في الصباح التالي عرف هولرويد أنهم على بعد أربعين كيلومترًا من باداما، وزاد اهتمامه
بالضفاف. كان يصعد لأعلى السفينة كلما سنحت له الفرصة لتفقُّد ما حوله، ولم يستطع
أن يرى أي علامات استيطان بشري، باستثناء حُطام أحد المنازل الذي يعجُّ بالنباتات
وواجهة خضراء اللون لدَير مهجور منذ أمد طويل في موجو، وشجرة غابة مطلة من فضاء
نافذته الخالية، والكثير من النباتات المتسلقة التي تغطي بواباته الخالية. وعبَر النهر في
ذلك الصباح أسرابٌ عديدة من الفراشات الصفراء الغريبة ذات الأجنحة شبه الشفافة،
وهبط الكثير منها على السفينة، وقتلها الرجال. وقُرب العصروجدوا قاربًا كبيرًا مهجورًا
.« كوبرتا » من نوع قوارب الكانو المغطاة، التي تُسمى
لم يبدُ مهجورًا في بادئ الأمر؛ إذ كان الشراعان مفرودَين ومعلقَين في ارتخاء، في هدوء
فترة ما بعد الظهيرة. وكان يبدو أن ثمَّة شخصًا جالسًا على أرضية القارب صوب المقدمة
بجوار المجاديف المثبَّتة في مسندها. وبدا رجل آخر نائمًا ووجهه لأسفل بمحاذاة الجسر
الطولي الموجود في منتصف هذه القوارب الكبيرة. إلا أنه كان واضحًا على الفور، من تأرجح
الدفة وانحرافها نحو مسار السفينة الحربية، أن الأمور لم تكن على ما يُرام. فحصجيريلو
ذلك القارب بالِمنظار الميداني، وأصبح مهتمٍّا بالسُّمرة الغريبة في وجه الرجل الجالس، لقد
بدا رجلًا أحمر الوجه، بلا أنف. كان مقرفِصًا وليس جالسًا، وكلما أطال القبطان النظر
إليه قلَّت رغبته في النظر إليه، وقلَّت قدرته على إشاحة المنظار.
لكنه فعل ذلك أخيرًا، وابتعد قليلًا لينادي هولرويد. ثم عاد لمناداة قارب الكوبرتا،
وناداه مرة أخرى؛ بينما القارب يتجه نحوه. بدا اسم القارب واضحًا؛ إذ كان اسمه
.« سانتا روزا »
وما إن اقترب القارب من أثر سير السفينة الحربية في الماء حتى أخذ يَمور قليلًا،
وفجأة سقطت جثةُ الرجل المقرفِصكما لو كانت مفاصله قد تآكلت، وسقطت قبعتُه، ولم
يكن شكل رأسه بالمنظر الحسن، وتدلى جسمه في ارتخاء، وتدحرج بعيدًا عن النظر خلف
جدار القارب.
ولجأ إلى هولرويد على الفور. «! اللعنة » : صاح جيريلو
«؟ هل رأيت ذلك » : كان هولرويد في منتصف سلم السفينة الداخلي. فقال له القبطان
«. إنه ميت! حقٍّا. من الأفضل أن ترسل قاربًا إلى جواره. ثمة خطأ ما » : فقال هولرويد
«؟ هل حدث أن رأيت وجهه »
«؟ كيف كان يبدو »
وفجأة تجاهل القبطان هولرويد، وأصبح «. لقد كان … آه! ليس لدي كلمات لوصفه »
قائدًا نشطًا وقاسيًا.
غيرت السفينة الحربية مسارها، وسارت موازيةً للمسار المنحرف لقارب الكانو،
وأسقطتْ قاربًا يحمل على متنه الملازم دا كونيا وثلاثة بحارة. ثم دفع الفضول القبطان إلى
التحرك ناحية القارب، عندما أصبح الملازم على متنه؛ كي يصبح كل ما على ظهر وباطن
مرئيٍّا لهولرويد. « سانتا روزا » القارب
رأى الآن بوضوح أن طاقم هذا القارب كان مكونًا فقط من هذين الرجلين الميتين،
وعلى الرغم من أنه لم يستطع رؤية وجهيهما فقد رأى من أيديهما الممدودة، التي كانت
عبارة عن لحم مهترئ، أنهما تعرَّضا لنوع غريب واستثنائي من عمليات التحلل. وللحظة
ظل تركيزه منصبٍّا على كتلتَي الملابس القذرة والأطراف المطروحة في تمدد على نحو محير،
ثم وجَّه نظره صوب مقدمة القارب ليكتشف ما بداخل القارب المفتوح المتراكم فيه عاليًا
صناديق وخزائن، ثمصوَّب نظره نحو مؤخرة القارب حيث كانت القمرة الصغيرة مفتوحة
وخالية على نحو لا يفسَّر. ثم أدرك أن مجاديف الجزء الأوسط من ظهر القارب تعجُّ بنقاط
سوداء متحركة.
