بينما يونس يصعد إلى القطار كان مشهد الصعود الأول يُداعب ذهنه منذ عشر سنوات حين صعد للمرة الأولى، فقد كانت الطُرقة من شباك التذاكر إلى رصيف القطارات تبدو طويلة وواسعة تجرى فيها الكثير من الحقائب التي كانت تحمل الكثير من أمنيات وربما خيبة آمال أصحابها. كانت حقيبته سوداء كبيرة الحجم جمع فيها كتبه الثمينة وكل ورقة تعلق عقله بها، كانت الحقيبة قديمة مر عليها عدة سنوات حيث ورثها عن أبيه وحقيبة حمراء متوسطة الحجم حشر فيها كل ملابسه. كان يجرهما خلفه ويهرول مسرعًا حتى يلحق مقعدًا في القطار كان يجرى لدرجة أن الحقيبة تعبت عجلاتها وكأنها عداء أُصيب بشد عضلي في منتصف السباق. لم يكن يعلم ما الذي يدفعه بشدة هكذا أهو الحماس أم الخوف أم الفضول أم مزيج من تلك المشاعر؟! في المرة الأولى كان قد ذهب للدراسة في القاهرة بجامعة عين شمس حيث تخصص في دراسة علم النفس، واليوم يذهب من سوهاج إلى القاهرة لحضور مؤتمر علمي كبير سيشارك فيه كبار أساتذة علم النفس داخل مصر وخارجها، تذكر وهو يصعد بداية الطريق الطويل الذي قطعه من أجل تلك اللحظة ولكن الذكريات بدت وكأنها ومضات تجول في عقله استحضرت عرضًا سريعًا من الماضي المُعتق برائحة الكد والاجتهاد والمثابرة. تذكر الدكتور سمير الذي مزق بحثه العلمي لينال درجة الدكتوراه خمس مرات وهو يصرخ في وجهه كل مرة "البحث مرفوض، أراك في جولة أخرى"، كم شعر بالحسرة على مجهوده الذي تناثر في الهواء أمام عينيه عدة مرات كدخان سيجارة الدكتور سمير المتصاعد دون مبالاة. المخطوطات العلمية التي قرأها ودراسة أبحاث فرويد بأدق تفاصيلها، كل ذلك بات حبرًا على ورق لم يُكتب له أن يلمع على صفحات الورق بين رفوف مكتبة الجامعة، وبالفعل كانت عدة جولات يُحاول يونس فيها أن يقتنص درجته العلمية من فم الأسد، وقد رأى ثمار محاولاته عندما قرر الأسد فتح فمه بكلمة الموافقة ومنحه لقب دكتور. حينها شعر يونس بنشوة ملاكم فاز في الجولة الأخيرة بعد إصابة فكه بلكمة شديدة كشفت عن أسنانه البيضاء التي اختلطت بلون الدم إثر الضربة.
لا يخطو خطوات حثيثة تلك المرة بل كانت قدماه تتحركان ببطء وثبات كمن يقف على أرض صلبة لأول مرة بعد أن ترنحت قدماه، وغرست في وحل الفشل وسقط كثيرًا. أما اليوم فهو مختلف كُليًا، فهو يخطو بثقة نحو حلم جال في خاطره كل ليلة منذ حصوله على لقب دكتور في علم النفس. كان يحلم بمشهد التصفيق الحار في المؤتمرات وهو يُناقش إنجازاته في مُمارسة المهنة، والأشخاص الذين أعادهم للحياة من جديد بفضل أسلوب جلساته المتميز. أصوات الجمهور تهتف له في عقله؛ لتُعوضه عن أصوات اليأس التي سكنت أذنيه لشهور عديدة عندما شعر بالرفض المتكرر آنذاك الوقت. اليوم الحلم خرج من حبسه واستنشق هواء الواقع، وها هو يونس يذهب ليلتقي بحلمه صعب المنال بأقدام تستريح من عناء الخطوات الأولى الشاقة التي خطاها في رحلة علم النفس بأسراره الواسعة وخباياه الشائقة.
