Za7makotab

Share to Social Media

في طريق العودة دار أيهم في جولة واسعة حول الأرض، محاولًا التلهِّي عن ضيقه، شاهد أطفال بني آدم يلهون ويلعبون، جلس العشاق جنبًا إلى جنب، يتهامسون، شعر بالملل، استدار ليعود، فوجئ بشيطان من قبيلة رخيصة؛ خدام السحرة، جالسٍ مع فتاة بشرية يسامرها، غلف العشق نظراتها، أمسكتْ يده بكفيها، أخيرًا وجد فرصة للتسلية؛ أمره بالاختفاء، أطاعه، تأملت كفيها الفارغتين، عصف بها الرعب، سقطت مغشيًا عليها.
قبل أن ينهي ضحكته، لاحظ قزمًا من قبيلة الأقزام الطيارين جواسيس إبليس، يراقبه متخفيًا في عيني إنسي، ارتفع لأبعد مسافة يسمح للجان الاقتراب فيها من السماء الأولى، بسرعة البرق، هبط وغاص في أقرب محيط، عجز القزم الطيار عن متابعته، فقد أثره، سقط صريع الخوف من عقاب إبليس.
كرَّ راجعًا إلى سطح الماء حيث قصره الفضي الذي أقامه أبوه تلبية لرغبة أمه، مخالفًا رغبة إبليس وهو ما زاد بغضه لها.
عكست مباني القصر ضوء الشمس على الأمواج، تلألأ سطح المحيط، عاين حراسه من المردة الطيارين في الأعلى، والشياطين الغواصة من أسفله، ألقى بنفسه في حوض السباحة المبطَّن بالمرمر والمطعَّم بالأحجار الكريمة الملوَّنة وتنفس الصعداء.
أسرع "شيتو" خادمه ومربيه إلى بهو المغطس للاطمئنان عليه، صعد بعد غطسةٍ طويلةٍ غسلت كل غضب اللقاء، ابتسم مرحبًا:
• سعيدٌ بعودتك سالمًا يا مولاي.
• سالمًا؟! مِمَّ تخاف؟ قابلت عمي، ليس الملك الأزرق.
• أخاف عليك من غضبه.
• لا تخشَ شيئًا أيها المُعمَّر.
أكمل مداعبًا:
• ألن تموت أيها الجِني المُسِن؟
انحنى شيتو:
• أتمنى أن يطول عمري لأخدم أبناءك وأربيهم، كما ربيتُ مولاتي أمك وخدمتها.
رشَّه بالماء مداعبًا، غطس ثانية مستمتعًا بالماء، فجأة سقطت على رأسه كتلة ضخمة، أحدثت فيضانًا في المغطس، تألم من ارتطامها، دفعها بكلتا يديه إلى حافَّته، تعالى صراخه بصوت أجش، عرفه من صوته صديقه ساهر الجني الضخم، فلكمه معاتبًا:
• يا لك من شيطان سخيف ألا تقلع عن هذه العادة البغيضة؟!
رد ضاحكًا:
• ما لك تغضب كبني آدم لمزاح بسيط؟!
• ثقيل الوزن والدم، أهذا مزاح؟!
وصرخ فيه مقلدًا عمه سقيمًا:
• حسنا، آمرك أنا الوزير الأعلى المنتظر بالإقلاع عن غبائك ومزاحك الثقيل الظل.
صرخ ساهر فرحًا، وقفز في الماء عاريًا:
• أصدر إبليس العظيم قرارَه؟
نظر إليه ولم يرد، تعجَّب الضخم:
• ما لك غير سعيد؟ أين ريڤال؟ لماذا لا أراها؟ كانت لا تفارقك.
• أمرتها بالابتعاد عني حتى تزول عنها رائحة ما شربته من دماء ليلة الحفل.
• تبًّا لك، تتسبب في حرماننا من كؤُوْس الدم، لا أعلم كيف تستغني عن جمالها وصوتها لأمر عادي مثل هذا؟! أشك أنك لست شيطانًا، أو أنك تتبِّع الجن الكفرة بإبليس.