جذبت انتباهَه تلك النقاط. لقد كانت تلك النقاط كلها تسير في اتجاهات نابعة من
الرجل الملقى على الأرض، على نحو يشبه الحشد المتفرق من مصارعة الثيران؛ هكذا جاءت
الصورة إلى ذهنه دون أن يستحضرها.
أيها القائد، هل معك مِنظارك؟ هل يمكنك أن » : أدرك وجود جيريلو بجواره فقال
«؟ تسلِّطه قريبًا على تلك المجاديف
حاول جيريلو، وزمجر وسلَّم له المنظار.
وأعقب ذلك لحظة من الفحص، ثم قال الرجل الإنجليزي وهو يعيد المنظار الميداني
«. إنه النمل » : المركَّز إلى جيريلو
كان انطباعه عنه أنه حشد من النمل الأسود الكبير، شديد الشبه بالنمل العادي فيما
عدا الحجم، وأن بعضهذا النمل الأكبر حجمًا كان يحمل ما يشبه السترة الرَّمادية. إلا أن
فحصه للنمل في ذلك الوقت استغرق وقتًا وجيزًا لا يمكِّنه من التقاط التفاصيل. فقد أطل
الملازم دا كونيا برأسه من جانب القارب كوبرتا، وأعقب ذلك حوار قصير.
«. لا بد أن تصعد على سطح القارب » : فقال جيريلو
فاعترضالملازم بحُجة أن القارب يعج بالنمل.
«. أنت ترتدي حذاءً طويل العنق » : فقال جيريلو
«؟ كيف مات هذان الرجلان » : فغير الملازم الموضوع وسأله
بدأ القائد جيريلو في إصدار تخمينات لم يستطع هولرويد مواكبتها، وتناقشالرجلان
بحدَّة متزايدة نوعًا ما. والتقط هولرويد المنظار الميداني واستأنف الفحص؛ فبدأ بفحص
النمل، ثم فحصالرجل الميت وسط القارب.
لقد وصف لي هذا النمل بالتفصيل الدقيق.
قال إن هذا النمل في حجم أي نمل رآه من قبل، وأسود، ويتحرك ببطء ثابت مختلف
جدٍّا عن الدقة الميكانيكية التي تميز النمل العادي. وكانت نملة واحدة من بين عشرين
نملة أكبر حجمًا من أقرانها، وحجم رأسها كبير على نحو استثنائي. ذكَّره ذلك على الفور
بكبار الشغالات التي يُعتقد أنها تَحكم النمل قاطع الأوراق؛ إذ يبدو أن هذا النمل، مثلها،
يُوجِّه ويُنسِّق الحركات العامة. لقد أمال أجساده على نحو فريد تمامًا كما لو كان يستخدم
أقدامه الأمامية. وراوده تخيل غريب كان أبعد من أن يُثبِته؛ حيث اعتقد أن كِلا نوعَي
النمل يرتدي عتادًا؛ فكلاهما لديه أشياء مربوطة حول أجساده بأشرطة بيضاء برَّاقة تشبه
الخيوط المعدِنية البيضاء …
وضع المنظار فجأة، مُدركًا أن مسألة الانضباط بين القائد ومرءوسه أصبحت متأزمة.
«. من واجبك أن تصعد على متن القارب، هذه تعليماتي » : قال القبطان
كان الملازم على وشك الرفض. وظهر بجانبه رأس أحد البحارة المهجَّنين الداكني
البشرة.