صعد إلى مقعده بجوار الشباك فلطالما أحب رؤية العالم من تلك النافذة الصغيرة التي تعكس العالم من حوله في صورة مُصغرة تمر بالتوازي مع قضبان السكة الحديد. تذكر المشاهد التي شاهدها حين ركب القطار السريع في دبي عندما ذهب في أول مؤتمر له خارج البلاد، انبهاره بالمدينة التي غلب عليها طابع المباني الغربية مع عراقة الشرق، ناطحات السحاب التي تتخلل السماء وتحبس أنفاسك بمجرد النظر إليها، الشمس التي تتراقص ظلالها على الزجاج لتُكمل اللوحة الفنية تلك. كان الشباك مثل العيون الواسعة العميقة يمكنك التأمل فيها ومحاولة قراءتها ولكنها لن تمنحك الأجوبة عن كل ما تريد، بل ستجعلك ترى ما ترغب هي في عرضه. يُحدق النظر خلف هذه العيون ويطلق العنان لخياله يرسم صورًا في ذهنه ويربط ما يراه بأحاديث من يترددون على عيادته؛ لكي يفهم أثر الطبيعة وما يرى المرء في نفسه بشكل أعمق. لم يمتلك رفقاء في طريق الذهاب والإياب سوى عيونه العميقة وأحدث إصدارات كتب علم النفس والمجلات العلمية التي كانت تكسر صمت الوقت وتُخفف حدة الملل.
لم تكن العربة مُكتظة على غير العادة فكان يجلس حوله ستة أشخاص في العربة نفسها. جلس بجواره شاب يبدو في العشرينات من عمره طويل القامة حسن الهيئة عريض المنكبين يبدو أنه يمارس الرياضة باستمرار، حاجباه عريضان ومناخيره بارزة بين الحاجبين العريضين، عيناه بنية اللون ليست بالواسعة ولا الضيقة، يرتدى قميصا هادئ اللون يتخلله بعض الخطوط الرفيعة يناسب صيحة موضة الشباب وبنطالًا (بيج) بجيوب عريضة. والمقعد الخلفي يجلس فيه رجلان أحدهم يبدو أنه في الثلاثينات والآخر في الأربعين من عمره. الشاب الثلاثيني يبدو ضعيف البنية كأنه خرج من سرير المرض للتو، فقد برز عضم وجهه وتحت جفونه هالات سوداء تطفو بوضح على سطح جلده الأملس، وربما نسي حلاقة ذقنه منذ شهرين، فذقنه تكاد تصل إلى منتصف رقبته كأنها حشائش كثيفة تُغطي جذع شجرة. بعض الشعرات البيضاء تمتزج بشعره الأسود الداكن، يرتدي ملابس رسمية بعض الشيء ولكنها كانت أفضل حالًا من هيئته الجسدية. على الجانب الآخر تجلس فتاة مراهقة تحمل في عينيها حيوية هذه المرحلة العمرية وسذاجتها في الوقت عينه. شعرها قصير مموج يصل إلى أذنيها، بشرتها خمرية اللون وجنتاها برونزيتان منتفختان بعض الشيء كخوخة اكتمل نُضجها، فمها يتناسب تمامًا مع وجنتاها، حاجباها رفيعان يميلان إلى اللون البني الفاتح، ترتدي فستانًا ورديًا بنقوش بيضاء من القطن يُناسب الجلوس في قطار عدة ساعات. بدت هذه المراهقة مثل عارضة أزياء يافعة. على يمينها تجلس امرأة ترتدي ملابس قاتمة السواد مما جعله لا يلتفت إليها ولم يحاول التقاط تفاصيل شكلها.
