Darebhar

Share to Social Media

يا ليتني أموت فأرتاح.
لماذا أنا هنا؟
لماذا أعيش تلك الحياة البائسة؟


كان الدكتور مجدي ذو الثامنة والثلاثين جالسًا على مكتبه في مقر مركز البحوث الزراعية، كان تخصصه هو تطوير الشتلات الزراعية، كان قد تخرج من الجامعة منذ خمس عشر سنة وعمل مباشرة في المركز. كان دؤوب على عمله، ليس لديه أي اهتمامات سوى العمل رغم محاولات تودد بعض الفتيات له لرشاقة جسده وعذب حديثه عن عمله.
كان والده ووالدته وأخته قد لقوا مصرعهم في حادث بسيارة كان يقود بهم وكانوا قد ذهبوا إلى الغردقة للاستجمام.
هو لم يستطع تخطي الموقف وشعر أنه السبب لأنه الوحيد الذي نجا من الحادث، وأيضًا لأنه انشغل عن الطريق لوهلة كان ينظر إلى هاتفه حين انحرف عن الطريق وكان ذلك الانحراف كافيًا ليقلب السيارة عدة مرات.
وإن كان قد ندم على ذلك فهو كان يفضل الموت معهم على أن يعيش تلك الحياة.
كان مجدى يعمل على مشروع منذ أربع سنوات، وهو تجميد بعض أنواع الشتلات لمدة معينة مع الحفاظ عليها من عوامل الزمن وإعادة استخدامها مرة أخرى.
كان جالسًا يتابع بتركيز شديد ما قد وصلت إليه تجربته. فهو يتابع شتلة قد جمدها منذ أربع سنوات وحان الآن موعد الحقيقة، هل ستحتفظ بخصائصها أم ماذا؟
كان يشرد بذهنه كثيرًا، تارة في عائلتة التي فقدها، وتارة في تلك الحياة التي يعيشها. فهو يدرك جيدًا أن ذلك المكان ضيق عليه وأقل من إمكانياته. فكر كثيرًا في الهجرة لكنه لن يقدر، لأن الشيء الوحيد الذي يريحه هو الذهاب أسبوعيًا إلى قبر عائلتة والتحدث إليهم كأنهم ما زالوا على قيد الحياة.
دخلت عليه الدكتورة سارة مديرته في العمل التي لم تقتنع يومًا بموهبته.
كانت امرأة في أواخر عقدها الرابع، مليئة الجسم نسبيًا، ليست على أي قدر من الجمال، متسلطة وقصيرة بعض الشيء.
تبالغ في وضع مساحيق التجميل التي بمجرد أن توضع على وجهها البدين حتى تصبح تسمى مساحيق توحيش.
كانت ربما تستيقظ قبل موعد العمل بثلاث ساعات لوضع تلك التعاويذ على وجهها أو ربما كانت تنتمى لقبيلة معينة تجبرها على وضع تلك الأشياء وإلا سيتم حرقها حية.
ألقت عليه تحية الصباح وأردفت: هو أنت لسة بتعمل التجارب اللي مش هتوصلك لحاجة دي؟
أنا قولتلك قبل كدة مية مرة مفيش فايدة. علميًا أي كائن حي بيتجمد مش بترجع خلاياه تاني للحياة. ده اللي أخدته في الكتب يا دكتور.
قالتها في برود.
كان مجدي جالسًا وظهره إلى الباب التي دخلت منه.
التفت إليها بنصفه العلوي وعيناه لم تلقها وأردف:
أنا عارف يا دكتورة الكلام ده، بس لو السير ألكسندر فلمنج مكنش جرب وفضل يجرب مكناش عرفنا البنسلين ولا المضاد الحيوي وكان ملايين ماتوا بسبب دور برد بسيط.
أردفت وهي تخرج من الغرفة عائدة إلى معملها:
وأنت هتقارن نفسك بيه! ... خليك في شغلك الأساسي من فضلك. والتقارير اللي طلبتها منك تيجي.
نظر مجدي إلى تجربته مرة أخرى وهي تنذر بنتائج طيبة وهمس بصوت منخفض:
أوعدك التجربة الجاية أخترعلك دواء يحولك ضفدعة دكر.
