ماتوا شهداء
رغمَ صغر سنِّ إسماعيلَ أكبر أبناء محمّدٍ فإنّه كان أحدَ القادة البارعين ضدّ نظام الاحتلال الظالم، وقد تدرّب على يد أبيه وجدّه الشهيد على فنون القتال بالسيف والرمح، وعلى الرمي بالرصاص بدقّةٍ عاليةٍ، وعُرِفَ بحنكته وذكائه، وهذا كلُّه جعلَ منه قائداً متميّزاً يضع الخطط الاستراتيجيّة ليعيق حركة العدوّ، سواءٌ في ساحة القتال أم في الهجمات المفاجئة على وطنه. ومع كلّ تلك السمات والقدرات لم يستطع أن يمنع مشيئة القدر عندما أراد لإخوته الخمسة الاستشهادَ رغم صغر سنّهم.
فأخوه عثمانُ الذي لم يتجاوز السابعة عشر من عمره كان يملؤه الشغف والطموح لإنجاح الثورة التي قامت لوقف القهر والاستعباد، وكانت لديه غيرةٌ قويّةٌ على دينه، وحبٌّ جمٌّ لأرضه ووطنه، واتّسمَ بأنّه سريعُ البديهة وسريعُ الحركة لدرجة أنّه لم يستطع أحدٌ من إخوته أو أصدقائه اللّحاقَ به، خصوصاً مجاراته في المبارزة وتسلّق الجبال وإطلاق النار من مسافةٍ بعيدةٍ. لكنّه كان سريعَ الغضب، وهذا ما جعله في بعض الأحيان يرتكب حماقاتٍ من غير قصدٍ، ولا سيَّما تسرّعه حين رأى أحد أصدقائه يقعُ أرضاً في المعركة، إذْ كانت مهمّتُه هو وإخوته سليمان وداوود وأيّوب وموسى أن يقنصوا العدوّ من بعيدٍ لكي يعيقوا حركة تقدّمه، فلم يتحمّلْ منظرَ سقوط صديقه حمزة، فركض مسرعاً لإنقاذه، ووثب على العدوّ، فأسقطه أرضاً، وطعنه عدّةَ طعناتٍ في صدره حتّى أرداهُ قتيلاً. وفي تلك اللّحظة تخلّى إخوتُه الصغارُ كذلك عن مواقعهم، ونزلوا إلى ساحة القتال، ولكنْ للأسف، لصغر أجسادهم وأعمارهم وخبراتهم في ساحة القتال استشهدوا جميعهم؛ إذ اجتمعَ عليهم جنودُ العدوّ من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وراحوا يرمونهم بالرصاص حتّى امتلأت أجسادهم به.
حاول عثمانُ أن ينقذ إخوته، ولكنْ هيهات! سبقَ السيفُ العذلَ. فعند محاولته إنقاذ أصغر إخوته موسى الذي لم يكن قد تجاوزَ أعوامَهُ العشرةَ، تلقّى إحدى عشرة رصاصةً طرحَتْهُ أرضاً، فارتمى جسدُهُ بجوار جثامين إخوته وأصدقائه ومَنْ مات معهم من الشهداء فداءً لوقف قمع دينهم.
في خضمِّ المعركة، وقد حميَ الوطيسُ وعَلا صوتُ البنادق التي كان العدوّ الغاشم أوّلَ مَنْ صنعَها، ظلَّ محمّدٌ وابناه إسماعيل وعبد الإله يبحثون عن عثمانَ وباقي إخوته عندما لم يجدوهم في مواقع إطلاق النيران عن بعدٍ على الأعداء، فإذا بجثمانِ حمزةَ يتراءى لإسماعيلَ، ومن ثمّ رأى أخاه عثمانَ مضرّجاً بالدماء وقد امتلأ جسده بالرصاص، فأتى إليه مسرعاً وقال له: "اطمئِنَّ؛ سوف أحملك، وسوف تتلقّى العلاج، لا تخفْ يا أخي".
