«أغنية كاسبر» في «كتابات مختارة»
فوق أماكن خطرة تشخص أبصارهم،
حيثما تطري، يراقب الأطفال أرواحهم،
يضربون السماء الخالية بشباكهم،
ناظرين لأعلى وقد تصبَّبت بالعرق وجوههم.
ُ يقعون وسط أغصان العلَّيق حني تفلت أيديهم،
وتلسع أوراق القَُّراص أصابع أقدامهم،
وبعدما يتعثرون وتصيبهم آلاف الخدوش الدامية،
يمسحون جباههم وتتوقف املطاردة.
فيأتي أبوهم ليهدئهم،
ويخفف الألم ويطفئ الحزن امللتهب،
يقول لهم: «هيا يا صغاري، اذهبوا،
واجمعوا من حديقتي أوراق الكرنب.
ً ستجدون على سطحها كتلا وحلقات عدة
من البيوض الرمادية الباهتة البضة،
التي يحولها الدود إلى أرواح مضيئة
َتبعث من املوت حية وضيئة.»
∗ ∗ ∗
لاسلكيٍّا
ُ «جميلة هي السماءُ وقبيحة هي الأرض.»
ُ هكذا قال الواعظ املتجسد.
فلا يجب أن ننظر إلى حيث يرقد الحلزون والبزاق والهوام
بحثًا عن ميلاد الروح ... وذاك هو فناؤنا التام!
من أعمال الشاعر السويدي ستاجنيليوس
قال السيد شينور وهو يسعل بقوة: «إنه شيء مضحك، هذا الأمر املتعلق بماركوني، أليس
كذلك؟ لا يبدو أن أي شيء يشكل فارقًا بالنسبة إليه، حسبما قالوا لي — العواصف والتلال
ً أو أي شيء؛ ولكن إذا كان هذا الأمر صحيحا، فسنعرف قبل حلول الصباح.»
أجبته وأنا أخطو خلف طاولة البيع: «إنه صحيح بالطبع. أين السيد كاشيل العجوز؟»
ٍّ «كان عليه أن يخلد للنوم بسبب إصابته بنوبة أنفلونزا. لقد قال إنك من املرجح جدا
أن تزورنا.»
«أين ابن أخيه؟»
ُ «يجهز الأشياء بالداخل. أخبروني أنهم، في آخر مرة جربوا فيها هذا الأمر، قد وضعوا
َ القطب على سطح أحد الفنادق الكبرى هنا وأن البطاريات قد كهربت كل إمدادهم من
ً املياه، و...» ثم ضحك وأردف قائلا ُ : «إن السيدات قد صعقن حينما استحممن.»
ً «لم أسمع بذلك أبدا.»
«ما كان للفندق أن يُعلن عن الأمر، أليس كذلك؟ إنهم يحاولون الآن، وفقً ا ملا أخبرني
به السيد كاشيل، إرسال الإشارات من هنا إلى بلدة بول، مستخدمني بطاريات أقوى من
ً سابقاتها. ولكن، كما ترى، نظرا لكونه ابن أخي املدير وما إلى ذلك (وكون الأمر سيُنشر في
ً الصحف أيضا) فلا يهم ما إذا كانوا سيُكهربون الأغراض في هذا املكان أم لا. هل ستتابع
هذا الأمر؟»
َ «بالطبع، فأنا لم أر ُ هذه اللعبة من قبل على الإطلاق. ألن تذهب لتنام؟»
«نحن لا نغلق قبل الساعة العاشرة مساءً في أيام السبت، كما أن الأنفلونزا منتشرة
جد ً ا في البلدة أيضا وستأتينا عشرات من طلبات الوصفات الطبية قبل الصباح. إنني عادةً
ٍّ
ً ما أنام على الكرسي هنا؛ فهذا أدفأ من القيام من الفراش كل يوم صباحا. فالبرد قارس،
أليس كذلك؟»
َّ «إن الثلوج تتساقط بشدة. يؤسفني أن سعالك قد صار أسوأ.»
