مقدمة
الطالب ياسر علِيَّ، طالب بالفرقة الرابعة كلية الآداب، عُرف بأنه سريع الغضب، شديد الذكاء ولو لم تدل درجاته على ذلك، أمضى سنوات دراسته يقرأ عن المجتمعات وسلوكياتها، حتى اقتنع أننا نعيش في ديستوبيا، في المدينة الفاسدة بنفسها، شاب يفصله عن التخرج بضعة شهورٍ ما الذي دفعه لمحاولة الانتحار تاركًا خلفه مقولة لطيفة لألبير كامو:
"مشكلة الحياة ليس كونها سيئة لا تُطاق، بل إنه كان من الممكن أن تكون أفضل بكثيرٍ، وكان هذا بأيدينا"
تحاول أمه أن تجد الإجابة في تسجيلاتٍ صوتية أرسلها إليها، بينما هو مُلقى كجثةٍ هامدة في المشفى، وعي بلا جسدٍ، تهاجمه بلا رحمة أصوات، كوابيس، مشاهد كاملة من ذكرياته، فهل يستسلم للموت الذي أراده؟
udu
صرخاتٌ من ديستوبيا تُنادي باسمي، تتعالى في أذني حتى تكاد تصمها، الأيادي تمتد محاولة الوصول إليَّ؛ محاولةً أن تسحبني إلى الداخل... إلى بئرٍ عميقٍ لا قاع له!!
هل أصم أذني وأقاوم؟ هل أتعلق بأمل المدينة غير الفاضلة؛ لعله المُنجي؟ أم هو مجرد وهم؟ كابوس آخر؟!
مدينتان؛ مدينة فاضلة، ومدينة فاسدة يتصارعان عليَّ.
مدينتان وشفرة موس يلمع وجهي عليها، وتلمع هي بيدي؛
هل أُنهي كابوسي بيدي؟
الفصل الأول
يقولون إن الإنسان طوال عمره يُمضي في المتوسط ما يُقارب الست سنوات في عالم الأحلام، حتى أولئك الذين يدعون بأنهم لا يحلمون، هم يحلمون داخل نومهم ولكنهم على الأرجح لا يتذكرون.
كم أمضيت أنا هنا؟ كم من وقتٍ مر وأنا أتذكر تلك التواريخ! لا أدري.
حاولت تحريك أصابعي ولكنني لم أستطع، حاولت الصراخ ولكن تشابكت أحبالي الصوتية وأبت الكلمات أن تخرج من فمي، يبدو أن عقلي لم يعد له أية كلمة على جسدي، إذا لم يبقَ لي سوى وعي فقط، وعي بلا جسد، بصعوبةٍ تذكرت محاولة انتحاري، يبدو أنها فشلت كباقي الأشياء.
بصعوبةٍ أحاول أن أرى الموجودات من حولي، بعينين أكثر من نصفهمها مغلق، كُتبَ على الباب رقم 26، إذًا أنا في الطابق الثاني بالمشفى، غرفة رقم 6، مُلقى على سريري كجثةٍ هامدة.
رأيت أُمي؛ كان وجهها شاحبًا كالموتي، لا تنقطع عن البكاء، يدها ترتجف.. ترتجف كورقة شجرٍ وهي تجاهد كي لا يسقط المصحف من يدها، يمتزج القرآن بالدعاء بالدموع في مشهدٍ مهيبٍ انتصب له بعض شعر يدي، الجو بارد كثلاجة الموتي، زجاج الغرفة مُبلل أدركت أنه بسبب أمطارٍ غزيرة بالخارج، شعرت وكأن الطبيعة قد جهزت المسرح بالفعل ليبدأ الاستعراض، وكأنني جزء من مشهد في مسرحية ما.