أجاب عثمانُ وعيناهُ تذرفان الدموع: "أخي! سامحني؛ لم أستطعْ تحمّلَ منظر قتل الأعداء لنا فهاجمْتُهم، وقتلْتُ منهم الكثير، وقد كنتُ سبباً في وفاة إخوتي الصغار... أرجوك سامحني".
فقال له: "لا تتحدّثْ يا عثمانُ؛ أرحْ نفسك".
فجأةً أتى محمّدٌ وابنُه عبدُ الإله، فشاهدَا عثمانَ قد أوشك على الفراق، وسمعَاهُ يقول: "أبي؛ سامحني". ولم يستطع أن يكمل الكلام ونطق الشهادة، حينها رأى محمّدٌ جثامين بقيّة أبنائه الصغار فلم يستطع المقاومة، وانهارَ جسدُه بجوار جثامين أبنائه الذين لم ينعموا قطُّ بالحياة.
حلَّ الغروب، وعاد الأعداء إلى مستنقعاتهم بعد أن خسروا هجومهم على الثوّار المناضلين ضدّ الظلم والاستبداد.
وشرع محمّدٌ بمساعدة إسماعيلَ وعبدِ الإله في حمل جثامين أبنائه المقتولين في سبيل الله، عائدين إلى أرض أجدادهم، وأوعزَ إليهم أن يدفنوا إخوتهم مع الشهداء السابقين من أجداده وقومه. وعند وصولهم وجدَ محمّدٌ في استقبالهم رفيقةَ دربه زُهرةَ وأبناءَهُ عبدَ الرحمن وعبدَ الملك وسليماً وأحمدَ وعبدَ الله.
عندما رأَتْ زُهرة جثامين أبنائها الصغار لم تستطع التحرّك، فظلّت واجمةً، واحمرّت عيناها من البكاء... طال صمتها، وزاد أنين قلبها، وتحوّلت حياتها من زراعة وقطف الزهور والورود إلى زراعة بذور الحزن والقهر وقطف أوّل خيبات الأمل.
لم يتحمّلْ أحمدُ الطفل البالغ الثامنة من العمر رؤيةَ جثامين إخوته، وبالأخصّ عثمانَ الذي لطالما كان يُعلِّمُه الرماية والقراءة والكتابة، فمرضَ مرضاً شديداً حتّى وافَتْهُ المنيّةُ، ولحقَ بإخوته الذين لم تمضِ على وفاتهم أيّامٌ معدودةٌ.
سكنَ الألمُ بيتَ محمّدٍ برحيل أبنائه الصغار، لكنْ لم يدمْ طويلاً، فلم تمرَّ عدّةُ أشهرٍ حتّى قامت الحرب العالميّة الأولى، وبسببها عمَّتِ الفوضى في جميع أقطار الأرض.
بعد انتهاء فترة الحرب ساد الاضطراب والتوتّر في أرجاء بلاد محمّدٍ، وكان ذلك السببَ الرئيسيَّ لعودة العدوّ القاتل لاستعمار وطنه والاستيلاء على ثرواته الغنيّة بالبترول والمعادن، خصوصاً الفحم والذهب والملح وغيرها من الخيرات والنعم. لكنّ محمّداً ومَنْ بقيَ من أبنائه وأبناء قومه لم يستسلموا، بل كانوا بواسلَ في الجبهات، ولم يرضخوا للطغيان والمثالب التي يفعلها على أرضهم.
