ضاق صدره بمشاعره المتضاربة وهو في طريقه لمقابلة عمه الملك؛ مترددًا بين عقله وقلبه، احتلت ذاكرته صور الماضي المشوشة، وعلامات الاستفهام المحيطة بعمه، أعاد على نفسه السؤال عن سبب استدعائه إياه، خمَّن كثيرًا من الأسباب، كرهها كلها، أصدرت البوابة الرئيسية للقصر صريرًا عظيمًا، انحنى الحرس وهم يفسحون له الطريق، قدّم له الجند تحية كبار العشيرة من الأبراج، حيَّاه الوزراء وكبار موظفي المملكة الخارجون من القاعة الملكية، رد تحيتهم دون الالتفات إليهم.
فُتِحت البوابة الذهبية للبهو الملكي بعد النداء باسمه وصفة أبيه، مشى رافعًا رأسه على بساطٍ حريري مطرز بخيوط الذهب، صُفت على جانبيه مقاعد وثيرة ضخمة محشوَّة بإسفنج البحار من الظهر والأجناب مرصعة بالأحجار الكريمة واللؤلؤ، عكست خطواته الرشيقة بريق خيوط السجاد على السقف المرمري؛ ومضات سريعة برقت وخفتت مع انتظام خطواته.
رُصَّت على الأرض وسائد كبيرة بألوان دموية محشوة بريش النعام على الجانبين، اتكأت عليها الجواري العاريات بجوار أعمدة الذهب المنحوتة على شكل وحوش ضارية، وُضِع بدلًا من عيونها جواهر حمراء مضيئة، اختلطت روائح الخمر مع الدم.
أثارت رائحة الملك وملامحه الدميمة وخيوط اللحم النَّيئ العالقة بأنيابه الطويلة البارزة شعورَه بالغثيان، اقترب أسفل العرش؛ خفض رأسه تحية الاحترام؛ رفعها متحاشيًا التلاقي وعيني عمه الواسعتين الحمراوين، وقف بجواره ابنه الأكبر "مُرَّة"، ورغم تمثله في شكل جميل، إلا أنه رماه بنظرة غِلٍّ مغلفة بالاحتقار، لم يبالِ بها "أيهم"، ردها بابتسامة، رفع صوته:
• أي ملكي العظيم، يومي سعيدٌ برؤيتك، أتمنى لك يومًا رائعًا بالإنجازات والفوز على أعدائنا.
رد غاضبًا بصوته القوي الهادر، اهتزت له الأعمدة، سقطت زجاجتا خمر ممزوج بدم القرابين البشرية على الأرض متناثرتين، فاختط لون السائل المسكوب بلون الأرض المنحوتة من المرجان الأحمر:
• من أين لي بالسعادة، ولي ابن أخ مثلك خانع كسول ضعيف، أسوأ خلف لخير سلف؟
تلجلج:
• أيا عمي ومولاي الباقي السرمدي، أنا طوع إشارتك، مُرْني أفعلْ.
• ألم آمرك بالانتظام في حضور اجتماع غروب الشمس لنيل موافقة مجلس الكبار؛ لتخلف أبيك الوزير الأعلى..
علا صوته أكثر، انتفضت الجواري، سقط "طايع" خادم الملك على الأرض:
• ألم آمرك بالتجهيز للزواج من ابنة الملك "سائد"؛ لضمان استمرار موالاته في حربنا مع عدونا الملك الأزرق؟
فرك "أيهم" كفَّيه:
• أعتذر مولاي، كنت مريضًا منذ وفاة أبي وأنا..
انتصب أبو مُرة واقفًا بغضب، ارتفع فوران النيران المتقدة إلى السقف المرتفع في جوانب القاعة، مصدِرة شهيقًا عظيمًا:
• أجننت؟ أراك تستخف بي.
تحولت ملامح مُرة إلى شكله الحقيقي الدميم، أصابت الرهبة قلبه، حرك أيهم سبابته علامة النفي، صرخ الملك:
• أنا إبليس.. ملك ملوك الجان والشياطين، أنا الأعظم، أنا.. أنا أعظم مخلوقات الكون، تتصور أني لا أعلم بأفعالك؟! كل خطوة تخطوها أعلمها.