أشعلت هذه الملابس السوداء فتيل الحزن بداخل يونس فجأة؛ فهو لم يتوقع أن تهاجمه هذه الذكرى الحزينة وهو يذهب ليُصافح حلمه الذي عانى الأمرَّيْن لتحقيقه، ولكن ما أكثر ما تُهاجمنا الذكريات الحزينة ونحن في صدد الاقتراب من المشاعر التي تشوقنا إلى سريانها في قلوبنا بشدة، وكأنها شبح يُطاردنا أينما ذهبنا حتى لا ننسى ما عشناه من ألم. لقد ارتبط لون هذه الملابس بمشهد أم يونس وهي ترتديها أعوامًا حزنًا على وفاة والده الحبيب. كان يونس في العام الرابع من الجامعة، وكان والده يعاني من مرض شديد حينها، أخذ يذهب إلى الامتحان ثم المستشفى لزيارة والده ظل على هذا الحال مدة شهر. يتناوب عليه أنين الحزن على مرض والده وأنين التعب من المذاكرة وصعوبة الاختبارات. يذهب صباحًا إلى مصيره المجهول ومساءً إلى مصير والده الذي كان بين يدي رحمة الله، يتناوب على المبيت بجوار والده هو ووالدته. يجلس على الكنبة بجوار السرير ويتفحص وجه أبيه ويُثبت ناظريه عليه معظم الوقت فهو يرغب في الاحتفاظ بملامحه داخل عقله أطول فترة ممكنة. حيث سيطرت مشاعر الترقب الممزوج بالخوف وقبضة الصدر في كل ليلة ينام فيها بجواره، فلا يدري هل سيتمكن من النظر إلى وجهه الذي يُشبه براءة الأطفال لسنوات قادمة أم سيحتفظ بتلك النظرات والملامح في عقله ويستحضرها كلما رغب في رؤيته أمامه، وتصبح هذه الصورة ما يواسي مشاعر الاشتياق والفقد التي تنتابه وتضربه في منتصف قلبه مباشرةً دون شفقة.
يُراجع ما درس بينما يخطف نظرات سريعة من حين لآخر ليطمئن أن والده ما زال يشعر بوجوده في الغرفة. يبكي دون صوت ولكن صفحات الورق قد تأثرت بدموعه وتبللت. يا له من مسكين! يبكي بعين وينظر بالأخرى، يعلم عقله أن عليه الاجتهاد؛ كي يجتاز الاختبارات وقلبه يرفض العالم بأسره حزنًا على مرض والده وخوفًا من فقدانه في غمضة عين. ما أقسى الحياة حين تضعك فريسة بين أنياب اختياراتها الحادة ولا عزاء في ذلك، إما تُحاول الإفلات من قبضتها أو ستلتهمك بمنتهي البساطة دون أدنى مبالاة بك. مر الشهر وانتهى يونس من اختباراته وخرج والده من المستشفى وعادت الحياة لطبيعتها لبعض الوقت، وشعر يونس بالامتنان لرؤية ملامح أبيه عن قرب كل يوم، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. بينما كان يونس يُهرول إلى بيته مسرعًا ليزف لأبيه خبر نجاحه بتقدير جيد جدًا ويُعانقه بشدة فرحًا احتضنه خبر موت أبيه. يبتسم يونس وهو يعبر ناصية الشارع ويمشي كمحارب عاد بغنائم الحرب للتو يشعر بالفخر الشديد بنفسه؛ لأنه لم يستسلم لتلك الظروف وأنه أوفى بوعده الذي قطعه على نفسه بأنه سيجعل أباه فخورًا به في كل الأحوال سواء استطاع أن يتشاركان هذا النصر سويًا وذلك أشد ما تمنى في ذلك الوقت أو احتفل بصمت دون والده.
