hindawiorg

Share to Social Media

لم يكن نفور البروفيسور سِيرد منِّي بالشيء الغامض؛ فقد كنتُ طالب الرياضيات الوحيد
الضعيف في فصلٍ شديد التفوق في علم الرياضيات. كان السيد العجوز يقصد حجرة
المحاضرات كل صباح في حماسة، ولا يُغادِرها إلا كارهًا. ولمَ لا، أوَليس من دواعي البهجة
أن يجِد المرء سبعين شابٍّا يُفضِّلون — فُرادى ومُجتمِعين — رموز الرياضيات على رموز
العشق والقبلات، والانهماكَ في مسائل التفاضُل على الانغماس في الملذَّات؛ ويَرَون الهالات
المحيطة بنجوم السماء أكثرَ جاذبيةً من أجساد النجمات الفاتنات على خشبة المسارح
الاستعراضية؟
وهكذا سارت الأمور على ما يُرام بين أستاذ الرياضيات وطُلَّاب السنة قبل الأخيرة
بجامعة بولِيب. كان ذلك الحكيم يرى في كل شابٍّ من أولئك السبعين نواةً مُحتملة للابلاس
أو ستورم أو نيوتن جديد. كان يتلذَّذ بمهمَّة قيادتهم عبرَ أودية القطاعات المخروطية
« مسألته » الساحرة، وعلىضفافأنهار حساب التكامُل الساكنة. وعلى سبيل المجاز، لم تكن
عويصة؛ فما كان عليه سوى مُعالجة العوامل، وحذف الكميَّات المجهولة، والرفع إلى أسٍُّ
أعلى، لضمان الاحتفال بالنصرفي يوم الامتحان.

لكنَّني كنت عامِلَ تشويش بالنسبة له؛ كنت كميَّة مجهولة مُربِكة تسلَّلَتْ بطريقةٍ ما
إلى عمله، وراحت تُهدِّد تهديدًا خطيرًا بإفساد دقَّة حساباته. كم كان منظرًا مُؤثِّرًا أن يرى
المرءُ عالِم الرياضيات المهيب وهو يتوسَّل إليَّ ألَّا أفُرِط في إهمال قواعد استخدام ظِل تمام
الزاوية، أو وهو يُنبِّهني — وعيناه تكادان تفيضان بالدمع — إلى خطورة الاستخفاف
بالإحداثيَّات الرأسية. ولكن بلا أي جدوى. كانت النظرياتُ الرياضيةُ المنقوشةُ على السِّوارِ
الذي أَرتدِيه أكثرَ مما كان بِرأسي منها. ولم يحدُث قبل ذلك قطُّ أن استُخدِم الطباشير في
الشرح بمِثل هذه الكثرة من أجل نتيجة في مثل هذا التواضُع. ولهذا فقد حدَث أن اختُزل
فيرنس الثاني إلى صفرٍ في تقدير البروفيسور سِيرد. لقد كان يَعتريه — عندما ينظُر إليَّ
— كلُّ ما يمكن أن تقذِفه شخصية غير جبرية من رُعب في القلوب. وقد رأيتُه يدور حول
ميدان كاملٍ ليتجنَّب مُلاقاة شخصلا تتمتَّع روحه بالحسِّ الرياضي.
لم تكن الدعوات تُوجَّه إلى فيرنسالثاني لزيارة منزل البروفيسور سِيرد. كان سبعون
طالبًا من طلَّاب الصفيتناولون الطعام والشراب في وفودٍ حول مُحيط مائدة الشاي في بيت
البروفيسور. أما الطالب الحاديوالسبعون فلم يعرفشيئًا عن مَفاتن تلك المائدة الإهليلجية
المثالية، ولا عن الباقتَين المُتماثِلتَين من زهور الفوشية وزهور الغُرنوقي الموضوعتَين بدقَّة
مُبهرة عند بؤرتَيها.