كنت محاطًا بالمحاليل وشعرت للحظةٍ ببرودة المجسات الملتصقة بجسدي، ثم سريعًا فقدت هذا الشعور، كان قد هُرع طبيبان وممرضة إلى الغرفة منذ دقائق، أدركت ذلك من وقع أقدامهم، كانوا يتهامسون فلم أسمعهم ثم أخبروا أمي بشيءٍ لم أسمعه أيضًا، ولكنني أدركت أنهم يتابعون إشاراتي الحيوية على الجهاز بتركيزٍ واهتمامٍ أقرب إلى الفضول، وكأنهم أمسكوا بكائن فضائي تسلل إلى كوكبنا.
هل ظهر وعيي على الشاشة؟ هل دلت عليه مؤشراتي الحيوية بعبارة أصح؟ اللعنة! لا زال دماغي يعمل، يبحث عن أجوبة، لقد كانت الأسئلة شبحًا يطاردني حتى قررت أن أهرب منها، ولكنها وجدت طريقها مجددًا إليَّ، وكما يقول الغرب:
"دائمًا يجد الأصدقاء الحقيقيون طريق العودة"
فليعيدُني أحد للحياة؛ لتتوقف أمي عن البكاء، وإلا فلتتطلقوا عليَّ رصاصة الرحمة لأرتاح.
لم أقدر على تحريك عيني، ظللت فقط أبصر مجال روئيتي من خلف عينين مغلقتين بشيءٍ من الضبابية، يبدو أنهم لم يجدوا ضالتهم، لقد تابعوا مؤشراتي لبضعة دقائق ثم رحلوا، خمنت من خفوت صوت القطرات ومن الزجاج أن حتى الأمطار توقفت أو قاربت على التوقف، لكن عيني أمي لم تتوقف عن البكاء بعد، لا زال نحيبها مسموعًا، ولا تزال كما هي تقرأ القرآن وترتجف.
يُضايقني صوت عقرب الساعة وهو يتحرك بكسل، صوت مروحة السقف القديمة، حاولت أن أطلق سبة لا إراديًا ولكنني فطنت أني عاجز حتى عن طرف عيني، ثم أدركت أني أفقد وعيي تدريجيًا، أُسحب عنوةً من هنا، لا أدري.. هل هو للموت أخيرًا؟ أم أنه تأثير المحاليل التي وضعوها؟ وكل تلك الإبر التي غرزوها بذراعي؟!
مجال رؤيتي يُظلم تدريجيًا من حولي، وكأني في سينما مترو بوسط البلد، والفيلم على وشك أن يبدأ، تقترب الممرضة وتغلق عيني، وبالفعل ها هو العرض يبدأ، أرى أمامي على الشاشة أنا! أنا أمسك بالسرنجة أسحب جرعتي من الأنسولين ثم جرعتين إضافيتين، كان يفترض بهذا أن يكون كافيًا ولكن معلومات الإنترنت ليست دقيقة كما هو واضح؛ فأنا لم أمت بجرعة زائدة ولكني في غيبوبة، ولكن كيف لا زلت واعيًا ألا يُفترض أن.. أ....
في الصباح، كانت أمه قد رحلت، وإن كان قد ألح جميع الدكاترة يوم أمس أنه لا جدوى من بقائها؛ فهو لن يفيق على أية حال، لم تذهب للعمل ولا لكي ترتاح في المنزل، ولكن لأن سؤالًا واحدًا كان يتردد مع علامة استفهام كبيرة بحيث تحجبُ كل الأشياء والأشخاص من حولها، تمشي في الطريق بخطواتٍ متعثرة فتغلق عينيها حتى لا ترى من يشبه ولدها، أشخاص يتحدثون فتصم أذنها كي لا تسمع صوتًا يشبهه ولا عبارة كان معتادًا على أن يقولها، ولكن كل من في الطريق يشبه ياسر، وكل الأصوات هي صوته، أفلتت دمعة من عينيها ولكنها أكملت حتى وصلت أخيرًا إلى المنزل.
أحست بوحشة غير مسبوقة، حتى خُيل لها أنها تشم رائحة الموت -إن كان له رائحة- فالمنزل صامت كقبور الموتى، خالٍ من أي علامة على الحياة.