*****
متى ستنتهي الحرب؟
كان ما يُميّز بستان محمّدٍ موقعه على ضفاف نهرٍ يصبُّ في نهر تاريم المعروف، لذلك كانت أرضه خصبةً ومثمرةً. ورغم أنّ محمّداً خُلِقَ ليكون محارباً فقد وجدَ نفسَهُ محبّاً لفنّ الطبخ وللحرث والزراعة، فكان يزرع الزهور والورود والفاكهة وكذلك أجود أنواع القطن. سافر محمد بذاكرتهِ إلى طفولتهِ، وتذكر كيف وجد نفسه ابن وحيد لأب وأم، قد أهلكوا مِن معاناة ومشقات الحياة مِن حروب ونضال وكِفاح لكي يوفروا الطعام والمأوى لهم ولابنهم الوحيد الذي تربى على نغمات صوت المدافع والبنادق، وأشتم رائحة نسيم البارود والأدخنة، ورأى بأم عينهِ هندسة تدمير المنازل وخرابها، تذكر كيف كان يركض بين البيوت ليس فرحاً كما يفعل باقي الصبيان، وإنما كي لا يسقط بين يدي الأعداء، وكيف أنهُ وبقية الأطفال حملوا السلاح منذُ السادسة من عمرهِم، وكان جُلّ همهم أن تبقى أنفاسِهم داخل صدورهم، وأن لا ترحل باكراً مثل الكثير من أبناء جيلهم، الذين ودعوا الحياة قبل أن يرو ما هي الحياة، لم يتذكر يوماً أنه منذُ أن أقبل للحياة إلى أن بلغ قرابة سن التاسع عشر مِن العمر أن تنعم قط بطعام أو نوم هنيئاً ومطمئناً، كانت حياتهُ بين حفظ القرآن وبين توفير الطعام وحماية والديه مِن رصاصة طائشة أو اعتقال فيهِ مِن التعذيب الذى لا يقوى عليهِ بشر.
وحين شاءت الأقدار بموت أبيه أثناء المقاومة ومعهُ الكثير من أعمامهِ وأفراد قبيلتهِ، حينها تمنى ودعّا الله أن يحل الهدوء والسلام الذي لا يعرف معناه ولم يذقهُ في حياته ولكن كان يسمع عنهُ في دعاء المظلومين والمقهورين، وتمنى أن يشفي لهُ أمهِ التي لم تستطع تحمل الحياة يوماً من غير زوجها فاستسلمت للحزن والقهر، حتى أتى موعد القدر، لتكون رفيقتهِ في نعيم الموت مثلما كانت معهُ في جحيم الحياة. حزن كثيراً على موتِهما، لكن لا مكان للحزن في زمن كلهُ أحزان وفراق وتشيع جثمان، وعندما حلّ الهدوء قليلاً، لم يكن عليه سوى أن يزرع أرض أبيه التي لطالما أرتوت من دماء الأموات، وسقيت مؤخراً بمياه الغيث والأمطار لتنبت وتثمر تعويضاً عن سنين الجفاء والحرمان.
تذكر كيف سمع صوت نبض قلبهِ لأول مرة منذُ أن رأت عيناه النور، حين ذهب لزيارة صديق طفولتهِ ورفيق دربهِ أحمد منذُ حمل البندقية، واللذان لما يجتمعا قط سوى في التحفيظ أو في ساحة القتال، ليرى إن وفق هو كذلك في زراعة بستان أبيه وبدأ في حصاد ثمارهِ، وفي أثناء دخولهِ البستان وهو ممتطى جوادهِ رأى زُهرة.. فرأي الشمس وشعر بدفء أشعتها، ورأي في عينها انعكاس ضوء القمر الذي لم يحن موعدهِ، وطفق قلبهِ بالخفقان معلناً تمردهِ وعصيانهِ لعيشة العزباء.. لعيشة الوحدة تحت سقف لا يحمل سوى أسوء ذكريات، وتمنى حينها أن يعُمّ السلام ليحيا ما تبقى مِن عمرهِ في رخاء وآمان. لكن للأسف؛ لم يتحقق الرجاء ولم تتحقق الأماني والدعوات، فما أن تنعّم بالزواج ورؤية الأبناء، إلا وقد وجد الزمان يعود للوراء، ليكرر مع أبنائهِ نفس نشأتهِ ونفس مصيرهِ مِن تحمل حياة كلها ألم ومرارة وشجن.