عندما وصل إلى البيت رأى مشهدًا لا يُشبه المشهد الذي رسمه في ذهنه أبدًا. حيث كان متحمسًا لرؤية دموع الفرحة في عين والده وزغاريد والدته وهى تستقبل خبر نجاح ولدها، يسرقون من الوقت بعض لحظات السعادة التي يكون المرء في أمس الحاجة إليها بعد عناء طويل. يعيشون الفرحة التي تُنسى المرء بعض من عقبات الحياة التي تعصف به من حين لآخر. هذا ما كان يونس ينتظره في شوق، ولكن رأى رجالًا تقف أمام البيت عيونهم جامدة وملامحهم لا توحي بأية تعبير كخيال مآته أجوف المشاعر. الصدمة فقط تعلو وجوههم الشاحبة كمن لسعه عقرب، الجميع يرمقونه بنظرات غريبة لم يفهمها يونس وكأنهم يتحدثون في أنفسهم جاء الولد الناجح الذي صفعته الحياة الآن قبل أن يتسنى له تحقيق المشهد الذي كان يتوقعه. اقترب عمُّه منه وضمه إلى صدره وأخبره أن أباه قد ذهب إلى الرفيق الأعلى، لم يرغب أبوه أن يُخبره في الهاتف أنه شعر ببعض التعب وصوت يونس يهتف فرحًا بنجاحه، ولم يلبث أن وصل الطبيب حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. يونس لا يستوعب ما سمع ربما شك أنه يُعانى من فقدان مؤقت للسمع أو بالأحرى رغب في ذلك عندما سمع تلك الكلمات. نعم سمعها ويفهم تمامًا ما حدث، ولكنها الحيلة الدفاعية التي نلجأ إليها حين نريد الهرب من أشد الحقائق قسوة. الإنكار الذي لا يُجدى نفعًا ولكنه ما نرغب أن يُخدر عقلنا لنستعيد توازُنا من جديد. توقف الزمن عند سماع هذه الكلمات. يجري يونس كالهائم على وجهه وقد ضاق عليه صدره ولا يتسع له مكان في البيت ليطرح فيه كل ذلك الحزن الذي نزل دُفعة واحدة صعقت روحه. دخل إلى الغرفة حيث يرقد والده واخذ ينظر إليه بنفس الطريقة التي نظر بها إليه في المستشفى آنذاك ولكن هذه المرة يعلم جيدًا أنه يلتقط النظرات الأخيرة ليحفر ملامحه في عقله للأبد.
والدته جالسة على الأرض تجهش بالبكاء، تحاول أن تكتم صرخاتها تارة وتارة أخرى لا تستطيع فيخرج صوت نحيبها ممتزجًا بحشرجة صوتها وهي تصرخ. تلك المرة الأولى التي يرى يونس فيها أمه في هذه الحالة التي تقشعر لها الأبدان. ليس هناك أصعب من مشاهد الفراق والوداع الأخير الذي يُقال دون كلمة وداع. تشعر بشلل تام يسري في عروقك ويعوق حركتك، لا تستطيع أخذ نفسك بانتظام بل تلهث من شدة البكاء وكأن أحدهم يطاردك بسكين حاد ليطعنك في قلبك. ظلت والدته ترتدي الأسود طيلة أعوام حدادًا على روح زوجها العزيز. ارتبط هذا اللون القاتم في ذهن يونس بمشهد وفاة والده الحبيب، ومنذ ذلك اليوم وهو يكره اللون الأسود الذي يُذكره بأحد أسوأ الكوابيس التي زارته كل ليلة لمدة قاربت الثلاث سنوات.
قاطع صوت الرجل الذي كان يرغب في العبور إلى الكرسي بجوار يونس ضجيج الذكريات المؤلمة التي اشتعلت في رأسه على غير المتوقع. انطلق القطار وبدأت الرحلة وقلب يونس يخفق خفقان غريبًا ليس كخفقان أول مرة ذهب فيها أول مؤتمر علمي، فالأشياء الأولى والمشاعر الأولى لها حضور خاص في الذاكرة ليس له مثيل حتى وإن عاش المرء المشاعر ذاتها مرة أخرى. يبقى أول شعور تسرب إلى قلبك كنقطة المياه التي تنزل في جوفك بعد عطش شديد. كان يونس كمن يقف أمام لجنة امتحان لم يستعد له جيدًا ولكن عليه الإجابة عن جميع الأسئلة. حدس الإنسان لا يخطئ أبدًا ربما قلب يونس كان يشعر بأن ثمة خطب ما سيحدث في هذه العربة، ثمة مشاعر سيتعرض لها يونس لم يتذوقها قط من قبل. اللحظات التي تقلب حياتك رأسًا على عقب ولا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها. الآن الواحدة بعد منتصف الليل، ومن المفترض أن يصل القطار في السابعة صباحًا إذا صار كل شيء على ما يُرام ولم يحدث أي شيء يُعكر صفو هذه الرحلة ويمنع يونس من مُصافحة أحلامه.
