كان أول لقاء حقيقي بيننا؛ فاللقاءات السابقة كانت خاطفة؛ وأغلبها كانت مجرد أحلام يقظة، أما هذه المرة لم يكن مجرد لقاء؛ بل كان بداية حياةٍ جديدةٍ، بداية لحلمٍ سعيدٍ بعد أحداث كأنها ممرات عبور لهذا اللقاء.
قررت الاتصال بها-على غير العادة- لم أنتظرُ مهاتفتي كما اتفقنا؛ فقد طال الانتظار ولم أقدر مكافحة الطفل الذي يهتف بداخلي كأنه في أول أيام الفطام.
حياة، أنا في الطريق لنتقابل اليوم.
صمت تامٌ وتنهيدةٌ كسرتْ حاجز هذا الصمت وابتسامة صابرة شعرتُ بها.
– سأنتظرك.
كان دافئاً مغلفاً بحياء الأنثى وشعور الأمومة التي ترعى ذلك الطفل المتسرع الشغوف المتأمل فيه.
كانت هناك نظرة أولى عجزتْ عن احتواء ينابيع العشق ودهاليز الشوق المختبئ خلف أسوارٍ مثقوبة، تتابعٌ لحركة العين والشفاه، وضرباتٌ قلوبٍ سريعة تناغمتْ دقاتها وتآلفت، لكن هذه النغمات جعلت الكلمات مبعثرة ولم تعد مرتبة كما خُطط لها أن تكون، واختبأتْ مع تصاعد الكونشرتو المعاني والأفكار، رغم أن هنالك ما يحتاج لأيام وأسابيع كي تنبئ عن فحواها.
ركبت سيارتي وعزمنا على أن نتناول وجبة الغذاء معاً؛ وصلنا للمطعم وجلسنا بالخارج وكان من اختيارها بعد تعدد المطاعم أمامنا، ونزلتُ من السيارة وفتحتُ لها البابَ وكأنها أميرة، لا أدري كيف أسير، هل أمسكُ بيدها؟ أم أسيرُ أمامها؟ أم بجوارها؟ هل نتحدثُ ونحن نسير؟ حالة من الارتباك انتابتني وانتابتها، مددت يدي على استحياء وأمسكت يدها.
عند باب المطعم دفعتُ الباب وأمسكتُ به إلى أن دخلت سيدة المكان وتركتُ الباب وذهبتُ بجوارها ولم أهتم ببرتوكولات الدخول وبداخلي سعادة لا تنتهي.
واخترنا طاولة بالقرب من النافذة التي تطل على الطريق مباشرة، جلستْ وجلستُ على الكرسي أمامها ووضعتْ حقيبتها على الطاولة وظلت بنظارتها فوق عينيها؛ لا يهم فأنا أرى عينيها الحيية ونظراتها المتلاحقة لكل ما حولنا.
تحدثنا قليلاً وبعدها قام النادل بتقديم قائمتي طعام وذهب؛ فتفحصناها ولم نقرأ كلمة فيها بسبب حالة الارتباك هذه؛ ما لبث إلا وقد عاد فطلبت منه أن يتركنا قليلاً حتى يطول وقت اللقاء باحثاً في عينيها عن أي سبب لهذا الغياب عن إجابات لأسئلة لم تترك رأسي وفكري، هذه لحظات يجب ألا تضيع هباءً ولابد وأن أغتنمها وأستمتع بكل ثانية فيها.
أمسك كل منا بقائمة طعام مرة أخرى ليتفقد الأصناف، ليتني كنتُ بجواركِ حتى نختار سوياً، ووقع السؤال ماذا تريدين أن تأكلي؟ بدأنا نتبادل الأصناف إلى أن تم اختيار أصناف من المشويات، وطلبتُ طلباً آخر وهو "ملوخية"، نعم ملوخية خضراء فأنا أحبها.
أغلقنا الهواتف حتى نستمتع بالوقت سوياً، جاء النادل وسألنا ماذا تريدون؟ أخبرته بما تم الاختيار عليه، وسألتُ حياة هل تريدين شيئاً أخر؟
واستأذنتُ من حياة حتى أقوم لتنظيف وجهي لأن السفر كان طويلاً حتى أستعيد نشاطي من جديد.
وصل الطعام سريعاً، ولكن لم يمنعنا من الحديث، تكلمنا أكثر مما نأكل، فقد كان هناك تبادل للكلمات بكل راحة وهدوء بعد أن زال التوتر قليلاً، يحدثني عقلي الباطن (آه لو أستطيع أن أطعمها بنفسي) ولكن لا أستطيع أن أفعل ذلك.
