Za7makotab

Share to Social Media

حرامي الأطفال

لم أكن قد تخطيت السنة الثالثة بعد، خرجتْ عمتي واطفة من طهواي -لأول مرة- للعلاج في المنصورة من آلام بعظامها، وهي الأشهر في العائلة بتصنيع وحب الفسيخ والْمِشّ وأي مملح يُؤكل، طلبتْ من أمي أكلة فسيخ من محل يبعد عن بيتنا، بمنطقة تسمى ميت حضر، نزلتْ أمي مشددة على عمتي بغلق الباب، بكيتُ؛ سمحتْ لي عمتي بالنزول لألحق بأمي كما اعتدت بالقرية، ما أذكره أني سألت إحدى الجارات عن جهة سير أمي، سرتُ حيث أشارت، لم أجدها، طال السير، عدت للبكاء يليه نواح، لا أذكر شكل الرجل الذي حملني وجاب بي على باعة الفسيخ، للبحث عن ما نطقته بوضوح (ماما أبلة آمال من السويس تشتري فسيخ لعمتو).
أتذكر دعوات النسوة وتربيتهن على الطفلة الباكية، أول تعارف بيني وبين الخوف، ميزتُ شعر أمي وثوبها القصير من الخلف وسط نسوة يرتدين أربطة الرأس(قرطة) وجلاليب، تملصت ممن يحملني، ناديت ماما، أنزلني؛ عانقت ساقيها، التفتت متعجبة للمسة وصوت تعرفه جيدًا؛ صرخت، انتابها الدوار كادت تسقط مغشيًّا عليها، ساندتها النسوة وما زلت ممسكة بها، شربت ماء، لامها الرجل الطيب لتركي بمفردي، لم أفهم لماذا بكت وضربتني!

صادرت أمي الحلق الذهبي والأسورة الصغيرة من يدي، خاصمتني، أصيبت بارتفاع ضغط الدم والصداع النصفي لأيام.
أفاض أبي في تخويفي من سارقي الأطفال ساردًا الحقيقي والأساطير عن كيفية خطفهم وقتلهم أو لربما قطعوا أيديهم أو أرجلهم للعمل في التسول، بكيت خوفًا ثانية، خوفا ألا أرى أبي ثانية، شرح لعمتي بهدوء شديد لكي لا تشعر بالحرج، الفرق بين المنصورة وطهواي، تبعها كوابيس لسنوات؛ بحرامي الأطفال؛ جسد لإنسان برأس حيوان غريب، حاول اختطافي مرارًا.

* * *

محاولة اختطاف

انتهيتُ من امتحانات الصف الثالث الابتدائي الصورية، كان الانتقال تلقائيًّا للصفوف الأولى والثالثة والخامسة، دون رسوب، اتفقت مع بعض الصديقات ممن تسكن بجوار المدرسة على اللعب بفناء المدرسة الخالي في أثناء مراقبة أمي للجان الصف الرابع.
فوجئنا بسيدة مرتدية جلبابًا أسودَ من حرير، وطرحة فوق القرطة ( بالأوية) _ وهى كريات ملونة من الخيوط تزين غطاء الرأس_ تقف عند الباب الخلفي للمدرسة؛ جميلة بيضاء، طويلة؛ تشبه عماتي، نادتني، خطوت بضع خطوات باتجاهها، ارتعبت، صدمني خبث عينيها، تسمرت خوفًا، هربت صديقاتي، أردت الصراخ، لم يخرج صوتي، ضجرت لعدم استجابتي، أخرجت عصا صغيرة من أسفل جلبابها، ازداد هلعي؛ تحركت ساقي أخيرًا، واختفت البيضاء، ارتعدت وبكيت لنصف ساعة، انتظر من يأخذ بيدي لأمي، من نافذةٍ في الأعلى رأتني زميلة أمي، أرسلت من يصحبني لها.
بعد ساعة سمعنا صراخ رجل في الخارج، اندفعنا للنوافذ، رأيناهم يضربون الخاطفة بعد فشلها الثاني في خطف طفلة، سقط عنها شعرها المستعار وغطاء الرأس، اتضح أنه سارق فاشل جميل الشكل؛ هدم أسطورة أحلامي بالسارق ذي الرأس الحيواني.
في شبابي حكيت لأمي ما أذكره من حادثة الفسيخ، ضحكت حتى أدمعت، أخبرتني أنها المرة الثانية لفقداني وليست الأولى.

