darbovar

Share to Social Media

قطار قديم متهالك متجه في رحلته إلى القاهرة قادما من المنصورة، الناس في هذا القطار يعتصرون داخل هذه الصناديق الحديدية، يفترشون الممرات،
ضوضاؤهم في تزايد مستمر، يُشاطرهم هذه الجلبة باعةٌ يتجولون بين العربات، يُسوِّقون بضاعتهم بالإكراه
داخل إحدى عربات هذا القطار، طفل صغير اسمه "مصطفى" مازال في الثالثة عشر من عمره ، كان يجلس بين الحشود يتفقد الوجوه ويراقب العيون، جعل من نفسه وسادة لأخيه حتى يهنأ بنومٍ عميق
هذا المشهد غير مألوف بالنسبة له، فهو من سكان القصور، ولا يعلم ما الذي أتى به إلى هذا الخندق المزدحم بالناس، ولكنه أتى بصحبة أبيه وأمه ولا يعلم أين الوجهة ولا يُدرك سبب هذه الرحلة
في البداية .. ظن أنها فُسحة عائلية، لأن الأب قد أحضر جميع أبناءه، ولعل تلك الحقائب التي تحتوي على أمتعتهم كانت برهان على ذلك.
بالإضافة لحالة السكون التي كان عليها جميع الأبناء والتي اعتبرها إشارة لأن هذه الفسحة ستكون جيدة، وربما يخبِّؤ لهم والدهم مُفاجأة سارَّة في نهاية تلك الرحلة
مكثَّ الفتى طويلا يتفحص تلك الوجوه الغريبة وما يصاحبها من سلوك عشوائي، لم يفهم في البداية ما الذي يدفع الناس لأن يركبوا مثل هذه الخنادق المتحركة،
ولكنه لم ينشغل كثيراً لسبب ركوبهم لهذا القطار، فقد انشغل أكثر بأفعالهم العجيبة
وبعد أن أنهى مراقبته لهؤلاء البشر الغوغائين، عاد مرة أخرى ليتفحص وجوه أسرته، لأنه كان على وشك نسيان ملامحهم من كثرة الوجوه التي علقت بذهنه في هذا اليوم.
نظر لأبيه أستاذ "حسن عبدالرحمن" الذي كان يمسك بيده جريدة يتصفح أوراقها، وبجواره زوجته والأم الحنون السيدة " حنان عبدالحميد"
يجلس في المقعد المقابل لهم، "محسن" أكبر الذكور وثاني الأبناء من حيث الترتيب بعد "أمل" البنت البكرية لهذه الأسرة
"أمل" تلك الفتاة المطيعة التي يَظهر على ملامحها أنها قد غاب عنها الأمل، كانت تجلس في المقعد المقابل "لمصطفى" وقد أطفأ الحزن حُسنها
في هذه اللحظة شعر "مصطفى" أن هناك أمر غريب يحدث، فهو لم يعهدها بهذا الشكل
فتوجه بنظره إلى المقعد المجاور لها الذي تنزوي به "إلهام" تلك البنت الشقية رمز البهجة والفرح، والتي تَصغُر "محسن " بعام واحد
ولكن يبدو وكأنها نسيت فرحهتا في البيت قبل الخروج، فلم تكن بالصورة المعتادة التي كانت عليها في السابق
لتسيطر الحيرة والإرتباك على هذا الولد الصغير، فهمس في أذن أخيه الذي يتوسد قدميه، وأخذه يهزه برفق في محاولة منه لإيقاظه،
قائلاً: محمود .. محمود اصحى بقى يَلَا قوم ده كله نوم ؟
انت نايم من أول ما خرجنا من البيت ..!
