قد كان يوم الإثنين شديد الحرارة، لو كنت تذكر، وكانت السيدة سانت كلير تمشي »
ببطء وهي تنظر حولها على أمل أن تجد عربة أجرة؛ إذ إنها لم تحبَّ الحي الذي وجدت
نفسها فيه. وبينما كانت تمشي في هذا الطريق عبر زقاق أبر سواندَم لين، سمعت فجأةً
صيحةً أوصراخًا، وصُعقَت عندما رأت زوجها ينظر نحوها ويشير إليها، كما بدا لها، من
نافذة بالطابق الثاني. كانت النافذة مفتوحة، ورأت وجهه بوضوح، والذي وصفته بأنه
كان مضطربًا اضطرابًا رهيبًا. لوَّح لها بيدَيه بنحو محموم، ثم اختفى من النافذة فجأةً
حتى بدا لها وكأن قوًى خفية لا تُقاوَم قد ابتلعته من الخلف. استرعت نقطةٌ فريدةٌ انتباه
عينَيها الأنثوية اللمَّاحة؛ وهي أنه على الرغم من أنه كان يرتدي معطفًا داكنًا كالذي كان
يرتديه وهو في طريقه إلى المدينة، فلم يكن يرتدي ياقةً ولا ربطة عُنق.
مقتنعة تمام الاقتناع أنه كان ثمة خطب ألَمَّ به، هُرعَت زوجته نزولًا على درجات
السُّلَّم، نحو المنزل الذي لم يكن سوى وكر الأفيون الذي وَجَدْتَني فيه الليلة، ورَكَضَت عبر
الغرفة الأمامية محاولةًصعود السُّلَّم الذي يقود إلى الدور الأول. إلا أنها قابلت أسفل الدَّرَج
البحَّار الهندي الوغد الذي حدَّثْتُك عنه، الذي دفعها إلى الخلف، وبمعاونة دنماركي يعمل
مساعدًا هناك، دفعها خارجًا إلى الشارع. هُرعَت في الطريق، تملؤها الشكوك والمخاوف
الجنونية، وبحَظٍّ جيد نادر، التقت في شارع فريسنو بعدد من أفراد الشرطة بصحبة
مفتش، في طريقهم إلى مكان دَوْرِيَّتِهم. رافقها المفتش ورجلان راجعِين إلى الحانة، وعلى
الرغم من مقاومة المالك الشديدة، فقد شقُّوا طريقهم نحو الغرفة التي شوهد فيها السيد
سانت كلير آخر مرة. لم يكن ثمة أثر له. في الواقع، لم يكن هناك أي شخص في ذلك
الطابق بأكمله إلا صعلوك كسيح ذو مظهر قبيح بدا وكأنه قد اتخذ ذلك المكان بيتًا. أقسم
كلٌّ من البحَّار الهندي والصعلوك بإصرار شديد أنه لم يكن هناك أي شخصآخر موجود
في الغرفة الأمامية خلال فترة ما بعد الظهر. كان إصرارهما على الإنكار شديدًا حتى إن
المفتش كان مذهولًا، وكان قد أوشك على تصديق أن السيدة سانت كلير كانت واهمة،
وعندئذٍ صرخت مهرولةً نحو صندوق صغير مصنوع من الخشب موضوع على الطاولة
وأزاحت عنه الغطاء؛ فسقطت منه مجموعة متتابعة من المكعبات، والتي كانت اللعبة التي
كان سانت كلير قد وعد أن يحضرها للبيت.
هذا الكشف، بالإضافة إلى الارتباك الواضح الذي بدا على الصعلوك الكسيح، جعلا
المفتش يدرك أن الأمر خطير. فُتِّشَت الغُرَف بحرص، وأشارت جميع النتائج إلى جريمة
نكراء. كانت الغرفة الأمامية مفروشة بأثاثٍ بسيط كغرفة جلوس وتقود إلى غرفة نوم
صغيرة تُطلُّ على الجزء الخلفي لأحد أرصفة الميناء. وبين رصيف الميناء ونافذة غرفة النوم
يوجد لسان ضيِّق يصبح جافٍّا في وقت الجَزْر ومغطًى بالماء وقت المَدِّ بارتفاع أربعة أقدام
ونصف القدم على الأقل، وكانت نافذة غرفة النوم واسعة ومفتوحة من الأسفل. بالفحص،
شوهِدت آثار دماء على حافة النافذة، وعدَّة قطرات متفرقة كانت واضحة على الأرضية
الخشبية لغرفة النوم. كانت جميع ملابس السيد نيفيل سانت كلير، عدا معطفه، مُلقاة
خلف ستارة في الغرفة الأمامية. فحذاؤه وجواربه وقُبَّعته وساعته؛ كانت جميعها موجودةً
هناك. لم يكن ثمة أي علامات عنف على أيٍّ من هذه الملابس، ولم يوجد أي أثر آخر للسيد
نيفيل سانت كلير. لا بد أنه قد خرج من النافذة كما هو واضح؛ إذ لم يكن هناك أي مخرج
آخر يمكن اكتشافه، ولم تُعطِ بقعُ الدماء المشئومة الموجودة على حافة النافذة سوى القليل
من الأمل في أن يكون قد تمكَّن من إنقاذ حياته بالسباحة؛ لأن المَدَّ كان في أعلى مستوياته
لحظة وقوع تلك المأساة.
لنتحدث الآن عن الشريريْنِ اللذين بدا أنهما متورِّطان تورُّطًا مباشرًا في الأمر؛ فقد
كان البحَّار الهندي معروفًا بأنه رجلٌ ذو سوابق شنيعة، ولكن كَوْنه، طبقًا لرواية السيدة
سانت كلير، كان موجودًا أسفل السُّلَّم في غضونِ ثوانٍ قليلة من ظهور زوجها عند النافذة،
فقد كان من الصعب أن يكون أكثر من شريك في الجريمة. كان دفاعه قائمًا على الجهل
التام، واعترضمؤكِّدًا أنه لم يكن لديه أي علم بأفعال نزيله هيو بون، وأنه لا يمكنه بأي
حال من الأحوال تفسير وجود ملابس السيد سانت كلير المفقود.
