ممتداً حتى الأفق تغمره الموجات الهادئة، مغطى بالسواد تماماً، ولكن ضوء النجوم الخافت أظهر بعض روعة لونه الأزرق، كانت النجوم في أبهى صورتها تكوِّن أشكالاً رائعة في السماء، فهناك ذاك الأسد وهناك ذاك المحارب وهناك ذاك الوعل.
"في قلب الليل رأيتها، جعلتني أشعر أن لا نجوم في السماء سواها، سمعت في أذني أعذب لحن، حين همست تلك الحورية اسمي باطمئنان"
نظرت ليليس لمصدر الصوت بدهشة، لتجد ذلك الفتى البحار هو من يتغنى بذاك الحديث الذي لا تدري ما يعني به، رأت ذلك الفتى بضعة مرات من قبل ينظر لها، ولكنها لا تذكر اسمه، والآن هو يقف خلفها بمسافة ليست ببعيدة، التفتت له فوراً وابتلعت ريقها مبتسمة على سبيل المجاملة، أكمل الفتى بصوته الغنائي وهو يسير ليقف بجوارها:
"حينها فقط، أدركت أن هدف محياي، هو حمايتها من ظلمات الليل، والوحوش التي تسكن البحار، والأفراس التي تترصدها، وغايتي فحسب، هي أن أكون بحارًا على متن سفينة قلبها، يكفيني توصيلها لبر الأمان، لا يهمني أن أكون القبطان".
أنهى الفتى غنائه وهو ينظر إليها مبتسما، يبدو في منتصف العشرينات، ذو شعر أسود قصير وعيون زرقاء وبشرة قمحية، رفيع بعض الشيء وطوله معتدل، يرتدي ملابس شبه رثة.
"ألا تعرفين تلك الأغنية؟"
سألها الفتى فهزت ليليس رأسها نافية، ليكمل الفتى حديثه سارداً القصة:
"في إحدى المرات التي حاولت فيها شبه جزيرة لونا استعادة جزر راندوس، استعانت بأحد البحارة مساعدي قائد الجزر، رشوا ذلك البحار ليساعدهم في الإيقاع بقائده واسترجاع الجزر، ولكن ذلك المساعد كُشف فهرب إلى شبه الجزيرة، فقام قائد الجزر باختطاف ابنة البحار كورقة ضغط كي يعود ولكنه لم يعد؛ لذلك أمر القائد بقتلها، ولكن الحارس الذي كان يحرسها اكتشف أنه قد وقع في غرامها، وغنى تلك الأغنية" أردف الفتى ناظراً لعيني ليليس بشدة كأنه يكاد يخترقهما.
"ثم ماذا؟"
تساءلت ليليس ليجيبها الفتى:
"أعتقد أن الحارس مات ليحميها، شيء من هذا القبيل، أترين ما يمكن أن يفعله الحب الصادق؟!"
أومأت ليليس ثم أشاحت بوجهها عنه، وأرادت الانصراف فقد أدركت كم تأملت شكل البحر من أعلى السفينة، حتى نسيت تماما أنها تخطت الوقت المسموح به لتجول المسافرين، لكنها لم تكد تتحدث حتى عاد ذلك الفتى لتساؤلاته:
"أنت ليليس أليس كذلك؟ تسافرين مع ذلك العالِم"
"العالم ران، عالم في الحضارات القديمة"
"أجل هو ذاك، يمكنكِ أن تناديني ثعبان البحر"
"لقب لطيف"
قالت ليليس وهي شاعرة بالتوتر، فهي تريد الرحيل كي لا تقع في المتاعب، وهذا الفتى لا يترك لها فرصة لفعل ذلك..
"أليس كذلك؟!"
تساءل الفتى البحار بثقة وهو يتأمل البحر، ثم نظر لها مجدداً وهو لا ينفك عن التحدث: "أتعلمين، يمكنني في يوم أن أخبرك ما هو اسمي الحقيقي، وكيف حصلت على اللقب، إنها قصة طويلة ولكن لأجل جميلة مثلك لا يهمني أن أحكي طوال الدهر".
لم تجب ليليس، غير الفتى الموضوع قائلاً:
"إذن أخبريني أيتها الجميلة ليليس، ما الذي يوقظك في هذه الساعة؟! وتخرجين في سطح السفينة هكذا؟! ألا تخافين على نفسك؟!
هناك رحالة وبحارة خطرين يمكنهم أن يؤذوا فتاة جميلة مثلك!"
نظرت له ليليس ببعض الارتياب، أكمل بصوت خافت وهو يضع يده على كتفها:
"ولكن لا تخشي شيئاً، أنا سوف أحميكِ"
أبعدت ليليس يده بسرعة وقد انتابها بعض الفزع، أردفت سريعاً:
"أستمحيك عذراً؛ فالوقت تأخر ويجب أن أخلد للنوم" وقف الفتى أمامها عائقاً الطريق:
"ولكنني لم أحكِ لكِ بعد كيف حصلت على اللقب، وما أدراك لعلي أطلعك على اسمي الحقيقي، وهذا سر أقسمت ألا أطلع عليه سوى فاتنة مثلك"
حاولت ليليس المرور ولكنه أعاق طريقها مجدداً..
"من فضلك دعني أمر!"
"لماذا تريدين الذهاب سريعاً؟! بإمكاننا السهر لبعض الوقت!" أردف الفتى وهو يقترب منها، حاولت ليليس أن تجتازه وتركض ولكنه أمسك بذراعها.
"من فضلك، اتركني!" طلبت ليليس بصوت متوسل.
"لماذا تصعبين الأمر على نفسك؟! لا أدري"
حاولت ليليس دفعه بقوة فقام بصفعها، شعرت ليليس بأطرافها ترتجف بشدة وبدموعها تتجمع في مقلتيها، كلا، كلا، لن يحدث ذلك، فجأة وجدته يسحبها من ذراعها حيث صار ظهرها مواجها لسور السفينة، والفتى في مواجهتها ويحاول الاقتراب منها:
"أنا أم الغرق أيتها الفاتنة؟ اختاري، فلا يوجد خيار ثالث" أصدرت ليليس صوت آنين، وأخذت تدفع فيه بقدميها ويداها، ثم حاولت أن تصرخ فكمم الفتى فمها وأنفها بيده، ثم شد شعرها بقوة للخلف بيده الأخرى حتى صارت ترى صورة البحر والسماء مقلوبتين، شعرت أن رقبتها ستنكسر، وأن شعرها سينقطع تماما من على رأسها من فرط قوة سحب الفتى له للخلف، شعرت بأنها لا تستطيع التنفس بسبب يده الأخرى أعلى أنفها، وبأن روحها تكاد ترتفع للسماء، حاولت إبعاد يديه لكن بلا طائل.