كانت تجارته الرئيسيّة تعتمدُ على زراعة شجرة التوت التي تتغذّى على أوراقها يرقاتُ دودة القزّ، وما ينتجُ منها من حريرٍ، فيستفيد من بيعه، خصوصاً أنّ طريقَ الحرير القديمَ الرابطَ بين قارّة آسيا وقارّة أوروبا كان يمرُّ من أرضه.
جلس إسماعيلُ فوق تلّته المفضّلة التي كان كلّما أراد أن يعيش لحظات الهيام مع رسائل حبيبته أسرار يأتي إليها، فكانت تنوس بحروفها بين عقله وقلبه، وكم كانت تحملُ في طيّاتها من دعاءٍ أن يحفظ الله لها حبيبها وخطيبها الذي رسمت حياتها بين دفّتَي حضنه، وتتوجّس خيفةَ أن يطول غيابه! وكم من توقٍ في فؤادها لتزفَّ إليه وتهنأ بقربه!
وارى قلقَهُ من ألّا تشرقَ شمس آماله، وظلَّ جلّ همّه أن يجد الأمان لكي يحيا به مع حبّ عمره أسرار، لكنْ بسبب مآسي الاحتلال كان لا بدَّ له أن يظلّ مواظباً، كدأبه، على الذهاب مع إخوته وأصدقائه إلى صحراء تكلامكان المعروفة بأنّها المهد الذهبيّ للحضارة الإنسانيّة حينذاك من أجل الصيد والتدرّب والاستعداد للقتال.
أمّا عبدُ الإله فكان شخصاً يحبّ الهدوء والتأمل في النجوم، وكان يسافر بخياله داخل الروايات الروسية التي يقرؤها كلّ مساءٍ، وكان من المعجبين بالروائي الرومانسي بوشكين، والذي بسبب روايتهِ، تعلمّ قليلاً اللغة الروسية مِن أحد أصدقائهِ الذي أتقن اللغة من أمه الروسية، لكي يتسنى لهُ فمهما والتعايش داخلها ومعها. حتّى أمست مُنْيَتُهُ أن يحيا الحبّ والعشق، وأن يستقرّ ويكون له من الأبناء الكثيرُ، لكنّه كان يأسرُ كلّ ذلك في مكنون أفكاره، فالحياة لا تهبُهُ كلّ ما يتمنّاه، وظلَّ يساعد أخاه إسماعيلَ في وضع الخطط العسكريّة لحركة الثورة الوطنيّة المناضلة ضدّ الأعداء الظالمين الذين قتلوا على مرّ التاريخ ما يقارب المليون مسلمٍ من شعبه المسالم.
وكان عبدُ الرحمن وعبدُ الملك وسليمٌ على التوالي في العمر ممّا جعلهم يقضون معظم أوقاتهم مع بعضهم البعض، حتّى غدا طموحهم واحداً أنْ ينتقموا لإخوتهم، فأصبحوا يتواجدون دائماً ضمن السرايا السرّيّة، وذلك لخفّة وسرعة حركتهم وقوّتهم الجسديّة وشجاعتهم. أمّا عبدُ الله فكان معظم وقته ملازماً لأبيه وأمّه لمساعدتهم، وكان حريصاً على تعلّم القراءة والكتابة والتدرّب الدائم على حمل السلاح.
بعد مضيّ قرابة الثلاثة أعوامٍ على انتهاء الحرب العالميّة الأولى شنَّ العدوُّ غارةً هجوميّةً مفاجئةً للقضاء على الثورة التي تكلّلت بالنجاح لإبادتها، فلطالما كانت مهدّدةً لنظامه وحكمه الفاسد. ودارت معركةٌ ضاريةٌ قُتِلَ فيها الكثير من البشر، وكان من أوائل القتلى عبدُ الإله الذي توغّل داخل صفوف الأعداء وقتل منهم الكثير، ورغم إصاباته البالغة فإنّه استمدّ قوّته من عزيمته ليثأر لإخوته الصغار، واستمرّ في القتال والحورُ العينُ يتراءَيْنَ له ويمدُدْنَ أيديهنَّ له ليحيا ما مُنِّيَتْ به نفسُهُ في جنّة النعيم. ولكنْ للأسف؛ بعد هنيهةٍ من الزمن استشهدَ إخوتُه عبدُ الرحمن وعبدُ الملك وسليمٌ وهم في الصفوف الأولى.