«. أعتقد أن النمل قتَل هذين الرجلين » : فقال هولرويد فجأة بالإنجليزية
فاستشاط القبطان غضبًا؛ ولم يردَّ على هولرويد. وصاح في مرءوسه بالبرتغالية:
لقد أمرتك أن تصعد على متن القارب، وإن لم تصعد على متنه فورًا فهذا يُعد تمردًا؛ »
تمردًا تامٍّا. تمردًا وجُبنًا! أين هي الشجاعة التي يجب أن تحرِّكنا؟ سوف أوُثقك بالأغلال،
وبدأ يقصفه بوابل من الإهانات والسِّباب، وأخذ «. سوف أطُلق عليك النار، كما لو كنت كلبًا
يتحرك جيئةً وذَهابًا. وهز قبضتيه، كان يتصرف كما لو كان غير قادر على التحكم في
نفسه من شدة الغضب، ووقف الملازم شاحبًا وثابتًا ينظر إليه. وظهر الطاقم في المقدمة
والدهشة تعتلي وجوههم.
وفجأة في لحظة توقفٍ لهذا الغضب، توصل الملازم إلى قرار بطولي؛ حيث قدم التحية
واستجمع قواه وصعد على متن قارب الكوبرتا.
ثم أغلق فمه مثل الفخ. رأى هولرويد النمل يتراجع أمام حذاء «! آه » : فقال جيريلو
دا كونيا. وسار البرتغالي ببطء نحو الرجل الملقى على الأرض، وانحنى في تردد، وأمسك
مِعطفه، وقَلَبَه. فاندفع من ملابس الرجل سرب نمل أسود، وتراجع دا كونيا سريعًا جدٍّا،
وداس النمل بقدمه مرتين أو ثلاث مرات.
التقط هولرويد المنظار، ورأى النمل المتناثر حول قدم الغازي؛ رآه النمل يفعل أمرًا
لم يرَ نملًا يفعله من قبلُ؛ فلم يكن هذا النمل يتصرف بحركات عمياء مثل النمل العاديِّ؛
بل كان ينظر إليه مثلما ينظر حشد مندفع من الرجال إلى وحش عملاق فرَّق جمعهم.
«؟ كيف مات » : فصاح القبطان
فهم هولرويد أن الملازم البرتغالي يقول إن الجثة متآكلة على نحو يَحول دون معرفة
السبب.
«؟ ما الذي يوجَد في المقدمة » : فتساءل جيريلو
سار الملازم بضع خطوات، وبدأ يجيب بالبرتغالية. ثم توقف فجأة، وأزاح شيئًا عن
رِجله. وأخذ بعض الخطوات الغريبة، كما لو كان يحاول أن يدوس على شيء خفي،
وذهب سريعًا إلى جانب القارب، ثم تمالك نفسه، والتفت وسار بتمهل للأمام نحو مخزن
البضائع، وصعد إلى سطح السفينة الأمامي الذي تعمل منه المجاديف، ومال لبعضالوقت
على الرجل الثاني، ثم زمجر بصوت مسموع، وتراجع للمؤخرة، ومنها إلى القُمرة، وهو
يتحرك في تصلب شديد. والتفت ليبدأ حوارًا مع القبطان بنبرة فاترة ومحترمة من كلا
الطرفين، على نحو يتناقض بوضوح مع الغضب والإهانة اللذَين سادا اللحظات القليلة
السابقة. ولم يفهم هولرويد إلا القليل من معنى هذه المحادثة.
توجَّه إلى المنظار، وتفاجأ بأن النمل اختفى من كل الأسطح المكشوفة على سطح
القارب. وتوجهصوب الظلال الموجودة أسفل ظهر القارب، وبدت له تعج بالعيون المراقِبة.
كان من المتفق عليه أن قارب الكوبرتا مهجور، لكنه كان يعجُّ بالنمل على نحو يَحول
دون إرسال رجال على ظهره للجلوسوالنوم، فكان لا بد من جرِّه. توجَّه الملازم إلى المقدمة
لأخذ الحبل وضبطه، ووقف الرجال في القارب على استعداد لمساعدته. وبحث هولرويد
بالمنظار عن قارب الكانو.