"إذا فتحتِ فمك فسأنتهي منك، ثم سأرميكِ في الماء لتغرقي أو لتأكلكِ الوحوش، لا يهمني ولا أظن أن عالِمك سيهتم، فما أسهل الحصول على مساعد أو مساعدة نكرة من دار اليتامى!"
قالها الفتى بعينين تشران دماً، نظرت له ليليس بعينين دامعتين، ترك الفتى شعرها وأزاح يده الأخرى من أعلى فمها وأنفها فنظرت للأرض وتنفست الصعداء.
"حسنا إذن، ستلتزمين الصمت وتعيشين جراء ذلك؟" سألها الفتى.
"حسنا، ولكن اتركني أتنفس أولا" أجابته ليليس.
"فلتسرعي إذا كي لا يتعكر مزاجي"
"هل يمكنك الإفساح قليلا كي أستطيع التنفس؟"
"لست بهذه الحماقة يا فتاة"
"قليلا فقط، حقاً لا أستطيع التنفس"
ابتعد الفتى عن ليليس قليلاً، فصار هناك مخرج صغير ليمينها، ظلت ليليس ناظرة للأرض متظاهرة أنها تتنفس بصعوبة:
"هل أنت متأكد أن أحداً لن يكشفنا؟!" سألته ليليس ببراءة ليجيبها الفتى:
"كلا، لم أرَ أحداً في طريقي إلى هنا، جميعهم نيام، فلتنتهي بسرعة لدي عمل غدا، ويجب أن أستيقظ مبكراً"
"ولكني رأيت ضوء جهة يساري قبل أن تأتي بقليل من الوقت" أردفت ليليس مما أدى لنظر الفتى لجهة اليسار، فقامت ليليس بالجري سريعاً جهة اليمين وهي تصرخ:
"انقذوني! النجدة!"
لحق بها الفتى وأسقطها، ثم أصبح مواجهاً وقيد يديها التي تحاولان إبعاده بأقصى ما لديها من قوة:
"سَمَّوْني ثعبان البحر أيتها الحقيرة؛ لأنني أجد الفتيات أمثالك وحينما لا يطيعونني أسحب الحياة منهن، والآن حان دورك!" ثم أخذ يقترب منها وعيناه ممتلئتان بالشر والشهوة:
"أيها الحثالة القذر!"
سمعت ليليس أحدهم يصيح، ثم وجدت الفتى يسُحب من ملابسه ويتم رميه أرضاً، لم ترَ ليليس وجه من فعل ذلك، ولكنها ابتعدت حتى استندت بعض الشيء بسور السفينة، وهي تنظر بتوجس لذلك الشخص.
"أيها الحشرة، أتعرف كم المشكلات التي أعانيها بسبب قذاراتك؟!"
"يا زعيم، أنا لم أكن لأسبب لك أيةَّ مشكلات هذه المرة، أنا أقسم" قالها الفتى بصوت يشوبه الخوف ثم أكمل حديثه:
"إنها فتاة يتيمة، لن يهتم أحد لأمرها، يمكن لولي أمرها أن يحضر ألفاً غيرها ولن يكترث أحد."
شعرت ليليس بالأسى لعلمها أن حديث الفتى حقيقي تماماً، بصق ذلك الزعيم على الفتى.
"أقسم لك أيها الحثالة، أيا كان الوعد الذي أعطيته لوالدتك الميتة فسأنكثه إذا رأيتك تتجول في الليل على سطح السفينة مرة أخرى، أو إذا وجدتك تحوم حول أيةَّ فتاة!"
"ولكن ماذا عن الدوريات؟!"
"الدوريات الليلة لن أشركك فيها أبداً، والآن ارحل من أمامي أيها الحثالة!"
وقف الفتى ونظر للزعيم بخوف ثم نظر لليليس بنظرة توعد، تحرك الزعيم جهة ليليس فأمسكت في السور بشدة خوفاً منه، ولكن حينما رأت وجهه أدركت من هو: إنه قبطان السفينة بلحيته السمراء ونظرته الجادة وعضلاته البارزة، ابتلعت ليليس ريقها وهي تنظر له بعيون مفتوحة على مصراعيها منتظرة أن تعرف مصيرها منه، نظر لها القبطان نظرة حادة، ثم ذهبت حدتها للحظة وهو يقول:
"اذهبي لفراشك يا فتاة، ممنوع تجول المسافرين في مثل هذه الساعة"
نظرت له ليليس وهي مازالت متخشبة مما كاد يحدث لولا إنقاذه لها، عادت نظرته للحدة:
"اذهبي الآن، لا أريد مشكلاتٍ على متن سفينتي"
سارت ليليس مبتعدة ووجدت نفسها تسرع وخطواتها تزداد اتساعا ثم أخذت تركض بأقصى سرعتها حتى وصلت إلى غرفتها، دخلت سريعاً وأغلقت الباب، شعرت بنفسها تنهج بشدة وهي تستند للباب، وشعرت ببلل دموعها على وجنتيها، سمعت صوت شهقات بكاؤها، ولكنها وضعت يدها على فمها على الفور لتكتمها، أخذت تنزلق حتى صارت تجلس مستندة للباب، اسندت رأسها لركبتيها وأخذت تبكي محاولة كتم صوتها بقدر الإمكان، منذ دار الأيتام، وهي لم تجرؤ يوماً على جعل أحد يسمع بكاءها؛ فمصير ذلك في دار الأيتام كان السب والضرب، حتى يتم إسكات الطفل أو الطفلة الباكية، سكنت بعد بضعة دقائق واستندت للباب بيديها، ثم وقفت على قدميها مجدداً، نظرت لردائها، قد مُزقت أكمامه لِما حاول الفتى فعله بها، غير ذلك كان أغلب الرداء مازال سليماً، ولكن به بعض الأوساخ لسقوطها على الأرض، رداء طويل هو أقرب للفستان، أرجواني اللون بكمين طويلين، وشرائط بيضاء ملونة على الخصر وطرفي الأكمام، كان أفضل رداء حصلت عليه في حياتها، أهداه إياها العالم ران عندما جعلها مساعدته، أخبرها أنه يجدر بها الظهور بمظهر أفضل، وأنها الآن مساعدته ويجب ألا ترتدي ملابس مرقعة مرة أخرى، وحينها أهداها هذا الرداء، ورداء آخر قرمزي اللون، ولكنها دخلت غرفتها مرة في أثناء رحلتهم، لتجد الرداء الآخر قد سُرق، لم تعلم كيف ستكون ردة فعل العالم إن أخبرته، ولهذا لم تخبره فقد خافت، فهذا كل ما عرفته في حياتها -الخوف- الخوف من الوقوع في مشكلة، الخوف من فعل شيء خاطئ، الخوف من الرجال، الخوف من الضرب، حتى الخوف من المرض، فدوما ستكون هي المخطئة بطريقة أو بأخرى، وستعُاقب حتى إن مرضت فخطؤها هو أنها مرضت، خطؤها أنها وقعت في مشكلة وستعُاقب حتماً سواء بالحبس في غرفة مظلمة أو بالضرب أو بالحرمان من الطعام، أو بالسب إن كان العقاب هيناً، لم يكن