يستفيق "محمود" من نومه، مستجيباً لهذا الهمس
محمود هو الشقيق الأكبر "لمصطفى" والرابع من حيث الترتيب، الآن اكتمل نصاب هذه الأسرة، ثلاثة ذكور وفتاتين
يعتدل "محمود" في جلسته ينظر حوله ليتفقد الوجوه، وكأنه يقوم بعملية جرد عن باقي الأسرة، خشية أن يكون قد نقص العدد أثناء نومه
بحث في البداية عن أبيه أستاذ "حسن" وأمه السيدة "حنان" ثم بدأ في تفقد باقي إخوته، فوجدهم منتشرين حوله في مقاعد القطار
ترتيب الأبناء على حسب العمر كالأتي: أمل 17 سنة، محسن 16 سنة،
إلهام 15 سنة ، محمود 14 سنة، مصطفى 13 سنة
بعد أن انتهى من أخذ الغياب وتم التأكد من أن العدد كامل، التفت إليه
قائلاً: في ايه، انت بتصحيني ليه ؟
ردَّ عليه: عايزك تقعد معايا أنا مدايق أوي
فقال له محمود: مالك في ايه ؟
فسأله: هو احنا رايحين فين، وبابا واخدنا ومسافرين ليه ؟
ردَّ عليه قائلاً: انت ما عرفتش اللي حصل ؟
فنظر له وقال في حماسة: لأ معرفش حاجة، هو حصل ايه ؟
فقال له محمود: مش أعمامك اتخانقوا مع بابا وطردوه من البيت !
فقال له مُتعجباً: ازاي يعني، مش ده بيته هو كمان، ازاي يطردوه منه ؟!
فنظر له في أسى قائلاً: معرفش بقى، أهو ده اللي حصل
فقال مصطفى متسائلاً: يعني احنا كده مش هنرجع بيتنا تاني ؟
ردَّ عليه، وقد ظهر على ملامح وجهه الحُزن، وقال له: لأ، مش هنرجع تاني
انزعج مصطفى من هذا الخبر، وذهب ليسأل والده: بابا، هو احنا مش هنرجع بيتنا تاني ؟
كان أستاذ "حسن" ممسكاً بتلك الجريدة، فلم يلتفت له، ولكنه أجابه إجابةً مختصرة دون أن ينظر إليه: لأ احنا هنعيش في القاهرة، هيكون عندنا بيت أجمل هناك
يَظهر الغضب على ملامح وجه "مصطفى"، وقال له بنبرة صوت بها كثير من الحدة: أنا مش عايز بيت أجمل، أنا عايز بيتنا اللي في المنصورة
التفت إليه والده ونظر له نظرات تحذيرية وقال له: خلاص بقى يا ولد، أنا قولت إننا هنعيش في القاهرة، ومش هنرجع المنصورة تاني، روح اقعد مكانك
لم يكترث "مصطفى" لتلك النظرات ولم يستجب له، وأوجع مسامعه بكلمات لاذعة، قائلاً: ليه انت وإخواتك بتتخانقوا مع بعض، ومش عارفين تحلوا مشاكلكم مش انتو كبار برضو ؟!
كلماته المفاجئة لمن تكن تسمح لأبيه بحسن التصرف، ولم تعط له المجال لاستحضار الرد المناسب، فهو لم يعتاد أن يتكلم معه أي من أبناءه بهذه الطريقة وخاصة هذا الولد الصغير
وقبل أن يستفيق والده من تلك الضربة عاجلة "مصطفى" بأخرى وقال له: وليه تخليهم يمشونا من بيتنا، مش ده بيتنا برضو، ليه معرفتش تدافع عن حقك، مش انت كبير برضو ؟!
