لم يتذوق طعم النوم طوال الليل، كلما حاول راودته الكوابيس في أبشع صورها، لم يكن يتخيل أن وظيفة أبيه التي طوال حياته يمقتها، ويشمئز حتى من التفكير فيها، سيأتي يوم عليه، ويرثها.
اليوم هو الأول له فيها، وقد يكون الأخير في حياته القصيرة، كلمات أبيه المطمئنة ناقضت كل القصص المرعبة التي ظل يحكيها طوال سنوات عمله، كيف يتوقع منه الآن أن يصدقه، ويتقبل فكرة أن ينوب عنه في وظيفته بعد قرار خروجه بالمعاش؟!
رغم سهره طوال الليلة، وضحاها ألا وأن النوم لم يكن سلطان عليه؛ فلا حاكم على الجسد بعد عظمة الخوف، حين تخاف لا جوع، لا شهوة، لا نوم، لا شيء فقط إنت وخوفك.
خرج من غرفته بخمول يتمنى أن تبتلعه الأرض أو يبتلع أبيه لسانه، ويكف عن الصياح، ومناداته
على سفرة خشبية قديمة الطراز، جلس أبواه ينتظران خروجه من غرفته؛ لتناول الفطور سويًا.
لم ينتبه أبيه بخروجه، وظل يكرر ندائه.. يأنس، يأنس.
هو شاب في التاسع والعشرين من عمره، طويل القامة، متناسق الجسد وحيد أبواه، تخرج من مدرسة الثانوية الميكانيكية.
وحصل على شهادة معدومة القيمة متوسطة، ولكن تقديرها ضعيف من بين الشهادات، ولو أن زمانه، ومكانه أصبحت الشهادات كطابع بريد على بطاقة الرقم القومي شكل فقط لا جدوى ولا نفع..
"وزاد الطين بلة" إلتحاقه بمعهد تمريض.. لم تمكنه شهادته المدفوع ثمنها من العمل سوى في عيادات الأطباء الخاصة، ومراكز الجراحة، وكان هذا قبل قراره بهجر ذلك المجال، وعصيان أبيه، ولكنه لم يستطع أن يفعل ذلك تلك المرة.
قطع نداء أبيه بضيق صدر قائلًا: أيوه، أيوه خلاص يا أبا أنا أهو، بس بقى صحيت الشارع كله.
- إيه يا بني كل ده نوم؟! ماكنتش موصيك تصحى بدري عشان ده، أول يوم ليك شغل، ولازم تروح بدري.
- اللي يسمعك كده يقول هشتغل في الوزارة.
- يا بني افرد وشك وارضى بعيشتك، ده وظيفة حكومي، أنت متعرفش أنا عملت ايه عشان أخليهم يوافقوا يوظفوك مكاني، أنا اتذللت لطوب الأرض لحد مطلع قرار تعيينك مكاني.
- يا أبا إنت فني تشريح في مشرحة، شغله تخلي الواحد عاوز يجيب اللي في بطنه.
عقد حاجبيه، وقال له غاضبًا: ولاا، شغلتي دي اللي ربيتك، وأكلتك، وشربتك لحد ما بقيت بغل، ويا ريتك فالح في شغلة.. كبيرك شهرين في الشغل، وترجع تقعد لي، وتمد لي إيدك تاخد مصروفك، أنا اتحملتك كتير لكن لو ضيعت الشغلة دي من إيدك.. خد بعضك و روح شوف حالك بعيد عني مش هفضل طول عمرى أصرف عليك.
بطيبة قلب ورأفة تدخلت الأم؛ محاولة تخفيف حدة الحوار بينهم قائلة لأبيه: هدي نفسك يا أبو أنس كل اللي عاوزة هيحصل، أنس ابنك عمره ما يخرج عن طوعك، كمل فطارك بس، وهو إن شاء الله هيجي معاك يستلم الشغل، ويبيض وشك..
اقعد يا أنس يا بني كل، ومتزعلش أبوك.
- مش عايز آكل.
غضب أكثر أبيه، وانتفض من على الطعام، وقال: عنك ما قلت، يلا بينا نروح نشوف أكل عيشنا.
على باب مشرحة الطب الشرعي التابعة لوزارة العدل، ذلك المبنى العتيق، المتهالك المكون من ست طوابق، والواقع في منتصف الحي الشعبي القديم.
وقف أنس يسعل، ويقاوم رغبته في القيئ، ويسد أنفه عن شم تلك الرائحة الكريهة التي اشتمها من على الباب، رائحة الموت الذي انبعثت؛ لتحذر كل من يدخل أن يترك روحه في الخارج، فليس مسموح سوى بعبور الأجساد.
ربت على كتفيه أبيه، وقال له: معلش، معلش بكره تتعود، أيام الحر الريحة بتبقى طالعة أوي علشان نقص مادة السايدكس اللي بنستخدمها في التعقيم.
بصعوبة تمالك أنفاسه، وحافظ على رباطة جائشة، وخطى أولى خطواته داخل مبنى الأموات..
(أخفض الطرف، اكسر العين، وامنع الصوت، واخشع فأنت في حضرة المشرحة)
دخل أنس، والخوف الممزوج بالاشمئزاز يجري داخل اوصاله، السكون يعم المكان، لا صوت هنا سوى نحيب أهل الضحايا الذين ينتظرون استلام جثامين ضحاياهم بعد تصريح النيابة العامة بالدفن.
رسالة يمكن للقارئ، والأمي أن يقرأها، كتبت على الأرضية السيراميكية..
(ارحل)..