العالم ران فظاً أو سيئاً أبداً معها، كان جادًّا في العلم، ولكن في غير ذلك كان متبسما وحليما، بل وضاحكًا في كثير من الأحيان، ولكنها ظلت خائفة، على الرغم من ذلك لم تخدع نفسها، فقد شعرت بالسعادة حينما صارت مساعدته وتركت دار الأيتام تلك بكل ما فيها من ذكريات مؤلمة، فظنت أن ما كان يحدث لها هناك لن يتكرر مع المعلم ران، وها هو قد تكرر، فكرت لوهلة وهي تنظر لأكمام ردائها، سارت خطوة فحسب حتى فراشها، فقد كانت الغرفة صغيرة للغاية، أدخلت يدها أسفل الفراش حتى وصلت للمخبأ الذي اكتشفته، فحتما هناك المئات سافروا في هذه الغرفة الصغيرة وسُرقت منهم مقتنيات، وأحدهم قام بعمل هذا المخبأ الذي وجدته ليليس بالصدفة بعد سرقة الرداء، فقد كانت تحتفظ بشيء آخر ثمين، ولكن لحسن الحظ لم يعثر عليه السارق، كان مخبأً صغيراً ولكنه يكفي لذلك الشيء الثمين وهو مرآة والدتها، الشيء الوحيد الذي ظل لها من عائلتها، مرآة صغيرة للغاية تكفي بالكاد لرؤية جزء صغير من الوجه ومن دون ذراع لإمساكها به، نفضت عنها ليليس التراب، ثم حركتها على أجزاء وجهها المختلفة، حتى يتسنى لها رؤية نفسها، نظرت فيها فرأت وجهها الباهت؛ فبشرتها بيضاء للحد الباهت أو ربما لقلة تغذيتها، أو ربما لأي سبب آخر، بعيون خضراء ذات ملامح يقال أنها جميلة وشعر أحمر، نظرت لوجهها ولدموعها التي لم تجف بعد على وجنتيها، وملامحها المتعبة، وشفتيها الدامية من أثر اللطمة على وجهها، ودارت بخاطرها كلمة واحدة:
"لماذا؟!"
***
يحاوطها الحطام والدمار، نظرت حولها فوجدت شخصًا ما مُلقى بعيداً لم تدرِ من هو، ولكنها وضعت يدها على فمها من الفزع، شعرت ببلل على وجنتيها جراء وضع يدها عليهما، رفعت يدها لعينيها وجدتها مغطاة بالدماء، انتابتها حالة من الهلع والتقزز في ذات الوقت، حركت يدها بسرعة لتمسحها في ثيابها لتجد أن مقدمة ثيابها مغطاة بالدماء حتى منتصف بطنها، شاعرة بالهول شهقت وهي تحاول أن تزيل تلك الدماء ولكن كيف؟! شعرت بالدموع تتجمع في مقلتيها وبرعشة يدها الشديدة، وأخذ قلبها ينبض بشدة:
"لماذا تصعبين الأمر على نفسك؟! لا أدري".
صعقت لسماع ذلك، كان الصوت يشبه فحيح الأفاعي، نظرت حولها بهلع في كل ركن وكل موضع، لكنها لم تجد أحدًا فقد كان المكان واسعا للغاية، تشابكت يدها مقتربة من وجهها، وتساقطت قطرات دموعها عليهما، كاد قلبها ينفجر من كثرة نبضاته، سمعت صوت خطوات ووجدت المكان حولها صار محاطاً بالظلال، وخرج صوتها من حنجرتها متوسلاً:
"أرجوك، كلا!"
فجأة، رأت شخصًا يخرج من ظل مقارب لها، معتدل الطول ورفيع بعض الشيء، هذا كل ما لمحته منه قبل أن تركض صارخة، ركضت بأقصى ما لديها، شعرت بأن قلبها سيخرج من صدرها من الرعب، وأخذت تبكي بشكل هيستيري، فجأة اصطدمت رأسها أرضاً، رفعتها صارخة واجتاح جسدها ألم غير عادي، شعرت بأن يديها وقدميها تحترقان من كم الجروح التي أصابتها حين تعثرت بتلك الصخرة الضخمة، كان هناك ألم بشع بجبهتها كذلك، وتبلل حاجبيها بالفعل جراء الدم المتساقط من جرح ما بجبهتها، سمعت خطوات تسير باتجاهها، حاولت الاستناد والوقوف، ولكنها سقطت بعنف بسبب تلك المحاولة، فيبدو أن قدمها قد كُسرت، عند ذلك الحد صار الألم لا يوصف، رفعت رأسها قليلاً بيأس، لا تدري ماذا تفعل، رأت أمامها زهرة صفراء امتزجت بالأحمر من الدماء التي تسقط من جبهتها، نسيت للحظة صوت الخطوات والجروح التي يمتلئ بها جسدها، والدم الذي يغطيها، حين رأت تلك الزهرة بهذا الشكل، اتسعت عيناها وكأنها بدأت تستوعب شيئاً ما، فجأة شعرت بمن يقف خلفها ويشد رأسها للخلف، وشعرت بنصل بارد على عنقها ثم استيقظت. استيقظت ليليس شاهقة لتجد نفسها على الأرض وكل جسدها يؤلمها، يبدو أنها سقطت في أثناء نومها، أخذت تتنفس متأوهة من آلام السقطة، ولكنها نسيت ذلك سريعاً، واتسعت عيناها باحثة عن الشيء الأهم، تنفست الصعداء حين وجدت مرآة والدتها سليمة ولم تنكسر، فقد نامت البارحة وهي تحتضنها، ضمتها إليها سريعاً ثم حاولت التغلب على الألم والوقوف لتجهز نفسها حيث تعلم أن اليوم مهم لمعلها؛ فاليوم ستصل السفينة لأحد المراسي الموجودة بالمملكة الشرقية، لحسن الحظ يتوسط ذلك المرسى كل من العاصمة الأم وعاصمة المملكة الشرقية، حيث يبعد أحد عشر يوماً عن الأولى، بينما يبعد عن الثانية أسبوعين متواصلين من السفر، وفي كلتيهما يمكنهما مقابلة أحد المسئولين، ليحصلوا على إذن ملكي يسمح لهم بالذهاب لمقر الحالمين سابقاً، هذا ما أخبرها به المعلم، كان الشروق قد حل بالفعل، جهزت ليليس نفسها سريعاً، فعليها أن تنتظر المعلم أمام غرفته قبل وصول السفينة بساعتين على الأقل، كانت ترتدي الآن فستانها الأرجواني الذي يبدو أقل جمالاً عن ذي قبل، ولكنها حاولت إصلاح أكمامه الليلة السابقة بقدر ما استطاعت، لم تكن ماهرة ولكن لا بأس بها، ضفرت شعرها في جديلة واحدة طويلة، وارتدت حذائها وهمت بالخروج، ولكنها تذكرت الفتى ثعبان البحر، خافت أن تجده أمامها وصارت في حيرة من أمرها، أتتأخر على