جلستْ صفا باسترخاء في الشرفة مغمضة عينيها، تستمع إلى البرنامج الثاني في مذياعها القديم، تحتفظ به إرثًا من جدتها، فتحت عينيها وابتسمت ل أصص زهورها الجديدة، أمسكت برشاش ماءٍ صغيرٍ تستخدمه في إرواء أوراق شجيرات صغيرة زرعتها بنفسها في دِلَاء بلاستيكية، فوارغ مسحوق الغسيل، بعد تلوينها من الخارج بألوان زاهية.
اقتربتْ دينا بهدوء، باغتتها بصرخةٍ خفيضة بجانب أذنها، فابتسمت صفا بهدوء لابنتها:
- لا أفهم! لماذا لا تفزعين مثل بقية البشر؟!
ابتسمتْ صفا بفخر:
- لأنني لست كبقية البشر.
- يا سلام!!
- يا ابنتي، الفزع ما هو إلا ضعف إيمان، إن كان إيمانكِ قويًّا؛ فلن تخافي أو تفزعي.
- مال الإيمان بالفزع؟!
- أنا مؤمنة أن ما يحدث قدرًا، فلمَ أفزع من صرخة؟
- لا أفهم.
- داومي على الصلاة والأذكار والتسبيح وستفهمين.
- أمرك (ستنا الشيخة).
ضحكتْ دينا بصوتٍ عال، نظرت إليها صفا مندهشة وسألتها:
- ما يضحكك؟!
- مولاتنا الشيخة عازفة البيانو، صديقاتي كلهن يندهشن لمّا يعلمن أنك عازفة ماهرة ومدرسة موسيقى؛ أليست الموسيقى حرامًا؟!
- لا أظن، ذكرتِني بتعجب كثيرين وقت التحاقي بكلية التربية الموسيقية، ومن حبي للموسيقى رغم تديني الواضح، وسألوني السؤال نفسه، وكيف ستذهبين إلى الكلية وأنت ترتدين الزي الإسلامي؟!
ضحكتْ دينا:
- الأغرب أنك ترتدين حجابًا حقيقيًّا، جلبابًا واسعًا وخمارًا؛ حجابًا كما أمر الله.
- يا ألله، الفهم الخاطئ يقتلني، عمومًا أنا مقتنعة أن الموسيقى ليست حرامًا طالما لم تشغلنا عن ذكر الله وعبادته؛ وتأدية الصلوات في أوقاتها.
دق جرس الباب، أسرعتْ دينا لفتح الباب، دخل حازم متجهمًا، ابتسمتْ أخته وردتْ سلامًا لم يُلقَ:
- وعليكم السلام، ما بك؟
- لا شيء، هل أكلتم؟
- نعم، وأمك تشرب القهوة في حديقتها الغنّاء.
ضحكتْ دينا، ودغدغته في جنبه، ابتعد حازم ضاحكًا:
- "ماما"، ابنك (بيركب الهوا).
صرخ حازم على أمه:
- أمي، أموت جوعًا.
- أنتهي من القهوة أولًا، ما بكَ؟
- مطلوب بحث سخيف قبل مناقشة الماجيستير.
- استعن بالله وابدأ.
- أمي كفاك دروشة، مؤكد أني سأستعين بالله، لكنه بحثٌ سخيف.
- إن استعنت بالله وتوكلت عليه بحقٍّ فلن تغتم.
ظهر الضجر عليه وهو يغير ملابسه:
- بدأنا حصة الدراويش التي لن أنصت لها، أريد الطعام وسأستعين بالله، لا تقلقي.
هزتْ رأسها بضيق، اتجهتْ للمطبخ، حدثتْ نفسها: "جيل غبي، يعد الاستعانة بالله دروشة، لم يعلمني أحد أن أستعينَ بالله في كل أمر عسير، لم يأمرني أحد أن أرتدي غطاءً صغيرًا للرأس في الصف الأول الإعدادي، رغم أنه سيغطي القليل من الجمال الذي يميزني؛ شعري الأسود الناعم؛ كانت كل نساء عائلتي تحسدني عليه، ورغم ذلك أقدمت على ارتدائه بلا توجيه سوى من عقلي وقلبي".