ظل يدون بعض الملاحظات ويأخذ بعض العينات وكل التقارير التي طلبتها منه د. سارة حتى يسلم من أذاها.
أنهى جميع التقارير ووضعها على مكتبها حيث أنها غادرت المكتب وغادر هو أيضًا.
كانت عادته أن ينهي عمله أولًا في الثانية ظهرًا ويظل في المعمل للساعة السادسة يعمل على تجربته التي تبقيه منشغلًا.
كان مؤمنًا جدًا بأن العمل الشاق هو أقوى علاج للاكتئاب.
كان وحيدًا ليس له أصدقاء. كان يفضل العزلة طوال حياته. وخصوصًا بعد الحادث الذي كسر بداخله ما لا يمكن إصلاحه.
عاد إلى منزله. كان قد باع شقة العائلة لانه لن يقدر على العيش بها. واستأجر شقة صغيرة في حي الزمالك. كان اعتاد أن يعود إلى المنزل سيرًا على الأقدام.
كان يفضل السير كثيرًا حتى يعود إلى المنزل منهكًا ويأكل بعض الطعام الذي عادة هو جبن وبيض وبعض الخضروات.
وصل إلى المنزل. ألقى التحية على حارس العقار الذي هو صديقه الوحيد ربما. كان يصعد إليه كل أسبوع ليهتم بامور الشقة وتنظيفها وما إلى ذلك.
دلف إلى الشقة، خلع حذاءه على الباب، كان شديد الترتيب ومنظمًا جدًا. وضع حقيبته على الكرسي المجاور للباب لأنه سيأخذها في اليوم التالي. دخل إلى غرفة نومه، رمى بجسده المنهك على الفراش الذي أخذ شكل جسده من ليلة البارحة. استرخى بضع دقائق ثم خلع ملابسه ودخل إلى الحمام، فهو اعتاد أن يستحم بماء بارد رغم الشتاء القارص. فهي تجدد الدم في الجسد وتقوي جهاز المناعة أيضًا.
وهو في طريقه إلى غرفة نومه دخل المطبح ليضع بقايا أي طعام في الثلاجة ليسخنه في المايكروويف وفتح التلفاز. كان لا يشاهد إلا قناتين يعرفهم جيدًا، قناة العربية للأخبار، وال بي بي سي.
دخل إلى غرفته، ارتدى بيجامته والروب الصوف لبرودة الجو.
أخذ الطبق الذي وضعه في المايكروويف وأعد كوب شاي وجلس على أريكته. كانت شقته عبارة عن غرفة نوم وحمام ومطبخ وصالة صغيرة بها أريكة وطاولة والتلفاز.
كانت ليس لديه أي اهتمامات أو هوايات سوى القراءة والعمل ومشاهدة الأخبار.
جلس على الأريكة وشاهد الأخبار. كانت الأخبار هي اشتعال الموقف بين روسيا وأوكرانيا وأن هناك أزمة طاقة عالمية وأن العالم مهدد وعلى وشك الانفجار. كانت قنوات الأخبار تنذر بوقوع كارثة بسبب أزمة غذاء وأزمة طاقة. كما أن هناك مشكلة مزمنة وهي الاحتباس الحرارى، حيث أن مناخ الكوكب يتغير.
أنهى وجبته الخفيفة جدًا وشرب كوب الشاي وأخذ يتأمل الموقف العالمي وموقف حياته.
كان على قدر كافٍ من العزلة بحيث إن حدث له أي مكروه لن يشعر به أحد، ولن يهتم بأمره أحد.
أمسك بكتاب الدكتور مصطفى محمود ليقرأه. كان يحب كل أعماله، كان يقرأ رواية العنكبوت، كان مولعًا بالخيال العلمي.
كان شغله الشاغل هو كيف كان يفكر الدكتور مصطفى محمود وهو يكتب تلك الرواية. فهي تتحدث عن سر الحياة والسفر عبر الزمن وأن ليس هناك مستحيل.
انشغل في الكتاب حتى أنهاه، كانت الساعة قد أشارت إلى العاشرة. ذلك موعد نومه، ذهب إلى غرفته ورمى بجسده على الفراش.