المعلم وتنتظر حتى يستيقظ الناس ويزداد عددهم على متن السفينة، أم تخرج الآن ويمكن أن تجد الفتى أمامها؟! بعد بعض التفكير تغلب الخوف عليها، واختارت التأخر قليلاً، ولكن تحاشي الفتى الثعبان، شغلت نفسها في ذلك الوقت بقراءة أحد كتب المعلم التي أعطاها إياها، كان يتحدث عن الحالمين وعن حضارتهم، كيف أنهم يوماً ما كانوا حجرًا من أحجار الأساس لدى شعب إخوة الظل، بل ربما أهمهم، كيف أن الآباء والأمهات من شعب إخوة الظل افتخروا بأبنائهم إذا انضموا للحالمين، حيث إن الحالمين هم شعلة للخير أو على الأقل هذا ما وصفتهم به أغلب الكتب، سعوا فقط للازدهار بالأرض وحمايتها من الأمراض والمجاعات وأي شيء قد يدمرها؛ فقد حلموا وتنبأوا بكل احتمالات المستقبل، وأخبروا حكام إخوة الظل كيف يتجنبوا الأسوأ منها، وكيف يسعون لأفضلها، كان بعضهم يخطئ فيرى بعض الاحتمالات الكاذبة، وبعضهم يصيب أغلب الوقت، وذلك على حسب نقاء الحالم وسلامه الداخلي، فقد قيل إنه كلما صار الحالم لديه سلام داخلي ونقي من صفات الحقد والجشع وغيرها من الصفات التي قد تجعله يؤذي الآخرين، يرى الاحتمالات بشكل أفضل واضح، بينما كلما تغللت الصفات السابقة قلبه، فغالبا سيخطئ في رؤية المستقبل، على الرغم من كل ذلك، قيل أنهم اختفوا في النهاية بشكل مريب مع اختفاء إخوة الظل، لم يدر أحد السبب وراء ذلك، هناك افتراضات وتكهنات فحسب، عن كونهم رحلوا من الأرض بعد فناء إخوة الظل، ليتجنبوا أي صراعات مع الشعبين الأحمر والأصفر.
قطعت ليليس قراءتها حين سمعت أصوات الناس على متن السفينة تتعالى، فيبدو أنها انهمكت في القراءة ونسيت تماماً أن تذهب لانتظار المعلم، لملمت أشياءها سريعاً وخرجت من الغرفة. ازدحم سطح السفينة بالمسافرين، ركضت ليليس بينهم بسرعة حتى غرفة المعلم لكنه لم يكن موجود؛ فوقفت تنتظره وهي تلوم نفسها مراراً لأنها تأخرت، ربما تكون هذه فرصتك الوحيدة لحياة جيدة يا ليليس، كمساعدة المعلم، أخذت تفكر في ذلك وتقسم بداخلها أنها لن تفعل شيئاً خاطئاً أو قد يزعجه مجدداً، دارت برأسها تبحث عنه ولكنها لمحت شخصاً آخر يقترب منها بسرعة، قد كان الفتى الثعبان وعيناه تكاد تنفجر من الغضب، شعرت بالقلق ولكنها تساءلت ماذا عساه أن يفعل وسط كل هؤلاء الناس؟! ولكنه يمكن أن يجرحها بسكين! يمكن أن يسحبها داخل غرفة! يمكن.. انتابتها حالة من الهلع وتذكرت الليلة الماضية، اقترب جدًا حتى كاد يكون مواجها لها:
"ها هي أيها العالم ران"
نظرت ليليس جهة الصوت فوجدته قبطان السفينة وبجواره المعلم ران، سارا باتجاهها وتوقف الفتى الثعبان بعيداً بعض الشيء ناظرا إليهم ثم نظر لليليس بغضب وسار مبتعداً..
"أخبرتك أنها ستكون بانتظارك أمام غرفتك، فهي أذكى من أن تتجول حيث لا يجدر بها"
قالها القبطان ثم سلط نظره عليها قليلاً، كأنه يلومها على التجول وحدها على متن السفينة البارحة في منتصف الليل، نظرت له ليليس وهي تبتلع ريقها.
"ولكنها ليست ذكية بما يكفي كي تلتزم بالمواعيد"
أردف المعلم ران وهو يهز رأسه بعتاب، حاولت ليليس أن تعتذر:
"معلم ران، أنا آسفة".
"امسكي هذه، ضعيهم في حقيبتك"
قال المعلم ران مقاطعاً إياها وهو يعطيها بعض الأوراق التي كان يحملها، أخذتهم ليليس ووضعتهم في حقيبتها مع كتاب الحالمين ومرآة والدتها.
"أشكرك حقا أيها القبطان على كل شيء، أتمنى أن أراك مجدداً" أردف المعلم مصافحاً القبطان وهو يبتسم.
"أنا من يجب أن يشكرك بخصوص الأعشاب أيها العالم ران، حظ موفق بشأن الحالمين، وعذراً أن الأخبار غير السارة وردت مني أنا" "لا بأس أيها القبطان، فعلى الأقل سأدري وجهتي، ولن أضيع وقتي في الذهاب لأماكن لا جدوى لي فيها".
"هيا".
قالها المعلم لليليس دون أن ينظر إليها ثم سار مبتعداً، ابتسمت ليليس للقبطان مجاملة:
"توخي الحذر يا فتاة"
أردف القبطان، لحقت ليليس بالمعلم الذي كان ينظر لليابسة أمامهم؛ فقد اقتربت للغاية.
"أيها المعلم، أنا آسفة حقاً، لن أفعل أي شيء يزعجك مجدداً" نظر لها المعلم ثم هز رأسه:
"أتدرين لماذا اخترتك أنت بالذات دوناً عن أي شخص آخر لتكوني مساعدتي يا ليليس؟"
فكرْتْ للحظة: لأنها في الأصل ليست من شبه جزيرة لونا، إذن فلن يكترث أحد ماذا يحدث لها، بالإضافة لأنها تستطيع القراءة والكتابة وليست أمية كباقي الأيتام الأخرين، أجابته ليليس.
"لا أعلم يا سيدي"
"أترين هذه اليابسة يا ليليس؟"
لم تفهم ليليس مغزى السؤال ولكنها أومأت.
"أتعرفين من هم سكانها؟"
"إنها قارة أثرا تنقسم الى جزأين أيها المعلم، جزء شمالي وجزء جنوبي، الشمالي يسكنه الشعب الأصفر والأحمر وكان يسكنه من قبلهم إخوة الظل الذي ينتمي إليهم الحالمين، بينما الجزء الجنوبي يوجد به ممالك السحرة"
"هذه الأرض عانت كم تصدع ودمار وألم، ومازالت تعاني، ولكنها على الرغم من ذلك صامدة وحية"
ابتسمت ليليس لتحدث المعلم إليها؛ فهذا يعني أنه ليس غاضب منها، أرادت أن يستمر الحديث فحسب، لم تهتم لما يجب أن يقال، فقط أرادت أن تشعر برضاه عنها، أكملت ليليس.
