Za7makotab

Share to Social Media

"هلال"

لو استطاع الإنسانُ تطهيرَ عقله من المعاصي ما كان أذنب، لو استطاع إسكات أوجاع روحه ما كان أذى نفسه، لو استطاع اقتلاع ذكرياته لكان مضى سعيدًا غير عابئ بماضٍ لا يترك سوى الندوب.
رفعتُ رأسي ناظرًا إلى سقف الغرفة وأنا أدخن، سقف أبيض يفكرني بخواء روحي، وغرفة مملوءة بالنيكوتين مثل رئتيّ، ألحان جميلة تهب مثل الهواء إلى أذني أكاد أراها وهي تلعب بأصابعها على أوتار التشيلو، كنت أعلم أنها لن تنام وستفضل التدريب على النوم لأجل حفلتها كما تفعل دائمًا، وأنا أيضًا اعتدت على استيقاظي في تلك الليالي لأسمعها، هي تظن عندما تعزف في الغرفة المجاورة أنني سأستطيع النوم ومؤخرًا أنا لا أستطيع النوم في وجود ألحانها أو غيابها، أعتقد أنني أفضلُ أَرَقَ الاستماع إلى ألحانها على أرق الاستماع لصوت عقلي المزعج.
توقفتْ عن العزف وسمعتها قادمة إليّ ففتحت باب الغرفة، نظرتُ إليها وأنا أطفأ سيجارتي فهي لا تحب التدخين أو رائحته.
قالت معتذرة:
- ما كانش قصدي أصحيك.
قلت بنصف ابتسامة:
- أنا لسّا صاحي، عندي محاضرة كمان ساعتين يعني ألحق أخلص حاجات قبل ما أنزل.
اقتربتْ من السرير وهي تقول:
- وأنا هنام لحد ما ترجع علشان نروح سوا المسرح.
تحركتُ من مكاني لأحملها وأضعها على السرير ووضعتُ كرسيها المتحرك في مكانه بجانبها.
- ما تتأخرش عن الساعة خمسة علشان الحق أعمل بروفة مع الفرقة.
هززت رأسي موافقًا، أغمضتْ عينيها وهي تحتضن الغطاء وخرجت أنا خارج الغرفة.
لو فتشت في قلبي ستجدني أحمل لها كل الحب، لكن الشعور بالذنب تجاهها أقوى مني، أقوى من أن أراها كحبيبة فأصبحت هي إلهي الذي أرغب في أن يسامحني ويغفر لي خطاياي، هي الإله في جسد امرأة، هي التي أتضرع إليها راجيًا عفوها عني ونسيان ما فعلتُه بها، هي التي أفديها بروحي فقط لأنها فدوى.
***