تتدخل والدته مسرعة لتهدئة الموقف لخوفها من وقوع كارثة في هذا القطار، فالصدام أصبح حتمي بعد حالة الغليان التي أصيب بها ذلك الأب
نظرت له والدته بوجه عبوس وقالت له: بس يا مصطفى عيب كده، اسمع كلام بابا، وروح اقعد مكانك
في هذه اللحظة كان والده يشتاط غضباً، فنظر له قائلاً: روح اقعد مكانك يا زفت، واسْكت خالص، مش عايز أسمع صوتك، وأنا هربيك بعدين
فأرسل إلى أبيه نظراته الساخطة، ثم ذهب وجلس في مكانه، وكان واضحاً عليه أنه لن يكتفي بهذا فمازال في جعبته الكثير
تلك الرسائل التحذيرية التي أطلقها الأب من مدفعه، كانت تحذير للجميع، فالكل كان معترض على هذا القرار المفاجىء، والكل كان رافض لاستسلام والدهم الذي تسبب في إهدار حقوقهم
ولكن لم تكن لديهم الشجاعة للاعتراض، وما حدث للتو كان تحذير لهم جميعاً، ليُخفوا اعتراضهم داخل سرداب عميق، حتى لا تطولهم العقوبات
"محمود" جلس بجواره يحاول مواساته قائلاً : ما تزعلش يا مصطفى انت ايه اللي مضايقك، ما كلنا اهو مش زعلانين انت ايه اللي مزعلك ؟
"مصطفى" بنظرات ساخطة وعبارات لاذعة، قال له: أنا عارف إن كلكم زعلانين بس انتو بتخافوا تتكلموا، وما بتعرفوش تدافعوا عن حقكم زي بابا بالظبط، بس أنا بقى مش هخاف تاني، وهدافع عن حقي واللي يحصل يحصل
"محمود" يرمقه في صمت حتى يُسكِتَه، فهو لا يريد أن يجاريه في هذا المسار، حتى لا يجذب انتباه أبيه
وكذلك جميع إخوته ظلوا ينظرون إليه محذرين له، لأنهم يعلمون أنه إذا غَضِب الأب، فالعقوبة ستكون جماعية
قام "مصطفى" بتوزيع نظراته الغاضبة عليهم، ثم قال لهم: أنا ما بحبش حد يتحكم في حياتي، وما بحبش حد يجبرني على حاجه أنا مش عايزها ولا فاهمها
حاول "محمود" امتصاص غضبه فقال له: يا عم عادي هو ايه اللي حصل يعني ؟ وبعدين احنا هيكون عندنا بيت جميل في القاهرة، وكمان بيقولوا إن القاهرة أحسن من المنصورة وبيقولوا إنها بلد كبيرة.
فقال له مصطفى: انت مش فاهم حاجه، مش مهم تكون بلد أحسن ولا أوحش المشكلة إنك مسحوب من رقبتك زي الحمار، مش عارف انت رايح فين، بتتحمل أخطاء ناس ما بتعرفش تتصرف صح
وانت ملكش رأي ولا اختيار، وزي ما مشينا من المنصورة بمزاجهم هنمشي من القاهرة كمان بمزاجهم
الكل كان متفاجيء من كلمات "مصطفى"، وعلى وجوههم علامات الدهشة، كيف ينطق هذا الطفل بمثل هذه الكلمات، لم يعهدوا عليه أن يتكلم بهذه الطريقة ولا بتلك المفردات المرتبة ..!
يظهر على ملامح وجه "محمود" الخوف والقلق لأن ما يفعله شقيقه الآن، تجاوز لكل الخطوط الحمراء والأمر لن يمر بسلام
فقال له في محاولة منه لتدارك الموقف، ساعياً لتهدئته: ما تخافش إن شاء االله مش هنمشي من البيت اللي في القاهرة تاني
نظر له مصطفى ساخراً .وقال له: وانت ايه اللي يضمنلك بقى إن شاء الله، هو في حد كان أخد رأيك وهما بيمشونا من المنصورة
قال له محمود: لا ما حدش أخد رأينا لأن احنا صغيرين، وما نعرفش الصح من الغلط، وعشان كده لازم نسمع كلام الكبار لأنهم هما اللي فاهمين
فقال له مصطفى مُتهكماً: فاهمين .. تصدق فاجئتني !
نظر له محمود غاضباً، وقال له: أيوه فاهمين، أُمَّال مين اللي فاهم انت ولا ايه ؟!
فردَّ عليه بصوت مرتفع به كثير من الحدة: لوكانوا فاهمين وعارفين الصح من الغلط زي ما بتقول، مكنوش اتخانقوا مع بعض وطردونا من بيتنا، وكانوا عرفوا يتصرفوا ويحلوا مشاكلهم على الأقل
والله يا محمود الناس الكبيرة دي مش كلهم بيكونوا فاهمين وعارفين بيعملوا ايه، ولكن لأنهم كبار بيغلطوا براحتهم، ومفيش حد بيضربهم زي ما بيضربونا لما نغلط.
جلس "محمود" وهو يتلفَّت حوله ليعرف إن كانت هذه الكلمات وصلت إلى مسامع أبيه أم لا، فهو يعرف أن وصول هذه الكلمات إلى مسامع أبيه قد يتسبب في وقوع كارثة، أما "مصطفى" لم يعنيه ما قد يحدث ولم يبدو خائفاً.
