hindawiorg

Share to Social Media

قصة تَشتمِل على المَخطوط المعروف باسم
مخطوط جويس أرمسترونج الناقص
إنَّ التصوُّر الذي مُفادُه أن السردَ العجيب الذي أطُْلِقَ عليه اسم مخطوط جويس أرمسترونج
الناقص هو مَقْلَب مُحكَمٌ وضعه شخصٌ مجهولُ الهوية، مُبتلًى بِحسٍّ فُكاهيٍّ مُنْحَرفٍ
وخبيث؛ قد نبذَه حاليٍّا كلُّ من تفحَّصوا الأمر. فمن شأن أبشع مُدبِّري المكائد وأكثرهم
خيالًا أن يتردَّد قبل أن يربط خيالاته المريضة بالحقائق المأساوية، والتي لا يطالها شك،
التي تُعزِّز صحَّة الرواية. ومع أن المزاعم التي يحتويها تتَّسِم بالغرابةِ بل والشناعة، فإنها
تفرِضصحتها على الإدراك الجَمْعي، وأنه يتعيَّن علينا أن نُعيد ضبط أفكارنا على الموقف
الجديد. يبدو أن عالَمَنا هذا يفصِله حدُّ أمانٍ واهٍ وهشٌّ عن خطرٍ بالِغ الغَرابة والبُعد عن
التوقع. وسوف أسعى جاهِدًا في هذا السَّرد — الذي يَستنسِخ الوثيقة الأصلية في صورتها
التي تتَّسِم حتمًا بأنها مَنقوصة بعضَالشيء — أن أضع بين يدَي القارئ جميع الحقائق
حتى الآن، مُستهِلٍّا روايتي للأحداث بالقول إنه إن كان يُوجَد من يَشكُّ في رواية جويس
أرمسترونج؛ فليس من الممكن أن يكون ثمة شكٌّ البتَّة في الوقائع المُتعلِّقة بالمُلازم ميرتل،
ولا بآر إنْ، ولا بالسيد هاي كونر، الذين لا شكَّ في أنهم لقُوا حتفَهم على النحو الوارِد بَيانه.
عُثر على مخطوط جويس أرمسترونج الناقص في الحقل الذي يُعرَف باسم لُوار
هايكوك، الذي يقَع على مسافة مِيلٍ واحدٍ غربي قرية ويذيام، عند الحدِّ الفاصل بين
مُقاطعتَي كِنت وساسِكس. كان الخامسعشرمن سبتمبر الماضيهو اليوم الذي لاحظ فيه
رعب المرتفعات
عاملٌ زراعي — هو جيمس فلين، الذي يعمل لدى المُزارِع ماثيو دوْد بمزرَعة تشونتري،
بقرية ويذيام — غَلْيُونًا من خشب الورد البريِّ مُلقًى على الأرض على مَقربةٍ من المَمْشى
المُتاخِم لسياج الشُّجَيرات في حقل لُوار هايكوك. وعلى بُعد بِضع خُطواتٍ التقطَ منظارًا
مكسورًا ذا عدستَين. وأخيرًا، أبصرَ بين بعض نبْتات القُرَّاص، في مَصرف المياه، كِتابًا
مَبسوطًا، عليه غلافٌ من قماش الكَنَفا، وتبيَّن بعد ذلك أنه عبارة عن دفتر مُلاحظات ذي
أوراقٍ قابلةٍ للفَصل، وكان بعضتلك الأوراق قد انفكَّ وراح يُرفرِف على طول قاعِدة سياج
الشجيْرات. فجمع تلك الأوراق، ولكنَّ بعضها، ومن بينه الورقة الأولى، لمْ يُسْتَرجَع قط،
ويُخلِّف فجوةً مؤسفة في هذه الإفادة الشديدة الأهمية. أخذ العامل دفتر المُلاحظات إلى
سيِّده، الذي عرَضه بدَوره على الدكتور جيه آيتش أثرتون، من قرية هارتفيلد. فأدرك هذا
السيد الفاضل على الفَور أن ثمَّةَ حاجةً إلى فحصِمتخصصٍ، فأرُسِل المخطوط إلى النادي
الجويِّ بلندن، حيث يُوجَد الآن.