لوى أيهم شفتيه ساهمًا، حدَّث نفسه: "أنا نفسي أتعجب لصفاتي الغريبة عنكم، أظنها صفات أمي.. "
انتبه من شروده، أكمل حديثه مصطنعًا المرح:
• أما الجنيات فكلهن سواء.. جميلات، ذهبت ريفال، أتت نيجار، المهم ألا تشرب الدم.
علت ضحكاتهما، نادى لإحضار المناشف، أتى شيتو مسرعًا، انحنى، التقط واحدة، لف نفسه بها، ضحك رفيقه:
• تخجل كبني آدم، إنك شيطان غريب.
ردَّ أيهم منتشيًا:
• ما غريب إلا الشيطان.
جلجلت ضحكته في المكان، نظر ساهر إليه غاضبًا متعجبًا:
• (تألش) مثل أعدائنا من بني آدم؛ تسخر من بني جنسك؟!
التفت لشيتو:
• أرأيت يا شيتو لا يضحك إلا في السخرية منَّا؟! ونحن أعظم العشائر السبع..
توجه لجناحه، تبع ساهر شيتو إلى المطبخ لتناول طعامه المفضل؛ شرائح اللحم النيئ المُتبَّل.
***
في جناحه ذي الحوائط المخملية، تمدد على سريره العائم في بحيرة صغيرة من الزئبق، صُنع له خصيصَى للتغلب على حالات أرقه المستمرة التي حار فيها أطباء إبليس.
تأرجح السرير يهدهده حين يتقلب، عكس الزئبق لون السقف، ناشرًا ضوءًا أخضرَ خافتًا، ظهر طيف أمه، مرت بأصابعها برقة على رأسه وشعره، اعتدل متلهفًا:
• أين أنت؟ خاصمني طيفك، أشتاقك يا أمي، كم أحتاجك.
ردت بصوت رائق حنون:
• سنلتقي يومًا ما، ستأتي إليَّ.
• سأموت؟
• ستنتقل إلى الرحب والأمان.
دفع ساهر الباب فجأة، اختفى الطيف، انقض عليه أيهم؛ لكمه في أسنانه.
***

حمدتْ "ثريا" اللهَ، ستر نقابُها تورمَ عيونها واحمرار وجهها؛ إثر دموعها المنهمرة كسيل جارف، سارت مشدودة الجسم متصلبة الأكتاف، لم تغير مشيتها تلك، منذ استبدالها "التنورة الطويلة" بالعباءة وخمار واسع، طال ركبتها لتتأكد من ستر جميع مفاتنها لتنجو من عذاب القبر والآخرة؛ كما سمعت من داعية في أحد دروسه؛ على إسطوانة مدمجة أحضرها لها أخوها لإقناعها بارتداء النقاب والملابس السوداء وعدم سماع الأغاني و.. و ..
تأكَّدَت من عقد زوجها أحمد قرانه بأخرى، تذكرت وسط شهقات بكائها سألته:
• لماذا؟ أفعل ما بوسعي لإسعادك وتلبية طلباتك ورعاية أولادنا.
• لم أخطئ، من حقي مثنى وثلاث و..
قاطعته:
• مثنى وثلاث إذا قصرت في حقوقك أو واجباتك.
فكَّ ربطة عنقه، ألقاها بعيدًا:
• قصرتِ، ونصحتك كثيرًا؛ أريد أنثى.
شدت شريط شعرها، انسدل كستار حريري أسود، صرخت:
• ألست أنثى؟