عد وانفد بعمرك؛ فمن يدخل هنا مفقود، ولا يخرج أبدًا من هنا مولود
خطى أولى خطواته في أرض الموتى مع أبيه، وهو يتمعن جيدًا كل جزء في المكان الذي سمع من أبيه المثير عنه، كأنه يعرف كل شيء فيه، والغرض منه، ولكن لم يكن يتخيل أبدًا أن يكون الأمر مرعبًا هكذا.
بهو كبير يتوسط صالتين واسعتين؛ للتشريح في كل صالة طرابيزتين؛ لوضع الجثث عليهما كما توجد غرفتان للغسل، والتكفين، وبكل صالة خشبة الغسل.غرفة كتب عليها الأشعة، وهذه الغرفة أول ما يستقبل المتوفى المراد تشريحه؛ لإجراء عملية المسح الإشعاعي عليها إذا كانت بها إصابات؛ حتى يستطيع الطبيب تحديد أماكن الإصابات، وطبيعتها سواء كانت طلقًا ناريًا، أو طعنات، أو ضربات قبل أن يتم نقل الجثة لصالة التشريح.في آخر البهو هناك غرفتان مخصصتين ثلاجات حفظ الموتى.. الأولى بها سبع ثلاجات منها ثلاثة معطلة منذ فترة كبيرة، أما الغرفة الثانية فبها ثلاجة كبيرة يطلق عليها ثلاجة العرض. لم يتوقف أبيه عن الشرح بالتفصيل الممل لكل شيء، وكأنه حصل على فرصة أن يكون مرشد سياحي، لم يجعله يسكت سوى ترحيبات أقرانه، والقدوم للتعرف على ولده أنس الموظف الجديد.
ولكن أنس مسلوب التركيز، معدوم الارادة ينظر للباب الذي دخل منه، ويقول لنفسه: اهرب الآن.
- يلي بينا نطلع لدكتور چورچ؛ علشان نمضي قرار استلامك للشغل.
صعد للطابق الثاني المخصص للموظفين، والأعمال الإدارية، وبه مكتب جورج ميخائيل كبير الأطباء الشرعيين.
نقر الباب ذلك الرجل القصير، الأصلع في مقدمة رأسه، محني الظهر، سريع الخطى، كثير الكلام.
جر ولده بيده، ودخل الغرفة بعد سماع الأمر..
- ادخل.
- صباح الخير يا دكتور چورچ.
- صباح النور يا عم سعيد يا راجل يا طيب.
- ابني أنس يا حضرة المدير.
- آه.. آه.. أهلًا وسهلًا يا أنس، والدك من أشطر المساعدين وأكتر الناس انضباط، ولولا إننا عاوزينه يرتاح مكناش سبناه أبدًا، وأتمنى تكون جديتك، وأمانتك متقلش عن ولدك.
- إن شاء الله يا دكتور.
أردف سعيد بالكلام يحاول تحسين صورة ابنه الذي بدا مجبرًا على المجيء .
- أنس يا دكتور چورچ ذكي، وشاطر، وبيتعلم بسرعة، ويكون تحت طوعك دايمًا.
أكيد علشان بس هو ابنك، والله يا سعيد على عيني أسيبك تمشي، بس ما دي رغبتك إنك متجددش الامتداد مش هغصب عليك.
- والله يا دكتور أنا عاوز أرتاح.. شقيت كتير، وتعبت، وجه الوقت اللي أريح نفسي، وأعيش اليومين اللي فاضلين لحد ما يجي معادي، والبركة بقى في أنس.
- ربنا يديك طولت العمر، وإن شاء الله أنس يكون شبهك في الأمانة، والجد في الشغل، ويكمل مسيرتك الطيبة.
- مش هوصيك عليه يا دكتور چورچ ده ابني الوحيد.
- يا سيدي متقلقش عليه، بس عاوزة يفك كدا، وياخد على المكان والشغل.
- لا إن شاء الله هيفك، وياخد على الجو، ويتعلم كل حاجة، مش كدا يا أنس.
باقتضاب، وكلل أجاب: إن شاء الله.
- ماشي يا عم سعيد اتفضل إنت، ولازم تبقى تجيلي تسلم عليا، وتقعد معايا شوية يا راجل يا طيب متقطعش بينا.
- طبعا يا دكتور دي عشرة عمر، وعيش ملح، هسيب حضرتك تكمل شغلك علشان معطلكش.
- ماشي يا عم سعيد، ومتقلقش خالص على أنس.
خرجا من المكتب، وطلب عم سعيد من أنس النزول للمشرحة، بينما هو سيذهب إلى أحد المكاتب؛ لينهي أوراق معاشه، ويخلي طرفه من الوظيفة..
أحيانًا تفرض عليك الدنيا أن تواجه أسوء كوابيسك، وعليك أن تتغلب على مخاوفك، إن لم تستطع تغيير الواقع القبيح.. وارسم على وجهك الابتسامة، وتعايش معه؛ فأنت الآن جزء منه.
في صالة التشريح كان هناك طبيبان و مساعد يقفان أمام جثة لرجل عارية تمام ممددة على الطاولة أمامهم، وجثة أخرى في الجهة المقابلة مغطاة بغطاء أبيض ملطخ ببقع الدم الجافة لا يظهر منها سوى يدًا ممددة.
الأطباء يرتدين مرايل جلدية بنية اللون، وعوينات تشبه عوينات الغطس تغطي وجههم بالكامل، وقفازين بطول الساعد، وحذاء جلدي يغطي الساق..
بينما المساعد لا يرتدى زي مخصص.. مجرد معطف أبيض بالي فقط.
