Darebhar

Share to Social Media

مقدمة
كالجثمان في التابوت نحن مجبرون على البقاء لا خيار لنا في الرحيل؛ قسمتنا أن نكون في ظلماته، نتنفس لترتطم أنفاسنا بحواجزه المغلقة التي لا سبيل لها، تتراكم فوقنا كالغيوم فتزيد المكان ظلمةً وضيقًا، تتحلل أجسادنا، وتتآكل عظامنا، وينخر الدود بلحومنا، يتراكم العفن على جدراننا المتحللة، تنقضم ظهورنا التي تقرحت من أخشابه الصلبة القاسية وبين هذا وذاك لن نضيع الرجاء أبدًا؛ لن نصمت علَّ الله يلهم أحدهم فيقذف بتابوتنا في اليم، علَّ اليم يصله لبر الأمان، وتدلهم أخت موسى على مَن يكفلنا؛ فالله لن ينسانا أبدًا.



كانت تهرول وهي تحمل حقائبها تحاول اللحاق بالحافلة، وتجر بيدها اليمنى حقيبة سفرٍ كبيرة وبيدها اليسرى حقيبة ظهرٍ سوداء، تهرول وشعرها الأسود المجعد الطويل ينسال من فوق الشال على كتفيها؛ فينزلق الشال ساقطًا فيعرقلها ويجعلها تتوقف وتترك حقائبها وتعود لإحضاره، تضعه على يديها وتواصل سيرها حتى وصلت للحافلة التي كانت تتحرك للخروج من المحطة؛ فتوقفت أمامها واضعةً حقائبها أرضًا رافعةً يديها الاثنتين لأعلى كي توقف الحافلة، ليقف السائق في اللحظة الأخيرة قبل أن يدهسها فتحمل حقائبها وتدخل الحافلة؛ ليسألها عن تذكرتها وهو ينظر لها بضيقٍ لما فعلته منذ قليلٍ، فتضع الحقيبة الكبيرة أرضًا وتفتح حقيبة الظهر تقلب بداخلها فينقلب نصف ما بها أرضًا قبل أن تجد التذكرة وتريه إياها، تهبط لتجمع ما وقع منها ويأخذ الآخر حقيبتها الكبيرة ليضعها مع الحقائب وهي تدخل وتجلس في مقعد بجوار النافذة، تعيد الشال على كتفيها وتأخذ حقيبتها الصغيرة بين ذراعيها وتضمها بأحضانها، وتسند رأسها للنافذة تلتقط أنفاسها التي تراكمت بداخلها من الهرولة، تسترخي وتفتح حقيبتها وتخرج دفترًا كبيرًا وقلمًا لتبدأ بالكتابة داخله.
iii
فتح الباب بقوةٍ ودخل مندفعًا على عجلةٍ من أمره، لتوقف عجلته هيئتها عندما دخل عليها الغرفة ليراها تقف في شموخٍ تصلي في سكينةٍ محاطة بالشموع التي تضفي على المكان الهدوء، تجعله يثبت مكانه منتظرها حتى انتهت من صلواتها واستدارت برأسها فقط لتنظر خلفها؛ فتجده يقترب منها وإذ به يمسك يدها ويسحبها تجاهه، ويقول لها هامسًا:
– جئت أودعكِ وأنا داخلي يحترق.
– متى ستغادر؟
– في الخامسة فجرًا، هل ستتركيني أغادر بمفردي؟ هل ستتخلين عني؟
– لا أستطيع التخلي عنك، ولكنك قلت أنك ستحاول من أجل البقاء، دواخلي غير مطمئنة لهذا الأمر.
– إن بقيت سأعدم هل تفهمين؟
– ولكن ربما اعترافك بخطئك سيجنبك الهلاك.
– هذا وإن كنت مخطئًا في الأساس، أنتِ أكثر شخصٍ يعلم أنني سأعدم ظلمًا، هذا الأمر سيقودني للهلاك أكثر مما تظنين؛ أنتِ لا تعلمين أن الأمر وصل للإمبراطور إن عثروا عليَّ سيقومون بتنفيذ الحكم بلا رجعة، الجميع في الخارج يبحث عني لا أستطيع البقاء هنا أكثر. أرجوكِ، لا تتخلي عن صحبتي يا ذات العيون الزرقاء، التي تضيء ظلمات ليلي، لن أكون أنا بدونك.
نظرت له بعيونها الزرقاء الواسعة، ووجهها الخمري، ووجنتيها الحمراوين، وبشرتها الشفافة التي تنم على براءتها، وحاجبيها المفرودين من البداية مقوسان من آخرهما ومتناسقان بشكلٍ كبيرٍ؛ شعرهما بني اللون ورموشها الكثيفة بنية اللون وشفاهها الصغيرة الممتلئة؛ هذا الوجه الملائكي الذي ينم على الجمال وكأنك تشاهد ملاكًا منزلًا على الأرض، تنظر له فيضعف قلبه الذي أحب وتعلّق تنظر ولا تقول شيئًا؛ ربما لأنها لا تعلم ماذا تقول تلك النظرات؟! جعلته يترك يدها التي كان يتشبث بها بقوةٍ يحررها كطيرٍ أطلق صاحبه سراحه ليطير بعيدًا.
– لا أريد أن أنقض عهدي مع الرب؛ فأنا وهبت نفسي له منذ ذلك اليوم الموعود، أصبحت راهبةً للدير وقلبي مليءٌ بحبه، لا أريد أن أرتكب مثل هذه الخطيئة لا أعلم كيف سأسامح نفسي على هذا؟!
– ألست أنتِ مَن ترددي على مسامعي أن الرب يغفر الخطايا ويقبلنا في كل وقتٍ؟ أتعلمين، سأذهب ولن تريني مرةً أخرى؛ ستكون خطيئتك أنكِ كسرتِ قلبًا اتكأ على جدران قلبك وتركته في هذا التيه وحيدًا، ولكن لا بأس؛ فأنا معتادٌ على هذا الأمر فلستِ وحدك من رفضني، منذ وُلدت لم أجد مَن يحنو عليَّ ويتقبلني حتى أمي لفظتني منذ نعومة أظافري.
ليهمّ هو بالانصراف وقد فاضت دموع عينيه؛ فتلحقه وتشد يديه وعيونها الزرقاء الواسعة تمتلئ بالدموع، وتقول بصوتٍ منخفض متقطع وقد انعقد حاجباها:
– لا أريد خسارتك أبدًا؛ تفكيري بأنني سأفرط بك أو سأخسرك يمزق قلبي ويحرقه.