َّ «أشكرك. ليس لدي مشكلة كبرية مع البرد، لكن الرياح هي ما تؤذيني بشدة.»
ً سعل مرة أخرى سعالا ً شديد ً ا ومتقطعا، في حني دخلت سيدة عجوز للحصول على عقار
َ الكينني املمزوج بالأمونيا. عَّد َل ً السيد شينور صوته وعاد للنبرة املهنية قائلا: «لقد نفدت
ِ ا منه يا سيدتي، ولكن إذا انتظرت ُّ دقيقتني، فسأعد ِ ه لك،
ِّ للتو َّ الزجاجات املعدة مسبقً
يا سيدتي.»
كنت قد اعتدت الذهاب إلى الصيدلية منذ فترة طويلة وتحولت معرفتي السطحية
بمالكها إلى صداقة. كان السيد كاشيل هو من كشف لي عن الهدف من «جمعية الصيادلة»
ً في إعداد إحدى الوصفات
وعن مدى قوتها حينما ارتكب أحد الزملاء الكيميائيني خطأ
ُثري أمر كذبته
الطبية التي كنت قد طلبتها وكذب ليغطي على تراخيه وإهماله، وحينما أ
ُوو ِوجَه بخطئه بوضوح، رد برسائل جوفاء.
ٌ قال الرجل الرفيع ذو العينني الهادئتني بانفعال بعد دراسة الأدلة: «إنه عار على
مهنتنا. إن إبلاغك عنه لجمعية الصيادلة هو أفضل خدمة قدمتها للمهنة.»
ً فعلت ذلك، وأنا لا أعلم تبعات ما أفعله، وكانت النتيجة اعتذارا حثيثًا كاعتذار شخص
أمضىليلته تحت تعذيب شديد. حازت جمعية الصيادلة على عظيم احترامي والسيد كاشيل
ِّ قد بالحماس ويقد َ س رسالته. لم يتفق مساعدا السيد
على بالغ تقديري، وهو رجل مهني يتَّ
شينور حتى عودته من الشمال مع ما فعله السيد كاشيل على الإطلاق. قال: «إنهم ينسون،
قبل كل شيء، أن من يقومون بتركيب ومزج الأدوية هم رجال طب، وأن سمعة الطبيب
تعتمد عليهم؛ فهم يحملونها حرفيٍّا بني أيديهم، يا سيدي.»
ربما لم يكن أسلوب السيد شينور على نفس القدر من التهذيب الذي يتمتع به
َ العاملون بمتجر البقالة واملتجر الإيطالي الكبري املجاورين، ولكنه كان يحب عمله الصيدلي
م بكل تفاصيله. وحتى في وقت راحته، بدا أنه لم يكن يغادر عالم الأدوية الذي
بشدة ويُلِ ُّ
ً كان مولعا به بشدة — كل ما يتعلق باكتشاف الأدوية، وإعدادها للتعبئة والنقل — إلا أن
هذا قاده إلى اكتشاف هذا العالم بكل جوانبه وما يخصه حتى منتهاه، وقد التقينا حول
د أكثر الأطباء املوثوق
هذا املوضوع وموضوع دستور الأدوية ونيكولاس كولبيبر، الذي يَُعُّ
فيهم.
بدأت أعلم بعض الأشياء عن بداياته وآماله شيئًا فشيئًا؛ عن والدته التي كانت معلمة
في مدرسة بإحدى املقاطعات الشمالية، وعن أبيه الأصهب الذي كان صاحب إصطبل
ً صغري لتأجري الخيول في كريبي مورز والذي مات حينما كان طفلا، وعن الاختبارات التي
اجتازها وعن صعوبتها املتزايدة والفائقة، وعن أحلامه الخاصة بامتلاك متجر في لندن،
وعن كراهيته للمتاجر التعاونية التي تبيع السلع بأسعار بخسة، وعن موقفه الفكري تجاه
الزبائن، وهذا هو الأمر الأكثر إثارة للاهتمام.