وظيفة التدريس من وجهة نظري أصعب الوظائف فأنت القدوة والأب الروحي للطلاب النابغين، أنت الرجل المثالي وفارس الأحلام الوردية للفتيات اللائي خرجن توًّا من مرحلة المراهقة -خاصة إن كنت رجلًا أربعينيًّا مثلي-، وأنت السياف -أقصد الأستاذ الصارم- الذي يبغضه ويخاف منه الطلاب الكسالى الذين أتوا إلى الجامعة للتدخين ومراقبة الفتيات الحسناوات، وحضورهم المحاضرات فقط من أجل بعض درجات الحضور.
لكن على الجانب الآخر لا أتخيل نفسي إلا أستاذًا جامعيًّا يدرس علم النفس بكلية الآداب جامعة القاهرة، ذلك هو الحلم الذي سعيتُ له منذ دخلت بوابة تلك الكلية وأنا شاب وها أنا ذا أقف مكان أساتذتي لأعلّم جيلًا سيأتي وقت عليه ويقف مكاني.
فتحتُ باب القاعة ليبدأ كل الطلاب بالاعتدال، وضعتُ حقيبتي وبحثتُ عن نظارتي وسط ملاحظتي للطلاب.
طلاب العلم يجلسون في بداية الصفوف بظهر قائم على زاوية 90 درجة وعيون بحدقات واسعة توحي بالتركيز والاحترام، من ورائهم الفتيات المراهقات - كم أبغضهن - يظهر على شفاهن شبح ابتسامة نظرات متنقلة بيني وبين صديقاتهن، يُرحن ظهورهن على المقاعد للاستعداد لمشاهدة أستاذهن الذي تحول فجأة إلى فارس أحلامهن وهو يلبسها خاتم الزواج.. أقصد يشرح المحاضرة.
في أواخر الصفوف كارهو السياف، بعضهم أعصابه انسيابية وحركاته كسولة يبدو أنهم بدأوا التململ مني من قبل أن أبدأ والبعض الآخر أكاد أرى عروقه المشدودة البارزة بذراعهم أرجح أنهم يتخيلونني وأنا مقطوع الرأس بسيفي الوهمي، لو علموا كم أستمتع بتلك الفقرة يوميًّا وأنا أحلل لغة الجسد ما كانوا وضعوا أعينهم بعيني من فرط الخجل.
ارتديتُ نظارتي ثم رفعتُ رأسي وقلت: "موضوع النهار ده مش هيكون محاضرة؛ هيكون مناظرة عن سيكولوجية الشر بين النظرية والتطبيق.. كلنا طبعًا عارفين إن الشر تجسد في صورة إبليس اللي عصى أمر ربه ورفض السجود لآدم ولما ربنا عاقب إبليس على عدم تنفيذه الأوامر تملك الغضب من إبليس وقرر الانتقام من آدم وأي حد يجي من سلالته وكانت أول خطيئة عملها آدم أنه أكل الثمرة من الشجرة المحرمة، ودا سبب نزول آدم إلى الأرض.. السؤال بقى هل آدم بكل نعم ربنا عليه كان عنده استعداد يخالف أوامر ربه زي ما عمل إبليس، ووجود إبليس كان مجرد وسيلة تنفيذ الخطيئة ولا الشيطان هو جانب الشر في كل نفس إنسانية، والإنسان بطبيعته ذو نفس نقية خالية من الشر؟
***
- Scarlet or wine - درجتان من الأحمر الغامق -
نظرت إليها وأنا أنسق بدلتي وهي تحمل إصبعين من ال "lip stick" كما تسميهما وهما في النهاية مجرد أحمر شفاه!
عقدت حاجبي وأنا أتساءل باستحياء: إيه الفرق؟
- ال scarlet أفتح من ال wine، معروفة.
- آه عندك حق أنا آسف!
أفقت من شرودي وأنا أسترجع فدوى القديمة من آخر حفلة لها قبل سنتين، ونظرت إلى فدوى الجديدة وهي تنسق حجابها على وجهها الصغير المستدير ترتدي فستانًا من اللون الفيروزي الذي يبرز جمال بشرتها الخمرية على جسدٍ نحيفٍ وقصيرٍ بعض الشيء، وقفت وراءها وسحبت "أحمر شفاه" من أمامها:
- ده هيليق عليكِ أكتر.
ابتسمتْ ابتسامة صغيرة وهي تضعه على شفتيها الرفيعتين، منذ أن دخلت فدوى حياتي لم تدخل بمفردها بل دخلت بدرجات ألوان لم أكن أعلم بها، أسماء مستحضرات تجميل اعتقدت في البداية أنها أسماء أمراض نفسية جديدة، حكايات عن صديقتها التي خانها زوجها خمس مرات، وعادت مراهقة تهتم بتلك الأشياء الصغيرة وجعلتني أدخل عالمها، لم يكن من السهل عليّ دخول ذلك العالم الأنثوي من أجل امرأة لكنها ليست أي امرأة إنها فدوى. تعلمتُ تفاصيلَ كثيرة في ذلك العالم لأجعلها سعيدة.
ربما أصبحت حياتنا مؤخرًا باهتة، أصبحتْ تنعت الألوان بأسمائها المعتادة، أصبحت لا تهتم بتفاصيل مراهقتها النقية، لم تتمكن محاولاتي أو محاولاتها من تغيير أي شيء لكن يكفي ما نحمله لبعضنا من مودة ورحمة.. أليس ذلك كافيا؟
- شكلي كويس؟
- شكلك جميل.
ابتسمتْ وهي تشدني من ربطة عنقي لأنخفض فتربطها بصورة جيدة ثم طبعتْ على وجهتي قبلة صغيرة ونظرت إلى نفسها في المرآة لآخر مرة.
***
بدأت الحفلة بين فقرات الاستعراض والغناء الجماعي وتبقى فقرتان وينتهي الحفل، فدوى ستظهر في الفقرة الأخيرة.
بدأت أشعر بالملل والنعاس حتى أفقت على صوت الموسيقى نظرت إلى المسرح فوجدت راقصات البالية يدخلن حتى ظهرت نجمة العرض في رداء أبيض، رأيتها فشردت، تأملت شكلها، تفاصيلها من شعرها إلى القدمين.. تأملت شعرها البرتقالي، بشرتها البيضاء الكالحة، جسدها الطويل الممشوق، تمنيت لو أستطيع الاقتراب منها أكثر لأتأمل ملامحها. لم أستطع إنزال عيني من عليها.
شعرت كأنّ العامين مرا عشرين عامًا وأن من أمامي هي إيلاف.. قطعة الجنة.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.