لم يكن هذا، بكلِّ أسف، بالحرمان الهيِّن؛ ليس لأنَّني كنت شديد التَّوق إلى قِطَع
فطائر الليمون اللذيذة التي تصنعُها زوجة السيد سِيرد؛ ولا لأنه كان لحبَّات الدُّراق
الشبيهة بالكرة التي كانت تُتقِن تعليبها أيُّ إغراء بيِّن؛ ولا حتى لأنَّني كنت أشتاق لسماع
حديث المائدة المَرِح للبروفيسور عن المعادلات ذات الحدَّين، وأمثلته التوضيحية الهاذرة
للمُفارقات المنطقية العويصة. إنَّ تفسير الأمر بعيدٌ كلَّ البُعد عن كل هذا. فلقد كان لدى
البروفيسور سِيرد ابنة. فقبل عشرين سنة، عرض البروفيسور على الآنسة التي أصبحت
الآن مدام سيرد مسألة الزواج منه، ثم أضاف إلى فرضية هذا الزواج نتيجة صغيرة لاحِقة
بعد مُدة ليست بالطويلة، وجاءت تلك النتيجة في صورة فتاة.
كانت آبسيسا سِيرد (ويعني اسمُها: الإحداثي السيني) مُتناسِقة الهيئة تمامًا كتناسُق
دائرة المهندسالمعماري جوتُّو، ومجرَّدةً عن العيوب كذلك، كتجرُّد الرياضيات البحتة التي
يُدرِّسها والدها عن التطبيق. كان الربيع في طريقه لاستخراج جذور النباتات التي تجمَّد
ماؤها من الأرض، حين وقعتُ في غرام تلك النتيجة الطبيعية. وسرعان ما تَبيَّن لي بوضوحٍ
أنها هي نفسها كانت مهتمةً بي بدورها.

سيكتشف القارئ الحصيف تقريبًا كلَّ العوامل اللازم توافُرها في حبكةٍ درامية
مُحكَمة. فلقد قدَّمنا بطلةً للقصة واستنتجْنا بطلَها، ورسمْنا شكل والدٍ ذي ميولٍ عدائية
وفقًا لأكثر النماذج استحسانًا وتوافُقًا عليه. لا ينقُصنا سوى تحريك أحداث القصة، أو
الحدَث غير المُتوقَّع الذي سيحُلُّ تعقيدات السَّرد. ويُمكنني أن أَعِد — وأنا أشعُر بارتياح
كبير — بتجديدٍ مِثالي في هذا السياق، بتقديم حدَثٍ غير مُتوقَّع لم يُقدَّم للجمهور من
قبلُ قط.
إنَّ القول إنَّني لم أسعَ للوصول إلى رضا الوالد الصارم في مُثابرة مُضنية سيكون
انتقاصًا من قدْر الذكاء العادي؛ لأنه لم يسبِق قبل ذلك قطُّ أنْصبر بليدٌ على تكريسنفسه
للرياضيات أكثر ممَّا فعلتُ أنا؛ ولا حدَث قطُّ أن حقَّق الإخلاص في العمل جزاءً في مثل
هذه الضآلة التي حققتُها. لذلك استعنتُ بخدمات مُعلِّم خصوصي. لكن توجيهاته لم تلقَ
نجاحًا أكبر ممَّا حقَّقتُ من قبل.
كان مُعلِّمي الخصوصي يُدعى جون ماري ريفارول. كان مُواطنًا ألزاسيٍّا مُتفرِّدًا؛
فعلى الرغم من اسمه الفرنسي، كان ألمانيَّ الطبع تمامًا؛ لقد كان فرنسيَّ المولد والجنسية،
لكنه تلقَّى تعليمه في ألمانيا. كان في الثلاثين من عمره؛ أما مهنته فهي المعرفة غير المحدودة؛
والخطر المُحدِق به هو الفقر؛ وأما سرُّه الدفين، فكان شغفًا غالبًا ولكنه من طرفٍ واحد.
كانت أعوَصُ مبادئ العلم التطبيقي لُعَبَه، وأعمقُ تعقيدات العلم التجريدي أدواتِ لهوِه.