ُ تخدمهم بها بكل حرص وأدب، كما آم ُل،
ِّطور طريقةً
ً حدثني قائلا: «تستطيع أن تُ
ُ كتاب كريستي «النباتات التجارية الجديدة» طوال
ِوق ِّ ف ما تفكر به. كنت أقرأ
دون أن تُ
هذا الخريف، وأستطيع أن أخبرك بأنه يحتاج إلى تركيز شديد. يمكنني أن أتذكر ما يقارب
نصف صفحة من كتاب كريستي، ما دامت لا تدور بالطبع حول وصفة طبية، وفي نفس
ٍ الوقت أبيع كل ما بنافذة العرض هذه مرتني دون أن أخطئ في حساب بنس واحد. أما
َر ِّكب الأنواع املألوفة منها وأنا شبه
ُ
بالنسبة إلى الوصفات الطبية، فأعتقد أنني يمكنني أن أ
نائم.»
ٍّ لأسباب خاصة بي، كنت مهتما للغاية بتجارب ماركوني في بدايتها بإنجلترا، وقد كان
َّ من املتوقع من السيد كاشيل الذي يمتاز باملراعاة الدائمة للآخرين — بعد أن تولى ابن أخيه
الكهربائي إدارة املنزل بغرض تركيب أحد الأجهزة البعيد املدى — أن يدعوني، كما قلت،
لرؤية النتيجة النهائية.
أخذت السيدة العجوز دواءها ورحلت، وأخذت أنا والسيد شينور نضرب بأقدامنا
ُ على الأرضية املبَلَّ َطة خلف طاولة البيع لنحافظ على شعورنا بالدفء. كان املتجر يبدو
وكأنه منجم ماس باريسي نتيجةً للأضواء العديدة التي كانت تضيء أرجاء املكان؛ إذ
ِ كان السيد كاشيل يؤم ُن بجميع طقوس مهنته؛ فقد كانت ثلاث أوعية زجاجية مبهرة
تتألق، واحد أحمر والآخر أخضر والثالث أزرق — كانت من النوع الذي دفع روزاموند
ِّ (بطلة القصة القصرية «الوعاء الأرجواني» ملاريا إيدجوورث) للتخلي عن حذائها في مقابل
الحصول عليها — في نافذة العرض الزجاجية العريضة، وتعبَّأ الهواء بخليط من رائحة
نبات السوسن، وأفلام كوداك، والفولكانيت، ومسحوق تنظيف الأسنان، والأكياس املعطرة،
َ وكريم اللوز. ز َّوَد السيد شينور موقد املتجر بالفحم، واستحلبنا أقراص الفلفل الأحمر
الحريف وأقراص املنتول. ونتيجة للرياح الشرقية القاسية، خلت الشوارع من الناس، في
حني كان يسري املارة القليلون وأعينهم شبه مغلقة. وباملتجر الإيطالي الكبري املجاور، مال
بعض حيوانات الصيد والطيور املكسوة بالريش الزاهي، املعلقة على خطاطيف، بفعل
الرياح، وتدلت باتجاه الحافة اليسرى من إطار نافذة العرض خاصتنا.
ً قال السيد شينور: «يجب عليهم أن يضعوا هذه الحيوانات بالداخل بدلا من أن يضرب
ً بعضها بعضا هكذا. ألا يجعلك هذا تشعر بالضيق الشديد؟ انظر إلى هذا الأرنب البرِّي
العجوز! إن الرياح على وشك أن تنزع عنه فراءه.»
َ رأيت فراء بطن هذا الحيوان يتمزق ويطري والرياح تعصف به حتى ظهر الجلد املائل
ُّ للز ٌ رقة الذي يوجد تحته. قال السيد شينور وهو يرتعد: «برد قارس. إنه ملن دروب الخيال
الخروج في ليلة كهذه! أوه، ها هو السيد كاشيل الشاب.»