– ستأتين معي؟
سكتت مطولًا ولم ترد على سؤاله؛ مما جعله يفلت يده من يدها ويخرج بسرعةٍ من الغرفة، ويختفي من أمام ناظريها.
iii
الخامسة فجرًا في الميناء، بينما تحلق مجموعةٌ من طيور النورس وأصواتها تملأ الساحل بالنعيق الذي يتردد في الآفاق، مع سحب الغيوم الكئيبة المليئة بكل معاني الوداع والفراق، وأبواق السفن تعلو بأصواتها وأصوات البحارة ينتشر، والجميع على عجلةٍ من أمره للحاق بالسفينة الكبيرة التي ستتحرك بعد قليل؛ كان يقف هو على الميناء ملثم الوجه لا يظهر منه سوى عيونه عسلية اللون، ينظر يمينًا ويسارًا كطفلٍ تائه يتفقد المارين علَّه يجد وجه والدته بينهم، يتخبط بين المارين يمينًا ويسارًا ويترنح بين المارة ناظرًا في كل وجهٍ أمامه متفحصًا إياه، ولكن يبدو أن الطفل حُكم عليه بالتيه باقي حياته عندما أعلن البوق أن السفينة ستتحرك من الميناء؛ فصعد مسرعًا ليلحق بالسفينة قبل أن تتحرك ليضرب البقوق الآخر الذي يعلن عن مغادرة السفينة الميناء، لترتطم بالأمواج وتبحر وتغادر الوطن وتغادر الأحباب.
صعد مسرعًا على سطح السفينة ووقف ينظر للميناء والسفينة تبتعد للوراء، ينظر وهو يعلم أن الأوان قد فات واليأس وألم الفراق بدأ ينخر في قلبه ويرتطم بروحه كارتطام السفينة بأمواج البحر، كان على أملٍ أن تأتي لتودعه للمرة الأخيرة قبل الرحيل، ابتعدت السفينة تمامًا عن الميناء ليبتلعها البحر في ظلماته ويبتلع آلامه في أحشائه، ويقف هو يشاهد ارتطام الأمواج بالسفينة، وارتطام الهواء بوجهه، وارتطام الدماء بقلبه الذي يشعر به ورغم اتساع الكون من حوله؛ فهو يشعر بالضيق ليجد لمسة يدٍ تربّت على كتفيه تلك اللمسة التي كان يعرفها جيدًا.
iii
اخترقت أشعة الشمس جفونها لتستيقظ وتنقبض عيونها من حدة الشعاع الواصل لهما، تنظر من نافذة الحافلة تتأمل رمال الصحراء والجبال البعيدة، تبتسم هذا المنظر يجعلها تتنهد وتحدث نفسها قائلةً: "لم أكن أتخيل أنني في طريقي أخطو خطوةً تجاه حُلمي، أشعر بضربات قلبي تتصاعد لحلقى من الغبطة، أنظر من النافذة نظرة البلهاء التي تصل شفتاها لأطراف أذنها من السعادة، وأنا أنظر لرمال الصحراء وشروق الشمس التي أعلنت يومًا جديدًا مصحوبًا بحياةٍ جديدةٍ أحياها وسبلٍ جديدة تتفتح بوجهي".
هبطت من الحافلة لتطأ قدماي رمال الصحراء وأنا أرى البحر من بعيدٍ يحيط بجبال سيناء التي تنعكس عليه، ونسمة الهواء التي تحرك الشال على كتفي يمينًا ويسارًا، تحركت في اتجاه الشاطئ بلا وعي كالمجذوب المسحوب من عنقه ليفيقني صوتٌ أجش يقول:
– يا أستاذة، يا أستاذة، هل نسيتِ الحقيبة؟
لأقف وأستدير لصاحب الصوت إذ بسائق الحافلة يخرج لي حقيبة السفر الكبيرة، أنظر إليه وأبتسم ابتسامةً ساذجةً وأقول له:
– بالطبع لم أنسها، كنت سأتفقد شيئًا وسأعود بالتأكيد.
حملت حقائبي وأنا مرهقة تمامًا، نظرت للشاطئ الذي كان يجذبني لأذهب إليه أولًا قبل عودتي للسكن، أشعر أنه يناديني برغم التعب والإرهاق وبرغم ثقل الحقائب وصعوبة تحريك عجلاتها على الرمال، ذهبت للشاطئ لتلبية هذا النداء وتلك الرغبة الملحة في رؤيته عن قرب، أردت أن تلمس قدماي ماء البحر لأول مرة في حياتي؛ فخلعت حذائي وأنا أنظر للأمواج المتلاحقة في هدوءٍ كم هو منظرٌ ساحر! وهنا لا أقصد بساحرٍ جميل، بل ساحرٍ خدّاع يجذبك بهدوئه وتشعر أنه يريد أن يحتويك بين أمواجه ويجذبك شكله؛ فتذهب إليه مهرولًا وأنت سعيدٌ بما ستقوم به لترتكب خطـأً من أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الإنسان بحق نفسه؛ وهي الثقة لتجد نفسك بعدها تغرق فتميتك الثقة ويميتك هو بسحره الخداع، يغدر بك بعدما وهبك الأمان ومهما حاولت فهمه وتعلم صعابه والتكيف على تقلباته العصيبة يفاجئك بالمزيد من الغموض والخوف الذي لم تكن وضعته في الحسبان.
البحر يشعر الناس بالارتياح والاسترخاء، أما أنا يضيق صدري وأشعر بالتوتر ودائمًا أتذكر فور رؤيته حوادث الغرق التي تحدث، لا أستطيع تجاوز أمواجه فبداخلها يكمن المجهول بالنسبة لي، أشفق على حالي فالجميع يستمتع بالشاطئ وبالسباحة، وأنا أشعر بهذا الكم من الضيق والاختناق برغم امتداد الكون الفسيح أمامي؛ فرؤيته عن قربٍ يجعل قلبي يضطرب خوفًا، أما آن لهذه الفوبيا أن تعالج بعد وأن أستطيع التخلص من هذا الشعور، أغلقت عيني وأخذت شهيقًا يملأ رئتيَّ بجرعة هواءٍ لم أستنشق في نقائها من قبل جرعة لم أريد زفرها للخارج أبدًا، يقطعها مشهد من بعيدٍ وأنا أفتح عيني على أناسٍ تتخبط يمينًا ويسارًا في الماء يبدو أن هناك أمرًا ما يحدث، أهرول إليهم وإذا بضحيةٍ من ضحايا الساحر المخادع يبدو أن هناك مَن وثق به وغرق، هناك شابان يحملان الثالث ويخرجونه من الماء والناس تتجمع حولهم لأترك ما بيدي وأجري على الضحية وأطلب من الجميع الرجوع للخلف؛ أجثو على ركبتي وأتفحص الشاب الغارق وأنظر لاندفاع الهواء بداخل رئتيه التي يبدو أنها توقفت عن العمل تمامًا، وإصبعيَّ السبابة والوسطى على شريانه الثباتي في الرقبة؛ كنت أرجوهما لجس النبض ولكن للأسف لم يكن هناك أي نبضٍ أو نفسٍ كان جثة هامدة! طلبت من أحد الشابين الاتصال بالإسعاف وطلبت من الآخر إبعاد تجمع الناس من حولي، ومحاولة جلب بطاطين من أي مكانٍ لتدفئة الضحية، وبدأت أضغط بكلتا يدي على قفصه الصدري في محاولةٍ مني لإنعاش قلبه المتوقف، وأنا أعد بصوتٍ عالٍ أعداد الضغطات لأكمل 30 ضغطةً، قاطعهم رجلٌ واضحٌ أنه وصل لي مهرولًا ليميل على فم الضحية ويعطيه ضخة هواءٍ بداخل فمه؛ لتنشيط الرئة ويكررها مرة أخرى ليعرف نفسه بعدها قائلًا:
– أنا فهد الرواي، طبيبٌ من المستشفى المركزي أستطيع المساعدة لحين وصول عربة الإسعاف.