فور رؤيتهم له نادوه مرحبين قائلًا أكبرهم سنًا، والذي يبدو أعلاهم منصبًا: أهلًا وسهلًا، نورت يا أنس مشرحتنا المتواضعة.
أقبل بخطى خجلة نحوهم مجيب بكلمة واحدة: شكرًا.
أردف الطبيب قائلًا: أنا دكتور عمرو عبد اللطيف، وده دكتور شادي زقزوق أطباء تشريح، وده زميلك علاء مساعد زيك ومغسلاتي.
ابتسم وائل الرجل الأربعين، رث الهيئة، والمهمل في نفسه حتى في نظافة ملابسه ثم عقب على كلام الطبيب عمرو قائلًا: -ودفان كمان يا دكتور لو لزم الأمر.
بحركة لم يفهما أنس، شد الطبيب شادي يد زميله عمرو، وقال لأنس بنبرة آمره: اتفضل يا أنس على الطرابيزة الثانية.. استناني هناك؛ علشان هاجي أنا وأنت نشرح الجثة الثانية.
أطاع أنس الأمر رغم أنه ليس على مراده، وقف أمام الجثمان، وهو متخشب الجسد يحاول مقاومة خوفه، والتظاهر بالشجاعة.
تلك أول مرة يقف فيها أمام ميت، وليس أي ميت إنه مقتول، لا يعلم بعد كيف مات أو ما تخفيه تلك الملاءة البيضاء تحتها، ربما كان مذبوح، أو مطعون، أو مشوه المعالم بسبب الغرق..
على كل حال كل الأمور تؤدي لنهاية مرعبة، وليس عليه غير الاستسلام لما سيحدث؛ فهو مجرد بداية فقط.
ناداه الدكتور عمرو، وطلب منه أن يمليه مواصفات وجه الجثة التي أمامه؛ ليدونها في دفتر اليوميات.
لم يفهم ما هو دفتر اليوميات أو فائدته، ولا ماذا ينبغي أن يكتب، ولكنه أطاع الأمر، وكشف الغطاء عن الوجه، ويأمل أن يكون الجسد كامل الأعضاء دون بتر.
تمعن في ذلك الوجه الرجولي ذو اللحية الخشنة، والملامح الشبابية
نظر في العين، وأخبر الطبيب أن لونها أسود، فطلب منه أن يقوم بعد الأسنان، والتأكد من اكتمالها دون وجود كسر، أو خلع.
لا يفهم ما يقال، ولكنه كالأعمى ينفذ ما يطلب منه.
اقترب من الفم الذي خرجت منه رائحة كريهة جدا تشبه رائحة البصل،
وراح يعد في الأسنان، وفجأة واحدة دون مقدمات.. انتفضت الجثة من نومتها، ومسكته من يده هي تصرخ، وتقول: آه.
كمن صعقه تيار كهربائي، قفز من مكانه مرتعدًا، ودفع يد الرجل الممسكة به، وراح يركض نحو الباب، وهو يصرخ، ويقول: يا لهوي.
ولى فارًا يهرع كمن يلاحقه كلب قدمه تكاد أن لا تلامس الأرض من سرعته.
ارتطم بأبيه وهو يخرج من المكان، كاد أن يسقطه أرضًا .
سأله في حيرة أبيه المسن بعدما تمالك جسده من السقوط
- مالك يا لاا في إيه؟
لم يستطع أن يتكلم، أنفاسه تتصاعد كأنه في ماراثون جري، قلبه يدق بكل سرعته حتى يكاد يتوقف بصعوبة، قال: وهو يتلعثم.
- إيده، إيده يا أبا مسكتني.
- هو مين يالاا؟
- الميت يا أبا، الميت.
ضحك ساخرًا منه، وصفعه خده ممازحًا، وهو يقول: عملوها فيك يا أهبل؟
لم يفهم مقصده، ولكنه تحرك معه كماشية في يد الجزار عائدًا لداخل الصالة؛ ليجد الجميع منفجرين من الضحك، حتى الميت الذي يجلس فوق المنضدة المعدنية.
ظل يراقب ما يحدث، وهو يحاول الفهم، وعندما نهض الميت واحتضنه.. فهم أنه كان مقلب، وهو بسذاجة وقع فيه..
بلوم مزيف.. عاتب عم سعيد الجميع قائلًا: كده يا جماعة تعملوها في ابني، وحياة أمك يا مصطفى لأوريك.
تحدث الميت الحي، والذي يدعى مصطفى قائلًا: معلش يا عم سعيد، دي التشريفة بتاعت أنس، وأنت عارف إنه لابد لكل واحد جديد.
قال الطبيب عمرو: معلش يا أنس دي التشريفة اللي هتقوي قلبك؛ علشان مهما شفت هنا عمرك ما هتخاف.
بعصبية قال
- انتوا بتهزروا ! هو في كده
أبعد أبيه عنه بعنف ثم تركهم وخرج دون استئذان ووقف على الباب يدخن سيجارة بغضب وعصبية .
أطفئ سيجارته ولكن لم يطفئ النار بقلبه، هو غاضب ساخط ليس من تلك المزحة السخيفة بل من احساسه أنه مجرد جندي محدود الحركة في رقعة الشطرنج، وُجدّ في اللعبة من أجل التضحية به
مساكين هم أصحاب الحظوظ القليلة في الدنيا، مجرد ظلال تأتي وترحل في الدنيا دون أن يشعر بهم أحد.
خرج له والده يواسيه، ويطيب خاطره، هو يعلم أن ولده ليس بفاشل كما ينعته دائما هو مجرد متمرد على أحد قوانين الدنيا التي فرضتها على البسطاء.