كانت غرفة نومه صغيرة بعض الشيء، بها بلكونة صغيرة تطل على حديقة الأسماك وترى النيل. كان واضعًا بها كرسيًا واحدًا فقط وطاولة، كانوا من البامبو. كانت البلكونة صغيرة تكاد تتسع للكرسي والطاولة والكثير من النباتات ذات الرائحة النفاذة.
كان يحب النباتات وهي أيضًا تحبه لأنها تنمو بدون مجهود.
أما عن أثاث الغرفة، كان دولابًا صغيرًا بداخله تسريحة وسرير وكمود واحد كان واضعًا عليه صورة له مع عائلته، وراديو ومنبه قديم.
جلس على سريره. فتح الراديو على إحدى قنوات الموسيقى، كانت تعرض سنفونية ل شوبان، كانت أذناه تعشق الموسيقى.
أمسك بالصورة، تأملها قليلًا ثم أطفأ نور الأباجورة وضبط المنبه على الساعة السادسة ونام نومًا عميقًا.
استيقظ في اليوم التالي في الموعد. أفاق ثم دخل إلى المطبخ لعيد شطيرة أو اثنتين ليأخذهم معه إلى العمل وأعد كنكة قهوة على نار هادئة جدًا ودخل إلى الحمام ليعد نفسه إلى العمل. أخذ دشه البارد الذي يجعله في حالة نشاط وارتدى ملابسه. كانت بالكاد القهوة وصلت إلى الغليان، أخذ كوب القهوة وجلس في بلكونة غرفة نومه ليشرب قهوته. كان المنظر من البلكونة يعني له الكثير، فهو بمثابة السفر إلى باريس والعودة منها.
ظل يشرب قهوتة وهو يتنسم بهواء الصبح النقي الجديد الذي لم يتلوث بنفوس الناس بعد.
تذكر في تلك اللحظة والده الذي كان يحبه كثيرًا. كان يقول له دائمًا أن الله يرسل الهواء النقي إلى الأرض كل يوم مع أذان الفجر، هواء نقي جديد.
ولكن عند الليل يكون الهواء قد حمل الكثير من الأتربة والتلوث، ثم يأخذ الله الهواء ليعيده إلينا في فجر اليوم التالي جديد ونقي.
وكان يخبره دائمًا أن تلك نعمة من الله لا بدّ أن نشكره عليها.
نزل مجدي كعادته من المنزل وأخذ شطائره معه واستقل تاكسي إلى العمل.
وصل إلى المركز وألقى تحية الصباح على عم علي فرد الأمن وأخبره أنه سيشتري له البن من مطحنة قريبة على أن يأخذه مجدي وهو عائد إلى منزله. كان كريمًا جدًا مع علي وكان يحبه كثيرًا.
حين دخل مكتبه وجد مدام ضفدعة في انتظاره جالسة على الكرسي المقابل لمكتبه.
دخل مجدي. ألقى بحقيبته على المكتب وارتدى المعطف الأبيض ثم جلس على مكتب:
صباح الخير يا دكتورة سارة.
سارة: صباح الخير يا دكتور مجدي. نمت كويس؟
- اه الحمد لله تمام.
- طيب كويس علشان فيه لجنة جرد جاية النهاردة من الوزارة تجرد المخازن.
- طيب وأنا مالي ومال المخازن؟
- أهو تبقى موجود من باب احترام اللجنة يعني.
- آه تمام.
كان مجدي قليل الكلام بطبيعة الحال. ومع سارة فهو يفضل أن لا يتكلم أصلًا.
أردفت سارة:
أنا بقى جايبالك عروسة بنت أختي دكتورة في المايكروبولجي بتشتغل في جامعة مصر ومرتبها كبير وعندها عربيتها وكمان باباها عنده مصنع بلاستيك كبير في أكتوبر و...
قاطعها مجدي وهو ينظر إلى إحدى العينات التي يجهزها:
يا دكتورة جواز إيه بس! أنتي مش شايفة الدنيا حواليكي عاملة ازاي؟! الأسعار غالية جدًا وخلاص العالم بيخلص.
إحنا ممكن في أي لحظة العالم هيضرب بعض بالنووي.
سارة: يا ساتر عليك. أنت متشائم جدًا.
الناس لو فكرت زيك كدة محدش هيعمل حاجة. خليك أنت في تجاربك اللي هتلحس مخك دي.