أشار لها ممتعضًا:
• الغباء بعينه، لا فائدة، لم ولن تفهمي، شعرك لا يجعل منك أنثى، القط له شعر جميل، أنت تتحركين وتضحكين كإنسان آلي، تضخمين صوتك خوفًا من حُرمته حتى صار أجش، لا مرح، لا انتشاء، أتذكرين يوم ألقيت نكتة في أذنك، ثرتِ، تركتِني وحيدًا في الفراش.
تلفت حوله، خفض صوته:
• علاقتنا الحميمة كالتمارين في طابور المدرسة الصباحي؛ خطوات ثابتة متتالية، لا تغيير، الابتكار كفر، أجامع قالبًا من الأسمنت.. كفى..
علا نشيجها:
• ألا تخجل؟!
ضحك باستهزاء، ألقى برأسه على ظهر كرسيه:
• أكملي قصيدة الإذلال.. كن كأخي المتصوِّف، أنت مقصِّر في العبادة، لا تصوم الاثنين والخميس كالشيخ عبيد جارنا، لا بد أن تنتظم في قيام الليل..
علا صوته، صحا الأطفال من النوم، أشار إليهم بالرجوع إلى غرفتهم:
• اختنقتُ، كرهت مجالستك أو حوارك، منهما لله؛ أمك وأخوكِ حوَّلاكِ إلى مسخٍ أنثوي.
• لست مسخًا، أنا سيدة محترمة، الكل يقدرني، أم تريد عاهرة؟!
• كنت.. كنت أريدك زوجة، لكنها الآن تكفيني، ضحكتها ناعمة، صوتها حنون، تشعرني أني..
أيقظها من شتاتها صوت بوق سيارة كادت تصدمها، لم تلتفت لصراخ السائق، أكملت طريقها بخطواتها المنتظمة.
ترحمت على أمِّها وأبيها وهي تدق جرس الباب، استغفرت الله من صوت نقر أشبه بالطبل وصل لسمعها، حدثت نفسها: "لا بد من تصرف صارم معه، لن يرضى أخي بما حدث."
لم تتلقَّ ردًّا، دقته ثانيًا، سمعت صوت أخيها.
• من؟
• أنا.. افتح يا عبد الله.
همهمة، حوار هامس، أخيرًا؛ فتح الباب مرتبكًا محمرَّ الوجنتين وهو يكمل ارتداء جلبابه، توارت عروسه كوثر خلفه، أطلقت ضحكة ناعمة، ظهرت لها، قبلتها، نظرت إلى زوجها، حدثته بدلال:
• لماذا أختبئ؟ إنها ثريا.
تأملت قميص نومها اللامع العاري، وشال أخيها الذي يضعه على رأسه عند الصلوات مربوطًا حول خصرها، بلا سلام على أحد ألقت بنفسها منهارة على أقرب كرسي، بكاؤها وصل حدَّ الصراخ.
سألتْ أخاها بلهجة حادة:
• أليس الطبل حرامًا؟ والرقص حرامًا؟ صفعتني يوم رقصت في حجرتي على أنغام عرس الجيران؟
تلجلج عبد الله:
• كانت الأغاني خارجة عن الأدب، بصوت امرأة، أما الآن فأمر عادي لزوجة تُسعد زوجها، والنقر على المنضدة كالنقر على الدف حلال، ثم ما الذي أتى بك الآن؟
ابتلعت ريقها، أخبرته بما فعله أحمد، بادرها:
• لا بد أنك أخطأت في أمر ما، أخبريني بما فعلت.
• أقسم ما فعلت إلا ما علَّمتموني، أتقِي الله فيه وأرعى الأبناء، البيت مرتب والطعام في مواعيده.
مسح على لحيته الطويلة، تنهَّد:
• لا بد وأنك قصرتِ في العبادات، سمحتِ للشيطان أن يسكن بيتك، فالبيت الذي..
قاطعته بعصبية:
• البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يسكنه الشيطان، أقرأ القرآن وأتلو سورة البقرة كل ثلاثة أيام.
تنهد عبد الله ثانية، رفع صوته كالواقف على منبر:
• لا بد وأنك قصرتِ في حقوقه.
أشار بإصبعه محذرًا:
• أيما امرأة باتت وزوجها غير راضٍ عنها لعنتها الملائكة.. خافي الله في زوجك و..
• كفى، أحفظ تلك الأحاديث كلها، لم أرفض طلبًا واحدًا له، قال إني كالحجر لا أُشبع رغباته، إنه..
استجمعت كل جرأتها:
• يريد فتاة ليل.
ثار عبد الله لجرأتها:
• ماذا تقولين؟! ما هذه الجرأة؟! كيف تحدثينني في شأن خاص؟
صرخت:
• لمن أشكو مصيبتي؟ ماتت أمي، لا أخت لي، لم أعد صغيرة بعد.
بادلها الصراخ:
• حدثي كوثر زوجتي وهي تنقل لي، لا تتخلي عن حيائك مهما حدث، غيري من نفسك وطبعك الجافِّ لتصلحي العطب، ثم ماذا تريدينِ أن أفعل له؟ كيف أتدخل وهو لم يرتكب ذنبًا؟ مثنى وثلاث..

تابعت هستيريتها:
• أحفظ، أقسم أني أحفظ عن ظهر قلب تلك الآية التي تتلون نصفها فقط. صنعتَ مني هذا الحجر كما يسميني أحمد، ثم تجلس الآن وتدق لزوجتك كي ترقص!
هوى بصفعة قوية على وجهها أطاحت بها بعيدًا، صرخت كوثر، أسرعت لمساعدتها في النهوض، ربتت عليها، أكمل عبد الله صراخه:
• ألم تقرأي في كتاب العروس أن المرأة تؤجر على الرقص لزوجها؟ من أنت لتعلميني الحلال من الحرام؟! أنا أعلى منك وأعلم، ولا تكرري قلة ذوقك في الحضور وقت القيلولة، كان عليك الانتظار حتى المساء.
هتفت كوثر:
• عيب عليك يا عبد الله! ماذا تقول؟!
• اصمتي يا كوثر، إنه شأن بيني وبين أختي.
صفقت ثريا الباب خلفها، هبطت السلم مسرعة، هرولت وسط الطريق غير عابئة بأصوات مكابح السيارات، ولا شتم السائقين؛ خوفًا من الاصطدام بها.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.