حمدتْ الله في قلبها على ما ميزها به عن القرناء.
تذكرتْ زميلًا لها في الصف الثالث الإعدادي، كان الأوسم بين طلبة المدرسة، رفضتْ مغازلته وإلحاحه باللقاء، رغم تشوقها إلى الجلوس بالقرب منه، لتسبح في بحر عينيه الجميلتين، مهلًا؛ قالتها لنفسها "تراه راهن أصدقاءه على لقائي كما بالأفلام السينمائية؛ الجميع يهابني، أيريد استعراض قدراته أمامهم؟ لا أظن".
وقتها، اقتنعت أنها تملك جمالًا داخليًّا لا يراه إلا الأذكياء؛ وإلا ما دفع زميلها لترك البنات الجميلات ليلح بشدة للقائها؟! قائلة لنفسها بثقة: "لا بد أنه يحبني، فالحب لا يعرف إلا الجمال الحقيقي؛ جمالي أنا".
رفضتْ حبه غير نادمة، وإن بقيت عيناها تتبعانه خلسة كلما لاحظت أن لا أحد يراها، غضبت من نفسها لمراقبتها له، لكنها وجدت لنفسها العذر، مراهقة ولها مشاعر متأججة كما قرأت في مجلة "طبيبك الخاص" التي تتابعها الأم، وازداد فخرها برجاحة عقلها -رغم شعورها بالغيرة- عندما شاهدت فتاة أخرى تطير فرحًا؛ وتخبر الصديقات بطلب هذا الزميل مقابلتها، رفعت رأسها بشمم واستجمعت ثقتها قائلة لنفسها ولبعض الصديقات:
أنا الأفضل، فخورةٌ بعقلي، وأخلاقي.
***
ضلت أصابعها الرشيقة طريق أصابع معشوقها الأول، البيانو؛ أصدر لحنًا نشازًا بغيضًا، زاد مشاعر الحزن الغاضب بداخلها، خبطت بقبضة يدها على أصابع البيانو، وصلت صرخة أصابع البيانو إلى أذني زوجها باهر:
- كفاك جنونًا..
ضربت بيدها مرة أخرى أصابع البيانو كردٍّ على صراخه، تحركت بهدوء؛ شاعرة بالاختناق، سحبت شهيقًا؛ ملأت صدرها بالهواء؛ ما زالت مختنقة، وكأنّ الهواء خالٍ من الأكسچين.
اقتربت دينا وربتت على كتف أمها، قبلتها في رأسها، ومضةُ حنانٍ أسالت الدمع من عيني صفا، هرعت إلى غرفتها وأغلقت بابها.
تذكرت مشاعرها المبكرة؛ اضطراب وخفقات قلبها، وجفاف حلقها كلما رأت باهرًا ابن عمها، خاصة بعد ما علمت بتقدمه لخطبتها ورفض الأب متعللًا بصغر سنها، أسرعت إلى غرفتها تتأمل جسدها النحيل وشعرها الطويل أمام المرآة.
- ها هو ابن عمى، وابن عمتي، يتنافسان للفوز بي.
كانت تميل لابن عمتها سليم خفيف الظل، المرح، حتى أدركت خفة عقله أيضًا، احتقرته؛ بل كرهته؛ منذ تحرش بها، شكت لأمها، نقلت بدورها الشكوى إلى أمه؛ التي أوسعت "سليم" ضربًا بذراع المكنسة حتى شجت رأسه، وخاطته له في المشفى غير نادمة.
على غير العادة مع الفتيات اللائي تعرضن للتحرش إن يتقززن من فكرة العلاقة الزوجية لكنها لم تعانِ ذلك الإحساس، ما أقنعها أكثر بتميزها، تستطيع الفصل في الأمور، وتعرف الفرق بين علاقة الحب والتحرش، ما حرم الله وما أحله.
جاءت فعلة سليم في الوقت المناسب تمامًا لها، كشفت لها من يحبها ومن يشتهيها، ميزت بين مشاعر اعتياد -كما وصفتها- وحب لذكريات طفولة ومراهقة وبين حب حقيقي، قررت، أن لن يمسها سليم؛ حتى لو غلف شهوته بالحلال، لن ينالها كأكلة اشتهاها طويلًا، سيشتهي غيرها سريعًا بعد التهامها، شهية مفتوحة والهضم على ما يرام.