خرجت سارة قبل أن تنالها لعنة مجدي.
أمسك مجدي بالمسجل ليسجل ملاحظات تجربته.
بدأ التسجيل.
اليوم الأخير في السنة الرابعة، نتيجة تجميد العينات إيجابية، قدرت بعد تجميد العينة أربع سنوات إنها وبعد فك تجميدها تكون صالحة للزراعة. أربع سنوات والنهاردة هنبدأ تجربة جديدة وهو تجميد عشر سنوات، وهنشوف إذا كانت هتعيش بعد الفترة الطويلة دي ولا لا.
ولو عاشت، كدة ممكن تعيش خمس مائة سنة.
أغلق المسجل.
وقام بعمله اليومي بعد أن أنهى تجربته وأغلق الصندوق بإحكام.
كان يومًا آخر ممل.
تذكر أمه وأبيه وأخته. شرد قليلًا في ذكرياته معهم، فهو يتمنى الموت في كل يوم حين يتذكرهم.
حين قاطعه جرس هاتفه،
كان عمه الذي طلب منه مجدي منذ بضعة شهور أن يجد مشتري لأرض أبيه في الشرقية.
- ألوو ازيك يا عمي.
- أهلا يا مجدي يا ابني، عامل إيه؟ أنا لقيت مشتري للأرض زي ما طلبت بس عارض نص تمنها تقريبًا وده حرام، وأنت مستعجل مش عارف ليه!
- أنت عارف يا عمي، أنا مش بتاع أرض وزرع وكلام من ده. هو عرض كام؟
- عرض تلاتة مليون وهي تجيب أكتر. ولو هتوافق يبقى آخدها أنا أولى بقى.
فهم مجدي اللعبة التي يلعبها عمه فهو يعلم جيدًا أنه لن يستطيع ان أن يبيع تلك الأرض إلا بموافقة عمه كونه عمدة تلك القرية.
أردف مجدي:
طبعًا يا عمي أنت أولى من الغريب. مفيش مشكلة، جهزلي الفلوس والأوراق وأنا هاجي البلد الأسبوع الجاي نخلص.
- لا يا حبيبي متتعبش نفسك أنا هحولك الفلوس في حسابك بكرة وفي حد من طرفي هبعتهولك بكرة. اعملي توكيل والصيغة معاه.
- ماشي يا عمي مع السلامة.
أغلق مجدي الهاتف وأكمل عمله. هو لم يكترث يومًا للمال، هو فقط يريد أن يتخلص من كل شيء خاص بالماضي. فهو سيتألم حين يتذكر أن تلك الأرض كان يذهب إليها مع عائلته لقضاء إجازة الصيف فيها.
أنهى عمله في وقت متأخر كالعادة.
نزل من مكتبه وأخذ البن الذي جلبه له علي. شكره في امتنان.
وكالعادة ذهب منزله سيرًا على الأقدام. قرر اليوم أن ياكل طعامًا جيدًا. وصل إلى مطعم حاتي في شارع التحرير، كان يقدم كبابًا وكفتةً بجودة عالية.
وصل إلى المحل وما لبث أن دلف حتى تعرف عليه عمال المحل أنه زبون قديم هناك.
أردف الرجل الذي يقف على الشواية:
أهلًا يا دكتور مجدي، بقالنا كتير مشفناش حضرتك.
أمال فين الوالد والوالدة؟
كان والد شريف متعود أن يصحب أسرته من سنين عدة إلى المطعم للعشاء فيه.
وكأن الرجل أدخل إصبعه في جرح عميق ووضع كيس ملح فيه.
أردف مجدي:
الله يرحمهم بقى يا عم أشرف. ماتوا في حادثة من كام شهر كدة.
- لا حول ولا قوة إلا بالله، والله ما أعرف يا دكتور. الله يرحمهم والله كان راجل أمير.
ثم أردف في عدم اكتراث: أجيب لحضرتك إيه؟
مجدي: عايز نص مشكل.
كان مجدي لا يريد الاحتكاك بأي ذكرى لوالده، ربما مثل تلك المحادثة القصيرة عن والده يبقى أثرها لعدة أشهر في نفسه. كان يفكر دومًا في الحياة الجديدة، حياة العزلة، حيث لا بشر، حيث لا عمران.