احلم كما تريد، ولكن عش كما تريد هي، وعلى حجم الظروف التي تفرضها عليك.
قال له أبيه، وهو يرتب على كتفه: ما تزعلش يا أنس يا بني الجماعة بيهزروا معاهم، والله هما طيبين ومحترمين.. أنا عملت البدع؛ علشان تبقى في وردية الصبح، وبعيد عن دكتور صلاح وغلاسته بليل.
- صلاح ولا خراب مهيش فارقة، كله قرف.
نظر لوجه أبيه المشع بالشفقة على ولده، والفاضح لعجز أب لم يقدر أن يوفر مستقبل أفضل لولده.
لا يريد أنس أن يثقل عليه أكثر مما هو فيه فرغم خلافاتهم يظل هو أبيه وليس له سند بعده في الحياة.
ببسمة رضا أردف قائلًا له: متقلقش عليا يا أبا أنا وعدتك إني هتغير، ومش هزعلك تاني، أنا عارف إني تعبتك كتير وجه الوقت اللي أشيل عنك شوية، يلا ندخل علشان بيندهوا علينا.
رجع للداخل، وهو شخص آخر، حتى وإن كان خائف فلن يصبح أضحوكة، وتسلية لهؤلاء البلهاء.
ناداه دكتور عمرو فور دخوله قائلًا له: متزعلش يا أنس اللي حصل ده علشان تجمد قلبك، بعد اللي حصل مهما شفت أو حصلك مش هتتهز.
-لا يا دكتور عادي أنا عارف إنه هزار، وليا الشرف إني أشتغل مع حضرتكوا.
نظر لعم سعيد، وربت على كتفه بخشونة الرجال في المزاح قائلًا: ما شاء الله يا سعيد لا عرفت تربي، يلا بقى يا عم أنس؛ علشان تحضر أول عملية تشريح ليك في حياتك، ولازم تركز أوي علشان تبقى فاهم كل حاجة قدامك، المساعد في المشرحة لازم يبقى واعيًا، وأعصابه حديد.
ذهبًا جميعًا يلتفوا حول المنضدة، والجثة الممددة عليها، أمسك الطبيب عمرو يد ذلك الرجل المسن الممدد، وتمعن جلده، وقال: جلده أحمر.
ثم اشتم رائحة فمه، ونظر لزميله شادي، وقال Poison "سم" غالبًا زرنيخ.
شرع الطبيب شادي بفتح جرح استكشافي طولي من أعلى الصدر حتى منطقة العانة، وهو يراقب تعابير وجه أنس الذي لم يجرؤ أن يرى أكثر من هذا، هرب بنظره بعيدًا تمام عنهم، وأغلب الوقت كانت عيناه مغمضة طوال عملية التشريح، ورغم سماع النكت، والسخرية من ضعفه لم يجرؤ على التحلي بالشجاعة، والنظر لما يحدث.. فلو فعل لكان هرب مجددًا.
—--------------------------------------
- يا أبا أنا مش هشتغل في مشارح إنسى.
- يا لاا اسمها مساعد تمريض، وبعدين إنت تطول تشتغل في الطب الشرعي.
- يا عم لا أطول، ولا أقصر، مش ناوي أنا أتلبس، ولا يجرالي حاجة، أنا مش حمل أشوف واحد قدامي بيتقطع، ويخرجوا اللي جواه.
- ياعني شحط زيك، ولا العيال الصغيرة اللي لسه بتدرس طب، وبتيجي تقف معانا تتعلم، وبيتزحموا علشان يشوفوا التشريح.
- يا أبا دي مشرحة، ومقتلوين، وعفاريت وبلى إسود
- يا ابني كلنا هنموت، وبعدين خايف من إيه؟ وهما هيضروك إنت، ويسيبوا اللي قتلهم و جبهم هناك؟! يا بني أنا هطلع معاش.. هيشيلوا الحوافز، والبدلات، ومرتبي هيبقى ملاليم ، لحد أمتى يا أنس مش هتشيل المسؤولية، أنا اتحملت ياما علشانك، متبهدلنيش يا بني في آخر أيامي، وتحوجنا للناس.
—----------------------------------
فور فتح البطن انتشرت رائحة بشعة في المكان بدى الجميع متعود عليها لكن أنس لم يستطع أن يستمر في التظاهر بالقوة، وضع ساعده على أنفه؛ ليخفف من حدة الرائحة العفنة، وظل واقف يقاوم رغبته في القيئ، غاصت يد الطبيب شادي في أمعاء الرجل، واستخرج عينة منها؛ ليقوموا بفحصها، وتبين نوع السم المتسبب في الوفاة.
ثم أمر قائلًا: خيط يا علاء، وإنت يا مصطفى ابقى خده على ثلاجة b6، وخلوا أنس يساعدكوا في تنظيف المكان.
وعم سعيد إنهارده ضيف عشان آخر يوم ليه معانا.
أنهى عمرو كتابة التقرير باللغة الإنجليزية، والخط الغير مفهوم بشفرة الأطباء، والمحال على العامة فهمها، ثم وضع ساعده حول كتفي عم سعيد، وقال له :يا لا بينا يا راجل طيب، نطلع المكتب فوق، ونعمل حفلة خروجك على المعاش.
انصرف الأطباء، والرجل الكبير..
وأمسك وائل بمسلة كبيرة، وخيط أسود.. ومن المفارق أنهم نفس الأدوات التى يستخدمها المنجد في حياكة الوسادات.