ِت َح ٌ باب املكتب الداخلي الذي يقع خلف طاولة البيع، ودخل رجل ٌ نشيط ذو لحية
فُ
مدبَّبة وهو يفرك يديه.
َّ تحد ً ث قائلا: «أريد القليل من ورق الألومنيوم، يا شينور.» وأضاف: «مساء الخري،
أخبرَني عمي أنك قد تأتي.» كان هذا ما قاله لي، قبل أن أبدأ في توجيه أول سؤال له من
بني مائة سؤال أخرى.
ً أجابني قائلا ً : «لقد رتبت كل شيء. إننا فقط ننتظر حتى نتلقى اتصالا من بلدة بول.
ِّ اسمح لي بدقيقة. يمكنك أن تدخل وقتما شئت، ولكنني أفضل أن أكون بجانب الأجهزة.
ً أعطني ورق الأملونيوم هذا، شكرا.»
ً وبينما كنا نتحدث، دخلت فتاة إلى املتجر وكان واضح َّ ا أنها ليست زبونة، فتغري وجه
السيد شينور وطريقته. انحنت بثقة على طاولة البيع.
ٍ «ولكنني لا أستطيع.» هكذا سمعته يهمس بتوتر، وقد توردت وجنتاه بلون أحمر
باهت وأشرقت عيناه وكأنها عثة مضيئة. ثم أضاف: «لا أستطيع، إنني وحدي هنا في هذا
املكان.»
َ «لا، لست وحدك. من «هذا»؟ دعه يعتني باملكان ملدة نصف ساعة. سيكون بعض
ً املشي السريع مفيدا لك. حسنًا، هيا الآن يا جون.»
«ولكنه ليس ...»
«لا أكترث. أريدك أن تفعل ما أطلبه منك، سنتجول فقط حول كنيسة القديسة
أجنيس. إذا لم تفعل ...»
خطا إلى حيث كنت واقفً ا في ظل طاولة البيع وبدأ يتمتم بالاعتذار حول شيء يخص
إحدى الصديقات.
َّ : «نعم. تول َّ أنت أمر املتجر ملدة نصف ساعة، هلا صنعت لي هذا
قاطعتْه قائلةً
الجميل؟»
كان لها صوت جزل وناعم يتناسب مع هيئتها.
ً أجبت قائلا: «حسنًا، سأفعل. ولكنك من الأفضل أن ترتدي ملابس ثقيلة، يا سيد
شينور.»
«أوه، سيفيدني بعض املشي السريع، سنتجول فقط حول الكنيسة.» وبينما كانا
ً يخرجان مع ً ا سمعته يسعل بشدة متأملا.
َح َّل بعض
أعدت تزويد املوقد بكمية كبرية أخذتها باستهتار من فحم السيد كاشيل، فَ
الدفء في املتجر. استكشفت العديد من الأدراج ذات املقابض الزجاجية التي كانت تصطف
على الجدران وتذوقت بعض العقاقري املريبة، وصنعت شرابً ً ا جديدا قويٍّا بمزج القليل من
بذور الحبهان والزنجبيل املطحون وثاني كلوريد الإيثيلني والكحول املخفف، وملأت منه
ً كأس ً ا قدمته إلى السيد كاشيل، الشاب الذي كان مشغولا في املكتب الخلفي. ضحك ضحكةً
مقتضبة حينما أخبرته أن السيد شينور قد خرج، إلا أن لفافة من السلك الضعيف استرعت
انتباهه بالكامل ولم يكلمني؛ إذ كان مشتتًا بني البطاريات والقضبان. بدأ يُ َسمُع صوت
البحر الهادر على الشاطئ كلما توقفت حركة املرور في الشارع. أعطاني بعد ذلك باختصار،
َ ولكن بوضوح شديد، أسماء واستخدامات الآلات التي ع َّجت بها الطاولات والأرض.