"أجل فقد كانت في الماضي قارة أثرا كتلة واحدة، ولكن أغرق الماء أجزاءها الشرقية والغربية من المنتصف حيث إن منتصفها كان منخفضاً عن باقي أجزائها، حينها فقط لم يتبقَّ سوى جزء من الأرض سمكه يكاد يقترب من الجسر، هذا بخلاف كم الحروب بين إخوة الظل وبين الشعبين الأحمر والأصفر، أو حتى بين الشعبين الأحمر والأصفر نفسيهما التي شهدتها هذه الأرض، لا يمكننا بالطبع نسيان نظام حكم الجزء الجنوبي منها الذي يبيح العبودية ويعتمد على النظام الطبقي" ابتسم لها ران: "يا لك من قارئة يا ليليس!"
"إني أحب القراءة والعلم كثيراً أيها المعلم ران"
"أتدرين الآن لما اخترتك أنتِ بالذات يا ليليس؟"
اختفت ابتسامة ليليس ولكنها حاولت رسمها مجدداً، وأومأت للمعلم سريعاً مفكرة أن إجابة ذلك السؤال هي الإجابة التي توقعتها في البداية:
لأن هذه الأرض هي موطنها الأصلي ولأنها تستطيع القراءة والكتابة.
أردف المعلم ران:
"لذلك لنتفق ألا تتأخري مجدداً" أومأت له ليليس مجدداً.
"أخبرني القبطان ببعض الأخبار غير السارة" تنهد المعلم ثم أكمل:
"العائلة الملكية توجد بأكملها في العاصمة الأم، ولا يوجد أحد بمملكة الشرق، وهذا يعني أننا إن لم نجد خطاب موافقة على استكشاف أنقاض مقر الحالمين سنضطر للسفر إلى العاصمة الأم" تنهدت ليليس وسألته:
"وهل هناك أمل في أن نجد هذا الخطاب؟"
هز ران رأسه مجيباً: "ليس مرجحًا، لم أضع كثيرًا من الآمال في أن أجده، ولكني كنت متأكدًا أن أحد أفراد الأسرة المالكة سيكون في مملكة الشرق؛ وحينها يمكننا أن نحاول إعلامهم بأهمية محاولة الاستكشاف تلك، يبدو أن هناك خطب ما ليوجد أغلبهم في العاصمة الأم".
كانت السفينة قد رست بالفعل، ونزل المسافرون بينهم ليليس والعالم ران.
"لا أفهم، لماذا هناك قانون ينص على الحصول على إذن ملكي للبحث في أنقاض الحالمين؟! إنها أنقاض! لا أعتقد أنهم حتى يهتمون بالمنطقة التي توجد فيها" تساءلت ليليس.
"منذ ظهور المرايا والشعبين الأحمر والأصفر عرفا ما قد يسببه السحر، وصاروا يخشون كل ما يتعلق به ويحرمونه تماماً يا ليليس، لذلك يعادون الجزء الجنوبي من القارة؛ لأن ممالكه تبيح السحر واستخدامه بكافة أشكاله"
"ولكن الحالمين"..
"الحالمين يا بنيتي كانوا سحرة، ربما لم يتسببوا في أي أذى، ورفضوا تماماً التدخل لجانب شعبهم الأصلي إخوة الظل ضد الشعبين الأحمر والأصفر ولكنهم يظلون سحرة، والاسوأ أنهم لم يكتسبوا سحرهم، بل وُلدوا به إذن فهو متأصل بهم"
"ولكن أيها العالم إنهم اختفوا تماماً!"
"هذا أيضا يجعل الشعبين الأحمر والأصفر يخشون أكثر من البحث في أمور الحالمين، يخشون أن سحر الحالمين بطريقة هو ما تسبب في اختفائهم التام بهذا الشكل، ويخشى الشعبان أن يصيبهما المصير نفسه" ابتلع المعلم ران ريقه مكملاً:
"بعد ظهور المرايا، بعد انتشار المرض الأزرق، بعد اتحاد الشعبين بفضل كوراخي وثنسيا، حاول الملوك بناء حضارة والتوقف عن الحرب، حتى إنهم لم يحاولوا غزو الجزء الجنوب من القارة كما فعلوا في الشمالي، على الرغم من معاداتهم الشديدة للجزء الجنوبي، لكن لم تعد أعدادهم كالسابق ولا حماسهم"
"لكن أيها المعلم سمعت عن أراضٍ عانت أكثر من ذلك، ولم تصبح شعوبها هكذا"
"هذا حينما لا يعاني الملوك مصير الشعوب، فلا يكترثون، أو يقومون بتوسيع ممالكهم، معتبرين أن ذلك الأفضل لشعوبهم لاحقاً، ولكن في الجزء الشمالي من هذه الأرض تعاني الأسرة الملكية، مما يعاني منه الشعب، ربما بصورة أقل، ولكن مازالوا يودعون بعض أطفالهم لفترات تقترب من العشرين عام، مازالوا يصابون بالمرض الأزرق ويموتون بسببه"
وصلت ليليس والمعلم ران لما يشبه مكتب البريد، لحسن الحظ فهو قريب بعض الشيء من المرسى، فلم يستغرقهما كثيرًا من الوقت للوصول إليه.
"عذرا"..
أردف ران، ليجيبه رجل بدين ذو شعر أشقر طويل وعينين عسليتين:
"اجل يا سيدي"
"أريد أن أعلم إن وصلني أي خطاب، أنا العالم ران من شبه جزيرة لونا"
"لحظة من فضلك يا سيدي، سأرى إن وصلتك أي خطابات" كان وجه المعلم جامداً بعض الشيء، وكأنه لا يبالي، لكن ليليس لمحت بعض القلق في عينيه الرماديتين، هو في الأربعينات من عمره، لا يمتاز بالطول ولا بالجسد المثالي، فهو ممتلئ بعض الشيء، ولكنه بالتأكيد يمتلك كمًّا كبيرًا من الذكاء وطيبة القلب، ابتسمت له ليليس محاولة أن تزيل قلقه، ولكن القلق كان بادياً على وجهها، كتم المعلم ضحكاته من محاولاتها المخفقة:
"أنا آسف يا سيدي، ليس هناك أي خطابات مرسلة لك"
تنهد المعلم وأومأ كأنه توقع ذلك، ثم شكر الرجل وغادر المكان برفقة ليليس.