بدأ وائل في تقضيب البطن، وغلق الفتح الغائر، دون أن يرتدي مريلة جلدية، أو قفازات، أو قناع وجه طبي يحميه من العدوة، فقط ذلك المعطف الأبيض الذي يبدو أنه حصل عليه عطفاً من طبيب.
دفع مصطفي المنضدة المعدنية الحاملة للمتوفي، وذهب به إلى حيث أمره الطبيب أن يحفظه، بينما أنس كُلف بمسح الدماء، وتنظيف المكان وتطهيره.
__________________________________
رواق ضيق، طلائه جدرانه متساقط، الإنارة تضعف بشدة حتى يكاد أن تنعدم، ثم تزيد بشدة؛ لدرجة تحرق المصابيح الزجاجية، الصور على الحائط تهتز، وكل شيء يبدو جنونيًا،
و صبي في السابعة يجلس متربعا على الأرض في نهاية الرواق، وأمامه مرحاض قديم لا يصلح أن تستخدمه حتى الحيوانات.
بين قدميه كان يحمل المصحف، ويرتل قصار السور التي حفظها، ويستطيع قرأتها، يقطع التلاوة كل فترة؛ ليرفع بصره أمامه ينظر لذلك المكان القبيح، ثم يرجع؛ ليستكمل قرأته.
على أطراف أصابع قدمها توجهت بحرص نحوه تنظر إليه، وتراقب ما يفعل، أمسكت بكتفه في فزع تسأله: أنت بتعمل إيه يا أنس؟!
جعلته ينتفض من الخوف، ويعجز حتى النطق، وبصعوبة أجاب أمه قائلًا
- بابا قالي إن الحمام ييت العفاريت؛ فأنا قلت أدعوهم للإسلام عشان يسيبوا البيت، ويمشوا من غير ما يؤذوني..
صارخة بأعلى صوت لها مستاءة: يا سعيد.
حضر إليها راكضًا، يحاول بنظارته أن يفهم ما يحدث، وما يبكي زوجته، ولكنه لم يفهم فسألها:
- مالك يا فاطمة حصل إيه؟!
قالت وهي غاضبة
- شفت أخرت كلامك عن الميتين، والعفاريت، واللي بيحصل في الزفت الشغل.. ابنك قاعد قدام الحمام بيدعي العفاريت للإسلام.
أمسك من يده الصحف؛ ليغلقه، ووضعه على أحد الرفوف، وعاد؛ ليحمل الطفل، ويذهب به لغرفته، ويضعه في فراشه، ويقبل جبينه، ويقول له
- حد يعمل يا بني اللي أنت عملته ده؟! إنت كان ممكن تتلبس، ولا يحصل لك حاجة..
- أنا كنت خايف، وفكرت إني لما أعمل كده الشياطين هيبقوا طيبين، ومش هيموتونا.
- الجن يا بني ضعيف ميقدرش يموتك، وإلا كان زمانه موت أبوينا لما نزلوا الأرض سوى، وانطردوا من الجنة، إياك تخاف من حاجة.. المؤمن مش بيخاف غير من ربنا، واللي يخاف من ربنا مفيش حاجة تقدر عليه.
—-----------------------------------
شعر بالاشمئزاز من كل شيء حوله حتى من نفسه، وهو يمسح الدم المتجلط، وينظف المكان، ليس عليك أن تحب ما تعمل؛ فإنك حينها لن تفعل أبدًا ما تحب
قارب يومه في العمل على الانتهاء، طلب منه أبيه أن يغتسل، ويغير ملابسه الخاصة بالعمل بغيرها النظيفة التي أحضرها معه.
وجلسوا على الدرج الرخامي أمام باب الداخلي ينتظروا قدوم زملائهم في الوردية الأخرى، دخل من باب المشرحة رجل أربعيني بدى عليه من هيئته، ومن سيارته الثراء؛ يمشي بتفاخر واعتلاء، وكأن الأرض لا تحمل غيره.
على الفور وقف عم "سعيد"، ونكز أنس في قدمه؛ كي يقف هو الآخر.
حمل عنه الرجل المسن حقيبته، وهو يقول له
: حمد الله على السلامة يا دكتور "صلاح".
- اذيك يا "سعيد"؟
- كويس الحمد لله يا دكتور.
نظر لأنس وقال: ابنك ده اللي قلت هتجيبه مكانك؟
- ايوه يا دكتور، "أنس" إبني نزل الصبح في وردية دكتور "عمرو".
- اسمه "أنس" ! يا راجل كنت سميه "خيري"، ولا "فوزي"، ولا أي حاجة تليق عليك.. عندك كام سنة بقى يا سي أنس؟
- (٢٩) .
أشعل الطبيب "صلاح" سيجارته، وزفر تبغها تجاهه دون أي مبالاة، ثم أردف قائلًا: بتفهم بقى، ومخك شغال، ولا خيبة ولخمة زي أبوك.
أسرها "أنس" في نفسه، وكظم غيظه، واكتفي بعقد حاجبيه، والنظر له بملامح غاضبة.
بخبرة الرجل العجوز تدخل "سعيد" في الحديث قائلًا، وهو يبتسم، وكأنها كانت مزحة من ذلك المتعجرف.
- الله يسامحك يا باشا، أهو "سعيد" آخر يوم ليه، وهترتاح منه خالص.
- ألف بركة يا خويا هتريحنا والله، خد يا "أنس" هاتلي علبة سجائر (ميريت أبيض) علشان سجايرى قربت تخلص.
طفح كيله، وامتلئ صدره، ولم يعد يتحمل ذلك المتعال، دفع ببطئ يده الممدودة بالمال، وهو يقول له: معلش يا باشا أنا مبجبش دخان لحد؛ أصله كيف، وأنا أكره حاجة عندي في الدنيا إني أخدم على كيف غيري.