من الإرهاق جلست، بل كادت تنام فهي لم تنم ليلة أمس؛ خشية أن يُظهر ياسر أي إشارةٍ على الوعي فلا تراها، وكأنه مولود حديثًا وهي تنتظر حركته الأولى بفارغ الصبر.
ولكن سؤالًا واحدًا أيقظها، سؤالًا يتردد لا تملك إجابته.. لماذا حاول الانتحار؟!
ثم أضاف هذا السؤال بدوره سؤالًا آخر، هل حاول الانتحار أم نجح؟! هل سيفيق من الغيبوبة؟ أم سيستمر لمدة لا يعلمها إلا الله؟ أم أنه سيموت؟!
روعتها تلك الخواطر فهرعت إلى غرفته، كانت كما هي مرتبة بعناية، مكتبته الجميلة تحوي مزهرية صغيرة عصرية في منتصفها بجانبها صورتان؛ صورة له وهو يرفع كأس بطولة الإسكواش على مستوى المحافظة، وصورة أخرى لأسرتهم الصغيرة، وياسر يتوسطها بين أبٍ وأمٍ يبتسمان له وهو يحمل كأسه الذهبي. تتذكر تعجبها هي ووالده عندما أخبرهم أنه يريد أن يُمارس الإسكواش؛ فجميع الفتية في الإعدادية وقتها كانوا يمارسون كرة القدم والسباحة، ولكنهم دعموه وها هو قد أثبت نفسه، تتذكر الفخر عندما حاز أول ميدالية له، تسمع صدى تلك الضحكات، بصعوبةٍ قاومت البكاء أرادت أن تحتفظ فقط بشعور الفخر.
تمر بعينيها على رفوف مكتبته الأربع، مليئة بكتبٍ لا تتماشى مع عمره، هو ابن الاثنين وعشرين ربيعًا، كل رفٍ يمثل الكتب التي قرأها في سنة من سنوات دراسته؛ فهو لم يكن يقرأ قبل أن يدخل الجامعة ولكنه تغير بعدما أصبح غير قادرٍ على ممارسة الإسكواش.
مرت بعينيها على الرف الأخير، الكتب التي قرأها لمشروع تخرجه التي لم تعرف عن ماذا يكون، كتب على غرار: ((الحرب الأمريكية لعمر العقاد، يوتوبيا ل د. أحمد خالد توفيق، 1984 لجورج أورويل)).
كان هناك صندوق أنيق قد وُضع حديثًا بجانب تلك الكتب.
كانت الغرفة ككل شديدة النظام والنظافة كالمعتاد، وكان كل شيء في موضعه باستثناء ياسر الذي لم يكن موجودًا، ياسر الذي لم يكن يترك غرفته أغلب الوقت، كان هناك أيضًا أمبول مع بضع حُقن أنسولين فارغة على المكتب، حتى مروحة السقف قد نسي أن يُغلقها.
تذكرت كيف كانت تتشاجر معه دومًا كي يفعل، ولكنها لمحت أسفل المكتب بالقرب من الحائط رسالة لطيفة صغيرة كانت على المكتب، ولكن لا بد أنها طارت من الهواء.