الصفحتان الأوُلَيان من المخطوط مفقودتان. وثمَّةَ أيضًا واحدةٌ مقطوعةٌ قُبيل نهاية
السرد، غير أن أيٍّا منها لا تُؤثِّرُ على التَّرابُط العام للقصة. يُخَمَّن أن الاستهلال المفقود يتناول
سِجلَّ مؤهلات السيِّد جويسأرمسترونج بصِفته ملَّاحًا جويٍّا، والتي يُمكن أن يُستَدَلَّ عليها
من مصادر أخرى والمُعْتَرَف بأنها بلا نظيرٍ بين طيَّاري إنجلترا الجوِّيِّين. لسنواتٍ عديدةٍ
كان يُنظرُ إليه باعتباره من أجرأ الطيَّارين وأكثرهم ثقافة، وهو مَزيجٌ مكَّنه من اختراع
العديد من الأجهزة الجديدة وكذلك اختِبارها، بما في ذلك المُلحَق الجيروسكوبي الشائع
والذي يُعْرَف باسمه. القوام الرئيسي للمخطوط مكتوبٌ بعِنايةٍ بالحِبر، ولكن السطور
القليلة الأخيرة مكتوبة بقلَمِ رصاصٍوغير مُتقنَةٍ للغاية حتى إنَّها لا تكاد تُقرأ؛ تمامًا، في
الواقع، كما قد يُتوقَّع لها أن تبدو إذا ما شُخْبِطَت على عَجَلٍ على مِقعد طائرةٍ مُنطلِقة.
ويُوجَد، علاوةً على ذلك، عدَّة بُقَعٍ على كلٍّ من الصفحة الأخيرة والغلاف الخارجي، والتي
أعلن خبراء وزارة الداخلية أنها عبارة عن دماء؛ ربما كانت بشريَّةً، ولكن الأكيد أنها تخصُّ
أحد الثديِيَّات. إن واقعةَ اكتشاف شيءٍ يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ الكائنَ المُسبِّب لمرض الملاريا في
هذه الدماء — ومن المعروف أن جويس أرمسترونج كان يُعاني من حُمَّى مُتقطِّعة —
لَمثالٌ بارزٌ على ما وضعَه العِلم الحديث مِن أسلحةٍ جديدة بين أيدي مُحقِّقينا.
والآن نُدلي بكلمةٍ عن شخصيَّة صاحِب هذه الإفادة التي مِن شأنها تَغيير مجرى
التاريخ. كان جويس أرمسترونج — وفقًا للأصدقاء القليلين الذين عرفوا بالفعل شيئًا عن
الرجل — شاعرًا وشخصًا حالمًا، كما كان بارِعًا في مجال الميكانيكا ومُخترِعًا. كان رجلًا
ذا ثروةٍ كبيرة، أنفق قدرًا كبيرًا منها على مُمارسة هوايته المُتمثِّلة في الِملاحة الجوية. كان
يمتلِك أربع طائراتٍ خاصة في حظائر الطائرات الخاصَّة به قُربَ بلدة ديفايسيس. ويُقال
إنه قام بما لا يقلُّ عن مائةٍ وسبعين طلْعةً خلال العام الماضي. كان رَجُلًا مُنعزلًا ذا تَقلُّباتٍ
مِزاجيةٍ كئيبةٍ. كان من شأنه خلالها أن يَعتزِل صُحبة رفاقه. يقول الكابتن دانجيرفيلد،
الذي كان يَعرفه أكثرَ من أيِّ أحدٍ آخر إنه كانت ثمَّةَ أوقاتٌ يُخشى فيها أن تتطوَّر غرابةُ
أطواره لتُصبِح شيئًا أكثر خطورة. وكانت عادته في حَمْلِ بندقية شوزن معه على مَتن
طائرته هي إحدى تَجلِّيات غرابة الأطوار تلك.