علا صراخه، لفَّ حول نفسه رافعًا ذراعه لأعلى مختالًا:
• أنا الملك الأعظم، لا مُلك تحت السماء يضاهي ملكي، أو عرش يعلو على عرشي أو تاج أفخم من تيجاني.
ركع مُرة أمام أبيه:
• أنت.. أنت إبليس العظيم، يا من تشرق الشمس وتغرب بين قرونه، أبد السنين، مُرْني أقتله.
أشار إليه بالرفض، انحنى أيهم مرتجفًا:
• أمر مولاي سأتزوجها.
أشاح الملك بوجهه بعيدًا عنه:
• هذا إن وافق الملك سائد، فأخبار تهاونك في الأخذ بثأري من بني آدم، ورفضك المشاركة في حروبنا جابت الممالك شرقًا وغربًا، أنت شيطان مستهتر، لم تقم بما يؤهلك لتكون الوزير الأعلى لمملكة إبليس العظيم، منذ متى لم تحضر اجتماع الغروب اليومي؟
اصطبغ وجه أيهم الجميل بالحمرة، ولم ينبس ببنت شفة، عاود الملك استجوابه:
• أجبني؛ هل حصلت على تاج إبليس في سباق الغواية اليومية حتى ولو مرة واحدة؟! في حين حصل عليه ابنا عمك نائل وقسورة مئات المرات، وأنت تعلم انشغال أبنائي وبناتي السعالي مع البشر، قد وكلت إليهم أصعب الأعمال، مهامنا الأساسية في أخذ حقنا من بني آدم الأغبياء؛ أنتركهم يستمتعون بحياتهم بعد أن تسببوا في هبوطنا من الجنة؟!
عقد إبليس ذراعيه على صدره:
• من سيحمل معي مهام المملكة وشئونها؟ ألا يهمك تثبيت ملكنا وإحكام السيطرة على شعوبنا من الجن والمردة والشياطين؟ سيصبح للجن المؤمن الغلبة علينا إن أحسوا بضعفنا، ألم يخبرك أبوك بتاريخ تمرُّد الجن الأحمر في السابق؟ ألم يخبرك باستعباد بعض السحرة التافهين من بني آدم جنَّ سليمان.. وكيف حاكمنا أولئك السحرة واستعدنا عبادنا من قبضتهم، هذا غير معركتنا الأزلية مع بني آدم، هل أخضعهم وحدي أنا وأبنائي؟! نعمل ونجتهد؛ وتبقى أنت وأمثالك للمتعة واللهو، لمَ لا تتولى حضور اجتماعات عبادنا من بني آدم؟ لمَ لا تحضر بدلًا مني التخطيط لعباد ومريدين كحليفنا المسيخ الأعور؟!، أتعلم ما وصل إليه عالم البشر في حروبهم؟ صنيعك هذا جهل ولا مبالاة بأسباب وجودنا تحت السماء لا فوقها.
هدر صوت إبليس محذرًا:
• هذا آخر إنذار لك وإلا سأُعين أحد أبناء عمك الأصغر خلفًا لأبيك وأزوّجه من الأميرة سولاف ابنة الملك سائد، ولأجعلنَّ منك أضحوكة ممالك الجن كلها، ولتنسَ أنك كنت يومًا من عشيرة الأبالسة.
استحث مُرة أباه:
• لم يحضر أيًّا من اجتماعاتنا منذ موت عمي الوزير الأعلى، إنه بلا فائدة.
قبل أن يردَّ أيهم، تجهَّم إبليس وتصبَّب عرقًا أحمر اللون، أشار إليه لاهثًا، وهو ينفث هواءً ساخنًا، حمل رائحة الروث، ليخرج من القاعة الملكية. أسرع الخطى إلى باب القاعة، تغمره نظرات الشبق والوله من الجواري والغانيات.