ظلت صورة باهر لأيام وليال عالقة أمامها، خافضًا عينه عنها؛ رغم جرأته المعهودة يوم فتحت له الباب دون غطاء رأسها؛ تحسبه أباها في ميعاد عودته من العمل، اختفت من أمامه، وظل هو بالخارج، رغم أنها لارتباكها تركت الباب مفتوحًا.
كلما تذكرت ذلك الموقف لا يسعها إلا أن تدفن وجهها بالوسادة خجلًا، كأنه رآها توًّا من جديد، لكنها سعيدة أنه رأى أجمل ما فيها؛ شعرها، دون ذنب تحاسب عليه.
نظرت في المرآة مرارًا وتكرارًا لترى شكلها كما رآه، بل والزاوية التي رأى منها وجهها وشعرها يحيط به، تسعد أحيانًا وتغضب أحيانًا أخرى، شاهدها بلا طوق، لو كانت تعلم بما سيحدث للبست أفضل طوق تملكه.
لأيام وأيام تستحضر الموقف بتفاصيله، كل حركة وخلجة من وجهه، نظرة عينيه تنتشي بها، تلك النظرة التي احتارت فيها، أهي بهجة الاكتشاف، أم لمعة الإعجاب، حتى رأتها في فيلمٍ عربيّ والبطل إيهاب نافع ينظر في عيني البطلة ماجدة، كادت تقفز من مكانها لولا وجود أبيها وأمها، يا إلهي؛ المشهد نفسه وباهر يتناول كوب الشاي من يدي بعد الغداء، نظرته في عيني كنظرة البطل المغرم؛ إذًا هو مغرم بي، نعم باهر يحبني؛ باهر أنت الحب.
كانت خائفة أن يكون تقدم لها بناءً على ترشيح عمها، وتأكدت -مع الأسف- ذات يوم في اجتماع للعائلة نهار عيد الفطر ردًّا على من يتحدث عن الزواج القائم على الحب ليرد باهر:
- اختيار زوجة أعرف كيف تربت وعاشت أفضل من حب وزواج ممن لا أعرف ماضيها أو عائلتها.
شعرت بالإحباط واليأس، لا يحبها، شعرت أن لن يحبها أحد؛ متسائلةً: "من يدري جمالي الداخلي؟"
عاودتها ثقتها بنفسها عندما فكرت بطريقةٍ أخرى:
- باهر يدرك جمالي ولا يحبني، اختارني بعقله، يرى أني الأنسب كزوجة.
تأرجحت مشاعرها بعد رأيه عن الزواج بين اليأس الحزين والأمل وليد ثقتها بنفسها، حتى توصلت لحل، لو لم يكن يحبها، ستجعله يحبها، هو يحب المرأة الذكية، وهي ذكية، وستصبح أذكى منه، سيضطر لحبها اضطرارًا، لن يستطيع الفكاك منها.
داومت صفا على مشاهدة الأفلام الأجنبية التي يحبها والقراءة في الشعر والدين والفلسفة؛ مثله، راقبت أفعال من حولها، هواية مفضلة، ثم تعود لنفسها وقد خزنت بعقلها كل ما رأت وتبدأ في تفنيده وتذكر آراء الكبار، وتطبق ما قالوه عن تصرفاتها وآرائها التي تعلنها أمامه.
تراقبها هنا ولا تفهم ما تفعله أختها، لا يعجبها آراءها المطابقة لرأي الجد والجدة، ولما صارحتها، اعترضت صفا قائلة:
- أنا مثالية بالفعل؛ وسأكون الأمثل؛ حواراتي كلها ذكاء ونضج، لماحة جدًّا، ألحظ ما لا يلاحظه الآخرون، أفهم ما بين السطور، أفهم نظرات العيون، حركة الأيدي وهزة التوتر في السيقان، وليس غرورًا مني إن قلت إني متميزة؛ فهذه حقيقة مؤكدة.