هالة من الحزن والكآبة تسود الأجواء، نسمات الهواء العليل تلفح الأوجه، تجعل تلك الأزهار بالحديقة تهتز بخفة ونعومة وكأنها تتباهى بحسنها، الصمت يعم الأرجاء بالرغم من وجود العديد من الأشخاص، كأن الجميع يؤثرون الصمت في هذا اليوم بالتحديد.
قطعت نادية الصمت، وهي تهمس بصوت منخفض قائلة لكمال:
-روزيلا كانت بتحب الورد الأبيض أوي.
أنهت جملتها وهي تشير نحو عدة أزهار بجانب ما بالحديقة، ربت كمال برفق على يدها التي تبرز منها العروق بشكل واضح إثر جلدها الرقيق، ثم أردف برفق:
-عارف إنك زعلانة عليها بس دي رابع سنوية و...
قاطعته والشجن يظهر جليًا على صوتها:
-كان نفسها قصتها هي وألبيرتينو تفضل معروفة لكل الناس، وكانت دايمًا تقولي ماتنسينيش.
لاحظ ممدوح همسهم بصوت منخفض؛ فأشار لنوال برأسه، فهمت مقصده فهتفت موجهة حديثها نحو نادية:
-يا نادية ما هي برضه ماكانتش هتفرح لما تلاقينا بنقعد نعيط عليها كل سنة كده.
تأففت نادية بضيق قائلة:
-أيوه يعني إنتو عايزيني أعمل إيه دلوقتي؟
ابتسم كمال بخفة وهو يرى ضيقها، ثم أردف وكأنه يعلم ما يدور بداخل ذهنها:
-إنتِ خايفة لما في يوم نموت محدش يفتكرنا صح؟
حمحمت بحرج وهي تُشيح بأنظارها بعيدًا عنه، هتف ممدوح مقررًا الخروج عن صمته:
-أنا كمان نفسي حد يفتكرني بعد ما أموت، على الأقل يبقى في حد يدعيلي.
-ما تكتبوا حكايتكوا.
هتفت الممرضة نورا بتلك الكلمات وهي تقف بالقرب من الطاولة، ابتسمت نادية باستنكار من نفسها قائلة:
-ومين هيبقى عايز يعرف حكاية ست عجوزة زيي!
هتفت نورا بحماس وهي تمرر نظراتها بينهم:
-أنا يا أبلة نادية، أنا نفسي من زمان أوي أعرف حكاية كل حد منكم، نفسي أعرف إنتِ وعم كمال إيه اللي جابكوا هنا وإيه قصتكوا.
التفتت نحو نوال وممدوح مستطردة:
-ونفسي أعرف قصة عم ممدوح إيه، ده كل ما بيشوف فيلم في عيال صغيرة بلاقي عينيه كلها حزن لمدة أسبوع، والست نوال كمان مخبية كتير جواها وساكتة.
اعترضت نوال بصوت مرتعش:
-لأ، أنا مش هحكي حاجة خالص، عايزاني أحكي إيه ولا إيه وأنا مهما حكيت نار قلبي هتفضل شاعلة جواه!
أردف ممدوح بدوره:
-هترتاحي، صدقيني هترتاحي لو خرجتِ اللي جواكِ يا نوال.
شعر كمال أن تلك الفكرة راقت لنادية، فأردف بلين:
-أنا موافق، إيه رأيك يا نادية؟
ابتسمت تلك البسمة التي لم تختلف عبر السنوات الطويلة، ثم قالت:
-موافقة.
أردف ممدوح وهو يوجه أنظاره نحو الفراغ:
-وأنا موافق.
غمامة من الدموع لاحت بعيني نوال، وبعض الذكريات تمر على قلبها قبل ذهنها، لكنها حاولت استدراك الأمر لتقول بصوت جاهدت لتخرجه هادئًا:
-أنا كمان موافقة.