وكان من ذلك أيضًا، التأثير الهوَسي الذي ألحَقَه سقوطُ المُلازم ميرتل بعقلِه. سقط
ميرتل، الذي كان يُحاوِل تسجيل الرقْمِ القياسيفي علوِّ التحليق، من ارتفاع يزيد عن ثلاثين
ألف قدَم. وإنه لَمِن المُفزِع رِواية ما جرى له؛ إذ كان رأسُه قد مُحِيَ تمامًا، رغم أن جسمه
وأطرافه احتفظت بهيئتها. وحسبما يقول دانجيرفيلد، كان من شأن جويس أرمسترونج،
«؟ وأين، بِربِّكم، رأسُ ميرتل » : في كلِّ تَجمُّعٍ للطيارين، أن يسأل بابتسامةٍ غامِضة
وفي مُناسبةٍ أخُرى بعدَ العشاء، في قاعة الطعام بمدرسة الطيران الواقِعة في سهل
سالزبوري، بدأ جويس مُناقشةً حول ماهيَّة أكثر الأخطار استدامةً الذي سوف يتعيَّن
على الطيَّارين مُواجهتُه. وبعدما استمع إلى آراءٍ مُتعاقِبة تتعلَّق بالجيوب الهوائية، والبناء
المَعيب، وفرْطِ الميل الجانبي، أنهى المناقشة بهزِّ كَتِفيه والامتناع عن طرحِ آرائه الخاصة،
رغم أنه أعطى انطباعًا بأنها مُختلفةٌ عن أيٍّ مِمَّا طرحه رِفاقه.
ومن الجدير بالمُلاحظة أنه اكتُشِف، بعد اختفائه التام، أنَّ شئونه الخاصَّة كانت
قد سُوِّيَتْ بِدقَّةٍ قد تدلُّ على أنه كان لديه حدسٌ مُسبَقٌ قويٌّ بوقوع كارثة. وبعد هذه
التَّوضيحات الجوهرية سأعرِض الآن السَّرد بصورَتِه الحاليَّة بالضبط، بدءًا من الصفحةِ
الثالثة من دَفتر المُلاحظات الملطَّخ بالدماء:
بيْد أنني اكتشفتُ عندما تناولتُ الغَداء في مدينة ريمز مع كوسيلي وجوستافريموند »
أنَّ أيٍّا منهما لمْ يكُن مُدرِكًا لأيِّ خطرٍ غير عاديٍّ في الطبقات العُليا من الغلاف الجوي.
وأنا في الحقيقة لمْ أقُل ما كان يجُول بخاطري، ولكنِّي اقتربتُ منه جدٍّا بحيث لو كان
لديهما أيَّةُ فكرةٍ شبيهةٍ به لما عَجزا عن التعبير عنها. ولكنهما في ذلك الحين كانا رجلَين
أجوَفَين مُختالَين بنفسيهما، تفكيرهما لا يَتجاوَز رؤيةَ اسميْهما التافِهَين على صفحات
الجرائد. والجدير بالذكر أن أيٍّا منهما لمْ يتجاوَز بكثيرٍ مستوى العشرين ألف قدَمٍ قط.
بطبيعة الحال، وصل رجالٌ إلى أعلى من هذا بالمَناطيد وكذلك بتَسلُّق الجبال. ولا بدَّ أنَّ
دخول الطائرة إلى منطقة الخطر يكون أعلى بكثيرٍ من تلك النقطة؛ وهذا في جميع الأحوال
بافتِراضِأن هواجسي صحيحة.
إننا نُعايِشالتَّحليق بالطائرات لأكثر من عشرين سنةً الآن، وقد يتساءل المرء: ما الذي
جعل هذا الخطر لا يكشف عن نفسه إلَّا في وقتنا هذا؟ والإجابة واضحة؛ ففي الأيام السَّالِفة
التي كانت فيها المُحرِّكات ضعيفةً، عندما كانَ مُحرِّك جنوم أو جرين ذو المائة حصانٍ
يُعَدُّ أكثرَ من كافٍ لتلبِيَة كلِّ الاحتياجات، كانت الطلَعاتُ الجوية مُقيدةً تقييدًا شديدًا.