تحدَّثنا بما فيه الكفاية عن البحار الهندي الذي يُدير الحانة. والآن دعنا نتحدَّث عن
الكسيح المشئوم الذي يعيش في الطابق الثاني من وكر الأفيون، والذي كان بالتأكيد آخر
إنسان وقعت عيناه على نيفيل سانت كلير. اسمه هيو بون، ووجهه البشع مألوف لكل مَن
يذهب إلى المدينة كثيرًا. إنه متسولٌ محترف، وإن كان يتظاهر بأنه يدير تجارة صغيرة
ببيع عُلَب أعواد الثقاب الشمعية؛ ليتجنب قوانين الشرطة. بعد أن تقطع مسافة قصيرة في
شارع ثريدنييدل، ستجد زاوية صغيرة في الجدار على الجانب الأيسر، إن كنتَ قد لاحظتَ.
وفي هذا المكان يجلس هذا المخلوق القرفصاء كل يوم واضعًا مخزونه الصغير من علب
أعواد الثقاب على حِجرِه، فيستدرُّ مظهرُهُ المثيرُ للشفقة العطفَ، وتتجمع حفنة قليلة من
الصدقات كمطر خفيف داخل قبعته الجلدية المُشحَّمة التي يضعها على الرصيف بجانبه.
لقد راقبتُ هذا الرجل أكثر من مرة قبل أن أفكر في التعرُّف عليه بنحو مِهني، وقد فوجئتُ
بالمال الذي حصده في وقت قصير. فمظهره، كما ترى، مميزٌ للغاية بحيث لا يمكن أن يمر
به أحد دون ملاحظته. كُتلة من الشعر البرتقالي الفاقع؛ ووجه شاحب تُشوِّهه نَدَبة مروعة،
والتي نتج عن انكماشها رَفْعُ الحافة الخارجية لشَفَتِه العلوية، وذقن متدلٍّ كذقن كلب
البُلدوج، وزَوْج من العيون الداكنة الثاقبة اللتَين تتناقضان تناقضًا فريدًا مع لون شعره،
كل ذلك يميِّزه وسط الحشد العادي للمتسولين، كما تميِّزه فطنته عنهم؛ فهو جاهزٌ دائمًا
بردٍّ على أيِّ مزحة ساخرة قد يلقيها على مسامعه أيٌّ من المارة. هذا الرجل هو الذي نعلم
الآن أنه كان النزيل في وكر الأفيون، وأنه كان آخر مَن رأى السيد سانت كلير الذي نبحث
«. عنه
ولكنه كسيح! فما الذي كان بمقدوره فعله بمفرده في مواجهة رجل » : تساءلتُ قائلًا
«؟ في مقتبل العمر
إنه كسيحٌ بمعنى أنه يعرج في مشيته؛ ولكنه من النواحي الأخرى يبدو رجلًا قويٍّا »
يتمتع بصحة جيدة. بالتأكيد ستخبرك خبرتك الطبية يا واطسون أن ضَعْف أحد الأطراف
«. غالبًا ما تعوِّضه قوة استثنائية في الأطراف الأخرى
«. واصِلْسرد قصتك أرجوك »
فقدت السيدة سانت كلير وَعْيها عند رؤية الدماء على النافذة، ورافقتها الشرطة إلى »
منزلها في عربة أجرة؛ نظرًا لأن وجودها لم يكن ليساعدهم في تحقيقاتهم. فحصالمفتش
بارتون، الذي كان مسئولًا عن القضية، المبنى فحصًا دقيقًا، ولكن دون أن يجد أي شيء
يمكن أن يساعد في حل اللغز. لقد وقعوا في خطأ واحد، ألا وهو أنهم لم يلقوا القبضفورًا
على بون؛ إذ أتُيح له بضع دقائق قد يكون خلالها قد تواصل مع صديقه البحَّار الهندي،
ولكن سرعان ما تلافوا هذا الخطأ، فضبطوه وفتَّشوه دون العثور على أي شيء يمكن أن
يُجَرِّمه. صحيح أنه كان يوجد بعض بقع الدماء على كُمِّ قميصه الأيمن، إلا أنه أشار إلى
بِنصَرِهِ الذي كان مجروحًا بالقرب من الظُّفر، وأوضح أن النزيف يأتي من هذا الجرح،
مضيفًا إلى أنه قد توجَّه إلى النافذة قبل وقتٍ قصيرٍ، وأن بقع الدماء التي لوحظت هناك قد
كانت بلا شك من نفس المصدر. كما نفى بشدة أنه رأى السيد نيفيل سانت كلير، وأقسم
أن وجود ملابس سانت كلير في غرفته كان لغزًا له تمامًا كما هو الحال للشرطة. أما فيما
يتعلق بتأكيد السيدة سانت كلير بأنها حقٍّا قد رأت زوجها في النافذة، فقد قال: إنها إمَّا
فقدت عقلها وإما كانت تحلم. نُقِلَ إلى قسم الشرطة وهو يصرخ محتجٍّا، بينما ظل المفتش
في المبنى على أمل أن تُقدِّم موجة الجَزْر دليلًا جديدًا.