لم يكن هناك عُنوان ولكن بخط رديء -تعلم أنه خطه بلا شكٍ- كُتب:
"في بيتٍ بلا أسرة بلا معنى، بيتٍ لم يحتوِ إلا على أربعة جدران، لم يبقَ لي سوى الرحيل"
وترك في نهاية الرسالة مقولة لطيفة لألبير كامو:
"مشكلة الحياة ليس كونها سيئة لا تُطاق، بل أنه كان من الممكن أن تكون أفضل بكثيرٍ، وكان هذا بأيدينا"
بكت مجددا وكاد قلبها المُحطم أن يسقط على الأرض، ماذا يقصد بتلك المقولة؟ بيت بلا أسرة؟ لقد حاولت هي أن تكون الأم والأب بعد وفاة والده، هل قصرت في واجبها؟ أم لم تكن لتكون كافية منذ البداية؟؟! فالصبية في هذا السن يحتاجون إلى والدهم، شخص عليم بأمور الصبية تلك، شخص يعلم معنى سماع أغاني الشجن ليلًا، ثم سماع الراب الغاضب وأن هذا يدل على ولع ثم رفض أو الأسوأ فراق، يعلم أن تلك الرائحة التي تفوح من ملابسه هي رائحة سجائر بلا شك فعليه أن يتصرف، ولكنها كانت تعلم هذا كله أو تعلمته لأجله، هل يلومها لموت والده؟ أتذكره تلك الندبة بوجهها بالحادث؟
لقد رن هاتفها عدة مراتٍ متوالية، وجلت للحظاتٍ وهي ترى كل تلك الإشعارات قادمة من ياسر، كانت رسائل مجدولة، تم ضبطها ليكون تاريخ إرسالها بعد يومين من الانتحار، لماذا يومان؟! لا تدري، كانت الرسائل تسجيلات صوتية، لم تفتحها.
ظلت تحدق في الرسائل لا تدري ماذا تفعل، أتمسحها؟ أتنتظر؟ حتى غلبها النوم، استيقظت على أذان العصر، صلت فدعت فبكت ثم قررت أنها لن تقدر على سماع تلك الرسائل وهي في المنزل بمفردها، ستسمعها بالقرب من علِيَّ؛ فقد كان دومًا قوي السمع تضايقه أبسط الأصوات وتمنعه من النوم، كان يشكو منذ نعومة أظفاره من صوت عقرب الساعة، وصوت قطرات ماء من صنبور لم يُغلق بإحكامٍ، ستسمع التسجيل بقربه إذًا؛ لعل صوته الخشن يُضايقه فيستيقظ.
وبالفعل، كانت تجلس بجانبه، مغمض العينين، هزيل، بلحيةٍ نمت قليلًا في الأيام الماضية، تحسست وجهه وأمسكت يده، لكن لا أثر على الحياة سوى من خطوط النبض تلك على الشاشة.
وضعت إحدى زوجي السماعة بأذنها والآخر بأذنه، ثم بدأ الصوت ينساب، أحست أنها لم تسمع صوته منذ دهور، بنبرةٍ ضعيفةٍ مترددة قال:
بما أنكِ تسمعين التسجيل فهذا يعني أني انتحرت، للأسف لن أقدر على القول إني رحلت وأنا لا أعلم إلى أين بعد، الجميع سيتساءل عن سبب انتحاري بفضول، عن السبب الذي جعلني أفقد عقلي وإيماني، عن السبب الذي داس على يدي التي تمسكت بالحافة لوقتٍ طويل وأسقطني إلى الهاوية في النهاية.
سيتساءل الأقارب والجيران بنظراتٍ مذهولة مع بعض عبارات المواساة من أمامك مثل: "قلبي عندك، ده كان زي ابني"، وسيتهامسون سرًا بعبراتٍ على غرار: "لقد كان يبدو طبيعيًا ومتزنًا قبل أن يفعلها، لا بد أنها المخدرات التي أودت بعقله"؛ إنها دائمًا المخدرات بالنسبة لهم، سيحكون قصتي لأبنائهم وللأجيال القادمة ويقولون لهم ألا يكونوا جاحدين ولاد (...) مثلي، سينشرون قصتي بمواقع التواصل الاجتماعي بحثًا عن قيمة زائفة لهم في بعض التفاعل.
ستتساءل الصحافة فقط ليتسابقوا على مقالٍ جيد أو مانشيت عريض يضعونه في عمودهم بالجريدة، وسينساني بعدها الجميع بحثًا عن خبرٍ طازج وقصة أكثر تشويقًا.
أو لسنا في عصر السرعة؟! عصر التحول الرقمي، حيث كل شيءٍ أصبح معلبًا؛ لأننا دائمًا في عجلة، حتى الإنسان أصبح معلبًا، سلعة معلبة ومغلفة بعناية وجاهزة ليشتريها إنسان آخر، حزمة "package" من البيانات على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأي مُنتج اسهتلاكي كل معلومة جديدة عنه هي فكرة لامعة لمُنتج استهلاكي جديد.