والآن بعد أن أصبح المُحرِّك ذو قوةِ الثلاثمائة حصان هو القاعدة وليس الاستثناء، صارتِ
الطلَعاتُ إلى طبقات الجوِّ العُليا أكثر سهولةً وشيوعًا. ويستطيع بعضُنا أن يتذكَّر بلوغ
جاروس شهرةً عالميةً عندما كنَّا في سنِّ الشباب، بوصوله إلى ارتفاع تسعةَ عشَرَ ألفَ قدَم،
وكان تَحليقُه فوق جبال الألب يُعَدُّ إنجازًا بارِزًا. أما الآن فقد ارتفع مِعيارُنا ارتفاعًا يفوق
الوصف، فمثلًا، يُوجَد عشرون طلعةً جويَّةً عالية الارتفاع في السنوات السابقة، ونُفِّذَ كثيرٌ
منها دون عواقبَ وَخيمة. وبُلِغ مستوى الثلاثين ألف قدمٍ مرَّةً تِلوَ الأخرى دونما مكروهٍ
يتجاوَزُ الزكام والربو. علام يُبرهِن هذا؟ قد يهبِط زائر على هذا الكوكب ألفًا من المرَّات ولا
يرى نَمِرًا أبدًا. رغم هذا فإن النُّمور موجودة، ولو تَصادَفَ أنه هبط في أحد الأدغال فقد
يُفترَس. يُوجَد أدغالٌ في طبقات الجوِّ العُليا، ويُوجَد أشياءُ أسوأ من النُّمور تسكنها. وأعتقد
أنه في الوقت المُناسب سوف يضع الناس خرائطَ واضحةً بدقَّةٍ لتلك الأدغال. وحتى في
اللحظة الراهنة فإن بِمقدوري تَعيين اثنتَين منها. فإحداهما تقع فوق منطقة باو-بياريتز
الفرنسية. وثمَّةَ أخرى تقعُ فوق رأسي تمامًا فيما أكتُب هنا بمنزلي في مُقاطعة ويلتشير،
بل إنني أعتقد اعتقادًا غير جازمٍ أن هناك أدغالًا ثالثة في منطقة هامبورج-فيسبادن.
كان اختفاء الطيَّارين هو أول ما دعاني للتفكير في الأمر. بالطبع، قال الجميع إنهم قد
سقطوا في البحر، ولكن ذلك لمْ يُقنِعْني على الإطلاق. كانت الحالة الأولى هي حالة الطيَّار
فيرييه في فرنسا؛ إذ عُثر على طائرته بالقُرب من مدينة بايون، ولكنهم لمْ يَجدوا جُثَّته
مُطلقًا. وعلاوة على ذلك، حالة الطيار باكستر، الذي اختفى، ومع ذلك وُجد مُحرِّكُ طائرته
وبعض أدوات التثبيت الحديدية في إحدى الغابات في مقاطعة ليسترشَير. في تلك الحالة،
يُقرِّر الدكتور ميدلتون، من مدينة أميسبوري، الذي كان يُراقِب عملية تحليق الطائرة
بمنظار، أنه، مُباشرةً قبل أن تَحجُب السُّحبُ الرؤية، رأى الطائرة التي كانت تُحلِّق على
ارتفاعٍ شاهقٍ، ترتفع فجأةً عموديٍّا إلى أعلى في سلسلة مُتتابِعةٍ من الرَّجَّات على نحوٍ كان
يظنه مُستحيلًا. كانت تلك آخرَ مرةٍ يُشاهَد فيها باكستر. توارد ذكر الأمر في الصحف،
ولكن دون جديد على الإطلاق. ووقعتْ حالات عديدة أخرى مُشابِهة، ثم وقعتْ وفاةُ هاي
كونر. فما أكثرَ الثرثرة التي دارَتْ حول لُغزِ الجوِّ العَصيِّعلى الحل! وما أكثر الأعمِدةَ التي
تناولتِ الأمر في الصحف الرخيصة العالية التوزيع! ورغم هذا فيا لَضآلةِ ما بُذل لِسَبْر
غَوْر القضية! لقد انحدَر بطائرته، ومُحرِّكاتُها مُتوقِّفة، باتِّجاه الأرضانحِدارًا مُريعًا من
ارتفاعٍ غير معلوم. ولمْ يخرُج من طائرته قطُّ ومات وهو جالس في مِقعده. ولكن ما الذي
هُراء! لقد كان قلبُ هاي كونر سليمًا مثل قلبي. «. مرضٌقلبي » : سبَّبَ الوفاة؟ قال الأطباء
ماذا قال فينابلز؟ كان فينابلز هو الرجل الوحيد الذي كان بجواره عندما مات، قال إنه
هكذا قال فينابلز، ولكن لم «. مات رُعبًا » . كان يرتَجِفُ وَبَدا مِثل رجلٍ تعرَّضلفزَعٍ شديد
يستطعْ أن يَتخيَّل مِمَّ كان رُعبُه. لمْ يقُل لفينابلز سوى كلمةٍ واحدة، كان وقْعُها ككلمة
ولكنهم لم يفهَموا من ذلك شيئًا أثناء التحقيق. ولكنني أستطيع أن أفهَم منه ،« وحشي »
لقد « حقٍّا » . شيئًا. وحوش! كانت تلك هي آخر كلمةٍ نطقَ بها الِمسكين هاري هاي كونر
مات رُعبًا مِثلما اعتقدَ فينابلز.