وهو ما قد حدث فعلًا؛ فقد وجدوا بعد صعوبة على الضفة الطينية ما كانوا يخشون
العثور عليه؛ إذ عثروا على معطف نيفيل سانت كلير، الذي كشف عنه تراجُع المد، ولكنهم
«؟ لم يجدوا سانت كلير نفسه. ما الذي تعتقد أنهم قد وجدوه في جيوب المعطف
«. لا يمكنني التخمين »
أنا لا أعتقد أيضًا أنك ستخمن ذلك. كان كل جيب مُتخمًا بعملات البنس ونصف »
البنس — ٤٢١ بنسًا، و ٢٧٠ نصف بنس — لذا لم يكن مستغربًا أن المد لم يَجْرِفْه. أمَّا
الجسم البشري فهو مسألة مختلفة؛ توجد دوَّامةشرسة بين رصيف الميناء والمنزل. يبدو،
من المحتمل، أن المعطف المُثقَل بالعُملات بقي في مكانه، بينما ابتلعت المياه الجثة العارية
«. نحو النهر
لكنني أفهم أنه قد عُثِرَ على جميع الملابسالأخرى في الغرفة، فهل كانت الجثة ترتدي »
«؟ المعطف فقط
لا يا سيدي، ولكن قد تُقَابَل الحقائق بخداعٍ كافٍ. لنفترضأن هذا الرجل بون قد »
دفع نيفيل سانت كلير من النافذة، وليسثمة أي عين بشرية لترى الفعلة. ما الذي سيفعله
عندئذٍ؟ سيفكر في الحال بكل تأكيد أنه لا بُدَّ أن يتخلَّصمن الملابس التي ستفضح أمره.
فسيأخذ المعطف، وسيشرع في إلقائه من النافذة، وحينها سيفكِّر في أنه سيطفو ولن يغرق.
ليس لديه الكثير من الوقت؛ إذ إنه قد سمع الشِّجار بالأسفل عندما كانت الزوجة تحاول
أن تصعد عَنوةً، وربما يكون قد عرف من شريكه البحَّار الهندي أن الشرطة قادمة في
الشارع على عجل. لا يمكن إهدار أي لحظة. فيُهرَع نحو مخزنسري لديه، جَمَع فيه الغَلَّة
التي جناها من أعمال التسوُّل، ويُكَدِّس أكبر قَدْر من العُملات التي يمكنه أن يصل إليها
في جيوب المعطف؛ ليتأكَّد من أنه سيغوص. ويلقي به خارجًا، وكان ليفعل الأمر نفسه مع
باقي الملابس الأخرى لو لم يسمع وقع خطوات متسارعة بالأسفل، ولكنه لم يكن لديه من
«. الوقت سوى ما يكفي لغلق النافذة عندما ظهرت الشرطة
«. يبدو كلامك معقولًا بالتأكيد »
حسنًا، سنعتبره افتراضًا عمليٍّا؛ لعدم وجود افتراضٍأفضل. كما أخبرتك، قُبِضَعلى »
بون وأخُِذَ إلى قسم الشرطة، ولكن لم يكن من الممكن إثبات أن ثَمَّة أي شيء ضده. كان
معروفًا لسنوات طويلة بأنه مُتسوِّل محترف، إلا أن حياته بدت هادئة ومسالمة للغاية. هذه
هي تطوُّرات الأمر حتى الآن، والأسئلة التي لا بد من حلِّها هي؛ ما الذي كان يفعله نيفيل
سانت كلير في وكر الأفيون؟ وماذا حدث له وهو هناك؟ وأين هو الآن؟ وما علاقة هيو بون
باختفائه؟ كلها أسئلة لا أجد لها حلٍّا على الإطلاق. أقُِرُّ بأنه ليس بوسعي تذكُّر أي قضية
في نطاق خبرتي بدت للوهلة الأولى شديدة البساطة، ولكنها انطوت على هذا القَدْر من
«. الصعوبات
بينما كان شيرلوك هولمز يُفَصِّل سلسلة الأحداث الفريدة هذه، كُنَّا نمر سريعًا عبر
ضواحي المدينة الضخمة، إلى أن تركنا وراءنا آخر مجموعة من المنازل المنتشرة هنا وهناك،
وانطلقنا بحذاء سياج ريفي كان يحيط بنا من الجانبَين. ولكن ما إن انتهى من كلامه،
حتى مررْنا عبر قريتَين متباعدتَين، حيث كان لا يزال هناك بعض الأضواء التي تلمع في
النوافذ.
لقد مررنا بثلاث مقاطعات إنجليزية خلال .« لي» نحن على مشارف » : قال رفيقي
من زاوية لها، وانتهينا في كينت. « سَري » رحلتنا القصيرة؛ إذ بدأنا في ميدلسكس، ومررنا ب
وإلى جانب ذلك المصباح تجلس ،« ذا سيدارز » أترى ذلك الضوء بين الأشجار؟ إنه منزل
«. امرأة ليس لديَّ أدنى شك أن أذنَيها المتلهفتَين قد التقطتا بالفعل وَقْع حوافر حصاننا
«؟ ولكن لِمَ لا تدير القضية من بيكر ستريت » : سألت هولمز قائلًا
لأن هناك العديد من الاستقصاءات التي يجب إجراؤها ها هُنا. لقد تفضَّلت السيدة »
سانت كلير بوضع غرفتَين تحت تصرُّفي، وكُنْ على ثقة من أنها لن تستقبل صديقي وزميلي
سوى بالترحاب. أكره لقاءها، يا واطسون، وليس لديَّ أخبار عن زوجها. ها نحن ذا. قِفْ،
«! هناك، قِفْ
كُنَّا قد توقَّفنا أمام منزل ضخم مُشيَّد على أرض تابعة له. ركض فتى إسطبل نحو
رأس الحصان، وإذ قفزتُ إلى الأرض، تبعتُ هولمز على الممر الصغير المُمهَّد بالحصىالذي
كان يؤدي إلى المنزل. وفيما كُنَّا نقترب، فُتِحَ الباب على مصراعَيه، ووقفت امرأة شقراء
صغيرة الحجم في المدخل مرتدية نوعًا من الملابس الحريرية الخفيفة مع بعض الشيفون
الوردي الناعم المنفوشحول رقبتها ورسغَيها. حدَّد الضوء الوافر الآتي من خلفها هيئتها
بوضوح، وهي تقف واضعة إحدى يديها على الباب، والأخرى شبه مرفوعة في تلهُّف،
وجسدها منحنٍ قليلًا ورأسها ووجهها بارزان، بعيون متلهفة وشفتين مفتوحتين قليلًا؛
كانت هيئتها توحي بما لديها من تساؤلات.