ُ سألته وأنا أرتشف شرابي من أحد الأكواب الزجاجية املَدَّر َجة: «متى تتوقع تلقِّي
الرسالة من بول؟»
«منتصف الليل تقريبًا، إذا سار كل شيء كما ينبغي. لقد ثبَّتنا جهاز البث ذا القطب
َّ على سطح املنزل. لا أنصحك باستخدام أي صنبور أو ما شابه الليلة. لقد صرنا موصلني
بشبكة املواسري وستكون كل املياه مكهربة.» قص عليَّ مرة أخرى حكاية السيدات اللائي
تكهربن بالفندق في وقت تثبيت جهاز البث الأول.
ً سألته قائلا: «لكن ما هذا؟ الكهرباء خارج نطاق معرفتي بالكامل.»
«حسنًا، إذا كنت تعرف هذا، فستعرف شيئًا لا يعرفه أحد. إنه ما نسميه بالكهرباء،
ولكن السحر، التجليات، املوجات الهريتزية كلها تنكشف من خلال هذا الجهاز الذي نسميه
بكاشف إشارات الراديو.»
التقط أنبوبًا زجاجيٍّا لا يزيد سمكه عن سمك الترمومتر، به سلكان فضيان صغريان
يكادان يتلامسان وبينهما كمية متناهية الصغر من الغبار املعدني. قال بفخر كما لو كان
هو صانع هذه العجائب: «هذا كل شيء. هذا هو الشيء الذي سيكشف لنا عن «القُوى»
— أيٍّا كانت هذه القُوى — التي تعتمل عبر الفضاء، على بعد مسافات بعيدة.»
ٍ حينئذ، عاد السيد شينور وحده ووقف على السجادة يسعل بشدة حتى كاد قلبه أن
ينفجر.
ً قال السيد كاشيل الشاب منزعج ً ا، مثلي تماما، من املقاطعة: «هذا ما تستحقه لكونك
ُ بمثل هذا الحمق. لا عليك؛ لدينا الليل بطوله حتى نرى هذه العجائب وهي تتحقق.»
تشبَّث السيد شينور بطاولة البيع وهو يضع منديله على شفتيه، وحينما أزاح املنديل
عن فمه، رأيت بقعتني لونهما أحمر فاتح.
قال لاهثً ً ا: «حلقي ... حلقي مجروح قليلا من تدخني السجائر. أعتقد أنني سأجرب
ً بعضا من نبات الكبابة.»
ً «من الأفضل أن تأخذ بعضا من هذا الشراب. كنت أحضره وأنا بالخارج.» أعطيته
الشراب.
ً «هذا الشراب لن يجعلني ثملا ٌ ، أليس كذلك؟ فأنا ممتنع عن شرب املسكرات تقريبًا،
يا للعجب! إنه لشراب مريح وجيد.»
وضع الكأس الفارغ حتى يسعل مرة أخرى.
ً «بررر، ولكن كان الجو باردا بالخارج! لا يهمني ما إذا كنت سأستلقي في قبري في
َص ُ ب بالتهاب في الحلق من قبل بسبب التدخني؟» وضع املنديل في جيبه
ليلة كهذه. ألم تُ
بعد أن نظر إليَّ نظرة سريعة.
«أوه، بلى، أحيانًا.» بينما كنت أتحدث أجبت، وأنا أفكر في مشاعر الرعب التي لا تُحتمل
ُ التي كانت ستنتابني إذا ما رأيت ً يوما علامات الخطر الحمراء الزاهية هذه أسفل أنفي.
سعل السيد كاشيل الشاب بصوت منخفض من بني بطارياته معلنًا عن استعداده ملواصلة
تفسرياته العلمية، ولكنني كنت ما زلت أفكر بالفتاة ذات الصوت الجزل والفم املرسوم،
ُ التي امتثلت ِّ لطلبها بتولي أمر املتجر. وخطر لي أنها كانت تشبه على نحو بعيد، الفتاة
املثرية التي كانت صورتها موضوعة على إعلان ذي إطار ذهبي لأحد أنواع العطور، والتي
ً ألقت عليها الزجاجة الحمراء بنافذة العرض وهجا زاد من سحرها الآثم. رأيت عيون السيد
شينور تميل ناظرةً في نفس الاتجاه، واستدرت لأتأكد من ذلك، فأدركت بالغريزة أن هذا
َّ الإعلان املتوهج كان بمنزلة شيءٍ مقد ً س بالنسبة إليه. سألته قائلا: «ماذا تتناول لعلاج ...