كان مؤمنًا دومًا بأن الحياة ليست بالسنين، إنما بما يعيشه المرء من تجارب.
أخذ طلبه الملفوف بالورق والدبارة. كان يعشق كل ما لم يطوله العمران، ويكره البلاستيك أيضًا.
دفع حسابه وأخذ الطعام وأكمل طريقه إلى المنزل.
وصل إلى المنزل وهو يفكر في ما يجب عليه فعله في حياته. هل هو سيكون في حال أفضل حين يغادر البلاد إلى بلاد أخرى؟
ربما لا، لأنه يرتاح كثيرًا حين يزور قبر عائلته.
ربما الحل هو الهجرة الداخلية.
إن المصريين على مر العصور هم أهل صبر وجلد. حين تم البدء في بناء السد العالي هاجر الكثير من أهالي الصعيد إلى أسوان والاستقرار فيها إلى وقتنا الحالي. وحين تم استصلاح الأراضي في الوادي الجديد هاجر أيضًا الكثير من المصريين إلى هناك والاستقرار فيه.
كان مجدي مؤمنًا بفكرة أن خبراته ومهارته هي أكثر من وظيفة. أكثر من كرسي ومكتب. أكثر حتى من مديرة متسلطة ضفدعة.
وصل إلى المنزل. وضع حقيبته على الكرسي المجاور للباب لأخذها غدًا إلى يوم آخر ممل.
وضع لفة الطعام على الطاولة وفتح التلفاز على قناة الأخبار.
ودلف إلى الحمام لأخذ حمامه البارد الروتيني وبدل ملابسه ثم جلس على أريكته الوحيدة مثله.
وأخذ يفتح غلاف طعامه وهو يشاهد الأخبار عن الأزمات المتكررة في العالم وعن النفايات الصلبة التي ستظل تأخذ في الانتشار في البحار والمحيطات. وبدأ في تناول طعامه اللذيذ الذي لم يتذوقه من شهور.
كان يفكر مليًا في يوم غد، فهو سيبيع أرض والده وسيصبح مليونيرًا. هو لم يكترث يومًا للمال، لكن الفكرة في ذاتها تستحق التأمل. عندما تصبح مليونيرًا تتغير قيمة الأشياء في نظرك.
أنهى طعامه الدسم جدًا وشعر بثقل معدته، فمعدته تحاول أن تخبره أنه ارتكب حماقة في حقها.
أعد كوب شاي أخضر ليهضم ما أكله.
ليس من أجل حمية غذائية، هو ليس كالنساء اللواتى ياكلن اثنتين بيتزا حجم عائلي ويطلبن بيبسي دايت لتخليض الضمير.
لكن لأنه يحبه.
أخذ كوب الشاي ولبس روبه الصوف وجلس يتأمل النجوم في السماء التي كانت صافية تلك الليلة. إن السماء في المدينة مختلفة تمامًا عن السماء في الصحراء، تكون أصفى من أي صفاء شاهدته من قبل.
تنسم الهواء البارد وأخذ يستمع إلى موسيقاه المفضلة، مقطوعة الخريف لشوبان.
كانت تأخذه إلى عالم آخر، إلى ذكريات، ولكنه سرعان ما يفيق منها.
أنهى كوب الشاي. كانت الساعة قد أشارت إلى العاشرة.
ألقى بجسده على الفراش للنوم جيدًا والاستعداد ليوم آخر.
استيقظ في اليوم التالي مبكرًا. وكالمعتاد أعد شطيرة جبن وأعد نفسه إلى النزول. كان قد أعد كوب القهوة ليشربه في البلكونة كالمعتاد.
نزل واستقل سيارة أجرة إلى العمل. جلس على مكتبه وقام ببعض الأعمال الروتينية والتقارير المكتبية.
ظل يعمل حتى قاطعه جرس هاتفه. كان عمه. رد على هاتفه وهو ينظر إلى ساعة يده التي قد أشارت إلى التاسعة والنصف.
مجدي: ألو ازيك يا عمي.
- ازيك يا مجدي ي ابني، المحامي جايلك في الطريق. خد رقمه كلمه.
أخرج ورقة وأخذ الرقم من عمه.