ثم عندما رأت أن هولمز لم يكن وحده، أطلقت «؟ حسنًا، ما الأخبار » : صاحت قائلةً
صيحة أمل تحوَّلت إلى همهمة خِذلان عندما وجدت رفيقي يهز رأسه وكتفَيه نَفْيًا.
«؟ ألا يوجد أيُّ أخبار جيدة »
«. لا»
«؟ ولا سيئة »
«. لا»
«. حمدًا للرب على ذلك. فلتدخل. لا بد أنك مرهقٌ، فقد كان يومك طويلًا »
هذا صديقي، الدكتور واطسون. لقد كانت مساعدته ذات أهمية بالغة لي في العديد »
«. من قضاياي، وقد أتاحت لي فرصة سعيدة أن أحُضره وأجعله يشارك في هذا التحقيق
تسُرُّني رؤيتك، أنا متأكدة أنك ستغفر لنا أي » : قالت وهي تضغط على يدي بحرارة
«. نقصانٍ في تجهيزات ضيافتنا عندما تأخذ بعين الاعتبار الطامَّة التي حلَّت بنا بغتةً
سيدتي العزيزة، أنا محارب قديم، وحتى لو لم أكن كذلك، فبوسعي أن » : أجبت قائلًا
أرى جيدًا أنه لا حاجة للاعتذار. سأكون في غاية السعادة إن أمكنني تقديم أي مساعدة،
«. سواء لكِ أو لصديقي
قالت السيدة، ونحن ندخل غرفة طعام مضاءة جيدًا، وُضِع على طاولتها عشاءٌ بارد:
إذا سمحت لي يا سيد هولمز، أتوق لأن أوجِّه لك سؤالًا أو سؤالَين بسيطَين، وأرجو أن »
«. تجيبني إجابة واضحة
«. بالطبع يا سيدتي »
لا تقلق بشأن مشاعري، أنا لست هستيرية، وليس من عادتي أن أفقد الوعي، إنني »
«. ببساطة أرغب في معرفة رأيك الحقيقي بكلصراحة ووضوح
«؟ بشأن ماذا »
«؟ هل تعتقد في قرارة نفسك أن نيفيل على قيد الحياة »
بدا أن السؤال قد أحرج شيرلوك هولمز. فأضافت قائلة، وهي تقف على السجادة
بصراحة، » : وتنظر إليه متفحصة وهو يجلس متكئًا على كرسي مصنوع من الخيزران
«! أرجوك
«. بصراحة إذن يا سيدتي، لا أعتقد ذلك »
«؟ هل تعتقد أنه قد مات »
«. أجل »
«؟ قُتِلَ »
«. لا أقول ذلك. ربما »
«؟ وفي أي يوم لقيَ حتفه »
«. يوم الإثنين »
«. إذن ربما ستتكرَّم يا سيد هولمز وتُوضِّح لي كيف استلمت منه رسالة اليوم »
وثب شيرلوك هولمز من كرسيِّه واقفًا كما لو كان قد صُعِق بتيارٍ كهربي.
«! ماذا » : صاح قائلًا
أجل، » : قالت وهي تقف مبتسمة وتمسك بقصاصة من الورق رافعةً إيَّاها في الهواء
«. اليوم
«؟ أيمكنني أن أراها »
«. بالتأكيد »
اختطفها منها بلهفةٍ، وجذب المصباح وهو يبسطها على الطاولة، ثم فحصها باهتمام
شديد. كنت قد نهضتُ من مقعدي وكنت أحدق بالورقة من خلفه. كان الظرف شديد
الخشونة ومختومًا بختم بريد جريفسيند وبتاريخ ذلك اليوم نفسه، أو بالأحرى، بتاريخ
اليوم السابق؛ إذ كان الوقت قد جاوز منتصف الليل بكثير.
«. خط رديء. بالتأكيد هذا ليس خط زوجكِ يا سيدتي » : غمغم هولمز
«. بلى، ولكن الرسالة المرفقة بخطِّه »
أرى أيضًا أن أيٍّا كان مَن عنوَن الخطاب فقد احتاج إلى الذهاب والاستفسار عن »
«. العنوان
«؟ كيف بإمكانك أن تفطن إلى ذلك »
الاسم، كما ترين، مكتوب بحبر أسود داكن جفَّ وحده. أما الباقي فبلون رمادي، »
مما يدل على أن الورق النشاف قد استخدم، إن كان قد كُتِبَ على الفور ثم نُشِّفَ بالورق
الماصِّ، فلن يكون ذا لون أسود داكن. لقد كتب هذا الرجل الاسم، ثم كان ثمة توقُّف قبل
أن يكتب العنوان، وهذا لا يعني سوى أنه لم يكن يعرفه. إنهشيء تافه بالطبع، ولكن ليس
ثمة شيء أهم من الأشياء التافهة. والآن لنرى الرسالة، ها! لقد كان الظرف يحتوي على
«! شيء ما هنا
«. أجل، كان يحتوي على خاتم. خاتم توقيعه »
«؟ وهل أنتِ متأكدة من أن هذا هو خط يد زوجك »
«. أحد خطيه »
«؟ أحد خطيه »
خط يده عندما يكتب بسرعة، إنه يختلف تمامًا عن خطه المعتاد، ولكنني أعرفه »
«. جيدًا
عزيزتي، لا تخافي. كلشيء سيكون على ما يرام. ثمة خطأ كبير »» : قرأ هولمز الرسالة
إنه مكتوب بقلم رصاصعلى «. قد يستغرق تصحيحه بعضالوقت. انتظري بصبر. نيفيل
صفحة فارغة من كتاب بحجمٍ ثمُانيِّ القَطْع، بدون علامة مائية. همممم! مُرسَلٌ اليوم
من مكتب بريد جريفسيند، على يد رجل ذي إصبعٍ متسخةٍ. ها! كما أن مَن لصق لسان
الظرف كان يمضغ التَّبغ إن لم أكن مخطئًا كثيرًا. ولا شك لديكِ يا سيدتي في أن هذا هو
«؟ خط زوجك، أليس كذلك
«. بلى. نيفيل هو مَن كتب هذه الكلمات »
وقد أرُسِلَت اليوم من جريفسيند. حسنًا، يا سيدة سانت كلير، إن الأمر يتَّضح »
«. تدريجيٍّا، ومع ذلك لن أجازف بالقول إن الخطر قد زال