كانت المسائل، التي قُدِّر لها سلفًا أن تكون ألغازًا بالنسبة لي، جليةً له كجلاء المياه
الصافية لبحيرة تاهو. ربما تُفسِّر هذه الحقيقة ما كان في علاقتي به — بوصفها علاقةً
بين مُعلِّم وتلميذه — من إخفاق؛ وربما لا يرجع ذلك الإخفاق إلَّا لغبائي المُطبِق. لقد ظلَّ
ريفارول يتسكع في ضواحي الجامعة سنواتٍ عديدة؛ حيث كان يُوفِّر احتياجاته القليلة
عن طريق الكتابة للمجلَّات العلمية، أو من خلال مساعدة أمثالي من الطلاب ممَّن عُرِفوا
بغزارة أموالهم ونُدرة أفكارهم، وكان يطبخ ويدرُسوينام في عُلِّيته المُستأجَرة، وكان يقوم
بتجارب غريبة بمُفرده تمامًا.
لم يمرَّ وقت طويل حتى بدأنا نكتشف أنه حتى هذا العبقري الغريب الأطوار لم
يكن قادرًا على زراعة الذكاء في عقلي القاصر؛ لذا دفعَني اليأس إلى الكفِّ عن الكفاح.
سنَةٌ تعيسة مرَّت عليَّ مُتثاقِلة. كانت سنةً كئيبة، وما كان يُدخِل البهجةَ عليها إلا التقائي
بآبسيسا بين الحين والآخر؛ إنها آبي سيدةُ أفكاري وفتاة أحلامي.

كان يوم التخرُّج يقترِب بخُطًى حثيثة. كان مُزمَعًا أن أنطلق قريبًا مع بقية زملائي
في الصف، لإدهاشالجموع المُنتظِرة وإدخال البهجة عليهم. لكن البروفيسور بدأ يتجنَّبني
أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وأظن أن التقاليد فقط هي التي منعَتْه من بناء مُعاملته إياي على
أساسٍ من الاشمئزاز الصريح المُعلَن.
وأخيرًا، وفي غمرة التهوُّر الذي بثَّه اليأسفي نفسي، قررتُ أن أقُابِله، أن أتوسَّل إليه، أن
أهُدِّده إذا لزم الأمر، وأن أخُاطِر بحظوظي كلِّها في مُجازَفةٍ يائسة واحدة. كتبتُ له رسالةً
فيها شيء من التحدِّي، وذكرتُ فيها ما أطمح إليه. وإرضاءً لغروري، رأيتُ من الحصافة
أن أمُهِله أسبوعًا يتعافى فيه من الصدمة الأولى لتلك المُفاجأة المُرعِبة، على أن أتوجَّه بعدها
لزيارته كيما أعرِف مصيري.
كدتُ أمُرَضمن فرْط القلق خلال أسبوع الترقُّب هذا. لقد كان في البداية أملًا جنونيٍّا،
ثم استحال إلى يأسٍ أكثر تعقُّلًا. في مساء يوم الجمعة، عندما عرَّفتُ بنفسيعند باب منزل
البروفيسور، كنتُ أشبهَ بشبحٍ مهزولٍ وهامدٍ ومُنهَكٍ للغاية، لدرجة أنَّ الآنسة جوكاستا،
شقيقة البروفيسور سِيرد العزباء القاسية الملامح، أدخلتْني إلى المنزل وفي عينَيها نظرة
رثاء، واقترحَتْ عليَّ كوبًا من مشروب النعناع البري.
كان البروفيسور سيرد في اجتماعٍ في الكلية. هل سأنتظِر؟
نعم، وحتى نهاية العمر، إنْ لزِم الأمر. الآنسة آبي؟
كانت آبسيسا قد ذهبت إلى وييلبرو لزيارة إحدى صديقاتها في الدراسة. طلبَتْ منِّي
العزباء المُسِنَّة أن أجلس وأستريح، ثُم غادرَت إلى تلك الأماكن الغريبة التي ألِفت جوكاستا
السير فيها يوميٍّا.
