سحر اللحظة
اعتدنا على النعم، حتى إننا إذا سُئلنا عن حالنا قلنا لا جديد.
فهل استشعرنا بقاء العافية ودوام النعم؟!
الشيخ محمد متولي الشعراوي
لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، والحقيقة نفسها نسبيّة لا نراها من نفس الزاوية، لكن ما أجمعنا عليه في فترة الحجر الصحي الشامل، هو أننا لا نملك غير اللحظة الحالية.
لا أحد يعرف ما سَيجري بعد قليل، أو غدًا، أو بعد شهر.
متى ستنتهي الكورونا؟
لا أحد يعرف!
ما الذي يمكننا فعله؟
هل نستطيع التحكم في القادم أو الرجوع إلى الوراء؟
طبعا، لا.
نعتقد أننا لا نملك شيئًا مطلقًا وأننا بائسون ومساكين نبحث عن بصيص أمل يحملنا إلى مكان أحلى وزمان أفضل وننسى أننا نملك "اللّحظة" والواقع الراهن.
كورونا كشفت عن أداة تدمير يستعمله الإنسان ضد نفسه بلا وعي وهي الهروب من اللحظة.
وكأن هذا الفيروس وُجد لتغيير وتحديث نظرتنا الذاتية للوقت. يعيش أغلبنا في الماضي أو في المستقبل، بينما الآن، نحن إما قلقون أو خائفون.
لا أنكر أن الفراغ عند حلوله، تعم بعض الأفكار السوداوية أو نفقد السيطرة على أفكارنا للحظات لكن يحدث أن نبحر في أوهام وتخاريف وكوابيس وتعمى أعيننا فلا تبصر جمالًا ولا خيرًا. تفقد الأشياء قيمتها فجأة ونفقد معها تدريجيا أصولنا وعمقنا وصدقنا.
نتمزّق بين الحياة والوهم، بين الحضور والغياب، بين الاستسلام والتسليم، بين البقاء والرّحيل.
نبتعد رويدا رويدا عن الحاضر حتى نجد أنفسنا في دوّامة الذكريات اللّعينة والأحلام التي أجهضتها أفكار تبنيناها على وجه الخطأ. في الحقيقة، لكل منا معاناته وأسراره وجانبه المظلم الذي أخفاه عن غيره ولكل منا انتصاراته وإنجازاته كذلك لكننا نميل إلى استحضار ما يخيفنا ويعيقنا كلما تعرضنا لحادث خارجي. لذلك لا أستغرب مما وقع نشره على الإنترنت حول الآثار الجانبية للوباء على الصّحة النفسية لكن شخصيا أعتقد أن حدّة هذه الآثار تتفاوت من شخص لآخر لأن الحل دائمًا ما ينبع من داخلنا إذا تمعّنا جيّدا فيما نملك وإذا أحسسنا بقيمته.
كلّنا أجزاء.. جزء يضحك وجزء يبكي، جزء يتعب وجزء يقاوم.. جزء يصمت وجزء يتكلم.. جزء يستسلم وجزء يحارب.. جزء يحْبَط وجزء يُطمئن.. وأجزاؤنا المتبقّية بنا هي حتما ليست الأقوى بل الأصدق. هو الصدق الذي ينقذنا من متاهاتنا ويخرجنا من دوامة الخيبات والتجارب القاسية ويعيدنا لأنفسنا ولله من جديد.
ذاك الصدق الذي يجعلك تواجه نفسك وتحدق في عينيك في المرآة طويلا، تبحث عن دموع عالقة بين جفونك، تبحر في أعماق تلك النظرات تسترجع بعض الذكريات. ذكريات قريبة وأخرى بعيدة لكنها، على قسوتها، لا تزال صادقة.. أجل، صادقة لحد أنها أصبحت جزءًا منك تتعرف عليه وتتجاذب معه أطراف الحديث أحيانا إذا توفرت الفرصة.