«. ولكن لا بد وأنه على قيد الحياة يا سيد هولمز »
أجل، ما لم يكن هذا تزويرًا ماهرًا يهدفُ لتضليلنا؛ فخاتم التوقيع، على أية حال، لا »
«. يُثبت شيئًا. يمكن أن يكون قد أخُِذَ منه
«. لا لا، إنه خط يده بكل تأكيد »
«. رائع، ومع ذلك، ربما يكون قد كُتِبَ يوم الإثنين، ولم يُرسَل سوى اليوم فحسب »
«. ذلك محتملٌ »
«. إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن أمورًا كثيرة ربما تكون قد حدثت فيما بينهما »
أوه، لا تُحبطني يا سيد هولمز. أعلم أن كلشيء على ما يرام فيما يخصه. تربط بيننا »
صلة عاطفية وثيقة بحيث يمكنني أن أعلم إن حلَّ به مكروه. في نفس اليوم الذي رأيته
فيه آخر مرة كان قد جرح نفسه في غرفة النوم، ومع أنني كنت في غرفة الطعام، إلا إنني
هُرعْت إلى الأعلى على الفور، وأنا على أتم اليقين بأن شيئًا قد حدث. هل تعتقد أنني سأشعر
«؟ بأمر بسيط كهذا، ولن أشعر بشيء في حال وفاته
لقد رأيتُ الكثير والكثير حتىصرت أعلم أن انطباع المرأة قد يكون أقيَم من استنتاجِ »
محلِّل منطقي. ولديكِ بكل تأكيد في هذه الرسالة دليل قوي للغاية يؤكد وجهة نظرك.
«؟ ولكن إذا كان زوجك على قيد الحياة وقادرًا على كتابة الرسائل، فلماذا يظل بعيدًا عنكِ
«. لا يمكنني تخيُّل السبب، إنه أمر لا يمكن تصوُّره »
«؟ هل أبدى أي ملاحظة قبل أن يغادركِ يوم الإثنين »
«. لا»
«؟ وهل فوجئتِ برؤيته في أبر سواندَم لين »
«. أجل، للغاية »
«؟ هل كانت النافذة مفتوحة »
«. أجل »
«؟ إذن كان بإمكانه أن يناديَ عليكِ »
«. كان بإمكانه ذلك »
«؟ ولكن جُلَّ ما فعله، حسبما أفهم، أنهصرخصرخة غير مفهومة. أليس كذلك »
«. بلى »
«؟ هل اعتقدتِ أنها كانتصرخة طلبًا للعون »
«. أجل، لقد لوَّح بيدَيه »
ولكن ربما كانت صرخة مفاجأة. لعل دهشته لرؤيتك غير المتوقَّعة جعلته يلوِّح »
«! بيدَيه
«. هذا مُحتَمَل »
«؟ وظننتِ أنه سُحِب إلى الوراء »
«. لقد اختفى فجأةً »
«؟ ربما يكون قد قفز إلى الخلف. هل رأيتِ أي شخصآخر في الغرفة »
لا، ولكن هذا الرجل البشع اعترف أنه كان موجودًا هناك، والبحَّار الهندي كان »
«. موجودًا أسفل السُّلَّم
«؟ صحيح. كان زوجك، بقدر ما أمكنك التبيُّن، يرتدي ملابسه المعتادة »
«. ولكن دون ياقته وربطة عنقه. لقد رأيتُ عنقه العاري بكل وضوح »
«؟ هل سبق أن تحدَّث إليكِ عن أبر سواندَم لين »
«. مطلقًا »
«؟ هل بدا عليه من قبلُ أيُّ علامات تدل على تعاطيه الأفيون »
«. مطلقًا »
شكرًا لكِ، سيدة سانت كلير. تلك هي النقاط الرئيسية التي رغبتُ في استيضاحها »
«. تمامًا. سنتناول الآن عشاءً خفيفًا ثم نذهب للنوم، فقد يكون لدينا يوم حافل للغاية غدًا
وُضِعَت غرفة كبيرة مريحة ذات سرير مزدوَج تحت تصرُّفنا. ودَخَلتُ تحت الأغطية
بسرعة؛ إذ كنتُ مرهقًا بعد مغامرتي الليلية. أمَّا شيرلوك هولمز فقد كان رجلًا من شأنه أن
يقضيأيامًا، بل أسبوعًا، دون أن يذوق طعم الراحة عندما كانت تواجهه مشكلة مستعصية
على الحل تشغل تفكيره، فيقلبها في رأسه، معيدًا ترتيب الوقائع التي بين يديه، ومدقِّقًا فيها
من جميع الوجوه إلى أن يفهمها تمامًا أو يقتنع بأن معلوماته كانت غير كافية. سرعان
ماصار واضحًا لي أنه كان ساعتئذٍ يستعد لجِلسةٍ طوال الليل؛ فقد خلع معطفه وصدريته،
وارتدى رداء نوم فضفاضًا أزرق، ثم راح يتجول في الغرفة وهو يجمع الوسائد منسريره
والمساند من الأريكة والمقاعد. ورتبها على شكل جلسة ديوانشرقي، وجلس عليها متربعًا،
وأمامه أوقية من التبغ المفروم وعلبة ثقاب. رأيته جالسًا هناك في الضوء الخافت للمصباح
وبين شفتَيه غليون قديم مصنوع من خشب الورد البري، وعيناه مثبتتان بنظرة خالية
من التعبير على ركن السقف، والدخان الأزرق يتصاعد منه في موجات، وهو صامت بلا
حِراك، والضوء يسطع على ملامحه القوية الحادة بأنفه المعقوف كالنسر. وهكذا جلس
بينما غالبني النعاس، وهكذا كان جالسًا عندما أيقظني صوت هتاف مفاجئ، ووجدت
شمس الصيف قد بدأت تملأ الغرفة. كان الغليون لا يزال بين شفتيه، والدخان ما زال
يتصاعد في موجات إلى أعلى، والغرفة مليئة بدخان التَّبغ الكثيف، ولكن لم يبقَ شيء من
كومة التبغ التي رأيتها أمامه الليلة السابقة.