بدأ يونس يتصفح كتابًا جديدًا اشتراه خلال زيارته لأمريكا الشهر الماضي. دقت الرابعة عصرًا بتوقيت لوس أنجلوس في أحد البنوك المركزية هناك، الموظفون يتثاءبون بعد عناء يوم طويل مع العملاء الذين لا يتوقفون عن الشكوى والأسئلة، سينتهى الدوام بعد نصف ساعة ويعود الجميع لممارسة حياته الطبيعية. البعض سيعود للمنزل والفتاة الجميلة الجالسة خلف النافذة الزجاجية الصغيرة تفرك شعرها استعدادًا لتناول الطعام مع صديقتها بعد العمل، ومدير البنك سيصطحب أطفاله من الحضانة ويذهب إلى بيته المجاور للبنك. الجميع يُفكر في الساعات القادمة من اليوم ولم يكونوا يعلموا أن تلك الساعات لن تأتي وأن ساعات من العاصفة السوداء ستهبط على المكان بعد قليل.
سيارة سوداء يقودها أشخاص ملثمون توقفت أمام البنك أول رصاصتين تطايرا في الهواء كانت من نصيب أفراد الأمن الذين لم يستطيعوا حتى إخراج سلاحهم من مكانه، بدوا كخلية نمل سوداء انتشرت في جميع أنحاء البنك بمنتهى الخفة، الرصاص يتطاير من كل حدبٍ وصوب كوابل من المطر ينهمر في جميع الاتجاهات. لم يُصاب أي أحد من العملاء أو موظفو البنك بل كانت رصاصات تهديد وبارود ينشر حالة من الفوضى والفزع عمت أرجاء المكان. قاموا بتعطيل جميع أجهزة الكاميرات، الجميع يجري في حالة من العشوائية والرعب الذي يجعلك لا تُفكر في أي شيء سوى محاولة الفرار والنجاة. الفتاة التي كانت تفرك شعرها قبل قليل الآن تُسحل منه على الأرض وتُكبل يديها خلف ظهرها بحبل سميك من النوع الذي يمكن أن يعقد الدم في العروق ويترك علامات شديدة القسوة على يديك. موظفو البنك الذي يعرفون كلمة السر للخزنة ويتعاملون مع الأموال عن قرب هم المستهدفون الأوائل لمثل هذه الخلايا الإجرامية، النساء تعلو صرخاتهم في الهواء ولكن بلا جدوى فلم تكن فيها ما يكفي من القوة ليسمعها أحد يمر بجوار البنك مما جعلهم يُطلقون المزيد من الرصاصات والتهديد بأن أول ضحية من المدنيين ستسقط أرضًا في أي لحظة قادمة، بينما الرجال يشعرون بالعجز أمام تلك المسرحية الهزلية التي شاهدوها كثيرًا في الأفلام الأجنبية، ولكن الآن هم جزء من هذه المسرحية التي جمعت كل عناصر المشاعر الإنسانية في مشهد واحد وإن بدت المشاعر السلبية هي البطل الرئيس فيها. حاول أحد الرجال استخدام هاتفه وإرسال رسالة إلى صديقه الذي كان يُراسله عبر الهاتف وعندما لاحظ أحد المسلحين ذلك قام بقتله بمنتهى البرود، كأنه في تدريب لصيد الطيور، الجميع يبكي في صمت وهم ينظرون إلى جثة الرجل الهامدة أمام أعينهم، يشتمون ويلعنون هؤلاء الرجال في أنفسهم ولكن لا يستطيعون التفوه بكلمة واحدة. إنها مشاعر العجز في أبهى صورها حين لا تسعك حتى كلماتك ولا تنفعك أحبالك الصوتية فلا تستطيع الكلام كأنك ابتلعتها بداخلك يزداد مستوى الأدرينالين في جسدك وتفوح منك رائحة الخوف عن بُعد، ونظراتك لا تعكس شيء سوى الرعب الساكن قلبك من هول ما يحدث.