لم أقل شيئًا غير أنني أومأت برأسي واستمرت عملية الانعاش القلبي الرئوي مدة بالتبادل بيني وبين الطبيب، ليعود الشاب الثاني وهو يحمل البطاطين ليضعها على جسد الضحية للتدفئة؛ فتوليد الحرارة وتدفئة الجسد سيساعد على عمل القلب من جديد أحمد الله على وصول هذا الطبيب في الوقت المناسب، لنتبادل سويًا دورات الإنعاش القلبي الرئوي حتى نجحنا سويًا في إعادة قلب الشاب لينبض من جديدٍ؛ تنفست الصعداء ونظرت لدكتور فهد نظرة الانتصار ليرد علَيَّ بابتسامة.
– لقد عاد للحياة، لكن حالته غير مستقرة وعلاماته الحيوية حرجة نحن فعلنا ما بوسعنا.
وما إن أنهى جملته سمعنا صافرةً تعلن عن قدوم عربة الإسعاف، ليتم وضع الضحية على مصدر الأكسجين ويتم توصيله بجهاز مراقبة العلامات الحيوية، وتم اصطحابه لأقرب مستشفى، تحركت عربة الإسعاف وأنا نهضت أنفض رمال الشاطئ من ملابسي وأنفض بقايا الماء.
– لقد قمتِ بعملٍ رائع، شرفت بمعرفتك وبما فعلته لأجل الشاب.
هكذا قال الطبيب، وكان شابًا في بداية الأربعينات من عمره، طويل القامة، خمري اللون، شعره أسود اللون مخلوط ببعض الخصل الرمادية بين الأبيض والأسود، يمد يده ليصافحني ولكن عيني كانت تتحرك يمينًا ويسارًا تقوم بمسح الشاطئ؛ لأسأل بصوتٍ مرتفعٍ:
– أين حقائبي؟ أين حذائي؟
لم أكترث ليده الممدودة ولا لهويته ولا لجمل الإطراء التي كان يلقيها على مسامعي؛ هرولت يمينًا ويسارًا أبحث عن الحقائب وأنا حافية القدمين حتى حذائي لم يتركوه لي!
أوقفت المارة لأسألهم عن حقيبةٍ بعجل بنية اللون كبيرة وحقيبة ظهرٍ سوداء، ليخبروني أنهم لم يروها، أوقفني الطبيب بعدما لاحظت أنه قادمٌ خلفي ليقول لي:
– أنا أعرف أين حقائبك اتبعيني.
كالغريق الذي تعلق بحبلٍ نجَّاه كنت أنا؛ فأنا بدون حقائبي لا أعني شيئًا فهي تحوي كل ما أمتلك، كل شيءٍ ذي قيمة لي في هذه الحياة يكمن بداخل تلك الحقائب؛ تتبعته على أملٍ أن يكون حقًا يعلم مكانهم وسألته كيف عرفت مكان الحقائب؟ فقال لي:
– أثناء قيامنا بإنعاش الشاب رأيت أحد الصيادين يحمل الحقائب ويذهب باتجاه الميناء.
– وهل سنذهب للميناء الآن؟
– نعم.
توقفت مكاني وأنا أنظر إليه وأقول:
– ألا ينبغي أن نبلغ الشرطة؟
– الأمر بسيطٌ، سنذهب ونحضر الحقائب ونعود.
– ولكن الموضوع به شبهة سرقة؛ فالأمر ليس بسيطًا بل مخيفًا.
– لا تكبري الأمور، فقط تتبعيني وسترين ماذا سأفعل.
لم يكن لديَّ خيارٌ آخر سوى تتبعه بالرغم من رغبتي الشديدة في إبلاغ الشرطة، وعدم الاندفاع خلفه هكذا.
وصلنا الميناء، ليهجم الطبيب على رجلٍ كبيرٍ في السن ويتشاجر معه ممسكًا بياقته ويقول له:
– أين الحقائب أيها اللص؟
يدفع الرجل الطبيب ليسقطه أرضًا ويقول له:
– ابتعد.. ماذا تقول أنت؟
ليندفع الطبيب ويمسكه مرةً أخرى ويقول له:
– الحقائب التي كانت على الشاطئ؛ لقد رأيتك تسرقها.
في هذه اللحظة يتجمع الصيادون من كل مكانٍ في الميناء حول الطبيب؛ بعدما جاءوا على صوت الشجار بينه وبين الصياد الكبير، التفوا جميعهم حول الطبيب الذي يبدو أنه وضع نفسه في مأزقٍ، ليقيده أحد الصيادين من يده وآخر من يده الأخرى.
يقول أحد الصيادين:
– أنت لا تعلم مع مَن تتحدث هكذا! إنه العم أحمد شيخ الصيادين.
ليشير العم أحمد لهم ليتركوا الطبيب ويقول له:
– بدلًا من أن تتهجم على الناس تعال وتحدث مثل البشر واسأل. الحقائب في الداخل أخذتها من الشاطئ بعدما سألت الجميع عن صاحبها، وخفت أن أتركها ليسرقها أحد؛ فالجميع على الشاطئ يعلم أنني مَن أخذها، تركت لهم خبرًا حتى يأتي صاحبها ويستلمها مني.