سيتشاجر الناس سيقومون بتكفيري، لن يرضوا بأن يترحموا علَيَّ أو يدعوا لي، أنا لست كافرًا يا أمي.
ويجوز الترحم عليَّ كما ترحم خير خلق الله على من قتل نفسه، ادعي لي يا أمي.
ولأول مرة منذ أربعة سنواتٍ، منذ تلك الحادثة، تسمعه يبكي!
لم تتمالك نفسها، أحست أن جسد ياسر قد ارتعش بالفعل وهو يسمع تلك الكلمات؛ فانتفضت من مكانها حتى سقط الهاتف على الأرض، صرخت بفرحٍ، بأمل أنه لم يفت الأوان، جرت تنادي الأطباء، عندما حضروا كان راقدًا كما هو، أشفقوا عليها وأخبروها أن هذا ممكن في الغيبوبة، حتى تبخر الأمل سريعًا فلم تره.
لم تقدر على أن تكمل، جلست تصلي بجانبه وإن كانوا أخبروها بمكان المسجد ولكنها أرادت أن تكون هنا بجانبه، أن يسمعها تصلي وتقرأ القرآن بجانبه، مثلما كان طفلًا صغيرًا يصاب الحرارة فتجلس بجانبه تضع الكمادات الباردة حتى ينام، ولكنها الآن تريده أن يستيقظ.
تعدت الساعة التاسعة بقليل عندما انتهت، وكانت الحركة في المستشفى قد هدأت، لم تجد ما تفعله فأعادت التشغيل.
أكمل ياسر بصوتٍ باكٍ:
– وكما هو الحال دائمًا لن يبحث أحد عن ما وراء قصتي أو غيرها، نحن فقط نبحث عن مكسب دنيء من معاناة وألم كل إنسان، بل ومن أحلامه، من فرحه، ومن شهواته أيضًا.
لا تنشري قصتي يا أمي، لا أريد أن أكون منتجًا، أريد أن أرحل بهدوءٍ أن تنتهي قصتي معي وحتى لا تفتح أبواب اليأس في قلوب غيري.
سأحكي؛ لأن لديَّ حكاية يجب أن تُحكى ليس لهم بل لكِ أنتِ يا أمي، أليس أنتِ من يقول أني كتوم دومًا؟ ها أنا أبوح بأسراري، سأروي قصة المدينة الفاسدة، المدينة التي كرهتها، التي دفعتني للانتحار، والتي في النهاية كنت جزءًا لا يتجزأ منها، لا أريد أحكامًا متسرعة، أريدك فقط أن تتذكريني كالرجل الذي كنته، تمنيته وحاولت دائمًا أن أكونه.
لقد جدولت هذه الرسائل لتكون بعد يومين من تاريخ انتحاري؛ لأني قدرت أن هذا سيكون كافيًا إن نجح انتحاري، وإن فشل وذهبت إلى المشفى فسألغي إرسالها؛ فأنا أعلم أنه لا يمكن الوثوق بالمعلومات الطبية على الإنترنت ثقةً كاملةً، خصوصًا وإن كانت مجانية.
أنا الطالب ياسر علِيَّ، طالب بكلية آداب، الفرقة الرابعة، قسم علم نفس، تحديدًا علم النفس الاجتماعي، يدعي الجميع بأني غاضب دائمًا، ساخط دائًما ولكنني لا أفهم هذا، لا أقول إنه غير صحيح ولكنني فقط لا أفهمه، ألا تستحق الأوضاع مني بعض الغضب؟! ربما هذه طريقتي في التفاعل مع العالم من حولي، العالم الذي لم أختر أن أكون جزءًا منه، عالم فشلت بترك أي أثرٍ إيجابي به.
أريدك أن تضعي نفسك مكاني للحظات، أن تُغلقي عينيكِ كل يوم وتتمني أن ينتهي كل شيء، ولكنه لا ينتهي.