تزايد إعجابه بالنشاط العظيم الدقيق، وسرِّي الطابع، الذي يحدث. وأدرك أن عددًا
من النمل الذي يبلغ طوله بضع بوصات تقريبًا، يحمل أحمالًا غريبة الشكل، لا يستطيع
تصور الغرضالذي تُستخدم من أجله، ويتحرك في اندفاع من جهة مجهولة إلى أخرى. لم
يكن النمل يتحرك في طوابير عبر الأماكن المكشوفة بل في صفوف بينها مسافات، على نحو
يوحي بغرابة اندفاع قوات المشاة الحالية التي تتقدم في ظل إطلاق النيران عليها. وكان
عدد من النمل يستتر تحت ملابس الرجل الميت، بينما تجمَّع سرب مثالي على الفور على
طول الجانب الذي يجب أن يذهب إليه دا كونيا.
لم يرَ فعليٍّا أن النمل يندفع صوب الملازم عند عودته، لكن لم يكن لديه شك في
لقد » : أنه اندفع اندفاعًا متعمدًا. وفجأة صاح الملازم وأخذ يسب ويضرب رجليه قائلًا
صاح وقد ارتسم على وجهه الكراهية والاتهام تجاه جيريلو. «! لدغوني
ثم اختفى وراء الجانب، وسقط في قاربه، وقفز على الفور في الماء. وسمع هولرويد
صوت ارتطامه بالماء.
سحبه الرجال الثلاثة الموجودون في السفينة من الماء، وأعادوه على ظهرها، وفي تلك
الليلة مات.
خرج هولرويد والقبطان من القمرة التي يرقد بها جسد الملازم المتورِّم والمشوَّه،
ووقفا معًا عند مؤخرة السفينة يحدقان في القارب المشئوم الذي يجرونه خلفهم. كانت
الليلة ظلماء سيئة لا ينيرها إلا طيف ومضات من برق يغطي الأفق. كان قارب الكوبرتا،
الذي بدا كمثلث أسود غامض، يتأرجح في عُباب السفينة، وكانت أشرعته تهتز وترفرف،
وكان الدخَان الأسود المنبعث من المداخن التي يضيئها الشرار مِرارًا وتَكرارًا، يحوم حول
صواريه المتأرجحة.
ذهب ذهن جيريلو إلى التفكير في الأشياء القاسية التي قالها الملازم في أوج حُمَّته
الأخيرة.
لقد قال إنني قتلتُه. هذا مجرد سخف. كان لا بد من صعود أحد الأشخاص » : فقال
«؟ على متن القارب. هل سنهرب من هذا النمل اللعين في كل مرة يظهر لنا
لم يقلْ هولرويد شيئًا. كان يفكر في اندفاع منضبط من جانب تلك الأشكال السوداء
الصغيرة على ظهر السفينة الخشبي المكشوف الذي تضيئه الشمس.
كان لزامًا أن يذهب إلى هذا المكان. لقد مات أثناء تأدية واجبه. » : واستطرد جيريلو
ما الذي كان يشكو منه؟ القتل! … لكن المسكين كان — ماذا يمكنني أن أقول — لقد كان
«. مجنونًا. لم يكن عقله في حالة سليمة. لقد جعله السم متورمًا … آه
وصمتا لفترة طويلة.
«. سوف نُغرق ذلك القارب … سوف نُحرقه »
«؟ وماذا بعد »
تضايق جيريلو من هذا التساؤل، فرفع كتفَيه لأعلى، وبسط يديه على جانبَيْ جسمه،
«؟ المرء « يفعله » ما الشيء الذي يُفترضأن » : وقال — وقد بدأت نبرة الغضب تعلو فيصوته
على أية حال، سوف أحُرق كل نملة في قارب » : فقال بلهجة تملؤها الرغبة في الانتقام
«! الكوبرتا! سوف أحُرقها حية
لم يتأثر هولرويد بالمحادثة. وشقصمتُ هذا الليل القائظ الحرارةصوت عَويل بعيد،
صادر عن بعض القردة التي كانت تصيح؛ فسادت هذه الأصوات المشئومة أجواء المكان.
ومع اقتراب السفينة الحربية من الضفاف السوداء الغامضة زاد نقيق الضفادع المُقبِض
تلك الأجواءَ سوءًا.