سعيد جداً بوجود حياة أمامي، وانتابني إحساس أنها تشعر بذلك أيضا لوجودنا معاً، تضحك فيضحك قلبي معها قبل أن تبتسم الشفاه، أرى عيونها تلمع من السعادة، وفي وسط الكلام قمت بمناداتها... حياة.
حياة: نعم يا فريد
فريد: أنا سعيد جداً بوجودك معي وأكملت الحديث بداخلي وأنا أقاوم النظر لعينيها ولم تنبث شفاهي بكلمة.
أخشى من خداع عينيكِ وأُقر
لم أعد أقوى على إطالة النظر
يكفيني من ويلات الشوق ما ظهر
وما خفي كان أعظم وأمَرّ
سأشكيكِ لمحكمة الغرام لا مفر
حيث لا نقض ولا استئناف حضر
فلتعيشي بداخل عشقي المنتظر
مر الوقت كالهواء ونحن نتناول الغداء وعرضت عليها أن نشرب شيئا آخر في مكان ما؛ حتى أستطيع أن أقضي معها أطول وقت ممكن وأن يكون لنا من الأماكن ما تشهد به الذكريات.
تحركنا سوياً خارج المطعم بعدما طال الحديث بيننا ونحن لا نأكل إلا القليل من الطعام، نحن الآن في السيارة، ومع رهبة أول لقاء لقد نسيتُ هديتها، فتذكرتُ وابتسمتُ وأعطيتها إياها، نعم.. كانت هدية بسيطة بالنسبة لها، ولكن كل كنوز العالم بالنسبة لها قليلة، وبادرتني هي الأخرى بواحدة ما زالت معي إلى الآن وبجواري دائماً.
تحركنا إلى أن وصلنا المقهى وجلسنا بالخارج حيث الهواء والشمس والقمر في آن واحد، تجلس أمامي ولم أر بالمكان غيرها، بعد لحظات ستغيب الشمس ويبقى القمر أمامي وونيس جلستي.
فريد: ماذا تريدين أن تطلبي يا حياة؟
حياة: فنجان من القهوة
فريد: قهوة فرنسية
وعلت الدهشة وجه حياة وقالت باستحياء: مازلت تتذكر مشروبي المفضل.
فريد: نعم ما زلت.. ألم يكن السبب في معرفتي بك؟! لا أستطيع نسيانه فهو يذكرني بك.
وبينما نحن جالسون نحتسي القهوة، كان الشارع ممتلئاً بالسيارات وبالمارة وبالأشجار وصوت العصافير ولم أنتبه سوى لعيونها وصوتها نغم في أذاني، أمسكتْ فنجانها، كنتُ أغارُ عليها من القهوة فتجعلها تسكتْ قليلاً.
حقاً كانت هي مدللتي.. حياة
في ثنايا القلب أنتِ الوحيدة
وأحيا بحبكِ بأشواقي الوليدة
في حضوركِ أصبحتِ الفريدة
وفي غيابكِ مشاعري شريدة
أكتبكِ بإحساسٍ وعباراتٍ عديدة
وأمسى اسمكِ عنواناً للقصيدة
أصابني العشق لكِ بأسهمٍ أكيدة
فزاد السهد وللحلم صرتِ وجيدة
وأضحيتُ بهمسكِ لصباحي تغريدة
ولجراحِ الماضي بلسمٌ وتضميدة
أغارُ عليك من قدحِ قهوةٍ جديدة
يقبلُ شفاهكِ وينعمُ بلذةٍ مجيدة
أراقبكِ جلياً فتسري بي التنهيدة
فوددتُ لو أكون قهوتكِ بتأبيدة
فلا فراقٌ قط، بل حياةٌ رغيدة
فلتبقِ معي مدللتي العنيدة
هكذا كنت أحدثها بصمت وهي ترتشف القهوة الفرنسية التي كانت تترك أثرها على شفاهها فتحاول أن تخفيها وأنا أراها فأبتسم، وأقرر بعدها أن أتحدث..
فريد: ماذا تفعلين بعد أن ينتهي اللقاء.
حياة: لا شيء سأذهب إلى المنزل.
وكأن الوقت يُعاندني ويعلم جيداً أني لا أُريد أن أذهب، ولكن كان يمضي سريعاً كسرعة الضوء لا أنا أمسكت بالوقت ولا استمتعت به بوجودها، تحتاج من العمر عمرين ولا ينتهي احساس وجودها بجواري، وهممنا بالخروج من المقهى وسرنا قليلاً قبل الوداع، قبل انتزاع الروح من الجسد.