قال له "محمود" هامساً: انت طول عمرك عَيِّل عنيد وعامل فيها مفتَّح ومش مقتنع إن انت عَيِّل صغير، اسكت بقى مش عايزين مصايب.
لم يكترث "مصطفى" بهذا الهمس فرَدَّ عليه بصوت جهور وقال له: وانت خليك جبان وخايف كده على طول، هو ده اللي هما عايزينه، إنك تخاف تطالب بحقك أو حتى تفكر تعترض
أنا بقى مش مهم عندي تشوفني عنيد ولا قليل الأدب، أنا كل مشكلتي إن أنا ما بحبش حد يتحكم في حياتي، وما بحبش حد يجبرني على حاجه أنا مش عايزها، هو أنا كده بطلب المستحيل ؟!
شوف يا محمود أنا مش عايز غير حقي وبس، وعشان كده أنا مش هخلي أي حد مهما كان إنه يتحكم في حياتي أبداً، وكل حاجه في حياتي لازم أنا اللي أختارها، حتى لو كانت غلط،
أنا مش هسيب حد يختارلي حياتي ويرسمهالي على مزاجه، ويخرَّب فيها على كيفه، حياتي أنا اللي هختارها، وهدافع عن حقي في الاختيار حتى لو كان تمن الدفاع عن حقي إني أموت.
كلمات قويه جعلت الجميع يتبادلون النظرات فيما بينهم، بعيون حائرة لا يدركون كيف تخرج هذه الكلمات من هذا الطفل
كلمات هذا الفتى كانت كفيلة لإحداث تَصدُّع لتلك العقول المتحجرة، ولكن مازال الخوف يسيطر عليهم، فسلطان الخوف على العقول أقوى من سلطان الحق.
والدته في تلك الأثناء كانت تَرمُقه بعيون غاضبة، وتحرك يديها بإشارات تحذيرة لإسكاته، نظرات وإشارات لم تكن كافية لإسكات هذا القلب النابض صاحب العقل الحر.
والده جالس في صمت ممسك بيده تلك الجَريدة متظاهراً بقراءتها، وهو في الحقيقة يختبىء خلفها، حتى لا يَظهر عليه تأثير تلك الكلمات
محمود عاود الهمس في أُذنه من جديد وقال له: يعني انت عارف الصح من الغلط يا ناصح، افرض إنك مشيت بدماغك الهبلة دي، وروحت في مصيبة هتبقى مبسوط وقتها ؟
فقال له : عادي لما أغلط ما كده كده الكبار كمان بيغلطوا، فعادي لما أغلط أنا كمان، ايه المشكلة يعني !
بس على الأقل أنا لما أغلط هاكون مبسوط لأني هتعلم من غلطي، مش هما يغلطوا وأنا أتحمل النتيجة.
الأب في هذه اللحظة شَعُر أنه محاصر بكلمات هذا الولد الصغير، فكلماته باتت مُوجعة بصورة كبيرة، فنظر حوله فوجد العيون التي تختلس النظر إليه، وتترقب ردة فعله
فلم يعد باستطاعته التظاهر أنه لم يسمع أكثر من ذلك، فكلمات هذا الفتى قد بلغ مداها ما بلغ، فقد بدأ كل ركاب تلك العربة يتلفَّتون حولهم، يبحثون عن مصدر هذا الصوت، صاحب الكلمات اللاذعة
فنظر إليه والده غاضباً، وقال له بنبرة صوت محملة بعقوبات محتملة: اتلم يا قليل الأدب يا سافل، بدل ما أقوم أكسر عضمك دلوقتي
"مصطفى" لم تعد تُخيفه هذه النظرات الغاضبة ولا تلك التحذيرات، فالأمر أصبح بالنسبة له حياة أو موت، فلا قيمة لحياة يقودها له غيره، ويتحكم في أدق تفاصيلها
فقال له منفعلاً: يعني انتو تمشونا من بيتنا بمزاجكم، وكمان عايزينا نتكلم على مزاجكم، يعني انتو ما بتعرفوش تتصرفوا، لكن بتعرفوا تِسَكِّتونا بس ..!