شعر الطبيب بالإحراج، وبالطبع غضب من تصرف أنس، كالعادة تدخل سعيد؛ لينقذ ولده فهو يعلم جيدًا ما يستطيع فعله.
- معلش يا دكتور، أنس لسه جديد وميعرفش مكان المحلات بس هو محروج يقولك ألا تقول عليه خايب. هات حضرتك الفلوس أنا طيارة هروح أجبلك.
- لا خلاص يا سعيد مش عايز، شكرًا يا أنس.
دخل "صلاح" المبنى، وعلى الفور بدأ "سعيد" في توبيخ ولده.
- ليه يا "أنس" كده كنت روح جِبله الزفت، واخلص مفيهاش حاجة.
- يا أبا ده راجل مهزق، شوفت بيتكلم إزاي؟ ولا بيعملك بقلة أدب إزاي؟ يحترم حتى فارق السن اللي بينكم
- يا بني ده رئيس الوردية، وهو و أهله ناس واصلين أوي ده حتى دكتور "چورچ" مبيقدرش يتكلم معاه أو يرد ليه كلمة.
- يعمل اللي يعمله، أنا سكت علشانك لكن أقسم بالله لو كان كلمك كلمة تانية كنت همسكه أضربه.
- تضرب إيه، يا بني كل عيش، واسمع الكلام، وقول حاضر. كلمة حاضر بتريح، لو معملتش كده هيحطوك فى دماغهم، وعمرك ما تعمر في شُغلة.
رغم كونه بسيط ألا وانه حكيم، أرباب الأعمال لا يحبون الجدال، وهذا ما حدث معه لم يلبث الطبيب صلاح سوى دقائق إلا وكان جاهز بالانتقام.
عاد إليهم بعد دقائق، وهو يرسم تلك البسمة البلهاء، ويقول في سخف
: إيه يا "سعيد" قاعد ليه؟
- مستني "جابر" و "وائل" يستلموا مننا الوردية يا دكتور، معرفش تأخروا ليه؟!
- لا روح أنت يا "سعيد"، مفيش داعي تفضل قاعد إنت خلاص مبقتش على زمتنا، يلا مع السلامة .
- ممم، ماشي يا دكتور أشوف وشك على خير، يلا يا "أنس" يا بني.
- لا روح إنت، وسيب "أنس".
- اسيبه إزاي يا دكتور مش فاهم؟
- "جابر" كلمني، وقالي إنه أمهم تعبانة، ومش هيقدر يجي هو وأخوه، و المساعدين القدام روحوا، ومفيش حد يطبق غير أنس.
- بس يا دكتور.. "أنس" ده أول يوم ليه، ولسه ما يعرفش حاجة، ولا هيقدر أنه يطبق.
- لا ماتخفش عليه، مفيش شغل الليلة كتير.. مفيش غير العيل الصغير وخلاص، وبعدين هديلوا بكره طول اليوم إجازة.
- لا ونبي يا دكتور، خليني أنا أبات، وبلاش هو شيفت بالليل، ده لسه عضمته ضعيفة، ومش قد البيات في المرشحة.
- جرى ايه يا "سعيد" انت هتناقشني ولا ايه؟ تسهر إنت بتاع إيه؟!، انت خلاص طلعت معاش، ووجودك أصلًا هنا غير قانوني، "أنس" هيبات.. ولو مش عايز هو حر، أنا بس صعبان عليا إنه يتعمل فيه مذكرة من اول يوم ليه، وإنت عارف مذكرة في أول شهر ممكن تعمل ايه؟
كان صامت صامد، وكأن الحديث ليس عليه، ولكنه لن يرضى أن يستزل أبيه؛ لذلك المتعال، هو يعرف إنه السبب في تغيب الأخوين الذين عرف عنهم قديمًا.. ولائهم له، يدرك أنه هو من طلب منهم التحجج لعدم الحضور؛ كي يستطيع أن يوقع به، ولذلك قرر أنه لن يعطي معدوم الرحمة هذا مناله.
ربت بيده على كتف أبيه، وقال
: خلاص يا أبا امشي انت متقلقش عليا.
- امشي إيه يا أهبل إنت، إنت متعرفش حاجة!
- يا أبا بقول لك ماتخفش كده كده هبات بالليل، والصبح أعمل كل حاجة، روح يابا روح، والدكتور صلاح معايا اهو البركة فيه.
نظر له أبيه، وهو حائر كيف يتصرف؟ هل يترك ابنه الوحيد؛ لذلك المتغطرس في ذلك المكان الملعون أو يتسبب في طرده من أول يوم، إنها الحيرة بين البطالة، وبين الكرامة.
في النهاية لملم كسر كرامته، ورحل..
وعلى أنس الآن أن يتحمل نتيجة اختياره.
دخلا سويا كذئب وحمل، طلب صلاح من أنس إحضار جثة الطفل من ثلاجة (أ) رقم 13 وأن يقوم بتنظيفها من أجل التشريح، بينما هو سيصعد لمكتبه؛ لتجهيز بعض الأوراق ثم سيعاود النزول له مجددًا.
فجأة وجد أنس نفسه وحيدًا في هذا المكان المقبض المخيف، حتى في أسوء كوابيسك لن تتخيل نفسك هناك.
لايزال يكابر، و يعاند لن يرضخ لهذا الطبيب المتعجرف، دخل لتلك الغرفة على الميمنة التي كتب عليها حرف انجليزي (A) وأردف يبحث بين أرقام الثلاجات على رقم 13
فتحها.. ورأى بداخلها جثمان طفل في العقد الأول من عمره ست أو سبع سنوات، متعفن بالكامل حتى أن رائحته تكاد تسبب الاختناق، ملامح وجهه ممحوه، وجلده ذائب.