فريد: لا أريد أن ينتهي الوقت، أتمنى أن يقف الوقت والعالم كله ولا يبقى سوانا نتكلم ونتحرك وسط هذا السكون.
حياة: بل تمنيت أكثر من ذلك.
فريد: أعلم أن الوقت تأخر، ولكن لا أريد الذهاب فأنا مستمتع جداً.
وتنصت حياة لما أريد أن أقوله وتشعر بكل تلك الأحاسيس الصادقة النابعة من القلب، فكيف لها أن تخبرني بما جاءت به فهي لا تريد أن تنتهي هذه المشاعر التي تبعث فينا الروح وتجعلنا سعداء، لا نريد شيئا من الحياة سوى وجودنا معاً، فكيف تخبرني بما يشق على نفسها!
عجيبةٌ تلك البدايات
حين يتسللُ الحب
خلسةً دون إرادة
فيجتاحُ الأعماق
وتتشبثُ الروح
به بلا هوادة
فيزيد معه الشوق
ولا يرحمكَ البعدُ
عنه أو عناده
يقتادك دون فكر
أو إعمال عقل
كان الجنون زاده
كالممسك بحبات ماء
بين الأصابع
فتهرب منه السعادة
وتبقى خيبة النهايات
كالجرح غائراً
كان للحياة إبادة
ولاحظتُ تغير علامات وجهها وشرودها لبعض الوقت.
فريد: لماذا أراك شاردة الذهن يا حياة، أثمة شيء أزعجك؟
ترتبك حياة ويظهر جلياً على صوتها
حياة: أريد أن أقول لك شيئاً.
أنصت بتمعن شديد لما ستقوله حياة.
حياة: أعلم أن ما سأقوله صعب جداً، بالفعل الوقت مر سريعاً، وكنت أتمنى أن نبقى سوياً بعض الوقت.
صمت تام يعلو المكان وأنفاس متسارعة تسمعها الأذن.
فريد: أقلقتني يا حياة، ماذا هناك؟
حياة: لم يعد بالإمكان أن نلتقي مرة أخرى خوفاً عليك، فأنا لا أريد أن يحدث لك مكروهاً بسببي.
فريد: كيف هذا!... لا أستطيع الابتعاد عنك وتعلمين هذا جيداً وتشعرين بما يحس به قلبي الآن.
حياة: لا تصعب الأمر يا فريد، كم أنت قاسية أيتها الحياة؛ كثيراً ما تكون حقائق الحياة، مزيجاً من الدموع والابتسامات، فلم يكن من نصيبنا الحياة سوياً.
فريد: نستطيع أن نحاول من جديد حتى نكون معاً.
حياة: كنت أتمنى ذلك، يا ليت كل النيات تأتي بما تشتهي بالعطيات.
وبعد انتهاء اللقاء ذهب كلاً منا في طريقه، قلبي ليس بيدي وليس ملكي وفي هذا الوقت علمت أني لم أحب بل عشقت، جلست بالسيارة قليلاً، ولكن نسيت وجهتي إلى أين أنا ذاهب؟ ترجلت وسرت طويلا دون هدف حتى ثقلت خطواتي. عقلي يحدثني فيقول لا تبتعد، ولا تذهب من هذا الطريق، واذهب من طريقها فهي طريقك.
وذهبت حياة وهي حزينة بالفعل، ما أصعب النهايات ذهبت وهي حاملة معها ذكرى تعيش بها ويصعب عليها أن تنساها وكلمات توقفت في الحناجر وعين ترقرقت بدمع الألم وهي تهمس..
أتذكر أول لقاءٍ بيننا
وقد كان قلبي محاطاً بالمغاليق
فقد أضناه ما رأى من
ويلات البشر وعتمة الطريق
وبلعبة الأقدار نفذت
لمكنونات قلب أصبحت له رفيق
هكذا توحدنا وفاض بنا الشعور
وجاء الأمل ببهجة وبريق
وقصور من أحلام أعمدتها
عشق وينبوعها شهد ورحيق
نعم أحببتك..
أحببتك حب لو فاض به البحر
ما كفاه ولا لغيرك أطيق
ولكن عذراً.. عذراً
إن أحببتك يوماً
فها أنا أرحل عن عالمك بضيق
سأرحل عنك وأنا بحاجة إليك
فما لرحيلي عنك سوى تفريق
فقد سئمت الوجود اللاوجود
ولكن من بعدك سأضل الطريق
ولا أعلم إن كنت أحيا دونك
وهل للزهر الذابل من رحيق...!