كلمات قاسية أغضبت ذلك الرجل الضعيف، وأخرجت منه ذلك الوحش الذي لا يَظهر ولا ينتفض إلا للنيل من الضعفاء، ولذلك فقد حسم قراره بمعاقبة هذا الابن الضال
قرار بالضرب كان بمثابة حكم نهائي واجب النفاذ، ولكن أوقف تنفيذ هذا الحكم، عبارات من الزوجة تُفيد بأن المكان ليس مناسب.
فقالت له وهي تمسك بيده ليعود إلى مقعده مره أخرى: خلاص يا "أبو أمل" مش وقته الكلام ده، الناس بتبص علينا.
يجلس الزوج مستجيبا لهذه النصيحة، فهو غير قادر على مواجهة الجماهير، جلس وهو يتوعده قائلاً: أنا في البيت هربيك، يا سافل.
"مصطفى" لم تهتز له شعره من سيل التحذيرات والعقوبات المنتظرة هذه
فنظر له قائلاً: بدل ما تضربني عشان بتكلم، كنت دافعت عن حقك قصاد إخواتك اللي أكلوا حقك، ولا انت مش قادر غير عليا أنا بس، يعني كلامي بالنسبالك قلة أدب ، إنما طردك انت وأولادك من بيتك مكنش قلة أدب ..!
يشتاط الأب غضباً، فقسوة العبارات قد هز كيانه، فانتفض مرة أخرى لمعاقبته، ولكن كلمات زوجته التحذيريه أوقفت هذا القرار أيضا، حينما لعبت على وتر الفضيحة
فقالت له: معلش يا أبو أمل، مش عايزين فضايح والنبي، الناس كلها بتبص علينا، مش وقته الكلام ده.
فيعود إلى مكانه مرة أخرى، جلس وهو يتوعد هذا الابن المارق، الذي انتفض ليرفض الظلم والتحكم في حياته، من قِبَل أشخاص لا تستطيع تدبير أمور نفسها، فكيف يحق لها إدراة حياة غيرهم ..!
في هذه الأثناء تقوم الأم وتذهب إلى "مصطفى" لتمارس أحد أدوارها في الحفاظ على القوام المتماسك لهذه الأسرة
جلست إلى جواره وقالت له بانفعال: خلاص بقى يا زفت انت، انت مش عايز تتلم وتجيبها البر ؟
فقال لها بنظراته الحارقة ، ولسانه الذي يقذف لهب: أنا والله مش عارف ايه العيب في إني بتكلم وبعبر عن رأيي، هو أنا طردت حد من بيته ولا شتمت حد ولا ضربت حد ..!
الحجات دي انتو اللي بتعملوها، بس مفيش حد بيحاسبكم عليها، عارفه ليه ؟
عشان انتو كبار، إنما أنا لما أتكلم وأدافع عن حقي أبقى قليل الادب ، ولازم أنا اللي أتضرب، مش لإني غلطان، لأ .. ولكن عشان أنا الأصغر والأضعف.
تنظر له ولدته بغضب وتتلفَّت حولها لمعرفة هل وصلت هذه الكلمات لمسامع أحد، أم لا.
لم يتوقف "مصطفى" عند هذا الحد، بل استمر في توجيه الضربات المرة تلو الأخرى، وبعد وابل من العبارات والجمل القاسية
نظر إليها قائلاً: ولا أقولك، خلاص بعد كده ابقوا خلفوا عيال خُرس أحسن، عشان ترتاحوا، أو اقطعوا لسانهم وهما صغيرين، عشان ما تسمعوش صوتهم خالص، طالما كلامهم بيزعلكم أوي كده.
كلماته وقوتها، جعلت كل من بالعربة يتتبع مصدر هذا الصوت مرة أخرى، فالجميع أصبح متحمِّس لرؤية صاحب هذه الكلمات ..
فالكلمات كبيرة ولكن الصوت يبدو لطفل صغير، معادلة لم يفهما الكثير، ولهذا كان هناك شغف لروؤية صاحب هذا الصوت
فلم يكن يتوقع أحد أن تخرج هذه الكلمات من هذا الفم الصغير، مما دفع الجميع للإنصات، لتختفي الضوضاء من هذه العربة، ولم يتبقى إلا صوت ذلك الغلام يرن في الأفق.