شعرت بالخجل الشديد لما حدث؛ وتقدمت لأخبره أنني صاحبة الحقائب، اعتذرت له لتهور الطبيب ولما حدث وذهبت معه لاستلام حقائبي، وطلبت منه يأمر الصيادين ونحن في الداخل أن يتركوا الطبيب؛ فهو أراد المساعدة فقط حتى لو فعلها بطريقةٍ يشوبها التهور والاندفاع ليسألني عن نفسي قائلًا:
– يبدو أنكِ غريبة عن هنا، مَن أنتِ؟ ولما جئتِ لبلدتنا؟
– نعم، أنا غريبة عن مدينتكم، جئت لهنا للعمل بالمشفى الجديد، اسمي كاميليا، جئت لأشغل منصب مشرفة للرعاية المركزة.
– كاميليا وأنت كزهرة الكاميليا، حقًا لقد أصاب من أسماكِ بهذا الاسم.
– أشكرك جدًا لهذا الإطراء؛ فلاسمي قصة يمكنني إخبارك بها في ظروفٍ مناسبة أكثر من الآن.
– لا عليكِ يا ابنتي، حتمًا سأراكِ مجددًا، هل لديكِ أقارب هنا؟ مع مَن ستسكنين؟
– ليس لديَّ أحد، أستأجرت سكنًا مع بعض المغتربات، وهو قريبٌ من المشفى التي سأعمل بها.
– وهل تعرفين الأخ المتعجرف في الخارج؟
– منذ عشر دقائق فقط التقيت معه على الشاطئ، وأنقذنا شخصًا كاد أن يموت غرقًا، هو طبيب محترم ومجتهد لولاه ما كنت استطعت وحدي إنقاذ الشاب، فأرجوك سامحه واتركه يرحل في سلامٍ؛ فهو غرضه كان خيرًا.
– يبدو أنه متسرعٌ لا يستطيع التصرف بحكمة.. أو أنه فقد بُصلته عندما رآكِ.
– لا أفهم ما تقوله!
– يفقد الرجل بُصلته لأجل فتاةٍ أعجبته؛ ليثبت لها أنه يستطيع حمايتها ومساعدتها لتنجذب له.
– لا أعتقد هذا الاحتمال؛ فأنا رأيته منذ قليل وبالكاد أتذكر اسمه.
– خذيها من هذا الشعر الأبيض؛ هذا الرجل معجبٌ بكِ بكل تأكيدٍ، ويبدو أنك فتاةٌ أصيلة ومحترمة. سعدت لمعرفتك واعتبري منذ هذه اللحظة أن لك أهلًا بهذه المدينة، في أي وقتٍ العم أحمد موجود.
– أشكرك شكرًا جزيلًا للمساعدة ولتفهمك لما حدث منذ قليل، وأعتذر عن أي إزعاجٍ قد سببناه لحضرتك.
– لا عليكِ يا ابنتي، أنا متفهمٌ تمامًا، بالمناسبة يمكنك استخدام هذا الباب الآخر للخروج؛ فمن الأفضل ألا تتواجهي مع هذا الطبيب الآن بعد ما حدث.
– أشكرك، حسنًا، سأخرج من الخلف هذا أفضل عمت مساءً عم أحمد.
استدارت كاميليا بعدما ودعت العم أحمد بابتسامةٍ لتحمل الحقائب وتهم بالانصراف، فيقاطع انصرافها قائلًا:
– ابنتي.
– تفضل.
– يمكنك المجيء هنا في أي وقتٍ؛ أنا وزوجتي أمينة لم يرزقنا الله أولادًا فما رأيك لو تناولتِ العشاء معنا غدًا؟ هل لديك مانع؟
– لقد تفاجئت قليلًا لهذا، ولكن لا بأس يمكن أن نتناول الطعام سويًا.
أخذت كاميليا الحقائب، وارتدت حذاءها، وخرجت من الباب الخلفي كما طلب منها شيخ الصيادين، توجهت للسكن ودخلت إحدى الغرف وألقت حقائبها بجانب سريرٍ من أحد السريرين، وأخرجت الدفتر الكبير لتواصل الكتابة مجددًا ظلت تكتب حتى نامت بملابسها.
iii
بعد عامٍ من وصول السفينة..
– لقد مر عامٌ على تركنا أثينا، هل تعلمين يا ماريا، أنني أشتاق لحياة الراهبات والصلوات في الدير، أشتاق لحياتي هناك تلك الحياة التي كنت أحلق فيها كالفراشات مليئةً بالسلام، والأمان، والمحبة، والخير، لقد عاهدت الرب أن أهب نفسي له. أتعلمين لماذا؟ لأنه نجاني من الخطف والجوع والتشرد، نجاني من حياة الضلال والضياع. أتعلمين أن أهلي تخلوا عني؟! ووجدني الأب نيكولاي في كرمه ورعايته واحتضنني بداخل الدير، الرب رعاني وأنا مشيت في طريقه حتى ظهر فيليب في حياتي.
الطبيب فيليب، عرفته في تلك الأعوام العجاف عندما انتشر الوباء ببلدتنا وقضى على الكبير والصغير، كان المرض والخراب والجوع ينتشر بيننا، الحياة كانت ثقيلة جدًا في تلك المرحلة تعرفت عليه وقتها؛ فتحنا الدير للمرضى وتدربنا نحن الراهبات للعمل كممرضاتٍ؛ لأن حجم المرضى كان أكبر بكثيرٍ من القدرة الاستيعابية، كنا نقدم ما لدينا وكل ما بوسعنا لنساعد في تحسين الأوضاع. أتعلمين يا ماريا؟ هذا الوقت بالذات برغم صعوباته كان يهون؛ لأنني أراه باستمرارٍ، لم تتخيلي كم منعت نفسي عنه ولكن لم أستطع، كان مميزًا للغاية، وسيمًا جدًا، ذكيًا ومبهرًا منمقًا لو سمعته يتحدث تغرقين بحديثه، ولو نظر لك بعيونه يبتلعك بداخلهم. كنت أتابع معه المرضى ليل نهار، كان متقنًا جدًا في عمله ومبتكرًا، تعلمت منه الكثير لم يكن يبخل ولا يمل من تعليمي، كان يعمل بدون كللٍ، كنت كلما نظرت له شعرت بشيءٍ يسحبني تجاهه، كنت أنكر كل شعورٍ تجاهه، أنكر ارتباكي عند رؤيته حتى صارحني هو بحبه تلك اللحظة التي ارتعبت منها.
أنا الراهبة كاتارينا، ابنة الدير، كيف يمكنني الوقوع في الحب؟ كيف أتخلى عن عهدي؟ عكفت ليالٍ طوال لا أتحدث لأحد ولا أرى أحد حتى هو؛ لأنني بُحت له بحبي، أتعلمين يا ماريا أن البوح من مهلكات النفس؟ فكلما أضمرتِ الأشياء بداخلك نجوتِ.