أترى تلك الكلمات التي عجز لسانك عن نطقها يوما ما لا تزال محفورة في مكان ما بداخلك لكنك لم تبحث عنها واعتقدت أنها سترحل من تلقاء نفسها لكنها لم تفعل؟! لملمها ولا تبعثرها فإن لم تواجهها ستُصر على البقاء ولن ترحل إلا بعد أن تحرمك من متعة اللحظة الحاليّة، الشيء الوحيد الذي يمكنك التأكد من وجوده. ستنغّص عليك متعة الآن" وما أدراك ما "الآن"! الآن، الوقت المناسب للشخص المناسب، للاكتشاف المناسب، للتغيير المناسب.. حتّى وإن خلت أن الوقت ليس مناسبًا.
كورونا نفسها، تؤكد كلامي؛ أجّلت كثيرًا إجازتك السنوية لاعتقادك أن الوقت ليس مناسبًا للراحة أو لقضاء بعض الوقت مع والديك لأن مستقبلك يحتّم ذلك حتى فرض عليك الوباء ذلك.
أجّلت مشروعك الذي طالما حلمت بإنشائه لأنك تعتقد أنك لا تستطيع أو ينقصك شيء أو الظروف الاقتصادية للبلد لا تسمح بذلك حتى أغلقت البلاد تماما وفقدت وظيفتك وصرت تتمنى لو تعود بك الأيام قليلا للوراء حتى تنجز ما حلمت به.
أجّلت كثيرًا سفرك للعودة لوطنك أو زيارة أهلك لأسباب تافهة لأنك تعتقد أنه بإمكانك فعل ذلك في أي وقت حتى أغلقت الحدود البرّية والجوية وعلقت أينما أنت وأحسست بالعجز عندما حُدّت حرّيتك فجأة.
اللحظة الحاسمة التي ستغيّر مجرى أمورك، خلتها دائمة وممكنة في أي وقت لكنك مخطئ! هي متاحة لك "الآن" وعليك استغلالها.
حينها ستدرك فيها كم كنت محظوظا بخوضك مغامرات لم تخترها، وخيبات فُرضت عليك بقسوة، وآلام سكنت جسدك وعبثت به، وأحلام سرقها بعض اللصوص وأوجاع اختارت قلبك مسكنا حتى أضعت طريق الفرح، إلى أن أتت اللحظة المناسبة، وأهدتك درسًا على طبق من ذهب.
" أنا تلك اللحظة التي حدثوك عني ولم تؤمن بوجودي ولم أظهر إلا عندما آمنت أنني هنا، حذوك، قريبة منك جدًّا، بل أنا منك، وليدة روحك الصادقة إذا حررتها من سجنها".
أعتقد أن أعمق درس مُنح إلينا من خلال الكورونا، يتمثل في قوة أن تعيش واقعك كما هو وتدرك أنك لا تملك غير اللحظة الحالية وهذا في حد ذاته كنز عظيم.
كم مرة ندمت على لحظات مرت كادت تكون الأجمل على الإطلاق لكنك لم تستغلها؟
كم مرة تمنيت لو عاد بك الزمن لمرحلة ما كنت تعتقد أنها الأسوأ إلى أن عشت مراحل أشد سوءًا منها؟
أن تعيش اللحظة، أي أن تبحث عن مواقع الجمال في الصورة التي خلتها بشعة. وقوفك في سيارتك طويلا بسبب اكتظاظ الطريق يجعلك تتذمر من ذلك لكنك تنسى أنك محظوظ جدًّا باكتسابك سيارة تنقذك من الانتظار طويلا تحت الشمس أو المطر لوسيلة نقل جماعي توصلك بيتك بعد يوم مرهق وتنسى أن ترى اليسر فيما يحدث: سخّر الله لك الطرقات والتكنولوجيا والرفاهية والوسائل المتعددة كي تنتقل من مكان لمكان آخر، ستعود لمنزلك وتجد سقفا يحميك وفراش يدفئك وغذاء يشبعك. لك شغل وهدف تستيقظ من أجله كل صباح ويوفّر لك رزقا. أليس هذا بكفيل بتغيير مزاجك؟
جلوسك في البيت مع عائلتك الذي يشعرك أحيانا بالملل هو حلم ملايين من الأشخاص في هذا العالم الغريب، حرموا من هذه اللحظات الثمينة، منهم من شرّد في الشوارع وضاع، ومنهم من أنصفتهم الحياة بعد سنوات من الحرمان وتجدهم أسعد السعداء، ومنهم من تحدى هذا النقص ويحارب من أجل أن ينجح ويكوّن العائلة التي حلم بها.