«؟ أمستيقظٌ يا واطسون » : سألني قائلًا
«. أجل »
«؟ أمستعدٌّ لنزهةٍ صباحيةٍ »
«. بالتأكيد »
إذن ارتدِ ملابسك، لم ينهض أحدٌ من فراشه بعد، ولكنني أعرف أين ينام فتى »
كان يبتسم وهو يتحدث، والتمعت عيناه، وبدا «. الإسطبل، وبعد قليل سيُعِد لنا العربة
رجلًا مختلفًا عن المفكِّر المتجهِّم الذي كان عليه بالأمس.
بينما كنت أرتدي ملابسي، ألقيتُ نظرةً على ساعتي. لا عجب أنَّ أحدًا لم يكن قد نهض
من فراشه بعد. فقد كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة وخمس وعشرين دقيقة. بالكاد
قد انتهيت عندما عاد هولمز يخبرني أن فتى الإسطبل أسرج الحصان.
أريد أن أختبر نظرية صغيرة لديَّ. أعتقد » : قال وهو يرتدي حذاءه الطويل الرقبة
يا واطسون أنك تقف الآن في حضرة واحدٍ من أكثر الناس حمقًا في أوروبا كلها. إنني
أستحقُّ أن أرُكَل من هنا إلى تشارينج كروس. ولكنني أعتقد أن بحوزتي الآن مفتاح
«. القضية
«؟ وأين هو » : سألته مبتسمًا
وأردف قائلًا عندما رأى نظرة الشك التي ترتسم على «، في الحمام » : فأجاب قائلًا
أوه، أجل، أنا لا أمزح. لقد كنت هناك لتوِّي، وقد أخذته وهو لديَّ الآن في الحقيبة » : وجهي
«. الجلادستون هذه. هيا يا رفيقي، وسنرى ما إن كان يناسب القفل أم لا
اتجهنا إلى الطابق السفلي بأقصى هدوء ممكن، وخرجنا إلى أشعة شمس الصباح
الساطعة. حيث الحصان والعربة ينتظران في الطريق، بينما فتى الإسطبل يقف نصف
عارٍ عند مقدمة العربة. قفز كِلانا في العربة، وانطلقنا عبر طريق لندن. كانت بعضالعربات
الريفية تتحرك حاملةً الخضراوات إلى المدينة، أماصَفَّا المنازل الكائنان على جانبَي الطريق
فكانا هادئين وهامدين وكأنهما مدينة في حلم.
لقد كانت هذه قضية فريدة من » : قال هولمز وهو ينكز الحصان ليَحُثَّه على العَدْو
نوعها فيما يتعلَّق ببعض النقاط. أعترف أنني كنت أعمى كحيوان الخُلْد، ولكن تَعَلُّم
«. الحكمة متأخرًا أفضل من عدم تَعَلُّمها أبدًا
مَن بكَّروا بالاستيقاظ في البلدة قد بدءوا لتوِّهم النظر من نوافذهم والنعاس يغالبهم،
ونحن نمر بطريق جسر ووترلو عبرنا النهر .« سَري » ونحن ننطلق عبر شوارع ناحية
وانطلقنا في شارع ولنجتون وانعطفنا بشدة إلى اليمين فوجدنا أنفسنا في شارع بو. كان
شيرلوك هولمز مشهورًا لدى قوة الشرطة، فحيَّاه الشرطيَّان الواقفان عند الباب، وأمسك
أحدهما برأس الحصان، بينما قادنا الآخر إلى الداخل.
«؟ مَن بالخدمة » : سألهما هولمز
«. المفتش برادسترييت يا سيدي »
نزل على الممر المبَلَّط بالحجر ضابطٌ طويلٌ ممتلئٌ «؟ أوه، برادسترييت، كيف حالك »
يرتدي قبعةً مدبَّبةً وسترة رسمية تُزيِّنها سُيُور أمامية.
«. أرغب في الحديث معك على انفراد، يا برادسترييت » : قال هولمز
«. بالتأكيد يا سيد هولمز، تفضَّل إلى غرفتي هنا »
كانت غرفة صغيرة تُشبه حجرة المكتب، بها طاولة موضوع عليها دفتر ضخم،
كيف يمكنني مساعدتك يا سيد » : وهاتف مثبت في الحائط. جلس المفتش على مكتبه وقال
«؟ هولمز
لقد أتيتُ في زيارة قصيرة بشأن ذلك المتسوِّل بون، الذي اتُّهِمَ بتورُّطه في اختفاء »
«.« لي» السيد نيفيل سانت كلير من
«. أجل، لقد جاءوا به إلى هنا ووُضِعَ في الحبس لمزيد من الاستجواب »
«؟ هذا ما سمعته. هل هو لديك هنا »
«. أجل إنه في الزنزانة »
«؟ هل هو هادئ »
«. أوه، إنه لا يثير المتاعب، ولكنه وغد قذر »
«؟ قذر »
أجل، لقد فعلنا كل ما نستطيع لنجعله يغسل يديه، أما وجهه فأسود كوجه سمكري. »
حسنًا، بمجرد إتمام إجراءات قضيته، سيحصل على حمام السجن المعتاد؛ وأعتقد أنك إذا
«. رأيته ستتفق معي في الرأي أنه بحاجة لذلك
«. أرغب بشدة في رؤيته »
«. حقٍّا؟ هذا أمر يَسهُل القيام به. تعالَ معي من هنا. يمكنك ترك حقيبتك »
«. لا، أعتقد أنني سآخذها معي »
قادنا عبر أحد الممرات، وفتح بابًا بقضبان «. لا بأس. تعالَيا معي من هنا بعد إذنكما »
وهبط درجًا متعرِّجًا، وقادنا إلى ممر مطلي باللون الأبيض، وعلى كلا جانبيه صَفٌّ من
الأبواب.