استغرقت ليليس والمعلم ما يقرب من الأسبوعين، مروا فيها بعديد من المدن: مدينة تمتاز بأشجار العنب، ولكن لا يبدو أن سكانها ودودون للغاية؛ عندما ذكرت ليليس سبب مجيئها هي والمعلم، بل إن بعضهم استشاط غضباً فقط لذكرها لكلمة الحالمين، حيث إن ذلك ذكرهم بما فعله إخوة الظل في الشعبين الأحمر والأصفر، وبقذارة السحر على حد قولهم، بدت أرض المملكة الشرقية ذات طبيعة قاحلة وجبلية، لكن على الرغم من ذلك حين اقتربوا من فرع النهر الموجود بالمملكة الشرقية الذي يدعى فرع الزجاج، فقد مروا بعديد من المروج الخضراء المجاورة له، كان النهر بالتأكيد هو شريان الحياة لهذه الأرض بجانب آبار الحياة، ولكنها لم ترها بعد؛ فقد سمعت أن أغلبها يوجد بالمملكة الغربية، بدا النهر في أبهى هيئته حينما مروا من أعلى الجسر الشرقي ليصلوا للعاصمة الأم، حيث توجد الأسرة الملكية، وهي من أروع المدن التي رأتها ليليس، فهي ذات تنظيم وبناء مبهر، ممتلئة بالبيوت ذات الأسطح الحمراء والصفراء، كان القصر ضخماً وفخماً ويمتلئ بالنقوش الحمراء والصفراء، التي تمتزج معاً بطريقة لا يمكن أن يقوم بها سوى أعظم فنان على وجه الكون، وجد العالم لهما غرفتين لا بأس بسعرهما في أحد الأماكن المخصصة لإيجار الغرف وتقديم الطعام والشراب، ولكن الصدمة هي أن طلب المعلم مقابلة أي أحد من معاوني الأسرة الملكية قد رُفض، حتى بعد عديد من المناقشات لعدة أيام بين المعلم وبين حراس القصر، فكل يوم كانوا يرفضون دون إبداء أيةَّ أسباب، شعر المعلم بسخط بالغ إثر ذلك، وأصر على أنهما سيرحلان ذلك اليوم للجزء الجنوبي من قارة أثرا، وسيحاولان من هناك الذهاب لأنقاض مقر الحالمين بطريقة غير شرعية، خافت ليليس من تلك المخاطرة وحاولت إقناعه بالتريث، وربما سيجدان طريقة أخرى، لكنه رفض وأصرَّ أن كل مجهوده للبحث في أمور الحالمين لن يذهب هباء!
أمرها المعلم أن تلملم أشياءها، وأن تنتظره أمام غرفته وقد تم الأمر، دقت ليليس على باب غرفة المعلم، ففتح الباب وسمح لها بالدخول:
"حسنا يا ليليس اجلسي هنا، دقائق وسأكون جهزت أغراضي، فأمامنا رحلة طويلة"
"هل أنت واثق من هذه الخطة أيها المعلم ران؟ أعتقد أنها خطرة، وقد يصيبنا مكروه"
"لا مزيد من النقاش في هذا الأمر يا ليليس، لقد اتخذت قراري!
سنذهب لأنقاض مقر الحالمين بأي ثمن"
لمحت ليليس المعلم يخرج حقيبة صغيرة من أحد الأدراج، وينظر لما يوجد بداخلها سريعاً كما لو أن ذلك يطمئنه بصورة ما، ثم يغلقها ويضعها إلى جانب باقي أشيائه، رأته يفعل ذلك من قبل عدة مرات، لكنها لم تدر أبداً ما الذي يوجد بداخل تلك الحقيبة، وحينما سألته في مرة قام بتغيير موضوع الحديث سريعاً، فجأة دق الباب بعنف، ذهب المعلم ليفتحه ليجد في وجهه مالك المكان:
"لقد وعدتني أيها العالم ألا تجلب لي المشكلات، وها أنت ذا تنكث وعدك!"
ارتعبت ليليس أن يكون شخصاً قد علم بخطة المعلم في الذهاب لأنقاض مقر الحالمين بطريقة غير شرعية.
"ماذا فعلت؟! لم أسبب أيةَّ مشكلات، وها أنا ذا راحل برفقة مساعدتي"
تعالى صوت مالك المكان:
"لم تجلب لي مشكلات؟! وماذا تسمي الحراس الذين أتوا لهنا ويطلبون مجيئك حالا؟! ما الذي فعلته أيها العالم؟!"
"لا أعلم عمَّ تتحدث؟! أنا لم أفعل شيئاً!"
"أتحسبني سأصدقك مرة أخرى!"
هم المعلم يرد ولكن مالك المكان قاطعه:
"انزل فوراً؛ فلا أريد مزيدًا من المشكلات" نزل المعلم وتبعته ليليس وهي تشعر بالارتياب:
"أنت العالم المهتم بأمور الحالمين الملقب بران؟" سأل أحد الحراس المعلم ران:
"أجل، أنا العالم ران من شبه جزيرة لونا، عالم في الحضارات القديمة"
"نود منك أن تأتيَ برفقتنا إلى القصر، لدينا أوامر ملكية بذلك" شعرت ليليس بخوفها على المعلم وما قد يصيبه فسألته:
"أيها المعلم ران، هل يمكنني مرافقتك للقصر؟!"
"من تلك؟"
أشار الحارس على ليليس ليجيبه المعلم:
"تلك مساعدتي ليليس"
"ليليس ماذا؟" امتعض المعلم وتنهد:
"ليس لها كنية"
"لن تأتيَ معنا!" قال الحارس آمراً.
"عفوا؟! لقد أخبرتك للتو أنها مساعدتي!"
"إنها يتيمة بلا أصل، أتظنني سأترك أي شخص يدخل القصر؟!"
أردف الحارس، عقبت صدمة ليليس ألم في صدرها جراء ما قاله الحارس، بدا المعلم غير آبه لشيء:
"حسنا، وأنا لن آتيَ معكم"
"ماذا قلت لتوك؟!"
تساءل الحارس بصدمة وغضب في الوقت نفسه، شعرت ليليس بقلق وتعجب من تصرف المعلم:
"كما سمعت، طلبكم مرفوض"
"لا يمكنك رفض طلب ملكي!" قالها الحارس بحدة.
"بلى يمكنني"
"لا تجبرني على إرغامك" زمجر الحارس.
"حسناً فلتبدأ إذن، فلتفعل ذلك ولتخرق القانون السادس والعشرين من اتفاقية الاتحاد"
سكت الحارس وابتلع ريقه.