– ولكن يا كاتارينا، أليس من الصدق تفهم ما بداخلك وتحريره؟ حتى لا تثقل أحشاءك فتتضرري.
– أعتقد أن وقتها ستخرج الأمور عن السيطرة تمامًا.
– هل أنتِ نادمة على قرار ذهابك مع فيليب؟
– شعوري بالذنب يحرق أحشائي ماريا، في الوقت الذي قررت الذهاب مع فيليب كان محكومًا عليه بالإعدام؛ ظنًا منهم أنه خطر على البشر بسبب حبه للمعرفة والابتكار والإكتشاف؛ كان يبحث عن علاجٍ للوباء ويعالج المرضى بطرقٍ جديدة، أحيانًا كانت لا تصيب ولكن كل شيءٍ جديدٍ يكون هكذا في البداية، هم لم يعطوه فرصةً يا ماريا، أنقذ بمهارته الآلاف ولكنه لم يستطع لعشراتٍ؛ فاتهموه بقتل أناسٍ كانوا سيموتون من الوباء لا محالة، كان هناك طبيب حاقد عليه وعلى تميزه وكان يتربص به ويغار من تميزه، هل تعلمين أنه كان يخلط دواء فيليب بمكوناتٍ سامة؛ ليقتل مرضى فيليب الذي كان يجري عليهم علاجه!! ويتهم فيليب بالفشل وقتل المرضى؛ ليثبت للجميع أن العلاج الذي اكتشفه فيليب غير صالح لعلاج الوباء، ما كنت أستطيع التفريط به وأنا أعلم كل شيء، لم أستطع تركه يذهب بمفرده، تخلت عنه أمه كما تخلت عائلتي عني، أنا وهو وجهان لعملة واحدة لقصة متشابهة، ربما كنت محظوظة بوجودي بالدير بجانب الأب نيكولاي، ولكن فيليب كان وحيدًا تمامًا ربما لو كان بجواري طوال العمر ما كنت بُحت ولا كنت ذهبت إليه، كان يكفيني النظر إليه من بعيد فقط؛ مراقبته، والعمل معه، وإحضار الطعام من أجله كان كافيًا بالنسبة لي، ربما النظر والمراقبة هي أيضًا خطأ ولكنها كانت ستكون أقل خطـأً مما أنا عليه الآن، سأعيش أصلي كي يغفر الله لي هذه الخطيئة، أحيانًا أبرد نار شعوري بأن ما فعلته تجاه فيليب كان خيرًا ومساعدةً لمحتاج، بل مساعدةً للبشرية بأكملها كوْن فيليب طبيبًا ماهرًا هكذا سينقذ الكثير من الأشخاص، وهذا ما يدعو له الرب أتمنى أن يكون تفكيري صوابًا، ولكن أحيانًا أشعر أنه ما كان ينبغي فعل هذا ربما كان هناك حل آخر للأمور، لا أعلم يا ماريا، حتى بعد قدومنا هنا على ساحل البحر الأحمر بعد أيامٍ من العناء والشقاء والتنقل من بلدٍ لآخر من سواحل البحر الأبيض لقدومنا هنا في بلدٍ غريب مجهولٍ تمامًا، وبعد قرارنا أن نبني مشفى لعلاج المحتاجين من الفقراء، وبعد قرار فيليب ألا يتقاضى الكثير من المرضى وكان كل هدفه أن يعالج الجميع، وأن يجد دواءً لكل داءٍ، هل هناك هدف أنبل من هذا ليعيش الإنسان في سبيله؟
ها هنا نعمل، وها هنا نعيش، وها هنا عرفتك وتعلمت منك لغة البلاد لولاك كان كل شيءٍ أصبح صعبًا، الممرضة الرائعة ماريا صديقتي، وقرة عيني، ورزقي على هذه الأرض، كان هناك الكثير من الأمور ستصبح مستحيلة لولا وجودك، هلّا عانقتني؟
عانقتها ماريا بشدة؛ لتسألها سؤالًا وسط هذا العناق:
– كاتارينا، لماذا لا تعيشين مع فيليب حياة الأزواج؟
لتدفعها كاتارينا بضيقٍ وتقول لها:
– كيف تسأليني سؤالًا كهذا؟! لا يمكن إطلاقًا لقد ولدت عذراء وسأموت هكذا، هذا اتفاقٌ بيني وبين فيليب وهو وافق على هذا، وأخبرني أن وجودي بجانبه كافٍ عن كل شيءٍ، فبرجاء لا تتحدثي معي في هذا الأمر مرة أخرى.
iii
كنت أرتدي بدلة المشفى زرقاء اللون، وأعلق الكارت التعريفي الذي استلمته من مكتب الأمن اليوم؛ دخلت من البوابة حتى وصلت للمكان المنشود وقفت وأمام هذا الباب الضخم المكتوب أعلاه قسم الرعاية المركزة؛ وقفت وتنفست الصعداء وضعت يدي على زرار الإنتركوم الموضوع على الباب لأكبس إياه؛ فيرد شخصٌ من الداخل ويقول من بالباب فأجيب:
– كاميليا مشرفة الرعاية المركزة الجديدة.
ينفتح الباب أمام ناظري بجهاز التحكم عن بعد، لأجد أمامي ممرًا طويلًا متفرعًا منه عدة غرفٍ، أدخل من الباب وأسلك الممر حتى أقطع منتصفه تقريبًا، فأجد مكتبًا قد وضع بجوار الحائط وشخصًا جالسًا على المكتب يبدو أنه طبيب، كان يرتدي بدلة تشبه التي أرتديها ولكنها باللون الأسود، ظهره لي ووجهه لشاشة كبيرة متصلة بأجهزة المرضى بالرعاية المركزة، يستطيع رؤية حالة المرضى من خلالها من رسم القلب، والعلامات الحيوية الظاهرة على تلك الشاشة، يمسك بعض الأوراق يتفحصها وهو يحتسي كوبًا من القهوة، فألقي السلام قائلةً:
– صباح الخير.
ليرد عليَّ من خلف الشاشة دون أن يلتفت لي قائلًا ببرودٍ:
– صباح الخير، أهلًا كاميليا، هل ترين الغرفة التي خلفك يمكنك الدخول وانتظاري بها لأنهي ما في يدي وسآتي إليك.