سيطر الخوف والتوتر على المشهد أكثر عندما قام من يبدو أنه زعيم خلية النمل بسحب الفتاة من الأرض وفك قيدها، وأخذ يسحبها من يدها بأصابعه الغليظة القاسية نحو الخزينة وصوب المسدس إلى قلبها وهددها إن لم تفتحها سيكون أخر شيء تسمعه هو صوت الرصاصة تفتك بشرايين قلبها، أخذت الفتاة تصرخ وتبكي وحاولت المراوغة لكنها فشلت من الطبيعي أنها تفكر في نجاتها والحفاظ على قلبها ينبض ولكنها لا ترغب أيضًا في فتح الخزينة، الحياة وضعت الفتاة في مصيدة الاختيار الآن. هم الرجل بالعد إن وصل إلى الرقم عشرة ولم تفتحها سيجعلها تنام بجوار الأخير في منتصف الغرفة. اقتربت الفتاة من الخزينة وأطراف أصابعها تتقدم وتتراجع كالمد والجزر وهى تنتفض وجسدها يرتعد بشكل واضح تمامًا تتقدم خطوة وتنسحب للخلف الخطوة التي تليها بينما الرقم أصبح ثمانية، صرخت صرخة مدوية استجمعت فيها ما تبقي من قوة حنجرتها وانهارت في نوبة بكاء هيستيرية ولم تستطع أصابعها الضغط على مفاتيح الخزنة، وإذ بالرجل يُخبرها رغم حاجته إليها بأنه لا عليها، فلتهدأ تمامًا فسيعطيها رحلة استجمام من الآخرة وهو يقهقه بصوتٍ عالٍ، وإذ بقميصها الأبيض يتحول إلى الأحمر بعدما انفجرت شرايينها!
انتفض يونس من مقعده وإذ به يُعدل حركته وكأن الرصاصة أصابت قلبه. لقد تفاعل مع المشهد بكل حواسه. يونس الآن أصبح جزءًا معهم دقات قلبه تنخفض وترتفع العرق يتصبب من جسده كأنه رهينة جالسة معهم في البنك ينتظر مصيره، لطالما انفعل يونس مع ما يقرأه وكأنه بطل من أبطال الرواية ولكنه لا يدري أنه سيكون بطلًا لرواية لم يتخيلها قط.
استكمل قراءة الكتاب الذي أخذ يتحدث عن ردود أفعال المدنيين المختلفة أثناء عملية السطو المسلح تلك، كيف مرت تلك الساعات الحابسة للأنفاس، سلوك الأشخاص المُتباين، العيون المترقبة لما سيحدث بعد دقيقة من سيحاول المقاومة، ومن سيسقط هاويًا بأول رصاصة كيف سيكون سلوك الناجين من ذلك الحادث المروع وكيف قضوا أول أشهر بعده. يُحلل كل شيء من ناحية نفسية بحتة وهذا النوع من الكتب يستهوي يونس كثيرًا ويُشبع رغبته في محاولة فهم النفس البشرية المُعقدة، وربما كان يُحقق له بعض المتعة والإثارة كأنه يُشاهد سلسلة قتل متسلسلة ومحاولة الضحايا في الفرار وماذا ستكون نهاية العرض!
انتهى من قراءة الكتاب حتى نصفه ثم نظر إلى الشاب بجانبه وجده يضع سماعة الأذن، ولكن يبدو أن وجهه كان شاحبًا مما جعل الشاب ينزع سماعته ويسأله إن كان بخير أم لا، أخبره يونس وهو يتحدث ببطء أنه كان يقرأ كتاب وتفاعل معه لذا شعر أنه ليس بخير لبعض لحظات، فتح الشاب زجاجة المياه وأعطاها ليونس كي يبل حلقه الجاف ويمنح صدره التنفس بانتظام مرة أخرى، نظر الشاب إلى يونس:
– هل تتأثر عادةً حينما تقرأ كتابًا هكذا؟! يا لك من رجل شديد الانفعال!
– عملي يُحتم عليّ ذلك، أن أنفعل وأنتبه إلى أشد التفاصيل!
– ماذا تعمل؟! هل أنت ضابط شرطة؟
– لا، أنا طبيب نفسي.
