فقط لفترة قصيرة لم أستطع أن أصدِّق أن كل هذه اللحظات النابضة بالحياة لم
تكن أكثر من مجرد مضمون حلم.
في الحقيقة، لم أستطع أن أتخيَّلها حلمًا، نظرًا لكل الأمور التي رأيتها والتي تبدو
واقعيةً بالنسبة إليَّ. استحممتُ وارتديتُ ملابسي كما هي العادة، وبينما كنت أحلِّق ذقني
تساءلتُ لماذا يتحتم عليَّ أنا من بين كل الرجال أن أترك المرأة التي أحببتُها لأعود إلى الألاعيب
السياسية الحمقاء في الشمال القاسيوالعنيف. وحتى لو أجبَرَ جريشام العالَمَ على العودة
إلى الحرب، فماذا كان ذلك يعني بالنسبة إليَّ؟ لقد كنتُ رجلًا، بمشاعر رجل، فلماذا ينبغي
عليَّ أن أحمل مسئوليةَ إلهٍ بشأن السبيل الذي قد يمضيفيه العالَم؟
أتعرف؟ تلك ليست بالضبط الطريقةَ التي أفكِّر بها في الأمور، في أموري الحقيقية؛
فأنا محامٍ، وأملك وجهةَ نظر.
يجب أن تفهم أن الرؤيا كانت حقيقية للغاية، ومختلفة بالكلية عن أي حلم، لدرجةِ
أنني أخذتُ دومًا أستعيدُ تذكُّرَ تفصيلات ضئيلة غير مهمة، حتى إن زخرفةَ غلافِ كتاب
موضوع على ماكينة الحياكة الخاصة بزوجتي في غرفة الإفطار ذكَّرتني بمنتهى الوضوح
بالخط المطلي بالذهب، الذي كان يحيط بالمقعد الموضوع في المختلى حيث تحدَّثتُ مع
الرسول المُرسَل إليَّ من حزبي الذي نبذته. هل سبق لك أن سمعتَ بحلم كانت له خصائصُ
«؟ مثل تلك
«؟… مثل »
«. بحيث تتذكَّر لاحقًا تفصيلاتٍ ضئيلةً كنتَ قد نسيتَها »
فكَّرتُ فيما قال. إنني لم أتنبَّه قطُّ إلى هذه النقطة، لكنه كان مُصِيبًا.
«. لم يحدث مطلقًا. إن ذلك أمر يبدو أنك لا تفعله مطلقًا في الأحلام » : قلت
لا، ولكن ذلك ما فعلته أنا بالضبط. أنا محامٍ في ليفربول، يجب أن » : أجاب قائلًا
تفهم هذا، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل عمَّا سيظن العملاء ورجال الأعمال،
الذين وجدتُ نفسي أتحدَّث إليهم في مكتبي، إذا ما قلتُ لهم فجأةً إنني أحببتُ فتاةً ستُولَد
بعد مائتَيْ سنة أو نحو ذلك من الآن، وإنني قَلِق بشأن الشئون السياسية لأحفادِ أحفادِ
أحفادي. وكنتُ في ذلك اليوم مشغولًا بصفة رئيسية بالتفاوُض حول عقدِ إيجارِ مبنًى
مدتُه تسعة وتسعون عامًا. كان الأمر يتعلَّق بمقاولِ بناءٍ خاصعلى عَجَلةٍ من أمره، وأردنا
أن نُلزِمه باتفاقٍ بكلِّ طريقة ممكنة. أجريتُ معه لقاءً، وأظهَرَ انعدامًا لِلُّطف لا ريبَ فيه،
جعلني أخلد إلى فراشيوأنا ما زلتُ حانقًا. في تلك الليلة لم أحلم، ولا حلمت في الليلة التالية،
أو على الأقل، لم أحلم بشيء أتذكَّره.
اختفى لديَّشيء من ذلك الاقتناع العارم بأن ذلك الحلم حقيقي، وبدأت أتأكَّد من أنه
حلمًا. لكنه عاد ثانيةً. « كان »
عندما عاد الحلم ثانيةً، بعد نحو أربعة أيام، كان مختلفًا جدٍّا، وأعتقد أنه من المؤكد
أن أربعة أيام كانت قد مرت أيضًا في الحلم. حدثتْ أمورٌ كثيرة في الشمال، وعاد طيفها
يخيِّم من جديد بيننا، وهذه المرة لم يكن من السهل تبديده؛ فبدأت — وأنا أعرف ذلك —
في تأمُّلات كئيبة: لماذا — على الرغم من كلشيء — يتعيَّن عليَّ أن أعود، أعود في بقية حياتي
إلى التعب والتوتر والإهانات والسخط الدائم، لمجرد إنقاذِ مئات الملايين من الناس العاديين
— الذين لم أحبهم، ولم أستطع في كثير من الأحيان أن أكُِنَّ لهم إلا الاحتقار — من توتُّرِ
كان « منهم » ومعاناةِ الحرب وأبديةِ حُكْمٍ فاسد مُطلَق؟ وبعدَ كل ذلك، قد أفشلُ. كلُّ واحد
يسعى إلى غايته الخاصة المحدودة، فلماذا لا أفعل أنا أيضًا ذلك؟ لماذا لا أحيا أنا أيضًا
كرجل عادي؟ وأخرجني صوتُها من هذه الأفكار، ورفعتُ عينيَّ.