لا يقتصر الأمر على هذا فقط. متى كانت آخر مرة تمعنت فيها في جمال تفاصيل وجهك في المرآة؟ في معظم الأيام تقفز من الفراش مسرعا ومفزوعا من التأخر على ما ينتظرك.
متى كانت آخر مرة استمتعت فيها بتذوّق طبق شهي؟ أعرف أنك تأكل في أحسن المطاعم وتقتني ألذ الأطباق لكنك تنساق وراء التقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي لا أعرف لماذا لكنك تفعل هذا باستمرار، وتأكل أحيانا فقط لأنه يجب أن تأكل كي لا تجوع.
هذه أمثلة عمّا نعيشه يوميا والقائمة تطول ونظلم أنفسنا أحيانا دون وعي ومراقبة داخلية لما يدور في أذهاننا. لا نعيش اللحظة كما هي، لأننا نفكّر فيما سيحدث لنا غدا بتشاؤم وخوف ونقلق من المشكل قبل أن يظهر إلى أن يظهر فعلا. الأحداث السلبية التي تتكرر هي التي تدفعنا للاعتقاد أن غدا سيحمل معه نتائج أبشع. لنفترض أن ذلك صحيح وأنك على يقين من استيائك غدا، لمَ لا تستمتع الآن فتضيع عليك متعة اللحظة الحالية والقادمة؟
لماذا لا تستشعر حقًّا "الحمد لله" بل تقولها أحيانا فقط لأنك تعتقد أنه عليك أن تقولها. حاول أن تستشعر معانيها عند نطقها على الأقل مرة في اليوم عندما يهديك الله يومًا جديدًا وتجد نفسك في صحة جيدة لا تحتاج أن تذهب للمستشفى، ولا تحتاج مرافقا لقضاء حاجتك لأن كل حواسك وأعضائك على أحسن ما يرام، ولا تستحق أن تتسول في الشوارع كي تكسب بعض المليمات لأنك تملك ما يكفيك كي تعيش في أمان.
حاول أن تحمد الله في أصعب اللحظات كذلك لأنه اختار اختبارك واختيار الله دائمًا موفّق.
حاول، سترى كيف ستغيّر هذه العادة من يومك.
الأمر بسيط للغاية، لن تستطيع تحقيق ما ترغب في الحصول عليه غدًا وأنت في صراع داخلي مع نفسك اليوم ولن تتحصل على المزيد إذا كنت أساسا لا تعترف بوجود القليل.
تمعنك في جمال ما تملك سيغيّر طريقة تفكيرك ويعلّي من ذبذباتك ويزيد من وعيك وينير روحك. وإذا تغيرت أفكارك سيتغير واقعك وبالتالي مستقبلك. هذا ما يستحق تركيزك وطاقتك.
ولديك دائمًا القدرة على اختيار الزاوية التي تنظر منها لعالمك الخارجي. أعني أن عين الرضا والمحبة ترى الجمال في كل شيء ولا تركّز على العيوب وتتغاضى رؤيتها.
كل ما خلقه الله جميل، وليس بجميل فقط بل رائع ودقيق وجذاب. من يتعوّد على رؤية الجمال فيما يعترضه طريقه، تستنير بصيرته حتى في الأزمات والصعوبات والضغوطات.
مع ذلك، لا أنكر أن بعض النقائص تعيقنا وتمنعنا من الانطلاق لكن لا تستهن بقدرتك على التغيير ولا تنس أن الله على كل شيء قدير.
التفكير المفرط سيجعلك تفقد القدرة على التفكير السليم والسعي المطلوب.