دخلت الغرفة لأجد مكتبًا خشبيًا بالداخل وأريكةً عليها وسادة وفراش نومٍ مطبقة عليها، حوائط المكتب رمادية اللون بعكس الرعاية من الداخل المدهون باللون البيج، دخلت وجلست على كرسي بجانب المكتب أتأمل في الأزهار الصناعية الموجودة في أصيص زرعٍ، باب المكتب يطرق ليدخل ذلك الشخص مرتديًا كمامةً تخفي نصف وجهه، يأتي ويجلس على المكتب أمامي وينظر لي بصدمةٍ بينما ينزع الكمامة، ليفصح عن ملامح وجهه وأدرك أنه هو، وأقصد بهو أنه طبيب الشاطئ!!
كم هي الحياة صغيرة كممرٍ في آخره غرفة يتجمع بها كل الأشخاص الذين تبحث عنهم، هي كحوض أسماكٍ صغير فرصة أن تلتقي بأي سمكة في أي وقتٍ كبيرة جدًا، ولكنني لم أدرك أنه كبير لهذا الحد، تلك الفتاة التي قابلتها على الشاطئ يوم حادثة الغرق، وقضيت معها يومًا مليئًا بالأحداث المثيرة، وذهبت دون أن أعلم مَن هي؟ وما اسمها؟ وأين تعيش؟ أفاجأ بها أمامي، إذًا هي كاميليا، علمت لماذا ذلك اليوم لم أتنفس عطرًا كعطرها! كانت فواحة كزهرة ربيعٍ ترسل عبيرها في الهواء؛ فيسكر ذلك الولهان إذًا هي كاميليا مشرفة الرعاية الجديدة.
– أنت تعمل هنا؟!
– كنت أتوقع أنكِ صديقة المهنة عندما رأيت مهارتك بالإنعاش القلبي الرئوي، ولكن لم أكن أتخيل أنني سأراكِ أمامي هنا في مكاني.
– أريد أن أخبرك ب...
قاطعها ليقول:
– لا تخبريني بشيءٍ، أنا لا أريد أن نتحدث في أي تفاصيل خاصة بهذا اليوم، دعينا نتعرف من جديدٍ، أنا الطبيب فهد الراوي مدير الرعاية المركزة، ومديرك أيضًا من الآن. يمكنك الدخول لاستلام مهام عملك بعد قليل ستأتي رفيدة لتسليمك مهام الرعاية بالتفصيل، أنا أسست هذا المكان على الانضباط، أكره الأخطاء وأكره أيضًا الروائح العطرية النفاذة، يمكنك الاستغناء عن عطرك الفواح هذا أو خففي من تركيزه لا أريد استنشاقه متى ظهرتِ.
أنهى كلامه المتعجرف وخرج دون أن يسمح لي بالرد، ما هذه الطريقة المتصابية، أنظر كم مرة ردد بها "أنا" في كلامه؛ يبدو أن مهمتنا هنا ستصبح صعبةً قليلًا.
انفتح باب المكتب وإذا بسيدة قصيرة رفيعة، ترتدي بدلةً كحلية، خمرية اللون، وتربط شعرها البني القصير للأعلى؛ لينسدل كذيل حصانٍ قصيرٍ خلف رقبتها، تقترب مني وعلى شفتيها ابتسامةٌ عريضة؛ إنها رفيدة مديرة التمريض بالمشفى، لم تكن تلك المرة الأولى التي آراها فيها، رأيتها من قبل في المقابلة الشخصية.
روفيدة، سيدة في منتصف الأربعينات، مطلقة ولديها ولدان في عمر المدرسة، عندما تراها ستعطيها سنًا أصغر من سنها بكثيرٍ؛ فهي تبدو كفتاةٍ عشرينية مليئة بالحيوية والنشاط، تتحدث كثيرًا بطريقةٍ حماسيةٍ، ودائمًا ما تحكي عن إنجازاتها وخصوصًا إنجازات ما بعد الطلاق، تقاطع أفكاري وتقول:
– عزيزتي كاميليا، مرحبًا بكِ لقد وصلتِ في موعدك تمامًا.
– مرحبًا مس رفيدة، ممتنة لترحيبك.
– هل أنتِ مستعدة لبدء أول يومٍ عمل لكِ معنا؟ هل أنتِ جاهزة لاستلام مهام عملك؟
– بكل تأكيد.
– دعيني أولًا آخذك في جولةٍ داخل المبنى؛ لتعلمي كل الأماكن داخل المشفى، وبعدها ستكون الجولة الصغيرة داخل بيتك وهي الرعاية المركزة، وبقولي بيتك هذا لأنكِ ستكونين ربة هذا المكان، ستقضين به أكبر وقتٍ من يومك، ستصبحين مسئولة عن عددٍ من الجنود تحت يديكِ، الرعاية المركزة كرقعة الشطرنج وأنتِ الملك الأبيض على تلك الرقعة، والموت هو الملك الأسود الواقف في الطرف المقابل، هؤلاء هم وزراؤك وجنودك لو علمتِ قدراتهم ستحددين بكل مهارةٍ موقع كل جندي منهم، وقتها ستكونين قادرةً على توزيع المهام على كل فردٍ بطريقةٍ صحيحة تجعلكِ تهزمين الملك الأسود بدون أي خسائر.
في الواقع لم أتوقع أن يخرج من رفيدة حكمًا كهذه؛ كنت أعتقد أن شخصيتها سطحية أكثر من هذا، لقد أعجبني تشبيهها للغاية.
خرجت أنا ورفيدة من الرعاية التي كانت بالطابق الأرضي لتريني باقي الأقسام في نفس الدور؛ فدخلنا أول قسمٍ وهو قسم الغسيل الكلوي، هذا القسم الملاصق لوحدة الرعاية المركزة تمامًا، كانت رفيدة تمتلك شعبيةً كبيرة في المكان، من كثرة السلام والحوارات المشتركة بينها وبين الناس أعتقد أنها انشغلت عن تعريفي عليهم بتلك الأحاديث الكثيرة التي لا تنتهي، ألقيت نظري داخل المكان المليء بأجهزة الغسيل؛ فالمكان مقسم لسرائر وبجوار كل سريرٍ جهازٌ للغسيل الكلوي الدموي والأسرة بأكملها مليئة بالمرضى بعضهم نائم، والآخر يلعب بهاتفه، والآخر يشاهد التلفاز عن طريق الشاشات الكبيرة على الحائط، بينما هم متصلون بتلك الخراطيم السميكة التي تنقل دماءهم بأكملها داخل هذا الجهاز في دوراتٍ متعددةٍ، لتمر على هذا الفلتر الذي ينقي الدماء من السموم؛ لتخرج الدماء من الفلتر وتعود جسد المريض مرة أخرى.
الجميع بداخل الوحدة هنا يعملون في ديناميكية؛ فهنا لا مكان للخطأ أو الغفلة أو النسيان.