– حسنًا، فهمت -رمقه الشاب بتلك النظرة المعتادة حين تسمع عن هؤلاء الصنف من المجتمع والفكرة السائدة عنهم- على أية حال، المهم أنك تشعر بتحسن الآن، أعلم أنه ثمة أشياء تجعلك تنفعل أكثر من مجرد الاندماج في عالم الكتب، الحياة مليئة بالعبث الذي يخطف أرواحنا ويقتل بهجتنا في بعض الأحيان، أعتقد أنك تفهم ما أريد قوله بحكم تجارب الأفراد الذين سمحت لك مهنتك برؤية أشد المناطق ظلمة بداخلهم.
– نعم، أفهمك تمام الفهم، يبدو أنك أيضًا تمتلك بقعة سوداء بداخلك.
– الجميع يمتلك.. الجميع لديه ما يخشى الحديث عنه أو بمعنى آخر ما يرغب في نسيانه واقتطاع هذا الجزء من ذكرياته.
– الطريق طويل يمكننا الحديث عن ذلك إذا أردت طبعًا.
– أرى أنك بدأت تُمارس مهنتك هنا أستاذ؟
– يونس.
– أحمد تشرفنا.
فرغ يونس من تلك المحادثة العابرة، وأخذ يدور بعينيه في العربة كما يحب أن يفعل دائمًا خلال رحلته الطويلة تلك، المرأتان على الجانب الأيمن غطتا في نومٍ عميق كأنهما كانتا تعملان تسع عشرة ساعة متواصلة، المرأة ذات الرداء الأسود بدت وكأن عينيها رأتا كابوسًا جعل دموعًا خفيفة تتساقط منها، تُرى ماذا رأت تلك المرأة، هل بقعة الظلام بداخلها تعرض شريط حياتها الآن أم ماذا؟ ربما تتخيل أنها تتشاجر مع زوجها لأنه نسي تاريخ عيد ميلادها وكانت تتوقع مفاجأة كبيرة منه ولم يحدث ما نسجته في خيالها لذلك تبكي. لم تُلاحظ الفتاة بجوارها بالطبع لأنها غاصت ربما في أحلامها أيضًا.
المقعد خلف مقعد الفتاة نرى الشاب الثلاثيني يتحدث في الهاتف بصوت منخفض، ولكنه يبدو منزعجًا للغاية، أعصاب وجهه النحيف بدأت تظهر عليها علامات التشنج والشد، عيناه تشتعلان ويُخالط اللون البني الداكن احمرارًا حول القرنية، صوته أيضًا أراد أن يُعبر عن غضبه مثل بقية أعضائه ولكنه ظل يُحاول الحفاظ على (تونه) المنخفض مُراعاة للموقف؛ فحوله أشخاص سينظرون إليه فور علو صوته وربما سيحاول أحد المتطفلين معرفة ما يحدث ولا داعي لذكر المتطفل الأكبر بين هؤلاء الجالسين. بدأ الشاب يُغمغم بكلمات غير مفهومة ليونس مثل أنه خرج للتو من الجحيم ولا يرغب في العودة إلى هناك الآن، فهو يتمنى أن يحظى بقسطٍ من الراحة ليواصل رحلته إلى الجحيم من جديد، أخذ يونس يتساءل بينه وبين نفسه ما هذا الجحيم الذي عبر إليه هذا الشاب. يبدو أن راكبي هذه العربة يحملون الكثير من الأسرار والبقع المظلمة تكمن في أرواحهم. مادة مثيرة وغزيرة ليونس كي يكتشف أشياء ربما لم يسمع مثلها من مرضاه من قبل. عندما هم يونس بالذهاب إلى المرحاض شاهد الرجل العجوز في المقعد الرابع من ناحية اليسار يتناول قطعة خبز بالجبنة في سكون ويبتلع حبات من الدواء ولم تبدُ عليه علامات الإرهاق بعد، بالطبع سيتناول الدواء فالمرء حين يتقدم العمر به، يتناول بعض الحبوب؛ حبوب الضغط والسكر وربما أمراض القلب، كان يونس على عجلة من أمره ليذهب إلى المرحاض، ولم يمنح الرجل نظرة طويلة كما يفعل عادةً حين ينظر إلى الغرباء، فهو يؤمن أن النظرة الأولى وإن بدت متحفظة بعض الشيء إلا إنها تُعطى الكثير من الانطباع عما يمكن أن يكون الشخص عليه.
