تشيتيندين، فهل
نحتاجُ إلىشيءٍ آخرَ غير المنطقِ لتصديقِ هذا الأمر؟ إن كان للروح أن تعود إلى الأرضوقد
اكتَسَتْ باللحم وجرَتْ في عروقها الدماء واكتسبت كلَّ صفات البشر المادية، فلِمَ لا تظلُّ
على الأرضما دامت ترى ذلك مناسبًا؟
عند التفكير في الأمر من أي منظور، لا يَسَعُني إلا النظر إلى جون نيوبجين كرائد
لموجة هجرةٍ كُبرى مُحتملة من عالم الأرواح؛ فبمجرَّد أن تزول العقبات، سيتقاطَر سِربٌ
كامل عائدين إلى الأرض. وحين أفكر في الارتباك الذي سيطرأ على علاقاتنا الاجتماعية جرَّاء
ذلك، وسقوط كلِّ المؤسسات المسلَّم بها، وإبطال كل مبادئ الاقتصاد السياسي والقانون
والدين، أجدُ نفسي ضائعًا في لُجَّةٍ من الحَيرة والخوف