"آها، يبدو أنك تعرفه، فلتتبعه إذن"
بدا الارتباك على الحارس، وأشاح المعلم بنظره عنه لمالك المكان ثم أردف:
"وأنصحك بالشيء نفسه"
لم تقرأ ليليس كثيرًا فيما يخص الأحكام والقوانين، ولكنها بالتأكيد تدري عما تحدث المعلم، إنه أحد قوانين اتفاقية الاتحاد بين الجزء الشمالي من قارة أثرا وشبه جزيرة لونا، ومضمون ذاك القانون يتعلق بشأن المسافرين بين الجزء الشمالي من هذه القارة وشبه جزيرة لونا، وينص على: أولاً: عدم إجبار أي مسافر على شيء لا يريده طالما أنه لم يرتكب فعلًا مشيناً، ثانياً: حسن التعامل وعدم الإهانة بأيةَّ طريقة، ثالثاً:
إذا تم ارتكاب عمل مشين من أحد المسافرين من يحدد عقوبته هو موطنه الأصلي، وليست أيةَّ جهة أو أي شخص آخر، أكمل المعلم:
"إذن أيها الحارس، سآتي وبشروطي وسيكون هذا كرم مني للأسرة الملكية، خاصة بعد رفض طلبي دون مبرر، وإلا ستخبر أيا كان من أرسلك حتى لو كان الملك ذاته، أني غير مهتم بما يريده مني، وأنه إذا أرادني فليأتِ لي في شبه جزيرة لونا، وسأحاول أن أجد له ميعادًا لا أكون منشغلاً فيه"
كان كل من في المكان بما فيهم الحراس وليليس ومالك المكان مندهشين، نظر الحارس الذي كان ينهي ويأمر من قبل حوله، وبدا الانزعاج عليه وهو يجز أسنانه:
"وما شروطك أيها العالم ران؟"
"أولاً: ستذهبون الآن وسآتي في الوقت الذي أشاء فيه القدوم؛ فلا يمكن لعالم عالي الشأن مثلي أن يجر للقصر بواسطة الحراس كأنه مجرم، ثانياً: مساعدتي ستأتي معي وستكونون سعيدين لاستقبالها! يا رجل، أتعلم تلك اليتيمة التي لا تعجبك كم كتابا قرأته في حياتها؟! أكثر مما ستقرأه أنت وأبناءك في حياتكم بأكملها، وهي حتى لم تكمل عقدين من عمرها، ثالثاً: لتخبر من أرسلك أني أريد حراسًا أكثر لباقة لاستقبالي أنا ومساعدتي، وأشكرك الآن؛ فكما ترى إنه الصباح ولابد أن نفطر، فكيف سنزور العائلة الملكية ونحن جياع؟!" أشار ران لمالك المكان:
"من فضلك أخبر الطاهي أننا نود بعض البيض والجبن والخبز، ولتتعجله؛ فكما ترى لدينا مواعيد هامة"
جلس ران على إحدى الطاولات المخصصة لتناول الطعام، وتبعته ليليس ببطء وهي مازالت قلقه ومندهشة، ولكنها كانت أيضاً تشعر ببعض الفخر لدفاع المعلم عنها، بدا أن الحارس قد تم إحراجه بما يكفي فلم يضف مزيدًا من الكلام، وانسحب سريعاً هو وباقي الحراس وسط انبهار الموجودين في المكان.
***
ذهب المعلم وليليس ظهيرة ذلك اليوم للقصر، وتم استقبالهما في قاعة واسعة، لا تحوي عديدا من المقاعد، ولكن كان بهما مقعدان لهما، ومقعد آخر أكثر فخامة في مواجهة مقعديهما، ولكنه أبعد وفي موضع أعلى، كانت قاعة فخمة بها عديد من الستائر والنقوش، قاما بالجلوس على مقعديهما وظلا منتظران حيث لم يوجد في القاعة سواهما، فجأة فتُح باب آخر غير الذي دخلا منه، ودخلت منه سيدة ذات جمال غير عادي، يتخطى جمال البشر، ذات شعر ذهبي طويل للغاية يصل حتى ركبتيها، مصفف على هيئة بعض الضفائر المتداخلة، مع ترك جزء منه حر، عيناها عسليتان هذا غير جديد على أغلب السكان في العاصمة وفي المملكة الشرقية لكنهما كانتا خلابتين، ذات بشرة بيضاء وملامح ملائكية، ترتدي فستاناً سماويَّ اللون ذو شرائط ذهبية على أكمامه وخصره، مرصع بالجواهر من أعلاه، تأملت ليليس فستانها بانبهار، فقد كان أجمل فستان رأته بحياتها! بدت أنها في العشرينات من عمرها، تبعها فتى نحيل بعض الشيء، ولكن عضلاته بارزة على الرغم من نحوله، ذو شعر كستنائي وعيون عسلية تميل للون الأخضر، يرتدي ما يشبه الدرع، ولكنه ليس كذلك تماما؛ فالمعدن لا يغطي كل أجزائه، ذو ملامح جادة، يحمل سيفاً.
جلست السيدة على المقعد المواجه للمعلم وليليس، ووقف الفتى بجوارها شابكا يده ببعضهما، ناظرا لهما بحدة، ابتسمت السيدة وأردفت بصوت هادئ:
"مرحبا بك أيها العالم ران وبــ" نظرت السيدة لليليس لوهلة ثم أكملت:
"وبمساعدتك، آسفة إن كان الحراس الذي بعثتهم صباحاً قد أساءوا إليك بأيةَّ طريقة، سأعمل على عقابهم لا تقلق" أردفت بلباقة.
"لا بأس يا سيدتي، لا داعي لذلك"
"أميرتك وليست سيدتك!" أردف الفتى بحدة.
"لا بأس يا ساريو، فأنا لم أقدم نفسي للعالم بعد، أنا الأميرة دورسيرا أيها العالم ران، تشرفت بلقائك" ارتبك المعلم قليلاً:
"آسف يا سمو الأميرة، لم يخبرني أحد بأني سأتشرف بلقائك" نظرت لها ليليس بانبهار، هذه إذن هي الأميرة دورسيرا، أولى بنات الملك وأكبر أبنائه حالياً التي يتحدث جميع الناس عن مدى حدتها وجمالها، تزوجت أحد مستشاري والدها الذي كان يكبرها بما يقارب العشرين عام، ولكن تذكرت ليليس لوهلة أنها سمعت أن زوج تلك الأميرة قد مات بالفعل، لديها ثلاثة أطفال، ولكن لحظة كيف تكون هذه هي الأميرة دورسيرا؟! الأميرة دورسيرا إذا تمت حسبة عمرها على أقل تقدير ستكون في الأربعينات، ولكن ملامحها تبدو أصغر من ذلك بكثير!
"لا تقلق بشأن ذلك أيها العالم ران، أنا من أخبرتهم ألا يفصحوا عن هويتي قبل أن نتحدث أنا وأنت"
"هل لي أن أعرف لماذا يا سمو الأميرة؟"
"عرفت مؤخراً أنك تريد أن تبحث في أمور الحالمين، ولكن مع الأسف لم يصلني ذلك الخبر سوى بعد أن تم رفض طلبك"..