وجدتُ نفسيمستيقظًا وسائرًا. كنا قد خرجنا من مدينة المتعة، واقتربنا من قمة جبل
سولارو وكنا ننظر نحو الخليج. كان الوقت في ساعةٍ متأخرة من العصر، وكان الجوصَحْوًا
جدٍّا. وبعيدًا إلى اليسار كانت جزيرةُ إسكيا عالقةً في ضباب ذهبي بين البحر والسماء،
وكانت مدينة نابولي تبدو بيضاءَ شاحبةً في قبالة التلال، وأمام أنظارنا كان جبلُ فيزوف
توري ديل » وألسنةٌ طويلة ورفيعة من النيران تنتشر من فوهته صوب الجنوب، وأطلال
«. تبدو متلألئة وقريبة منا « كاستيلامير » و « أنونزياتا
«؟ لقد كنتما بالطبع في جزيرة كابري، أليس كذلك » : فقاطعتُه فجأةً قائلًا
في هذا الحلم فحسب. في هذا الحلم فحسب. في كل أرجاء الخليج فيما بعدَ مدينة » : قال
سورينتو كانت القصور العائمة التابعة لمدينة المتعة راسيةً ومربوطة بالسلاسل. ونحو
الشمال كانت توجد المنصات العائمة الرَّحْبة التي كانت تستقبل الطائرات. كانت الطائرات
تهبط من السماء عصرَكلِّ يوم، وكل واحدة منها تجلب آلافًا من الباحثين عن المتعة من
أقاصيالأرضإلى كابري ومسراتها. كل هذه الأشياء امتدت بالأسفل.
ولكننا لاحظناها بنحوٍ عارض فقط بسبب مشهد غير عادي كان يتعيَّن أن يظهر
ذلك المساء. إن الطائرات الحربية الخمس، التي كانت مستقرة منذ وقت طويل بلا نفعٍ في
ترساناتِ مصبِّ نهر الراين النائية، كانت في ذلك الوقت تُجرِي مُناوَرات في جهة الشرق من
السماء. أذهَلَ جريشام العالَمَ بصنع هذه الطائرات وطائرات أخرى وإرسالها لتَحُوم هنا
وهناك. كانت هي أداة التهديد في لعبة الخداع الكبرى التي كان يلعبها، وحتى أنا فاجأَتْني
هذه اللعبة. كان جريشام واحدًا من أولئك الناس الحمقى المفعمين بالحيوية بنحوٍ لا
يُصدَّق، الذين يبدو أن السماء أَرْسلتهم لصنع الكوارث. كانت طاقتُه للوهلة الأولى تبدو
بالمثل مقدرةً رائعة! إلا أنه كان منعدِمَ الخيال، منعدِمَ الابتكار، لم تكن لديه إلا قوةُ إرادةٍ
الغبي الأحمق أنه سيجتاز به الصعاب. « حظِّه » دافعة حمقاء هائلة، واعتقادٌ مجنون في
أذكر كيف وقفنا على الرأس البحري نشاهدسِرْب الطائرات وهو يَحُوم على مسافةٍ بعيدة،
« تمضي » وكيف أنني تأمَّلتُ المعنى الكامل للمشهد، مُدرِكًا بوضوحٍ الطريقةَ التي يجب أن
بها الأمور. وحينذاك حتى لم يكن قد فات الأوان؛ كان من الممكن أن أعود، حسبما أعتقد،
وأنقذ العالَم. كنتُ أعرف أن قوم الشمال كانوا سيتبعونني، فقطشريطةَ أمرٍ واحد وهو أن
أحترم قِيَمَهم الأخلاقية. كان من شأن الشرق والجنوب أن يمنحاني ثقةً لم يكونا ليمنحوها
لأيِّ رجلٍ شمالي آخَر. وكنتُ أعرف أنه لا يتعيَّن عليَّ إلا أن أعرضعليها الأمر، وهي كانت
ستَدَعني أذهب … ليس لأنها لم تكن تحبني!
كل ما في الأمر أنني لم أرُِد الذهاب؛ كانت إرادتي في الاتجاه الآخَر تمامًا. كنتُ قد
تخلَّصتُ منذ عهدٍ قريب من عبء المسئولية الثقيل الذي كان جاثمًا على صدري: كنتُ قد
عليَّ أن أقوم به لم « يجب » نكصتُ حديثًا عن أداء الواجب، لدرجةِ أن الوضوح المطلق لِمَا
يكن له سلطانٌ على إرادتي. كنت أريد أن أعيش، وأن أجني الملذات، وأن أجعل حبيبتي
سعيدة، إلا أنه على الرغم من أن هذا الإحساس بالواجبات الجسيمة المُهمَلة لم تكن له
قدرةٌ على اجتذابي، فإنه استطاع أن يجعلني صامتًا ومشغولَ البال، وسلَبَ من الأيام التي
أمضيتُها نصفَ تألُّقِها، وأدَّى بي إلى الانجراف في تأمُّلات سَوْدَاوية في سكون الليل. وبينما
كنتُ واقفًا أشاهِد طائرات جريشام — التي كانت أشبه بطيورٍ تُنذِر بشَرٍّ لا نهايةَ له —
تتدفَّق عبر السماء جَيْئة وذهابًا، وقفَتْ هي بجانبي، تراقبني، وهي بلا شكٍّ تستشعر
المعاناةَ التي أحسُّها، ولكنْ ليس بوضوح؛ إذ كانت عيناها تُسائِلان وجهي، واكتسَتْ
تعبيرات وجهها بالحيرة والارتباك. وكان وجهها رَماديٍّا شاحبًا؛ لأن غروبَ الشمس كان
يتلاشىمن السماء. لم يكن تمسُّكها بي خطأً منها. كانت قد طلبَتْ مني أن أبتعد عنها، ثم
عادت ثانيةً في الليل وعيناها تذرفان الدموعَ تطلب مني أن أذهب