- وأنا حطيتلك الفلوس في حسابك في البنك خلاص.
أردف مجدي: شكرًا يا عمي. أنا هتصل بالمحامي وأشوفه فين.
اتصل مجدي بالمحامي مباشرة بعد ما أغلق الخط مع عمه. اتفقا أن يتقابلا بعد نصف ساعة في مكتب الشهر العقاري في ميدان المساحة.. كان مقره قريبًا من عمل مجدي.
أغلق مجدي الهاتف وهو يشعر براحة نسبية.
خلع معطفه وذهب إلى الدكتورة سارة لأخذ إذن ساعة لعمل مشوار شخصي. وافقت سارة على الفور دون تردد.
ذهب إلى مقر الشهر العقاري. كان يكره أي مصلحة حكومية. هو يعلم بأن المصالح الحكومية متأخرة على الأقل مئة وخمسين عامًا. وأن الموظفين غير متعاونين بالمرة. ولديه تجارب سيئة.
لكن حين وصل إلى الشهر العقاري تفاجأ بأن الوضع قد تغير تمامًا، وأنه تم تجديد وتغيير كل المصالح، وأن عليك حجز معاد مسبق مما يتيح لك إنجاز كل إجراءاتك في ربع ساعة. وقد سره ذلك حقًا.
كان المحامي قد أخذ موعدًا مسبقًا وتم إنجاز المهمة بنجاح.
شكر المحامي وصافحه وانصرف لأقرب فرع بنك للتأكد أن المبلغ تم تحويله وكانت العملية قد تمت بنجاح.
عاد إلى عمله وهو يفكر في حلمه، ولكن لا يعلم السبيل لتلك ((العزلة)).
وصل إلى المكتب. سمع صوت غريب، صوت أنثوي.
دخل المكتب وجد سارة جالسة على مكتبه مع فتاة تبدو في السابعة والعشرين. كانت جالسة في الكرسي المقابل للمكتب تتحدث مع الدكتورة سارة بشكل رسمي.
كان شعرها أسود مثل شعر الخيل الأصيل، بيضاء ناصعة تسر الناظرين، ترتدي بنطال جينز فضفاض على الموضة وبلوزة سوداء عليها ورد. كانت شدة بياضها تظهر البلوزة بشكل ملفت، وكان هناك ورد على البلوزة ويبدو أنها قد روته لتوها لجمال منظره عليها.
حين دخل مجدي نظرت إليه سارة في ابتسامة:
تعالى يا دكتور مجدي أعرفك بالزميلة الجديدة، هتشتغل معاك على مشروع النباتات النادرة اللي هنبدأ فيه. الوزارة مستعجلة عليه جدًا وانتدبت الدكتورة نجمة من جنوب سيناء.
نظر إليها مجدي في عدم اهتمام مع ابتسامة خفيفة:
أهلًا يا دكتورة نجمة. أول مرة أسمع الاسم ده.
نظرت إليه نجمة: أهلًا يا دكتور مجدي.
كان مجدي أنيق بطبعه يهتم بالتفاصيل، طويل بعض الشيء، جسده رياضي، شعره قصير، لونه لون القمح، يرتدي نظارة أنيقة تناسب وجهه.
لم يهتم بما تتحدثان عنه.
همس يحدث نفسه: طبعًا الضفدعة مش هتسيبك غير لما تعرف أصلك وفصلك.
فهو طابع النساء معرفة التفاصيل الشخصية. وأخذت سارة تتحدث إلى نجمة عن ظروف المركز وعن قوانينه والمواعيد وما إلى ذلك.
كانت نجمة قد استلمت مهمتها للتو. فهي منتدبة لمدة ستة أشهر للعمل على زراعة أنواع نباتات نادرة في الصحراء والحفاظ على ما هو موجود بالفعل في سيناء.
ف لمن لا يعلم، سيناء هي متحف مفتوح للنباتات النادرة.
أنهت نجمة حديثها مع سارة.
كان انطباع نجمة عن سارة هو تقريبًا نفس انطباع مجدي.
خرجت سارة من المكتب.
نهضت نجمة لتحية دكتورة سارة ثم فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها بلطو أبيض مطبق بعناية وارتدته. كان مرسومًا عليه نجمة بحر صغيرة.