أستريح! لكنني جلستُ على كرسي كبير غير مُريح ورحتُ أنتظِر، كنتُ في تلك الحالة
النفسية المُتناقِضة المألوفة عادةً في مثل هذه اللحظات الحاسمة، مُتوجِّسًا من كلِّ خطوةٍ
خشيةَ أن تُؤذِن بقدوم ذلك الرجل الذي كنتُ أرغب في رؤيته من بين جميع الرجال.
جلستُ أنتظر لما لا يقلُّ عن ساعة، وبدأ النعاس يغلِبني.
وأخيرًا جاء البروفيسور سيرد. جلس أمامي في ظُلمة الغسَق، وخُيِّل إليَّ ساعتَها أن
عينَيه كانتا تُومِضان في ابتهاجٍ خبيث وهو يقول لي بجفاء:
«؟ إذن أيُّها الفتى، أتظنُّ أنك أهلٌ للزواج بابنتي »

أخذتُ أتُأتِئ ببعض السخافات عن تعويضِ ما ينقُصني من الجدارة عن طريق
العاطفة، وعن مُستقبلي الواعد، وعائلتي، وأشياء من هذا القبيل. وسرعان ما قاطعني
البروفيسور قائلًا:
لقد أسأتَ فهمي يا سيِّدي. إن جوهرك مجرَّدٌ تمامًا من تلك الإدراكات والمهارات »
الرياضية التي هي الأسُس الموثوقة الوحيدة لشخصيَّة المرء. إنك خلوٌ من علم الرياضيات.
إنك أهلٌ للخيانة، والمكائد، والمفاسد. كما قال شكسبير. إنَّ قوَّتك الإدراكية المحدودة
لا تستطيع أن تستوعِب ولا أن تُقدِّر عقلًا وافِر الذكاء. إنَّ بينك وبين ابنة سيرد أكبر
فرقٍ قد يتصوَّره إنسان؛ إنه فرقٌ، إن جاز لي القول، كذاك الذي بين كميَّاتٍ مُتناهية في
الضخامة وكميَّة مُتناهية في الصِّغَر. يا إلهي، إنَّني لأجسُر حتى على القول إنك لا تفهم
«! مسألة الرسولَين التي وضعها كليرو
اعترفتُ بأن مسألة الرسولَين ينبغي أن تُدرَج نوعًا ما خارج حدود قائمة مهاراتي
وليس داخلها. لكنَّني تأسَّفتُ على هذا الذَّنب أشدَّ الأسف، واقترحتُ ما قد يُكفِّر عنه. قلتُ
بنبرةٍ تفتقر إلى الشجاعة إنَّني أرجو أنَّ ثروتي ربما تكون …
المال! أتُحاول رشوة سيناتور روماني بصفارة؟ » : صرخ البروفيسور في نفادِ صبر
يا إلهي، أيُّها الولد، أتتباهى بثروتك التافِهة، التي لو حُوِّلَت كلها إلى فئة المل فلن تملأ
عشر خاناتٍ عشرية في عينَي رجلٍ يقيس الكواكب في مداراتها، وتكاد تقترِب مكانته من
«؟ اللانهاية نفسها
أنكرتُ على الفور أن يكون لديَّ أي نيَّة في إقحام دولاراتي التافهة في الأمر، وواصل
البروفيسور كلامه قائلًا:
لقد فاجأتْني رسالتك بمقدارٍ ليس بالهيِّن. كنتُ أظنُّ أنك آخر إنسانٍ في الوجود قد »
ورأيتُ بريق — « يتجرَّأ على طلب المُصاهَرة ها هنا. لكن لأنني أهتمُّ لأمرك بصفةٍ شخصية
ولأنني أهتمُّ أكثر لسعادة آبسيسا، فقد قررتُ أن » — المكر في عينَيه الصغيرتَين مرة أخرى
أعاد هذه الكلمة، وعلى وجهه ابتسامةُ استهزاءٍ عجز عن «. تنالها؛ ولكن بشروط. بشروط
إخفائها.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.