سعالك؟»
ُومن كثريً َّ ا بفاعلية الأدوية املسجلة، على عكس من يأتون إليَّ لشرائها،
«حسنًا، أنا لا أ
ُ ولكن توجد سجائر معالجة ملرض الربو وكذلك كرات التبخري العلاجية. لأصدقك القول،
ُك ِرات ِ تبخري ِ كاتدرائية بلوديت العلاجية التي تشبه رائحة البخور
إذا كنت لا تكره رائحةَ
على نحو كبري، كما أظن، ورغم أنني لا أتبع طائفة الروم الكاثوليك، إلا أنها تخفف أملي
أكثر من أي شيء آخر.»
ُ «دعنا نجربها.» أنا لم أسرق صيدلية من قبل ً ؛ لذا كنت حذرا. أخرجنا كرات التبخري
العلاجية — وهي عبارة عن أقماع بنِّية صمغية من البنزوين — وأشعلناها ثم وضعناها
ِ أسفل إعلان العطر، فخرجت منها أبخرة حلزونية زرقاء رفيعة.
ً رد السيد شينور على كلامي قائلا: «بالطبع، ندفع من مالنا الخاص مقابل ما نأخذه
من محتويات املتجر لاستخدامنا الشخصي. فعملية جرد املخزون في مهنتنا هذه هي نفسها
تقريبًا التي يقوم بها تُجار املجوهرات، ولا يمكنني أن أقول أكثر من ذلك. ولكننا سنحصل
عليها — مشريًا إلى صندوق كرات التبخري العلاجية — بسعر الجملة.» كان من الواضح
أن تبخري صورة الفتاة املثرية املبهجة ذات الثغر الباسم، التي تتمازج فيها سبع درجات
من الألوان، من طقوسه الثابتة التي كانت تُكلفه بعض املال.
«ومتى سنغلق املتجر؟»
«نبقى على هذا النحو طوال الليل؛ فمالك املتجر، السيد كاشيل العجوز، لا يؤمن
بالأقفال واملصاريع مقارنة باملصابيح الكهربائية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا يجذب
الزبائن إلينا. سأجلس هنا على املقعد بجوار املوقد وأكتب رسالة، إذا كنت لا تمانع.
فالكهرباء ليست من موضوعاتي املفضلة.»
شخر السيد كاشيل الشاب بالداخل، في حني استقر السيد شينور على مقعده الذي
وضع فوقه بطانية نمساوية مصنوعة من الخيش ذات لون أحمر وأسود وأصفر، فبدت
َّ وكأنها غطاء طاولة أكثر منها بطانية. بحثت وسط نشرات الأدوية املسجلة عن شيء أقرؤه،
ولكنني حينما لم أجد سوى القليل، عدت إلى تصنيع الشراب الجديد. كان املتجر الإيطالي
ْ الكبري قد أنزل حيوانات الصيد املعلقة خاصته وأغلق أبوابه. وعبر الشارع عكست املصاريع
ا
البيضاء أضواء مصابيح الغاز على هيئة بقع من الضوء البارد، وبدا الرصيف الجاف خشنً
را تحت تأثري عصف الرياح الوحشية، ويمكننا سماع صوت الشرطي من بعيد وهو
ُم َقشِع ٍّ
َ يشبك بذراعيْه على صدره ليُبقي نفسه دافئًا. أما بالداخل، فقد نافست رائحة بذور الحبهان
وثاني كلوريد الإيثيلني تلك الخاصة بكرات التبخري العلاجية ومجموعة أخرى من العقاقري
والعطور وأنواع الصابون. وألقت أضواء مصابيحنا الكهربية، التي كانت موضوعة أسفل