– مس رفيدة، بهذا المعدل سنقضي اليوم في الجولة أيمكننا الذهاب للمحطة التالية؟
تلك الكلمات التي قلتها لها وهي ممسكةٌ بأذن إحدى الموظفات تتحدثان حول أمرٍ ما لتنتبه لي وتقول لها:
– في الاستراحة يمكنكِ الصعود لمكتبي لإنهاء هذا الأمر.
تتركها وتنصرف وأنا خلفها نخرج من وحدة غسيل الكلى، لأشم رائحة خبزٍ منتشرة في هذا المكان لأسأل قائلةً:
– هل المطبخ قريبٌ من هنا؟
– لا، لماذا؟
– أشم رائحة خبزٍ شديدة.
– خبز؟!
قالتها رفيدة متعجبةً لتمزح وتقول:
– يبدو أنكِ لم تتناولي طعام الإفطار بعد، على العموم المطبخ والكافيتريا بمبنى صغير منفصل في الحديقة.
رائحة الخبز كانت قوية لدرجة جعلتني أبحث يمينًا ويسارًا على مصدر تلك الرائحة الزكية.
توجهنا لقسم الطوارئ عند مدخل المستشفى الجانبي لتقف وتقول:
– هنا قسم الطوارئ، والمقابل له قسم الأشعة التشخيصية.
لنمر بداخل الطوارئ المفتوحة على البوابة الجانبية مباشرةً، وتكتفي رفيدة بإلقاء السلام والخروج منه بسرعةٍ للحديقة، خرجنا من الباب الجانبي وهو مدخلٌ خاص بالطوارئ وعربات الإسعاف، ومدخل المكان معد خصيصًا لهذا الغرض، سرنا قليلًا في حديقة المشفى وكانت الحديقة جميلة جدًا مليئةً بالأزهار الرائعة، ومن هذا الموقع تمكنت من رؤية مبنى المشفى الرئيسي بوضوحٍ من الخارج، ويوجد له مبنى ملحق خاص بقسم النفسية والعصبية، وبين المبنى الرئيس والمبنى الملحق كانت تقع الكافيتريا في المنتصف، كان المبنى الرئيس يحمل طرازًا جميلًا من المعمار مشابه بدرجةٍ كبيرةٍ للمعمار اليوناني؛ فتشعر أن من بناه فنانٌ عريق، كان الدهان الخارجي باللونين الأبيض والأزرق به عواميد كبيرة من الرخام، وفي منتصف الحديقة يوجد تمثال لرجلٍ جالس ذي جسدٍ ضخم وشعرٍ مجعد، تفاصيل التمثال في غاية الدقة لتشك للحظة أن تلك الملامح غير حقيقية، أشرد في الحديقة وأشعر أن تلك اللحظة مألوفة بالنسبة لي وكأنني مررت من هذا المكان من قبل، شعرت أنها ليست المرة الأولى الذي يتكرر معي نفس المشهد، ولكنه في الواقع المرة الأولى تلك الظاهرة تسمى بالديجافو( ).
قاطعت رفيدة لحظة شرودي وهي تتوجه للبوابة الرئيسة للمشفى وهي تقول:
– هيا سندخل من البوابة الرئيسة.
تلك البوابة المرتفعة جدًا التي تسبقها درجات واسعة من السلالم المصممة من الرخام الأبيض، وعلى جوانبها يقطعها يمينًا ويسارًا عمودان من الرخام، لتنتهي تلك السلالم بباب زجاجي يفتح تلقائيًا عند الاقتراب منه، دخلنا من البوابة فتشير رفيدة بيدها وتقول:
– هذا قسم الاستقبال، من هنا يبدأ المريض بتسجيل الدخول أو حجز مواعيد العيادات.
لنخرج من ساحة الاستقبال الواسعة لبابٍ يقود لساحة أكبر بها العديد من المصاعد، وبها الممر الذي يقود لوحدة الغسيل الكلوي والرعاية المركزة والبوابة الجانبية، نقوم باستدعاء أحد المصاعد ونستقله لنصعد للطابق الأول؛ لتبدأ رفيدة في تكملة دورها كمرشدٍ سياحي، هذا الدور الذي تجد نفسها به وبشدة؛ فهي بدأت تشرح مكونات الطابق الأول المكون من عيادات خارجية، وصيدلية، وبنك الدم، والمعمل كانت أثناء الجولة تسير هي في الأمام بينما يحيها كل مَن يقابلها ويقف الجالس لها ويصمت المتكلم احترامًا لوجودها، تلقي التحيات وتوزع المزحات وتلقي الضحكات الصاخبة، ننتهي من الطابق الأول ونصعد للطابق الثاني هذا الطابق المكون من غرف العمليات، ووحدة قسطرة القلب، وبعض غرف إقامة المرضى، لنمر سريعًا على الطابق الثالث المكون من مجموعةٍ كبيرةٍ من غرف الإقامة للمرضى، وأخيرًا وصلنا الطابق الرابع والأخير المكون من مكاتب إدارية فقط، لقد أرهقت من اللف خلف رفيدة التي ما إن انتهينا من الطابق الرابع لتقول لي:
– هل أنتِ جاهزة للمرور على الرعاية؟
– بكل تأكيد.
iii
هل يمكنني اصطحابك معي في يومي الأول للعمل، سأعرفك على مكانٍ ربما لم تدخله في حياتك من قبل، ولو دخلته يومًا بالتأكيد ستجهل عنه الكثير والكثير وعن سكانيه وقاطنيه، لو أخبرتك ما هو ربما لا تود أن تعرفه، وستتمنى ألا تراه صدفةً ولا واقعًا ولا حُلمًا، هو أشبه بالسجن وربما أقسى منه وأكثر وحشةً وخوفًا، طقسه قاسٍ ومُناخه مظلم كئيب برغم وجود العديد من المصابيح الشديدة التي تنير كل الأركان، إلا أن الظلام يطغى على المكان والمصابيح وحتى القلوب، معزول تمامًا عن العالم الخارجي، مملكة ملعونة مستقلة بذاتها لا يدخلها ضعيف القلب بعيدة تمامًا عن ضوء الشمس ولا يعرف الدفء لها طريقًا، جوها بارد دائمًا فيجب ألا تزيد حرارتها ويجب أن يعمل المكيف بها صيفًا كان أم شتاءً إنها الرعاية المركزة.