وأُصيبَ محمّدٌ إصابةً خطيرةً كادت تؤدّي إلى وفاته لولا تدخّلُ ابنه الصغير عبد الله الذي أبعدَهُ عن منطقة الخطر، وابنه الكبير إسماعيل الذي تلقّى عنه وابلاً من الرصاص، وجعل من جسده درعاً يحمي أباه وأخاه، وهو ينظر إلى السماء وقد تجلّى له وجهُ حبيبته أسرار، فابتسم لها ابتسامةَ مودِّعٍ.
عادَ محمّدٌ محمولاً على أكتاف ابنه عبد الله مع بقيّة المصابين الأوفياء الذين لم يكونوا أقلَّ تضحيةً منه، لكنّه عاد هذه المرّة ولم يتبقَّ له سوى عبد الله والحزن ومسؤوليّة تشييع جثمان أبطاله الشهداء.
*****
البرد القارس
كان محمّدٌ يخطو خطواته مسرعاً بعد انقضاء صلاة الفجر كي لا تتجمّد أطرافه من صقيع البرد ومن لفحة الرياح المحمّلة بحبّات الثلج، حتّى يصل إلى زُهرة ويجهّز لها طعام الإفطار، فقد كانت تحبّ أن يبدأ صباحها بارتشاف الحليب وأن تحلّي فمها بالزبيب، فهي دائماً تقول: "إنّ الزبيب يقوّي تذكّري لأبنائي". فيبتسم محمّدٌ لقولها وقلبه يعتصرُ ألماً. وبعد أن تشرب الحليب كانت تأخذ قسطاً من النوم لشدّة ما تشعر به من وهن الحمل الذي جعلها طريحةَ الفراش تُقاسي الألمَ الشديدَ، وحينها يجلس محمّدٌ كعادته في فناء منزله ليتأمّل الطبيعة.
كان بيتُهما يقعُ بين سفوح الجبال الشاهقة على أطراف النهر الغامر بمياهه العذبة التي تكاد تتحوّلُ إلى ساحة تزلّجٍ في أوج فصل الشتاء، وكان محمّدٌ يعشقُ التأمّلَ عند تعاقب فصول السنة، خصوصاً الشتاء والربيع، ففي الربيع تكتسي الجبال باللّون الأخضر لكثرة انتشار أشجار الصنوبر طويلة الساق فيها، وغيرها من الأشجار التي تبثُّ في النفس الهدوء والسكون، كما أنّ استنشاقَ عبير أوراق الياسمين المنتشرة على أطراف النهر يُدخِلُ السرورَ إلى قلب كلّ بشرٍ. وفي الشتاء تتساقط الثلوج كالندف البيضاء لتغطّي كلَّ ما تحتها من طبيعةٍ وجمالٍ، فلا ترى الجبال من السحاب ولا ترى أغصان الأشجار من كثرة الرياح والأمطار، فتنعدم الرؤية تماماً، وتكتفي بالتمعّن من خلف النافذة.
لبثَ محمّدٌ يتبادل أطراف الحديث مع المتبقّي من خرير النهر، فقد كان يخشى أن يمرّ عليه الدهرُ من غير أن يكون له وريثٌ يؤاخي ابنَه عبدَ الله ويواسيه فيما تبقّى له من العمر، وكان جلّ دعائه أن يمنحه الله الصبر فيما ابتلاه.