ثُمَّ حدث أمرُ رأسميرتل. هل حقٍّا تُصدِّقون، وهل حقٍّا يُصدِّق أيُّ أحدٍ، أنه مِن المُمكن
لرأسِ إنسانٍ أن يُدْفَع بكامِله دَفعًا داخِل جسَده بتأثير قوَّةِ السَّقْطة؟ حسنٌ، ربما يكون
الأمر مُحتمَلًا، أما من ناحيتي أنا، فلمْ أصُدِّق قطُّ أنَّ هذا ما حدَث لميرتل. وثمَّةَ أمرُ المادَّةِ
جسده كلُّه لَزِج بفِعل مادةٍ » : الدُّهنِية التي كانت على ملابسه؛ إذ قال أحدهم أثناء التحقيق
الغريب أنَّ أحدًا لمْ تدُر برأسه الأفكار بشأن ذلك! أما أنا ففعلْت، ولكن يومَذاك، «. دُهنية
كان قد مضى وقتٌ طويل بما يكفي وأنا أفكر بالأمر. قمتُ بثلاثِ طلعات — كم كان
دانجيرفيلد يُمازِحُني بشأن بُندقيَّتي الشوزن! — ولكني لمْ أبلُغ قطُّ الارتفاع الكافي. أما
الآن — بالاستعانة بطائرة بول فيرونِر الجديدة الخفيفة هذه ومُحرِّكها من ماركة روبر
ذي المائة والخمسة والسبعين حصانًا — فينبغي لي بِسهولةٍ أن أدُْرِك ارتفاع الثلاثين ألفَ
قدَمٍ غدًا. سأحاول الوصول إلى الرقْمِ القياسي. وربما أحُاوِل الوصول إلى شيءٍ آخَر كذلك.
لا شك في أنه أمرٌ خطير. إن أراد شخصٌما تَجنبَ الخطر لكان من الأفضل له أن يبتعِد عن
الطيران بالكلية، وأن يَستكين نِهائيٍّا في خُفَّين من القماش الصوفيِّ ورُوبٍ منزلي. ولكنني
سأزور أدغال الجوِّ في الغد؛ ولو كان ثمَّةَ أيُّ شيءٍ هناك فسوف أعرِفه. إن عُدْتُ فسأدُرِك
قليلًا من الشُّهرة. وإذا لم أعُد فلَعلَّ دفتر المُلاحظات هذا يُبيِّن ما أحُاوِل فِعله، وكيف فقدتُ
حياتي وأنا أفعله. ولكن، من فضلكم، لا تتفوَّهوا بِهُراءٍ حوْلَ حوادِثَ عارِضةٍ أو أمورٍ
غامضة.