هتفت نورا بسعادة طفلة متناسية أنها بعقدها الثالث:
-وأخيرًا هعرف قصة روميو وجولييت اسكندرية.
صمتت للحظات وكأنها تذكرت شيء ما؛ لتستطرد حديثها وهي تذهب مسرعة:
-أيوه، ده أما نسيت أدي الدوا لعم محمود.
ذهبت لتترك كل منهم يسبح بعقله عبر طيات الزمان، استند ممدوح على عصاه وهو ينهض بتثاقل، وكأن ذكرياته وضعت فوق كاهله فأعاقت حركته وأبطأتها، ذهب نحو غرفته بخطى بطيئة، من يراه يجزم أن المشيب احتل رأسه إثر الحزن والغم وليس العمر.
ظلت نوال جالسة بمكانها، شاردة في اللا شيء، عسليتاها امتلأتا بدموع غزيرة، قلبها ألمها بشدة وكأن ذكرياتها تسدد له الطعنات بخنجر مسربل بالحنين، نار اشتياقها لم تكن سوى لوعة بفؤادها، تلك الخطوط المرتسمة بوجهها وكأنها تحمل بثناياها جميع تلك الذكريات المؤرقة.
شرد كمال بوجه محبوبته نادية، رغم تلك السنوات الطويلة التي مرت عليهما إلا أن فؤاده مازال يقرع الطبول كلما يراها مقبلة نحوه وكأنه يراها لأول وهلة، لم يهتم قلبه لتلك التجاعيد التي رُسمت على وجهها، ولا بتلك الخصلات البيضاء اللون، بل كان يرى حبها له متجسدًا بكل ذلك، وكأن تلك الخطوط هي ما تجزم له أنها أحبته أكثر من عشرين عامًا.
تذكرت نادية صوت نغمات العود الذي لطالما أحبته بشبابها، جال بذهنها صورتها وهي تسير على الشاطئ ممسكة بيد محبوبها، شعرت وكأنها تستمع إلى همساته بأذنها حتى هذه اللحظة، لتبتسم بخفة متناسية كل شيء حولها إلا هو.
☆☆☆
دخل ممدوح إلى غرفته والشجن لايزال خليله، جلس بتثاقل على الكرسي بجانب الشباك، ثم تنهد بعمق وذكرياته تمر أمام عينيه، بعد دقائق معدودة نهض متوجهًا نحو السرير، رفع الوسادة قليلًا ليخرج ورقتين، أخذ ينظر لهما وبعض عبرات تتجمع داخل مقلتيه، ثم قال بشرود:
-واحدة منكم كانت أكبر غلطة عملتها في حياتي، والتانية هي أبشع ذكرى محفورة جوايا.
صمت قليلًا، ثم تحسس إحدى الورقتين بأنامله هامسًا بصوت مرتعش، جاهد لإخراجه وحيدًا من دون هطول دموعه بصحبته:
-أنا آسف، أتمنى قلبك يكون سامحني.
☆☆☆
ظلت نوال جالسة بمكانها ما يقارب الساعة، شاردة، ذكرياتها تعصف بقلبها قبل ذهنها، لاح شيء ما بذكراها جعلها تنهض متوجهة نحو غرفتها، خطواتها يشوبها القلق، تتشبث بفستانها الأزرق اللون بقبضة يدها، أشبه بالغارق المتشبث بحبل نجاته، تلك هي حالتها.
فور أن فتحت باب الغرفة توجهت نحو دُرج ما وأخرجت منه صندوقًا باللون الذهبي، رفعت غطاءه وأخرجت من داخله العديد من الرسائل، كانت أوراقها مصفرة اللون قليلًا، لا تستطيع أن تعرف أبسبب مرور الزمن عليها، أم أن هذا هو لونها الأصلي.