«؟ ما الشيء الذي يُفترضأن يفعله المرء » : بعد فترة توقف طويلة كرر القبطان سؤاله
دون « سانتا روزا » وفجأة أصبح متهيجًا ومتوحشًا، وأخذ يسبُّ، وقرر أن يُحرق قارب
إبطاء. سرَت الفكرة في كل من كان على متن السفينة، وساعده الجميع بحماس؛ فسحبوا
الحبل وقطعوه، وألقَوا القارب، وأشعلوا فيه النار بالفتيل والكيروسين. وعلى الفور أصبح
قارب الكوبرتا يطقطق ويتوهج، على نحو باعث للبهجة، وسط فضاء الليل الاستوائي
الشاسع. وراقب هولرويد تصاعد الوهج الأصفر في الظلمة، وومضات البرق الغاضب الذي
يملأ الأفق، التي تأتي وتروح فوق قمم الغابة؛ فتجعلها تبدو مثل الظلال للحظات. ووقف
خلفه عامل المحرك البخاري يراقب ذلك أيضًا.
لقد » : أثار الموقفُ عاملَ المحرك البخاري لدرجة جعلتْه يشحَذ قدراته اللُّغوية ليقول
وضحك بقوة. «! انفجر نمل الساوبا. رائع
لكن هولرويد كان يعتقد أن هذه المخلوقات الصغيرة الموجودة على متن قارب الكانو
هي أيضًا لديها عيون وعقول.
ما الشيء الذي كان يُفترضأن » شعر بأن الأمر برُمَّته في غاية الحماقة والزلل، لكن
عاد هذا السؤال بقوة هائلة في اليوم التالي، عندما وصلت السفينة الحربية «؟ يفعلَه المرء
إلى باداما أخيرًا.
كان ذلك المكان ذو المنازل والمخازن التي تغطي أوراقُ الأشجار سقوفَها، ومصنع
السكر الذي تسللت إليه النباتات المعترِشة، والمرفأ المصنوع من الخشب والخيزران؛ هادئًا
للغاية في هذا الصباح الحارِّ، ولم يُظهر أيَّ أمارة على وجود أحياء. ولم يكن ممكنًا رؤية
أيِّ نمل في هذا المكان من هذه المسافة نظرًا لصغر حجمه.
لقد ذهب كل الأشخاص، لكننا سنفعل أمرًا واحدًا على أية حال. سوف » : وقال جيريلو
«. نَصيح ونصفِّر
لذلك صاح هولرويد وصفَّر.
ثمة أمر واحد يمكن » : ثم انتابت القبطانَ نوبةُ شك من أسوأ النوبات، فقال على الفور
«؟ ما هو » : فقال هولرويد «. أن نفعلَه
«. نَصيح ونصفِّر مرة أخرى » : قال
ففعلا ذلك.
سار القبطان على ظهر السفينة، وأخذ يُصدر لنفسه بعض الإيماءات. كان يبدو أن
رأسه يدور به الكثير من الأمور. وخرج من بين شفتيه بعض الكلام، وبدا كأنه يخاطب
محكمة عامة متخيَّلة، إما بالإسبانية أو بالبرتغالية. والتقطت أذن هولرويد، التي تزايدت
دقتها في السمع، بعضَ الكلام المتعلق بالذخيرة. ثم أفاق القبطان من هذه الأمور التي
واختتم كلامه قائلًا: «. عزيزي هولرويد » : تشغل ذهنه، وصاح فجأة بالإنجليزية قائلًا
«؟ لكن ما الشيء الذي كان يُفترضأن يفعله المرء »
أخذا القارب والمنظار الميداني، واقتربا لفحص المكان، ورأيا عددًا من النمل مجتمعًا
على حافَة مرفأ الركوب البدائي، وأثَّر فيهما وضعيات ثبات النمل. وحاول جيريلو إطلاق
طلقات غير فعالة من مسدسه على هذا النمل. اعتقد هولرويد أنه رأى أعمال حفر غريبة
بين المنازل الأقرب، قد تكون من صُنع هذه الحشرات التي غزت هذه البيئات البشرية.
وجدَّف المستكشفان، مرورًا بالمرفأ، ليَريا هيكلًا عظميٍّا بشريٍّا جاثمًا يرتدي مِئزرًا. كان
الهيكل فاتحَ اللون ونظيفًا ولامعًا. وتوقفا ليبحثا هذا الأمر …
«. لا بد أن آخذ كل هذه الأرواح بعين الاعتبار » : فقال جيريلو فجأة
فالتفت هولرويد وحدق في القبطان، وأدرك ببطء أنه يشير إلى هذا المزيج العِرقي غير
الجذاب، الذي يتكون منه طاقم السفينة.