اخترتُ طائرتي الأحُادِيَّة السطح من نَوع بول فيرنر لأداء المُهمَّة. فلا شيء يُضاهي
طائرةً أحُاديَّة السطح عندما يتوجَّب إنجاز عملٍ حقيقي. اكتشف بيمونت ذلك في مُستهلِّ
عصر الطيران. أحد الأسباب هو أنها لا تُبالي بالرطوبة، ويبدو من حالة الطقس وكأننا
سنكون مُحاطين بالسُّحُب طوال الوقت. ثم إنها نموذجٌ جميل صغير الحجم وتستجيب
لأوامري كحصانٍ سلِسِالانقياد. وبها مُحرِّك دوَّار من ماركة روبر بعشرأسطوانات، تصِل
قوَّةُ أدائه حتى مائةٍ وخمسةٍ وسبعينَ حصانًا. وتحتوي على كلِّ التحسينات الحديثة؛ من
هَيكلٍ مُغلَق، وزلَّاجتَي هبوطٍشديدتَي الانحناء، ومكابح، وأجهزة حفظ اتِّزانٍ جيروسكوبية،
وثلاث سُرعات، تعمل عن طريق تعديل زاوية أسطح توجيه الطائرة اعتمادًا على فكرة
عمل الستارة الفينيسية. أخذتُ معي بندقيَّة شوزن ودستة خراطيش مَحشوَّةً برصاص
الخُردُق. لَيتَكُم رأيتُم وجه بيركنز، الميكانيكي العجوز الذي يعمل لدي، عندما أمرتُه بوضع
هذه الأشياء في الطائرة. كنتُ أرتدي ملابس تُشبِهُ ملابس مُستكشفي القُطب الشمالي؛ إذ
ارتديتُ قميصين من الصُّوف تحت بزَّة الطيران، وجَورَبين سميكين داخِل حذائي الطويل
الرَّقَبة المُبطَّن، وغطاءَ رأسٍ واقِيًا من العواصِف بزوائدَ جانبيةٍ لحماية الأذُنين، ونظارتي
الواقية المصنوعة من معدِن التلك. كان الجوُّ خانِقًا خارج حظائر الطائرات، ولكني كنتُ
ماضيًا نحوَ ارتفاعٍ شاهقٍ كقِمَّة سلسلة جبال الهيمالايا، وكان يتعيَّن عليَّ أن أرتديَ ما
يتلاءم مع ذلك. أدرك بيركنز أن ثمَّةَ خَطْبًا ما يَجرِي، وناشَدَني أن أصطحِبَه معي. ربما
كنتُ سأفعل لو كنتُ أحُلِّق في طائرةٍ ذات سطحين، ولكنَّ الطيران بطائرةٍ أحُاديَّة السطح
هو أمر يقوم به رجل واحد؛ إذا كنتَ تُريد أن تحصُل منها على أقصىارتفاعٍ يُمكنها بلوغُه.
وبالطبع، أخذتُ معي حقيبة أوكسجين؛ فمصير من يسعى إلى تحقيق الرقم القياسيِّ في
الارتفاع بدون واحدةٍ كهذه سوف يكون إمَّا التَّجمُّدَ أو الاختناق؛ أو كِليهما.
قبل أن أدخل الطائرة، ألقيتُ نظرةً فاحِصة على أسطح توجيه الطائرة، وعارِضة
التوجيه، وذِراع الرفع. وبِقدْرِ ما استطعتُ أن أرى، كان كلُّشيءٍ مضبوطًا. بعد ذلك أدرْتُ
مُحرِّكي ووجدتُ الطائرة تعمل بشكلٍ جميل. وعندما سمَحوا لها بالانطلاق، على الفور
تقريبًا حلَّقَتْ وهي على أقلِّ سرعة. دُرتُ بها مرةً أو مرَّتين في ساحة حظيرة طائراتي من
أجل تهيئتها للطيران فحسب، ثم بسطتُ أسطح التوجيه، وأنا أشير إلى بيركنز والآخرين،

وجعلتُ طائرتي علىسرعتها القصوى. فانسابتْ تطير مُسرعةً قُرب سطح الأرض، وكأنها
طائر سنونو، مع اتِّجاه الريح مسافة ثمانية أو عشرة أميالٍ حتى رفعْتُ مُقدِّمَها إلى أعلى
قليلًا فبدأتْ ترتقي ارتقاءً حلزونيٍّا رائعًا نحوَ رُكامةِ السُّحُب فَوقي. ومن المُهِمِّ جدٍّا أن
ترتفع ببطءٍ وأن تُؤقلِمَ نفسك مع الضغط باستمرارٍ كلَّما ارتفعت
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.