تلك عادات يونس في السفر يحب أن يتأمل الناس حوله ولكنه لا يُبادر بالحديث من جانبه أولًا بالرغم من أن عمله كمعالج نفسي يجعله الجانب الذي يبدأ الحديث في كل مرة، ولكن أثناء السفر يبدو كمُعلمة الأطفال في الروضة التي تقضي أكثر من عشر ساعات بصحبتهم تُحاول امتصاص صراخهم وبكائهم حتى تعود أمهاتهم ولكنها لا تتحمل طفلًا واحدًا يصرخ في حافلة. يحب يونس التمعن البطيء والمُراقبة فقط وانتظار الوقت المناسب حتى تسنح الفرصة ويبدأ الحديث من جانبه أولًا إذا استفزه موقف ما أو نظرة بعينها. أمعن النظر في كراسي القطار العريضة التي يمكن تحريكها إلى الأمام والخلف بانسيابية. بدت وكأنها يمكن أن تفتح فمها الواسع وتسحب روحك بداخلها في أي قت هكذا صورها له خياله الواسع، تخيل أن الكراسي يمكنها أن تسحب البقعة المظلمة أيضًا الساكنة في قلوب من يجلسون عليها في العربة اليوم وتُريحهم من ثقل ما يحملونه ويعيشون به كل يوم، لكنها خيالات فقط فلا يمكن أن يقتطع أحد ذلك الجزء المظلم من شريط ذكرياته لا ينسى أحد يعيش بتلك البقعة وإنما يتأقلم فقط.
لم تكن كراسي القطار مثل كراسي الجلد في عيادته التي يمكنها أن تُدغدغ قدميك وأنت مُستلق عليها، فهي ناعمة الملمس تكاد تنزلق من عليها إن لم تُسند رقبتك إلى الخلف بإحكام. أما كراسي القطار فهي صلبة بعض الشيء ويمكنها أن تؤلم ظهرك أثناء النوم. جعلته الكراسي يسرح في أخر زيارة لمرضاه قبل أن يأخذ إجازة السفر إلى أمريكا قبل شهر.
كيف كان جسد المريض يتقلب مضطربًا على الكرسي الجلد الناعم، تبدو عليه علامات التوتر الشديد كما الخضوع التام، فهو لم يرغب في محاولة شد جسده والاعتدال بل سمح ليده أن تنزلق عن المسند. بدا وكأنه مُخدر رغم أنه لم يكن كذلك وإنما أراد أن يتوقف عن مقاومة متلازمة التفكير الزائد التي تنهش عقله والاستراحة مدة الجلسة. أراد أن يُخبر يونس بما يؤرقه كثيرًا مؤخرًا ولا يجعله يستطيع النوم، حاول فتح الحديث مع يونس وبدأ ينطق بعض الكلمات في تردد فهو يرغب في الحديث وإفراغ ما في جعبته اليوم أيضًا، ولكنه أفرغ بالكثير إلى يونس الذي صار يعرف الكثير عنه؛ لذا أصبح من الصعب الحديث إليه فهو لم يعد غريبًا كما كان حين دخل عليه الغرفة في الجلسة الافتتاحية حين قرر الذهاب إلى طبيب نفسي. شخص لا يعرفه ومهمته حُسن الاستماع أولًا قبل محاولة إصدار حكم على هذا الشخص وبعد ذلك مساعدته على تحسين حالته العقلية والنفسية شيئًا فشيئًا. بينما يونس يستدعي جلسته الأخيرة تلك قطع جرس الهاتف صوت أفكاره الصاخبة السريعة، إنها هي، دائمًا تأتي في مثل هذه الأوقات ويونس غارق في عقله، لم يكن يعلم أن الأصوات القادمة ستحبس أنفاسه أكثر من قطع حبل أفكاره.
"لو انفتحت الأبواب من أول مرة ومع طرقة واحدة.. فعلى الأرجح لا يوجد وراءها سوى الخواء.. الغرف التي تحوي الكنوز تحتاج لمحاولات شاقة طويلة"
أحمد خالد توفيق