* * *
الاختفاء الأول

بعد ولادتي بأيام، ذات ليلة حارة من شهر يوليو، اشتد القصف واقترب من سكن عائلتي، خرج الجميع بملابس النوم، بعضهم حفاة، ارتدت أمي "روب" على عجالة، حملتني وسبقت أبي الذي انشغل في غلق الغاز والبحث عن المفاتيح، الشوارع مليئة بماء الصرف إثر قصف البنية الأساسية، لم تعتَدْ أمي بعد على السير حاملة سيادتي، حملني عنها أحد شباب المقاومة الشعبية، لتتمكن من المرور فوق سقالات خشبية، ساعدها هي ومن خلفها من نسوة لدخول المخبأ، طال انتظارها لعودتي، انتهت الغارة، وامتد البحث بين المخابئ في المنطقة، تلاقيا بعد انهيار أمي لساعتين، نسي الشاب شكل أمي، وأي مخبأ دخلته.

* * *

عبد الناصر وَجَدِّي

تعجبتِ العائلة لتذكري يوم اشترى أبى التلفاز، لم أكن قد أتممت السنة الثالثة بعد، سبقه يوم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، لبست النسوة السواد، علا الصراخ من النوافذ، بكى الرجال في الشوارع، تحول البلد إلى مأتم كبير، حداد شعبي عام، والقرآن يُتلى في المحلات والشوارع.
لحق به جدي فجأة؛ في يومٍ وليلة، رأيته نائمًا لا يشعر بيد الطبيب توخزه بإبرة في قدمه، شد جفنه، قرب شعلة قداحة من عينه، لم يعبأ أحدهم بصرختي المحذرة من اشتعال رموشه، خرجت من حلقه حشرجة مخيفة، هز الطبيب رأسه، مط شفتيه، أغلق حقيبته وخرج مسرعًا خلفه خالي الأكبر، علت نهنهة أمي وخالاتي، سقطت جدتي مغشيًّا عليها، ماذا يحدث؟! إنه نائم.
رحل جدي الطيب الحنون، أكبر من حولي سنًّا، تخيلت الله في السماء على صورته، ولسنوات أرى طيفه في السماء كلما أمطرت كيوم وفاته، لا أدري إن كان حلمًا أم خيالًا، هو في الأعلى، ولم لا؛ أمي من قالت إنه في الجنة؛ أليست الجنة في السماء؟!
دفنوه في مقابر الجيران، صورة حقيقية لتلاحم الشعب ومساندته للمهاجرين في مصابهم، لكن البعض اتهمهم بالتسبب في ارتفاع الأسعار، قائلين:
- (غليتوا علينا الْمِش) أي تسببتم في الغلاء حتى ثمن المش؛ كنوع من الإذلال، نال الغضب من أمي وجدتي كلما سمعتا تلك الجملة البغيضة.
* * *

جدتي

عانت جدتي كثيرًا بعد وفاة جدي، وهي المدللة منذ طفولتها ولأول مرة ذهبت للسوق لشراء الخضار ولوازم الحياة، تولت تربية وتعليم سبعة من الأبناء بمعاش متواضع، ومساعدة من خالي الأكبر وأمي اللذين تخرجا قبل رحيل الأب.
عاشت مُهاجرة لِيُتِمّ الأبناء الصغار تعليمهم، تخرّج السبعة، خالان في كلية الهندسة وخالة في دار العلوم واثنان في كلية التجارة واثنان معهد متوسط، حلمت، جاهدت، حققت، أراها معجزة من الله.
أشتاقها بقوة، أرى طيفها جالسًا على الكنبة البلدي، أسفل جهاز المذياع الضخم المعلق وسط الصالة الكبيرة، تستمع لإذاعة القرآن الكريم، تردد الأدعية مع المذيع.
سمعتها تناجي ربها، تشكو إليه أيامها الصعبة والحمل الثقيل الملقى على كاهلها، تعلمتُ منها مناجاة الله فيما يؤلمني، رحمة الله عليها.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.