أخذت تقرب تلك الرسائل من أنفها، وكأنها تود لو تشتم رائحة من خطهم بأنامله مرة أخرى، بل تود أن تحتفظ برائحته داخلها إلى مالا نهاية، أخذت تطبع عليهم قُبل رقيقة متفرقة وهي تهمس ببضع كلمات لم يتضح منها سوى "قلبي مش هيدق غير ليك.. ليك أنتَ وبس".
☆☆☆
-قولي، عايزة تسألي عن إيه؟
هتف كمال بتلك الكلمات وهو يجلس بجانب نادية بالحديقة، حين لاحظ ترددها في بدء الحديث.
صمتت لحظات، ثم أجابت:
-تفتكر صح نرجع نحكي كل اللي حصل لينا تاني؟
ابتسم بخفة، ثم مرر يده على رأسه الفارغ من الشعر إلا القليل، وهو يقول:
-وغلط ليه بقى يا ست نادية يا اللي شاغلة قلبي معاكِ؟
أخفضت عينيها وهي تبتسم بخجل كعادتها منذ زمن طويل، دائمًا ما تبعد نظراتها عنه حين يهتف بأقل كلمات تُعبر عن حبه لها، ولو كانت تعلم ما يكنه لها بداخله لكانت أخفت نفسها بين ذراعيه.
أردفت بعد عدة ثوانٍ:
-قصدي يعني.. يعني كده كل حاجة هتتعرف، أقصد عن ماما.
أمسك يدها متعمدًا، لطالما يطمئن قلبها بتلك الفعلة، ثم قال:
-يا نادية مين قال بس إن كل الناس هتعرف؟ إحنا هنكتب حكايتنا ونسيبها هنا، في الأوضة اللي عيشنا فيها آخر سنين من عمرنا، يمكن لما حد تاني يقعد فيها تكون القصة دي هي مصباح الأمل اللي هينور قلبه.
هتفت وهي تستند عليه لتنهض:
-طول عمرك تعرف تقلبني بكلمتين يا سي كمال.
ابتسم وهو يقول مازحًا:
-طالما فيها سي كمال يا ست نادية تبقي رضيتِ عني.
-أيوه، وهو أنا إمتى ما كنتش راضية عنك!
-ومش هترضي ازاي وإنتِ معاكِ مفاتيح قلبي بقى؟
استند كل منهما على الآخر متوجهين نحو غرفتهما، تتوسط البسمة الهادئة وجهيهما، من كان يصدق أن كمال ونادية سيصبحا عكازين لبعضهما البعض في تلك الحياة؟ ولكنها حقًا الحياة، إنها أشبه بعدة أفنان متداخلة ببعضها البعض، تحاول جذبك بداخلها طيلة الوقت، وكأنها تختبر قوة صمودك، هل ستستطيع أن تبتلعك؟ أم أنك ستجد من تتشبث به بقوة؟ إن وجدته فتلك الدنيا ستحييك حقًا، وإن كانت تملك قبعة لرفعتها تقديرًا لك، أما إن لم تجده فستبتلعك داخل دوامة ليس لها نهاية.
☆☆☆
بعد مرور أسبوع:
جلست نوال على كرسي ذو لون بني أمام تلك الطاولة التي تحمل نفس لونه، ثم أخذت تمرر أنظارها بين تلك الأوراق البيضاء التي تنتظرها لتخط بها حكايتها، وبين تلك اللوحة التي تسر الناظرين على الجدار، وكأن من رسمها لم يضع تلك الخطوط بالفرشاة بل وضعها بقلبه، كانت صورة لفتاة تشبهها كثيرًا، لكنها بعقدها الثالث، تسير على شاطئ البحر ممسكة بيد شاب ما.
أبعدت أنظارها عنها بتريث وكأنها تودعها بعينين مخضلتين، ثم مدت يدها لتلتقط القلم بأنامل مرتعشة، حاولت قدر الإمكان تثبيتها، اتخذت قرارها بأن تجعل قصتها خالدة إلى مالا نهاية لأجله هو فقط.. لأجل خليل قلبها.