وأمرت الساعي بجلب كارتونة من خارج المكتب لتخرج منها أغراضها التي قد جلبتها معها من معملها.
ثم توجهت إلى مجدي. كانت تعلم أنها مهمة صعبة التعايش معه، لكنها مضطرة لذلك لأنها لن تقدر على العمل هنا لمدة ستة أشهر دون كلام.
نجمة: هو حضرتك شغال على إيه دلوقتي يا دكتور مجدي؟
التفت إليها مجدي. كان النظر في وجها يخطف النظر لأي شخص غير مجدي وهي فهمت ذلك من بداية الأمر. ربما ذلك ما شدها إليه لأنها تفهم نظرات الرجال.
مجدي: أنا شغال على مشروع تأثير البكتريا على المحيط الجذري.
نجمة: قصدك إنك بتطورها علشان تساعد على النمو؟
مجدي: بالظبط كدة.
نجمة: إحنا هنبدأ نشتغل على المشروع بتاعنا امتى؟
مجدي: أي وقت. أنا ممكن أقسم الوقت بس لازم يبعتولنا تقارير الحصر بتاعة النباتات اللي هنشتغل عليها.
نجمة: اه طبعًا هي مفروض توصل بكرة.
انتهى الحوار وعاد مجدي للنظر إلى ما كان يقوم به. نظرت نجمة يمينًا ويسارًا بعينها فهي غير معتادة على تجاهلها، غير أنها اجتماعية بطبيعتها.
فهناك الكثير من الأسئلة التي تريد أن تسألها له، لكن من المستحيل.
ثم أردفت:
ظريفة أوى دكتورة سارة.
رد مجدي وهو يكمل عمله:
اه كويسة.
ذهبت نجمة إلى كرسي المكتب وجلست وأخذت تتاملة وترتب ما على المكتب من أغراض. هي عادتها أن ترى الأشياء مرتبة.
اليوم طويل فالساعة الثانية عشر ظهرًا. هل سنظل ساعاتين في صمت؟
سألت نفسها.
- طيب مش محتاج حاجة أعملها معاك؟
- لا شكرًا أنا قربت أخلص.
أنهيا ساعات العمل ثم انصرفت نجمة وظل مجدي كعادته.
انصرفت نجمة إلى منزل العائلة. فيلا صغيرة في شارع نوال بالعجوزة. كان والدها ضابط سابق في الجيش وكانت هي ابنته الوحيدة وكانت توفيت والدتها بعد صراع مع المرض
مرض السرطان اللعين.
وصلت إلى الفيلا بسيارتها حين كان والدها جالس أمام مدفأة رخام عتيقة يدخن الغليون ويقرأ إحدى المراجع العسكرية، فهو كان يعمل كمحلل عسكري بعد التقاعد.
دخلت نجمة في صمت وحضنته من خلف الكرسي: ازيك يا سيادة اللواء، واحشني جدًا جدًا.
احتضنها في شوق، فهي لم تزره منذ ثلاثة أشهر. كانت قد انتقلت للعيش في سيناء للعمل هناك.
- أهلًا أهلًا حبيبة بابا. كدة متجيش الفترة اللي فاتت دي كلها!
- ابسط يا عم أنا قاعدة معاك ست شهور لحد ما أزهقك.
- ياااه! ست شهور حتة وحدة؟
- اه يا سيدي، انتدبوني هنا ست شهور لبحث مطلوب من وزراة الزراعة وكانوا عايزين دكتور شاطر من سيناء ملقوش أشطر من بنتك.
- أيوة طبعًا هيلاقوا فين زيك!
وضحك.
اطلعي غيري هدومك لحد ما أحضر الغدا.
صعدت نجمة إلى الطابق العلوي حيث غرفة نومها التي تربت فيها.
بدلت ملابسها ثم نزلت إلى الطابق الأرضي لمساعدة والدها.
كان يعد طبق سلطة.
وقفت نجمة تأكل من طبق السلطة بيدها وهي تتحدث مع أبيها:
عارف يا بابا النهاردة لقيت دكتور زميلي في المركز غامض أوي.
- غامض إزاي يعني؟
- مش عارفة، حاساه كدة غريب وكئيب. هو أنا عرفت السبب من مديرتنا بس هو غامض بزيادة.
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.