الرعاية المركزة سرائر ما هي إلا ساحة كبيرة مقسمة لغرفٍ زجاجية بجوار بعضها البعض، يفصل بين هذه السرائر ألواح زجاجية مغطاة من الأمام والأجناب بستائر لا تصل للسقف ولا يلمس طولها الأرض؛ فهي معلقة في المنتصف لا ينبغي أن يغلق من السقف؛ حتى تظهر الأجهزة المتصلة بها المريض لمن بالخارج عندما تغلق الستائر، ولا ينبغي أن تصل للأرض كي لا تتلوث، تنغلق وتنفتح عليك وأنت مستلقٍ في سريرك خلفها ككومبارس أنت في مسرحية حزينة كاتبها، ومخرجها، وممثلها الوحيد هو الألم والمرض، تنفح تلك الستارة عليك لتظهر جسدك وأوجاعك وحالتك الضعيفة تلك لتقدمك الحياة لنا بهذا الشكل القاسي عليك وعلينا نحن أيضًا، نحاول ترميم تلك الهيئة ونواصل تخفيف هذه الأوجاع، نعمل بكل ما أوتينا من قوةٍ أن تعود كسابقك وتخرج من هنا أفضل مما دخلت، لتأخذ بعدها جرعةً كبيرةً من حبوب النسيان؛ كي لا تتذكرنا أو تتذكر أيامك المؤلمة بها.
الساحة كبيرة بها محطة تمريضية في المنتصف وحولها الغرف الزجاجية المغطاة بالستائر، تلك المحطة تكون عبارة عن مكتب من الرخام يأخذ شكل نصف دائري، نصف قطره الآخر مفتوح وبه كراسي موضوعة أمام النصف المكتبي؛ مما يسمح للجالس الكتابة والتدوين، كان المكتب ظهره لمدخل الرعاية وهو الممر الطويل بالخارج ووجه تجاه السرائر؛ فهو مكانٌ مناسب تمامًا لمراقبة كل الحالات الموجودة بالرعاية؛ من الأفضل أن يكون المكتب من الرخام لأن الأخشاب تلتقط البكتريا، فهذا شيءٌ يجب أن نعد له كل العدد؛ فالبكتريا والفيروسات المتنوعة المنتشرة بكل مكان حولنا، لا يجب أن تصنع الأسطح من مادة تسمح لتلك الكائنات المجهرية بالنمو والتوغل فيها؛ لذلك يجب أن يكون كل شيءٍ أملس قابلًا للتنظيف والتطهير، الستائر مصنوعة من خامة بلاستيكية غير ماصةٍ للماء والدماء وسوائل الجسم، السرائر والمراتب هكذا حتى الحوائط والدهانات مصنوعة من مادة مخصصة لهذا الغرض، وهكذا الأرضيات وكل شيءٍ هنا محسوب بحساباتٍ لا يستطيع علمك المحدود ولا بصيرتك معرفتها، لا تنزعج يا صديقي، لكم الأصوات التي تقتحم صوان أذنك فور دخولك؛ فهناك صوت رقيق على شكل دقاتٍ يعبر عن نبض قلبك، ويخبرني بأنه ما زال ينبض وبخير ولكنه لو تحول لصوت صافرةٍ متصلة، فمعنى هذا بأن قلبك قد توقف عن العمل هذا الصوت هو صوت جهاز المراقبة (المونيتور)، تخيل أن يكون هناك جهاز يراقبك عن قرب كهذا الجهاز يراقبك؛ ليخبرنا عدد ضربات قلبك ليخبرنا بقياس ضغطك، يعد عليك أنفاسك نفسًا نفسًا ليخبرنا بها، يسجل نسبة تشبع أنسجتك بالأكسجين، يرسم كهرباء قلبك ليظهر ما بها من خللٍ، يقيس درجة حرارة جسدك ويصدر صوتًا عند وجود خللٍ ما بعلاماتك الحيوية؛ هذا الصوت سيكون الأقرب لك دائمًا في كل لحظاتك، أما هذا الصوت الرنان المتقطع الصادر من هذا الجهاز المستطيل يخبرني بأن جرعة الدواء في السرنجة الكهربائية أوشكت على الانتهاء؛ لأسرع بتحضير أخرى كي لا تنفد الأولى دون بديلٍ؛ فتعرض حياتك للخطر في تلك الثانية التي سأحضر بها الدواء. أما الصوت الرنان لو تحول من متقطعٍ لمتصلٍ يخبرني بأن الجرعة قد نفدت بالفعل؛ لأبدلها على الفور هذا إيقاع السرنجة الكهربائية، يوضع بها سرنجة كبيرة الحجم تعمل على ضخ جرعاتٍ صغيرة من الدواء داخل وريدك في فترةٍ زمنية محددة، فمثلًا يمكننا ضبطها لضخ كميةٍ من الدواء بحجم 10 مل على مدار ساعة زمنية، فأنت لو أخذت الدواء مرة واحدة ستموت أو سيقع ضررًا بالغًا على أعضائك المهمة. أما هذا الصوت الغليظ القاسي كبير الأصوات هو صوت جهاز التنفس الصناعي، يبدو كصوت شخصٍ بحنجرةٍ غليظة تنادي بحدة تخلع قلبي، وتوبخني وتخبرني بنبرةٍ شديدة اللهجة بوجود انسدادٍ أو ثنية في وصلاته تحجب الهواء من الوصول لرئتيك، ولو أصدر صوت صفيرٍ يخرم أذنيك فيعني أن الهواء يتسرب خارج الوصلات ولا يصل لرئتيك؛ أما إن استخدم باقي الأصوات الإيقاعية فهو يحمل لك رسالةً يجب عليك قرائتها والتعامل معها؛ لأعرفك علي جهاز التنفس الصناعي بأصواته العديدة، جهاز في منتهى الذكاء والحكمة يحل محل رئتيك عندما تعجز عن القيام بوظيفتها أو كمساعد لها عندما تقل كفاءتها، لترى يا عزيزي، أنك هنا مجرد أرقام فحسب، أنك مراقب تمامًا ومحاصر بالعديد من الوصلات في أنحاء جسدك، فلكي يعمل المونيتور لا بد من تركيب وصلتين أو ثلاثة بذراعك وأخرى على صدرك، وكي يعمل جهاز التنفس الصناعي لا بد من توصيله بأنبوبةٍ تسمى الأنبوبة الحنجرية تعبر من الفم للحنجرة للقصبة الهوائية تجعلك تتنفس.
وأما هذه الشبكة العنكبوتية هي الوصلات الوريدية التي تتصل بالسرنجات الكهربائية؛ لتتضخ الدواء في وريدك ووصلات في نهايتها محاليل تتساقط بالتنقيط ومحسوب كم نقطة ستدخل جسدك في الدقيقة الواحدة، يؤسفني أن أقول أنك مراقبٌ عن قرب لهذا الحد مراقب حتى في كمية البول التي تخرج من جسدك عن طريق قسطرة منتهية بكيسٍ مدّرج؛ ليحسب الكمية التي تخرجها في الساعة.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.