الحقيقة يا أمي ليس هنالك سبب يمكن الإشارة عليه ومحاكمته، بل نقاط تجمعت فشكلت حروفًا وكلمات، كما يفتُ الصخر قطرات المياه المتتابعة لسنين، ولو كنت ملأت دلوًا بتلك القطرات وسكبتها مرة واحدة لكانت انسكبت وظل الصخر كما هو، إنها التفاصيل الصغيرة التي تُغير المصائر.
يوجد مئات الأمثلة في الأديان، ولكنها ليست اختصاصي سأكتفي بذكر الفيلم الذي شاهدناه سويًا ذات مرة "the curious case of Benjamin button"، وكيف لو كانت تبدلت أي تفصيلة صغيرة لتغيرت الحياة بالكامل.
"ربما وربما أنا من استسلمت.. لن ندري أبدًا"
سأبدأ بكما يا أمي، واعذريني ولكنكما سبب من الأسباب، وأول من أحسسني بالعجز، بعدم القدرة على التغيير.
المرء لا يُنجب لأنه يريد ذلك، بل يُنجب إن كان مستعدًا لتحمل مسئولية ذلك.
لقد كرهت شجاركما المستمر، الصراخ الذي لا أستطيع فضه، الشتائم المتبادلة، ضرب أبي لكِ، تصالحكما بعدها بفترة وجيزة كان هذا أكثر ما يثير استفزازي وغضبي، وكأن هذا كله كان مجرد جلسة تأمل وتفريع للطاقة السلبية، وأضراري النفسية هي مجرد خسائر حرب لا يمكن تلافيها.
udu
صوتٌ يخترق عالم أحلامي، يصعد عنوةً على خشبة المسرح فارضًا نفسه كممثلٍ بارع، كمنبهٍ يرفض التوقف عن الرنين ويقتحم أحلامك ليزعجك فلا أنت قادر على الاستيقاظ لتحطيمه، ولا تستطيع أن تطرده من عقلك، ميزت ذلك الصوت، أنه صوتي! حاولت فتح عيني للهروب من هنا والاستيقاظ، ولكني لا زلت لا أقدر، ولكن حاسة سمعي لا تُخطئ، هل هذا صوتي قادمًا من العالم الخارجي؟! هل هو قادم من ذاكرتي أو عقلي الباطن؟! أم هل أنا أهلوس؟!
بصعوبةٍ أدركت أن هذا الصوت قادم من تسجيلات انتحاري، سمعت صوتي، وصوت تنهيدات أمي وبكائها المكتوم. إذًا الصوت قادم من العالم الخارجي، لقد وصلت التسجيلات لأمي، هل قرأت أمي الرسالة التي تركتها على المكتب؟ أم لم تجدها بعد؟
ميزت بصعوبةٍ من محتوى الصوت أنها لا تزال في التسجيل الأول، وإن عجزت عن تمييز جُملٍ واضحة فقط بعض كلمات، أنا أذكر أن هذا التسجيل كان عن غضبي من شجارهما المستمر، ولكن لسببٍ ما أنا لا أتذكر هذا الشعور ولا تلك المواقف جيدًا، أنا أعلم أن تلك الذكريات التي حكيتها في التسجيل قد حدثت ولكنها ضبابية لا أذكرها، كما يحكي لك صديق عن موقف أنت تعلم أنه حدث ولكنك فقط لم تعد تذكره، هل هذه نعمة النسيان؟ أم هو تأثير المخدر في جسدي؟
لسببٍ ما مرت ذكر ذلك الفيلم على شاشة العرض الوهمية أمامي، وتذكرت اسمه وسينما مترو، الفشار الرديء، رائحة التدخين بين الاستراحة، الشباب السرسجي في صالة العرض، تذكرت شغف أبي للسينما، ذهابنا كأسرة إلى هناك من حينٍ لآخر، تذكرتني بجانبهما في عمر العشر سنوات مبهورًا بالعوالم الساحرة التي تعرض أمامي على الشاشة، لقد كنتُ سعيدًا حينها