لا يعلم أنس كيف يتصرف معها، أو كيف ينبغي أن ينظف تلك الجثة في تلك الحالة، كل ما قدر على فعله أن حملها، ووضعها على منضدة، وذهب بها لصالة التشريح، ثم مكث ينتظر الطبيب.
مر وقت طويل، ولم ينزل الطبيب لا يعلم حتى أين مكتبه يناديه، ألمته قدماه جلس على الأرض مستند على حائط في أحد الجوانب واضعًا رأسه بين قدميه.
ساعتين او أكثر قد مرت عليه، وهو ينتظر، ولا يملك سوى الانتظار.
بعد قرابة الثلاث ساعات نزل صلاح، وهو يحمل في يده عبوة بطاطس مقرمشة يتناولها برتابة وكأنه لم يترك أنس مع الجثة خارج الثلاجة لثلاث ساعات.
وقف على رأس الطفل، وسأل أنس بنبرة صاحب العمل المتعالية: منضفتش الجثة ليه؟
- أنضف فيه إيه حضرتك، ده بايش!
- نشف جسمه ونضف حوالين الفتحات وكده.
فعل أنس ما أُمر به، وجهز صلاح عدة التشريح الخاصة به على المنضدة، ثم بدأ عملية التشريح..
بمشرط حاد قام بفتح الصدر ثم سلخ الشحوم واللحم عن الجلد، بعدها قام بقص عظام القفص الصدري؛ لتظهر بعدها كل الأحشاء أمامهم، تفحص وجود كل الأعضاء كاملة في الجسد، وعدم سرقة أي عضو منها، أحضر مقص، وقطع جزء من الرئة، وأخذه كعينة للتحليل.
أعصاب أنس كانت ترتعش وقدماه لا تكاد تحملاه، رغم أنه لم يكن متفاجئ مما يحدث، فلطالما قص أبيه عليهم كيف يتم التشريح؟ وعرف الكثير عن أسراره.
يعرف حتى أنه أخذ عينة الرئة من أجل التأكد من خلوها من الهواء، وإلا كان سبب الوفاة ليس من "اسفكيسيا" الغرق؛ فالغريق حويصلاته الهوائية تكون ممتلئة بالماء.
ولكن كل ما سمع رغم بشاعته لا يضاهي أي شيء نظير ما يراه.
انتهى صلاح من تشريح الطفل المسكين، وقطّب صدره بعد إرجاع أحشائه لمكانها، وأمر أنس بإرجاعه لثلاجته، بعدها صعد لمكتبه؛ ليكتب التقرير للنيابة.
رجع أنس لجلسته القديمة مجددًا.. وضع رأسه بين قدميه، وسمح لمشاعره أخيرًا أن تخرج، ظل يبكي منتحب كطفل فقد أمه، لا يعلم ما يبكيه، ولكن أحيانًا البكاء يكون مسكن للروح.
دقت الساعة الثالثة فجرًا، وأنس كما هو لا يتكلم، ولا يتحرك ساكن يبكي، يمنع دموعه طارة ثم يبكي مجددًاطارة أخرى.
فجأة سمع صوت طرق يصدر من جهة الثلاجة b .
عقله يحاول إيجاد أي تفسير لذلك الصوت، ربما صلاح دخل الثلاجة دون أن يلاحظ، ربما قطة في الداخل تعبث في المكان، ربما أي شيء المهم أن يكون طبيعيًا، ولكن كل التفسيرات لا منطقية.
مؤكد أن شيء سيء يحدث بالداخل، انتفض على قدمه من الخوف فكر سريعًا ماذا يفعل؟
لا يوجد سوى شيء واحد يحدث في تلك الظروف.. "الهرب".
ركض فارًا كعادته نحو الباب، ولكنه تذكر ذلك المقلب الذي وقع فيه صباحًا، وسخرية وردية النهار منه، مؤكدًا أنه مقلب آخر من وردية المساء فلا تسلية مثل التسلي بعامل مشرحة جديد.
رجع بعجلة مجددًا، ورسم دور الشجاع الذي لا يهاب ما يحدث، وحاول أن يكتشف طبيعة المقلب.
ذهب إلى حيث يصدر الصوت، وهو يتلفت يمينًا، ويسارًا متجنبًا أي مزاح سخيف من رفقائه.
دخل غرفة الثلاجات، وما رآه لم يرَ مثله أحد.
شخص عار الجسد يجلس على الطاولة المعدنية التي ينقلون عليها الجثث، وجهه للثلاجة وظهره العار لباب الغرفة
لم يرَ أنس وجهه.. رأى فقط ظهره، وذراعيه و ساقيه المتدليتان اسفل القماش البيضاء التي تستر عورته
تأكد أنس من أنه مقلب سخيف آخر منهم، حتى ولو لم يكن هناك غيره فى المكان لابد أن هناك كاميرات مندسة يسجلون بها ردة فعله، لقد كان متأكد أن الأمر لا يتعدى مزخة أخرى للنيل منه.