من المستحيل أن أرُسلهم للهبوط هنا. هذا مستحيل … مستحيل. سوف يتسممون، »
ويتورمون، وسوف يسبُّونني ويموتون. هذا مستحيل تمامًا … إذا هبطنا، فلا بد أن أهبط
وحدي، أجلْ وحدي، وأنا أرتدي حذاءً سميكًا طويل العنق وسأخاطر بنفسي، ربما أحيا،
«. أو من الممكن ألَّا أهبط. أنا لا أعلم، لا أعلم
اعتقد هولرويد أنه قال ذلك، لكنه لم يقلْ شيئًا.
«! الأمر برُمَّته يجعلني أبدو سخيفًا. الأمر برُمَّته » : وقال جيريلو فجأة
جدَّفا وهما ينظران إلى الهيكل الأبيضالنظيف من زوايا عديدة، ثم عادا إلى السفينة
الحربية. وبعد ذلك أصاب جيريلو تردُّد شديد، فسارت السفينة على نحو أسرع. وبعد
الظهيرة، وصلت إلى النهر، كما لو كانت في طريقها لإنجاز مهمة محددة. وفي الغروب
عادت مرة أخرى ورسَت. وتجمعت عاصفة رَعدية وضربت بقوة، ثم أصبح الليل باردًا
باعتدال، وهادئًا وجميلًا. نام الجميع على ظهر السفينة، أما جيريلو فقط فقد ظل يتحرك
جيئةً وذهابًا، ويُهمهِم. وفي الفجر أيقظ هولرويد.
«؟ سيدي! ما الخَطب الآن » : قال هولرويد
«. لقد اتخذتُ قراري » : قال القبطان
«؟ ماذا؟ قررتَ الهبوط » : فقال هولرويد وقد اعتدل في جلسته
فبدت «… لا، لقد قررتُ » : قالها القبطان وهو متحفظ جدٍّا لوهلة، ثم أعاد قائلًا «. لا»
على هولرويد أعراضنَفاد الصبر.
«! حسنًا، نعم، سوف أطُلق الرصاصمن الِمدفع الكبير » : قال القبطان
وفعل ذلك! السماء وحدَها تعلم كيف وجد النمل هذا الأمر، لكنه فعله حقٍّا. لقد أطلق
الِمدفع مرتين بحزم واحتفاء شديدَين. وضع كل أفراد الطاقم حشوة في آذانهم، وبدا الأمر
كله كما لو كانوا في حالة حرب، وفي بادئ الأمر أصابوا ودمروا مصنع السكر القديم، ثم
حطموا المخزن المهجور الموجود خلف المرفأ. وبعد ذلك واجه جيريلو النتيجة الحتمية.
لا جدوى، لا جدوى على الإطلاق. يجب أن نعود … لتلقِّي » : فقال مخاطبًا هولرويد
أنت لا تعلم «! مشكلة كبيرة » ! التعليمات. ستحدث مشكلة كبيرة بسبب الذخيرة … أوه
«… يا هولرويد
ووقف يُحدِّق في الأفق لفترة في حَيرة بالغة.
«؟ لكن ماذا كان في وسعنا غير ذلك لنفعله » : وبعدها صاح قائلًا
بعد الظهيرة، تحركت السفينة في اتجاه النهر مرة أخرى، وفي المساء نزل بعضأفراد
الطاقم ومعهم جثة الملازم، ودفنوه على الضفة التي لم يظهر عليها النمل الجديد حتى
الآن …
سمعتُ هذه القصة على نحو متقطع من هولرويد منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع.