*****
زهرة ودموع الحرب
زاد الألمُ على زُهرة في أيّامها الأخيرة لدرجة أنّها لم تعد تستطيع النهوض من فراشها، فقد بلغت من العمر ما يزيد على الأربعين عاماً، وقد كان هذا حملها الثالث عشر الذي أتى بعد عناء وصبر سنين طوال، وللأسف لم تعشها في راحةٍ ونعيمٍ مثل غيرها من الفتيات، بل كانت تعيش في جحيم ظلم الاحتلال. لكنّها كانت دائماً مبتسمةً ومتفائلةً، فهي الشمعة التي تحرق نفسها كي تضيءَ منزلَ محمّدٍ حبّاً وشغفاً، وهي الروح التي تبعثُ الأملَ في قلب كلّ مَنْ خسرَ حبيباً أو ولداً له. كان قلبُها معلّقاً بمقبض الباب، تنتظر متى يُفتَح لتستنشق رائحة حبيبها وآخر أبنائها عبد الله، فكلّما طال غيابه كانت تعيش بين الدعاء والرجاء ومرارة الانتظار.
كان محمّدٌ يسافر مع أسوأ الذكريات التي لا تأنف تعاوده كلّما أراد أن ينساها؛ تعاوده وتأبى فراقه، كان يشتاق لأبيه وأعمامه وكلّ أفراد أسرته وقبيلته... هو لا ينسى إصابته برصاصة غدرٍ، ولكن هيهات! ليس هذا ما يؤرق مضجعه؛ إنّما كان مشهد استشهاد عبد الإله وبقيّة أبنائه في الصفوف الأولى من ساحة القتال لا يفارق ذاكرته، أولئك الذين وبكلّ فخرٍ ألقوا اليمين والقسم أن يكونوا حُماةَ الإسلام والوطن. ولم ينسَ أو يتناسَ أنّه من سلالةٍ دامت أكثر من تسعمائة عامٍ تخوض الحرب دفاعاً عن موروثها القديم والحاضر، فطيلة فترة الـتسعمائة عامٍ لم يهنأ الأعداءُ بالانتصار، حتّى تكالبوا من الشرق ومن الغرب طمعاً في خيرات أرضهم وفي إبادة وقمع آمالهم وطموحاتِهم.
كانت الدموع تنساب من عينَي محمّدٍ، وهو لا يشعر، كلّما تذكّر كيف خسر قلبه وعضده في تلك المقاومات؛ تذكّر كيف أنقذَهُ ابنُه الأصغرُ عبدُ الله حين حملَهُ على أكتافه والدمُ يسيلُ من كلّ أجزاء جسده، وكيف تلقّى عنه ابنُهُ إسماعيلُ الأكبرُ سيلاً من الرصاص كي يحميه من العدوّ الغادر؛ إسماعيل الذي كان شجاعاً مغواراً، يحمل العبء دوماً وهو دائم الابتسامة، وكلُّ طموحه أن ينعمَ في جنّة الأرض مع حبيبته أسرار، أو أن يستشهد مبتسماً للقاء ربّه.
ظلَّ محمّدٌ يكرّرُ محدّثاً نفسه: "آهِ من حرقة قلبي على ابني إسماعيل الذي لازمني في كلّ حياته! وعلى باقي أبنائي الذين لم يعيشوا كفايةً لينعموا بالحياة!".
كان عبدُ الله يعمل طيلة النهار في مزرعة أبيه ذات المساحة الشاسعة المغطّاة بالمسطّحات الخضراء، وقد كانت تأخذ منه مجهوداً كبيراً بين تحصيل حصاد ثمارها وسقاية الأشجار والورود والاهتمام بها، وبين مقابلة التجّار وبيعهم من منتجاتها، خصوصاً ما ينتجه منها من الحرير الطبيعيّ.
وبعد صلاة المغرب كان يحضر دروس القرآن حتّى يحينَ وقت صلاة العشاء، وبعد أن يقضيها ينطلق لكي يتدرّب مع البقيّة المتبقّية من شجعان الأشاوِس، ليكونوا متحفّزين للحفاظ على إرثهم وأحلامهم وأرضهم.