نظرت الأميرة دورسيرا للأرض وأخذت نفساً عميقاً ثم أخرجته رافعة نظرها للمعلم مجدداً:
"أخي الأمير دومين هو من أمر بذلك، أوضاعي الحالية، أوضاع أسرتنا لا تسمح لي أن أتجادل معه بشأن ذلك"
"ولماذا عساه أن يرفض يا سمو الأميرة؟"
"مع احترامي لك أيها العالم، ولكن هذا ليس من شأنك" ابتلع العالم ريقه مردفاً:
"أعتذر لتدخلي فيما لا يخصني يا سمو الأميرة، كل ما أعنيه أن الحالمين لطالما استخدموا السحر في الخير فقط، حتى في الحرب بينكم وبين إخوة الظل"
شبكت دورسيرا يديها:
"أعلم ذلك أيها العالم ولهذا سأساعدك"
تكاد تقسم ليليس أن الفرحة ظهرت على أسارير المعلم على الرغم من محاولته إخفاء ذلك.
"إذا نفذت أوامري"
أكملت الأميرة بهدوء ومعها اختفت الفرحة من على وجه المعلم ونظر للأميرة بارتباك:
"يسرني فعل ذلك يا سمو الأميرة، ولكن ما الذي يمكنني منحه إياك؟!"
"ابنتي"
"عذراً يا سمو الأميرة ولكني لا أفهم" أومأت دورسيرا ثم أردفت:
"بالطبع، ألم تستعجب أيها العالم أن الأسرة الملكية هنا؟ ولا يوجد أحد بمملكة الشرق؟"
"حسبت أنها صحة والدك الملك، ولكني لم أفهم لماذا لم يجبني أغلب من سألتهم"
أجاب المعلم ثم صمت لوهلة، وأومأ كأنه أدرك شيئاً ما، ضيقت الأميرة عينيها قليلاً قائلة:
"أرى أنك استوعبت الموقف أيها العالم، لا يفُترض بأحد التحدث فيما لا يخصه"
عادت الأميرة لنظرتها السابقة:
"أنت تعلم أيها العالم أننا أخضعنا أطفالنا مؤخراً لقانون المرايا" أخذت الأميرة دورسيرا نفساً طويلاً وأخرجته مجدداً:
"ابنتي أيها العالم أظهرت المرايا أن روحها"..
صمتت لوهلة ثم اكملت: "هجينة!" لم يستطع المعلم ران أن يخفي دهشته:
"هجينة، وصفاتها التي أظهرتها المرايا جعلتها تنتمي بصورة أكبر لمملكة الغرب، أو هذا ما يظنه الممسوسين، يخبروننا أن الشعر الأسود كان من الصفات القديمة لذوي العيون الحمراء، وأنه بجانب عينها الحمراء يدل أن روحها تنتمي بصورة أكبر لمملكة الغربية"
"وماذا يمكنني أن أفعل يا سمو الاميرة؟"
"أن تجد حلاً أكيدًا لتلك المشكلة في أنقاض مقر الحالمين" ظهرت الدهشة على ملامح المعلم وتساءل:
"كيف لي أن أفعل ذلك؟ إذا كان الأمر بتلك السهولة لاستطعتم إيجاد حل وابطال سحر المرايا منذ أن تحفظتم على أنقاض مقر الحالمين! سمو الأميرة، إنها أنقاض فحسب، وليست مكانا سحريّاً لإيجاد حلول للمشكلات المستحيلة"
"هل تعلم كم هجيناً وجدوا في مجتمعنا حتى الآن أيها العالم؟!" قبل أن تترك الأميرة للعالم فرصة لكي يجيب، أجابت هي بنفسها بصوت حاد:
"ثلاثة، ثلاثة خلال سبعمائة عام، وابنتي هي الأولى من الأسرة الملكية، هل تعلم ما مصير الهجينين الآخرين؟" لم يجب العالم فأكملت هي:
"الموت!"
"لكن يا سمو الأميرة ما قرأته أن أحد الهجينين الآخرين لم يمت، بل وجد حلًّا في وادي الأسود، حلًّا جعل المرايا تظهر أنه ليس بهجين حينما عُرض عليها مجدداً، فلماذا لا تبحثين عن الحل في ذلك المكان؟! فتاريخيا هذه الواقعة شبه مؤكدة"
اقترح المعلم، لم تجب الأميرة دورسيرا فورا، ظلت تنظر للمعلم نظرة جامدة دون أن ترمش، شعرت ليليس ببعض القلق من تلك الأميرة فلم تدرِ ما الذي يجول بخاطرها، أتنوي إيذاء المعلم أو ما شابه لأنه خالفها؟! تساءلت ليليس ببعض الذعر، أردفت الأميرة:
"هذه ليست مناقشة أيها العالم، أنت تريد الذهاب لأنقاض مقر الحالمين، وأنا أريد ابنتي، وسأحصل على ما أريد بك أو بدونك، لذا فأنصحك بأن تستفيد من الموقف، إنه قرارك!"
بدا على المعلم الانزعاج لكنه سيوافق، تعلم ليليس ذلك؛ فهو يريد ذلك أكثر من أي شيء آخر، ابتسم المعلم ابتسامة زائفة:
"حسنا يا سمو الأميرة، سأحاول أن أجد حلاً لإعادة ابنتك لك"
"بل ستجد أيها العالم، لن تحاول فحسب؛ فانا حقاً لا أريد أن أستاء" شعرت ليليس بالتهديد في نبرة الأميرة وهذا زاد قلقها؛ فالعبث مع أمثال تلك الأميرة يبدو كخيار سيء للغاية، أما تطلبه حتى ممكن؟! تعلم ليليس أن المرايا تخطئ أحيانا، وإذا عُرض عليها الطفل مجددا تظُهر الحقيقة، لكن هذا نادر للغاية، ويعتبره بعضٌ ليس سوى كلام في مراجع، ما يفعله المعلم الآن هو مخاطرة كبيرة.
"ولكن"..
قال العالم وهو ينظر للأرض لوهلة ثم نظر للأميرة مجدداً بتردد:
"أرى أنك متردد، فالرفض إذن هو خيارك أيها العالم! حسنا فلتنصرف فهذه المقابلة انتهت!"
"حسنا، حسنا، أنا أقبل، سأفعل ذلك" أردف المعلم ببعض التوتر.
كلا! كلا! لا تفعل ذلك أيها المعلم! فكرت ليليس، لكن المعلم بدا مهووساً باستكشاف تلك الأنقاض أكثر من أن يرى المنطق في أن ما تطلبه الأميرة هو شيء مستحيل.
"اتفقنا، إذن!"
أردفت الأميرة دورسيرا ثم نادت حراسها ليصطحبوا العالم وليليس في رحلتهم.
"هذا ليس ضروري يا سمو الأميرة، فنحن نستطيع الابتعاد عن المخاطر"
قال المعلم سريعاً.
"أعتقد أنك أسأت فهمي أيها العالم، إنهم ليسوا لحمايتك بل للحرص على عودتك لي بما أمرت به".