بهدوء دفع بلوحة في الجزء «! زنزانته هي الثالثة على اليمين. ها هي » : قال المفتش
«. إنه نائم، يمكنكما رؤيته جيدًا » : العلوي من الباب إلى الخلف ونظر من خلالها وقال
نظر كلانا عبر القضبان. كان السجين مستلقيًا ووجهه نحونا يَغِطُّ في نوم عميق،
ويتنفَّس تنفسًا بطيئًا وثقيلًا. كان رجلًا متوسطَ الحجم يرتدي ملابس رديئة، كما تقتضي
مهنته، وقميصًا ملوَّنًا يبرز من فتقٍ في معطفه الممزَّق. كان، مثلما قال المفتش، شديد
القذارة، إلا أن الوَسَخ الذي كان يغطِّي وجهه لم يُخفِ قُبْحَه المقيت. امتدَّ تورُّم بارز كبير
من نَدَبة قديمة بطول وجهه من عينه إلى ذَقْنه، ونتج عن تقلُّصِه رَفْع أحد جوانب شَفَتِه
العلوية، حتى إن ثلاثًا من أسنانه ظهرت راسمةً على وجهه تعبير زمجرة دائمًا. وكانت
كتلة من الشعر الأحمر الفاقع القصير تكسو مقدَّم رأسه وحاجبَيه.
«؟ إنه جميلٌ، أليس كذلك » : قال المفتش
إنه يحتاج إلى الاغتسال بكل تأكيد، لقد خطرت لي هذه الفكرة بالفعل، » : فقال هولمز
فتح الحقيبة الجلادستون وهو يتحدَّث، «. فسمحت لنفسيوأحضرت معي الأدوات اللازمة
وأخرج منها إسفنجة حمام ضخمة، ممَّا أثار اندهاشي.
«! ها ها! كم أنت مضحك » : ضحك المفتش قائلًا
والآن، هلَّا تكرَّمت وفتحت هذا الباب بهدوء شديد؟ في غضون وقت قليل سنجعله »
«. يبدو بهيئة أكثر احترامًا
دفع مفتاحه «؟ حسنًا، لِمَ لا، فهيئته القذرة لا تناسب زنازين شارع بو، أليس كذلك »
في القفل، وبهدوء شديد دخلنا جميعًا الزنزانة. استدار السجين النائم نصف استدارة نحو
مصدر الصوت، ثم قَرَّ مرة أخرى في سُبَات عميق. انحنى هولمز نحو وعاء الماء، وبلَّل
الإسفنجة وحكَّها مرتَين بقوة على وجهه من أعلى إلى أسفل.
«. في مقاطعة كينت « لي» دعوني أقدِّم لكم السيد نيفيل سانت كلير من » : وصاح
لم أرَ في حياتي مشهدًا كهذا قطُّ؛ إذ تقشَّر وجه الرجل تحت الإسفنجة كما يتقشَّر
اللِّحاء من الشجرة. اختفى اللون البني الفَجُّ! واختفت أيضًا الندبة البشعة التي غضَّنَت
وجهه، والشَّفَة الملتوية التي كانت قد أَضْفَت تعبيرًا هازئًا مقيتًا على وجهه! انتُزِعَ الشعر
الأحمر المتشابك من على رأسه بحركة سريعة، فظهر رجل شاحب، حزين الملامح، أسود
الشعر، ناعم الجلد يفرك عينيه ويُحدِّق فيما حوله بحَيْرة ناعسة، وهو ينهض جالسًا على
سريره. ثم، عندما أدرك فجأةً أن سَتره قد انكشف،صرخ وألقى نفسه على السرير دافنًا
وجهه في الوسادة.
«. يا إلهي! إنه الرجل المفقود بالفعل، أعرفه من الصورة » : صرخ المفتش قائلًا
وليكن، وما هي » : استدار السجين بتهوُّر رجل قرَّر أن يستسلم لمصيره المحتوم، وقال
«؟ تهمتي أرجوك
التخلُّصمن السيد نيفيل سانت … أوه، بربِّك! لا يمكن توجيه » : قال المفتشبابتسامة
تلك التهمة إليك إلا إذا حوَّلوا القضية إلى محاولة انتحار. حسنًا، لقد قضَيْتُ سبعًا وعشرين
«. سنةً في الخدمة، ولكن هذه القضية هي الأغرب على الإطلاق
إذا كنتُ أنا السيد نيفيل سانت كلير نفسه، فإذن لم تُرتَكَب أيُّ جريمة كما هو »
«. واضح؛ ومن ثَمَّ، فأنا محتجز على نحو غير قانوني
لم تُرتَكَب جريمة، ولكن ارتُكِبَ خطأ فٌادحٌ. كنت ستُبلي بلاءً أفضل لو » : قال هولمز
«. أنك وثقتَ بزوجتك
لا يتعلَّق الأمر بزوجتي، بل بأطفالي. ليساعدني الرَّبُّ، لن » : قال السجين ممتعضًا
«؟ أجعلهم يخجلون من أبيهم. يا إلهي! يا لَلفضيحة! ماذا الذي يمكنني فعله
جلس شيرلوك هولمز إلى جواره على السرير وربَّت على كتفه بلطف.