تحذير الناس منه » لقد استبدَّ بتفكيره هذا النمل الجديد، وعاد إلى إنجلترا بفكرة
على حد قوله. وقال إن النمل يهدد غيانا البريطانية التي لا تبعد عن ،« قبل فوات الأوان
نطاق عملهم الحالي بمقدار يزيد عن ألف ميل، وإنه لزامًا على وزارة المستعمرات النهوض
هذا النمل ذكي. فكروا فحسب في » : للتعامل مع النمل على الفور. وصاح بحماس شديد
«! معنى ذلك
لا يمكن أن يكون ثمة شك في أنه آفة خطيرة، وقد أصابت الحكومةُ البرازيلية، وأظهرت
نوعًا من الحكمة، عندما عرضت مكافأة قدرها خمسمائة جنيه إسترليني نظير طريقة إبادة
فعالة لهذه الحشرات. ومن المؤكد أيضًا أنه منذ ظهور هذه الحشرات لأول مرة في التلال
الموجودة خارج حدود باداما منذ نحو ثلاث سنوات حققت انتصارات هائلة؛ فلقد احتلوا
فعليٍّا كامل الضفة الجنوبية لنهر باتيمو التي تمتد لقرابة ستة أميال، لقد طردوا البشر
منها تمامًا، واحتلوا المزارع والمستوطنات، واعتلَوْا ظهر سفينة واحدة على الأقل واحتلوها.
ويُقال أيضًا إنهم عبَروا — على نحو لا يمكن تفسيره — فرع كابوارانا الشاسع المساحة،
وتقدموا لأميال عديدة صوب غابات الأمازون نفسها. ولا شك في أن هذا النمل أكثر عقلانية
وأفضل تنظيمًا اجتماعيٍّا من أي فصيلة أخرى من النمل عُرفت في السابق؛ فبدلًا من
التشرذم في مجتمعات متناثرة، هذا النمل منظم فعليٍّا في أمة واحدة؛ بَيْد أن أكثر الجوانب
الخاصة ترويعًا في هذا النمل لا تكمن في ذلك بقدر ما تكمن في استخدامه الذكي للسم
ضد أعدائه الأكبر حجمًا. يبدو أن سم هذا النمل شديد الشبه بسمِّ الثعبان، ومن المحتمل
جدٍّا أنه يصنعه فعليٍّا، وأن النمل الأكبر حجمًا بينه يحمل بلورات السم الشبيهة بالإبرة في
هجماته على البشر.
بطبيعة الحال من الصعوبة البالغة الحصول على أي معلومات تفصيلية حول هذا
المنافسالجديد الذي يزاحم على سيادة الكوكب؛ فلا يوجد شاهد عِيان على نشاطه ظل على
قيد الحياة بعد مقابلته له، باستثناء تلميحات مثل تلميحات هولرويد. وفي مِنطقة جنوب
الأمازون تَشيع أساطير مذهلة عن براعته وقدرته، وتزداد يوميٍّا حيث يغذي التقدم المستمر
لهذا الغازي خيال الناس نتيجة مخاوفهم. ومعروف عن هذه الكائنات الصغيرة الغريبة
استخدامها للأدوات، ومعرفتها بالنار والمعادن، بالإضافة إلى المهارات الهندسية المنظمة
التي تدهش عقولنا نحن أهل الشمال؛ فنحن غير معتادين على مهارات مثل تلك التي
أظهرها نمل ساوبا (أو النمل قاطع الأوراق) في ريو دي جانيرو عام ١٨٧٤ ، عندما حفر
نفقًا أسفل سطح نهر بارايبا، بلغ عرضه عرضنهر التايمز عند جسرلندن، بالإضافة إلى
طريقته المنظمة والمفصَّلة في التخطيط والتواصل كما لو كان يتبع كتابًا أو كتالوجًا. وحتى
الآن هو ينتهج الاستيطان التقدمي المستمر، بما ينطوي عليه من قتال أو قتل كل بشر في
مناطقه الجديدة التي يغزوها. إن أعداده تتزايدسريعًا، وهولرويد على الأقل مقتنع اقتناعًا
راسخًا أنه في نهاية الأمر سينتزع من بني البشرحكم أمريكا الجنوبية الاستوائية بأكملها.
وما الذي يَفرضعلى هذا النمل التوقف عند أمريكا الجنوبية الاستوائية؟
حسنًا، هذا هو مكانه حاليٍّا على أية حال. وبحلول عام ١٩١١ أو نحو ذلك، إذا استمر
في التقدم بنفس المعدل الحالي فسيبلغ امتداد سكك حديد كابوارانا، ويستولي عَنوة على
اهتمام أوروبا الرأسمالية.
وبحلول عام ١٩٢٠ سيكون قد وصل إلى منتصف غابات الأمازون. وأعتقد أنه بحلول
عام ١٩٥٠ أو عام ١٩٦٠ على الأكثر سيكون قد اكتشف أوروبا