تلك العبارات والجُمَل المرتبة القوية، أوجعت مسامع تلك الأم المسكينة، وما زاد الأمر بؤساً، كانت تلك النظرات التي تتجه نحوها من سكان هذه العربة
حاولت أن تهرب من هذا الوضع السيء الذي وضعت نفسها فيه بأي طريقة فهي لم تتوقع أن تسير الأمور على هذا النحو
كانت تظن أنها ذاهبة في نزهة قصيرة تُوَبِّخ فيها طفل صغير، وتَبُث في قلبه الرعب وتقوم بتهديده بالعقوبات التي ربما تلحق به، وتعود إلى جوار زوجها آمنة مطمئنة
ولكنها تفاجئت بطفل عملاق، صاحب ضربات موجعة، وكلمات مُرتبة تخرج منه بصوت مُرتفع، فلم تعرف كيف تخرج من هذا الموقف.
فنظرت إليه وهي تتصبب عرقاً، وملامح وجهها يتوسل إليه أن يكف عن تعريتهم أكثر من ذلك
فقالت له بحركات من الشفايف لم يكن مصاحباً لها صوت: خلاص بقى والنبي، اقعد ساكت مش عايزين فضايح.
فنظر إليها بوجهٍ ساخر وصوت مُحَمَّل بالأسى، ثم قال لها: أيوه أنا عارف إنكم ما بتخافوش غير من الفضايح بس، إنما الظُلم وأكل الحق ما بيفرقش معاكم خالص
راحة ولادكم ومشاعرهم وحريتهم، أخر حاجه ممكن تفكروا فيها، خلاص يا ماما، أنا هقعد ساكت ومش هتكلم تاني.
يسكت "مصطفى" موزعاً على الأم وأبنائها، نظرات عَتَبِه التي حُمِّلَت بالشفقة، ثم تفحص وجه ذلك الأب الهارب، الذي كان مازال يختبيء خلف تلك الجريدة
نظر إلى أبيه بعيون غاضبة، ثم التفت عنه لينظر خارج القطار، ظل يتأمل سرعته الكبيرة، كان ينظر إلى الناس في الخارج والأشجار والبيوت التي يتجاوزها ذلك القطار بسرعته الهائلة
ولكن سرعة هذا القطار، لم تكن لتلحق بسرعة تلك الأفكار التي تدور في رأس هذا الغلام، فسرعة الأفكار في رأسه بدت مرعبه، لا يمكن اللِحاق بها.
يصمت ذلك الفتى ليس خوفاً وإنما يأساً ..
فقد اتضحت الصورة أمام عينيه وأدرك أنه ليس هناك أمل، فكل كلماته تُتَرجم على أنها قلة أدب، دون بذل مجهود في محاولة التفكير بها، مما دفعه لملازمة الصمت.
وأثناء توقف القطار في إحدى المحطات، وجد رجل كبير، له لحية بيضاء، ويظهر عليه الوقار، كان يجلس في هذه المحطة، أخذ مصطفى يتأمله بطريقة غريبة، وكأنه يعرف هذا الرجل، أو ربما رآه من قبل
وبعد لحظات التفت له هذا لرجل، ونظر في عينيه بعمق غريب، وكأنه يُريد أن يُخبره شيء، استمر هذا المشهد طوال فترة تواجد القطار في هذه المحطة، والتي تجاوزت العشر دقائق، فلم تفارق عيون هذا الرجل، عيون مصطفى
وكأن مصطفى غرق في عيون هذا الرجل، ولم يعد يستطيع الخروج
كان يستشعر أن هذا الرجُل يرغب في إخباره بشيء، وفي اللحظة التي قام فيها هذا الرجل وتقدم نحوه، كان القطار على وشك الأقلاع.
كان مصطفى مُتحمس لمعرفة من هذا الرجل، ولماذا كان قادم إليه، وما هو الشيء الذي يُحاول أن يخبره به، ولكن القدر منع هذا اللقاء، ولم يسمح له بمعرفة هذه الإجابة.
فبمجرد ما وصل إليه هذا الرجل ، ووقف أمامه مُباشرة، وقبل أن ينطق بحرف، بدأ القطار في التحرك.
ليصاب "مصطفى" بخيبة الأمل، ويأكله الفضول.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.