كأنه بطل في فيلم هندي قرر أن يدّعي دور الشجاع المقدام، ويفسد عليهم الأمر، سيتظاهر بالشحاعة ولن يجعلهم يسخرون منه
بثقة قال لذلك الشخص الجالس: أنت مين يا أبا، وبتعمل إيه هنا؟
لم ينطق، ولم يتحرك ساكنا، أردف أنس حديثه بصوت مرتفع وبنبرة غاضبة: يا عمي رد عليا متخلنيش أتعصب، إنت مين؟ وبتهبب إيه عندك؟
مجددا لم يجيب، وكأنه لا يسمع، اهتزت ثقة أنس قليلًا، بدأ يشعر بالخوف ، ويسأل نفسه ماذا لو لم يكن هذا تمثيل؟
بنبرة أقل في وتيرة الغضب، وصوت اهدئ كرر؛ إنت مين، وبتعمل ايه هنا؟
مجددا لم يجبه، وهنا تأكد أن الامر اسوء بكثير من مزحة
قلبه يدق بسرعة، جبينه يتصبب عرق، جسده يرتعش، إنه الخوف عندما يعتلي عرش الجسد.
وحدث ما لم يكن في الحسبان ، ببطء ألتفت رأس الرجل الغريب للخلق مئة وثمانون درجة، بحركة لا يمكن للإنسان الطبيعي أن يفعلها، أصبح وجهه على ظهره، ولا يظهر من عينه سوى السواد، كليل قاحل بلا قمر، لون بشرته شاحب كصحراء النقب، شفتاه تميل للزراق، السعر الأبيض يملئ جسده و ملامح وجهه تشبه جدا الرجل المسن الستيني العمر الذين قاموا بتشريحه صباحًا.
لا إرادياً تحرك ثلاث خطوات يسارًا لثلاجته التي رآهم، وهم يضعونه بداخلها في الصباح التي حملت رقم (b6) ، ثلاجة المتوفي (خليل محمد حجازي)، سحب الجثة للخارج، وتمعن في ملامحها ربما كان مخطئ، ولكن كانت هي نفس الملامح، ولكن بشكل أكثر شحوب، وكأنه قد مات مرتين.
بذهول، وببطء تام.. أدخل الجثة مكانها، وأغلق الباب، ونظر للشبح، الذي حدق في أنس لثوان، ثم قال بصوت مخيف
: ربيـــٓــع.
لم يتحمل أن يسمع أو يرى أكثر من هذا، شعر بالدوار، وبدأ يترنح يمين، ويسار ثم سقط على الأرض مغشيًا عليه.
استيقظ على كوب ماء يسكب على وجهه؛ ليجد صلاح يقف فوق رأسه ويقول له: صباحية مباركة يا عروسة، هتقومي حضرتك تاخدي الشور بتاعك، ولا الأول نجيب لك الفطار في السرير... قوم اقف على حيلك مهوش بيت أبوك؛ علشان تنام في أي حتة تعجبك.
- أنا مكنتش نايم يا دكتور، أنا أنا….
نظر حوله يبحث عن الشبح الذي أرعبه، ولكن لم يجد سوى صلاح، وقد اشرق نور الصباح يضيء المكان
لا يفهم ما حدث؟ وكيف مر كل هذا الوقت؟ لا يجد ما يقوله أو يشرحه لهذا المتعجرف الذي يظن أنه كان نائمًا…
وقف على قدميه، وأردف قائلًا: والله يا دكتور ما كنت نايم، أنا سمعت خبط، ودخلت أشوف في اإيه، وبعدين…، وبعدين…
- بعدين طلع لك عفريت، وضربك على راسك طبيت نايم، بقولك إيه سيبك من شغل التلت ورقات ده، أنا هسامحك علشان أبوك راجل غلبان، لكن لو اتكررت تاني، ونمت في ورديتي.. هخليهم يصفوا لك ورقتك، اتعلم من أبوك أصول الشغل، وإنك تحترم رؤسائك، وتسمع الكلام.
- يا دكتور…
- انتهى الكلام مش هتجادل معايا، أنا قلت لك اللي عندي، كل عيش واعرف حجمك كويس.
تركه ورحل، وجلس أنس مغيبًا شاردًا لا يفهم ما حدث في ليلته وتفسيره لما رأى..
دخل عليه زميله في وردية الصباح مصطفى ليجده في تلك الحال، فبادره قائلًا: صباح الخير يا أنس.. إيه النشاط ده كله؟ جاي بدري عن معادك!
- جيت منين.. أنا بايت هنا.
- بايت هنا! ليه؟
- دكتور زفت قال: إن الاتنين الأخوات غايبين؛ علشان أمهم، وأصر يخليني أطبق.
- جابر ووائل غايبين! دول يموتوا على الدقيقة مش اليوم، عمرهم ما غابوا أبدًا، إنت زعلته في حاجة؟
- ده إنسان مغرور، فاكر إن كل الناس عبيد عنده..
- أنس.. صلاح ده عنيد جدًا، وإنسان شر، وأذى ناس كتير، وقطع عيشهم.. طاطي راسك، وكل عيش بدل ما يحطك في دماغه.
- يتحرق بجاز، يعمل اللي يقدر عليه، هيطردني من الجنة يعني.
خرج عليهم صلاح متجلياً بكامل زينته، وريحة عطرة النفاذة، رغم طبيعة عمله لكنه لا ينسى أبدًا الاهتمام بمظهره.
بادره مصطفى التحية، وردها باقتضاب كعادته المتكبرة، ثم أخرج مال من جيبه، وقال لأنس: خد يا أنس هاتلي علبة سجاير "ميريت أبيض"..
نظر له أنس بغضب إنه السبب في كل ماحدث له، ولم يكتفِ بهذا بل يريد مجددًا إذلاله حتى يرضي غروره، ولكن أنس هو الآخر شخص عندي.
اقترب منه، ورفع أنفه للأعلى، وقال له بعزة: هاتها إنت أنا مش خدام عندك.