نافذة العرض أمام أوعية روزاموند الزجاجية املنتفخة من الوسط، بثلاثة ظلال مخيفة
من الضوء الأحمر والأزرق والأخضر التي انعكست على املقابض متعددة الجوانب لأدراج
العقاقري، وقنينات العطور الزجاجية املزخرفة، والأجزاء الوسطى من القوارير البراقة،
َّ وكونت أضواءً متلألئة متعددة الألوان. وتدفَّق الضوء على الأرضية املكسوة بالبلاط الأبيض
ً ا بقعا ضوئية فائقة الجمال، وتناثرت ذرات الضوء على حواجز طاولة البيع املصنوعة
مكونً
َّ من النيكل والفضة، وحولت ألواح طاولة البيع املصنوعة من خشب املاهوجني املصقول
ُّ ق املتشابك: ألواح من الرخام السَّم َ اقي وامللكيت. فتح
ً إلى ما يشبه سطح ُ ا من الرخام املَع َّر
السيد شينور أحد الأدراج وقبل أن يشرع في الكتابة أخرج رزمة صغرية من الرسائل. من
مكاني بجانب املوقد، تمكنت من رؤية الحواف ذات النتوءات املدورة للورق والحروف
املنقوشة املبهرة في ركنها، وتسللت رائحة خشب الصندل القوية إلى أنفي. وعند اطلاعه
ِ على كل رسالة، كان يستدير لينظر إلى فتاة إعلان العطر ويلتهمها بعينني بالغتَي اللمعان
في اشتهاء. كان قد جذب البطانية النمساوية ووضعها فوق كتفه، وكان يبدو، أكثر من أي
ٍ وقت ً مضى، في وسط تلك الأضواء املتصارعة تجسيد ُ ا للعثَّة: عثة النمر، بحسب اعتقادي.
وضع رسالته في ظرف وختمها بحركات آلية متيبسة ثم وضعها في الدرج. أدركت
ٍ حينئذ وقْع الصمت الذي خيَّم على مدينة عظيمة تغط في النوم؛ الصمت الذي خيم حتى على
أصوات الأمواج التي تنكسر على الصخور بطول شاطئ البحر؛ هدوء كثيف واخز لحياة
ُ دافئة تحقق في وقته املحدد، وتحركت دون وعي في أرجاء املتجر املتلألئ كما يتحرك املرء
في غرفة مرضى. كان السيد كاشيل الشاب يضبط بعض الأسلاك التي كانت تُصدر من
وقت لآخر صوت فرقعة الشرر الكهربية الشديد الذي كان يشبه صوت طقطقة املفاصل.
وفي الطابق العلوي، كنت أستطيع سماع صوت سعال عمه املريض طريح الفراش في الوقت
ُح فيه باب غرفته قبل أن يُغلَق بسرعة.
القصري الذي كان يُفتَ
ً قلت حينما أصبح الشراب جاهز َّ ا كما ينبغي: «تفضل. خذ القليل من هذا، يا سيد
شينور.»
ارتعش في كرسيه وهو يجفل بألم، ومد يده ليحصل على الكوب. تجمعت رغوة من
الخليط ذي اللون الأحمر الداكن، على سطح الشراب.
ُ قال فجأة: «إنها تبدو، إنها تبدو — هذه الفقاعات — وكأنها عقد من اللؤلؤ الذي
ً يغمز لك، تماما مثل اللؤلؤ الذي يُزيِّن رقبة هذه الفتاة.» استدار مرة أخرى نحو صورة
ٍّ الإعلان الذي كانت تظهر فيه الفتاة املرتدية مشدا رماديٍّا، التي راق لها أن ترتدي كل لآلئها
حتى قبل أن تنظف أسنانها.
ً حدثته قائلا: «ليس سيئًا، أليس كذلك؟»
«ماذا؟»