إن تركت الأمر للمحكمة لتوضيح المسألة، فبالطبع لن يمكنك تجنُّب العَلَنِيَّة. » : وقال
من ناحية أخرى، إذا أقنعت سلطات الشرطة بعدم وجود أي دعوى مُحتَمَلة ضدك، فلا
أجد أي سبب يدعو إلى جعل التفاصيل تجد طريقها إلى صفحات الجرائد. أنا متأكد من
أن المفتش برادسترييت سيُدوِّن أي شيء قد تخبرنا به وسيقدِّمه إلى السلطات المختصة،
«. وبذلك لن تصل القضية إلى المحكمة أبدًا
ليباركك الرب! لقد كنتُ على استعداد لتحمُّل عقوبة السجن، » : صاح السجين بحماس
أجل، وحتى الإعدام، ولا يتسبَّبسِرِّي التعيس في وصمة عار عائلية لأطفالي.
ستكونون أنتم أول مَن يسمع قصتي. كان أبي يعمل ناظر مدرسة في تشيسترفيلد،
حيث تلقَّيْت تعليمًا ممتازًا. سافرت في شبابي واتَّجهت إلى التمثيل بالمسرح، وأخيرًا أصبحت
مراسلًا في صحيفة مسائية في لندن. في يوم من الأيام، كان المحرِّر الذي يرأسني يرغب
في الحصول على سلسلة من المقالات عن التسوُّل في العاصمة، فتطوَّعتُ بتقديمها. وكانت
تلك هي النقطة التي بدأت منها كل مغامراتي. كان السبيل الوحيد الذي سيُمكِّنُني من
الحصول على الحقائق التي سأضع عليها أساسًا لمقالاتي هو أن أجرِّب التسوُّل كهاوٍ.
بلا شك، وبالطبع، عندما كنتُ ممثلًا، تعلَّمت كل أسرار المكياج، وكنتُ مشهورًا في غرفة
التجهيز بالمسرح بمهاراتي في هذا الشأن؛ لذا استفدت من مهاراتي، فدهنت وجهي، ولكي
أجعل نفسي أبدو مثيرًا للشفقة قَدْر الإمكان، رسمتُ ندبةً متقنةً وثَبَّتُّ أحد جوانب شفتي
لتصبح ملتوية باستخدام قطعة صغيرة من اللَّصق لها نفس لون البشرة. وبعد تثبيت
شعر مستعار أحمر اللون، وارتداء الملبس المناسب، اتَّخذت موقعي في الجزء التجاري من
المدينة، متظاهرًا بأنني بائع عُلب أعواد ثقاب، ولكني في الواقع متسوِّل. مارست عملي
لسبع ساعات متواصلة، وعندما كنت أعود إلى المنزل في المساء، كنت أجد، لدهشتي، أنني
قد حصلت على ما لا يقل عن ٢٦ شلنًا و ٤ بنسات.
كتبت مقالاتي وفكَّرت قليلًا في الأمر. بعد مدةٍ، ضَمِنْتُ أحد أصدقائي في دفع فواتيره،
وصدرضدي حكم قضائي بتسديد ٢٥ جنيهًا إسترلينيٍّا. أَعْيَتْني الحيلة في محاولة الحصول
على المال اللازم، ولكن جاءتني فكرة فجأة. توسَّلت إلى الدائن طالبًا منه مهلة أسبوعَين،
وطلبت إجازة من أصحاب العمل، وأمضيتُ الوقت في التسوُّل في المدينة مُتخفيًا. وبعد
عشرة أيام كنتُ قد حصلتُ على المال وسدَّدت الدَّين.
حسنًا، يمكنك تخيُّل مدى صعوبة الاستقرار في عمل شاقٍّ لقاء جنيهَين إسترلينيَّين
في الأسبوع، بينما كنت أعلم أن بوسعي اكتساب المبلغ نفسه تقريبًا في يوم واحد بتلطيخ
وجهي بالقليل من المساحيق، ووضع قبعتي على الأرضوالجلوسبلا حراك. خُضْتُصراعًا
داخليٍّا طويلًا بين كبريائي والرغبة في الحصول على المال، ولكن رغبتي في المال انتصرت في
النهاية، فتخلَّيْتُ عن مهنة المراسل، وقضيت يومًا تلو الآخر في الزاوية التي كنت قد اخترتها
في البداية، مستدرٍّا عطف المارَّة بوجهي المُروِّع ومالئًا جيوبي بالعملات المعدنية. لم يعرف
سِرِّي سوى رجل واحد؛ لقد كان صاحب وَكْر حقير اعتدتُ أن أقُيم فيه في أبر سواندَم لين؛
حيث كان بإمكاني أن أخرج منه كل صباح على هيئة متسوِّل قذر، وفي المساء أتحوَّل إلى
رجلٍ حسن الهندام وأجوب أنحاء المدينة. لقد كنتُ أدفع لهذا البحَّار الهندي مبلغًا جيدًا
من المال لقاء استخدام إحدى غُرَفِه، حتى ضَمِنْت أنسِرِّي كان في أمان معه.
حسنًا، سرعان ما وجدتُ نفسي أدَّخر مبالغ كبيرة من المال. لا أعني بذلك أن أي
متسوِّل يجوب شوارع لندن يمكنه كسب ٧٠٠ جنيه إسترليني في العام — وهو أقل
ممَّا أحصل عليه في المتوسط — ولكنني كنت أتمتع بمزايا استثنائية تتمثَّل في قدرتي
على استخدام المكياج، وأيضًا في مهارة سرعة البديهة، التي تحسَّنت بالممارسة، وجعلتني
شخصية معروفة جدٍّا في المدينة. طوال اليوم كانت تتدفَّق عليَّ البنسات الفضية بمختلف
فئاتها، واليوم الذي كنت أفشل فيه في الحصول على جنيهَين إسترلينيَّين يعتبر يومًا بالغ
السوء.
كلما ازددت ثراءً، ازداد طموحي، فاقتنيتُ منزلًا في الريف، وأخيرًا تزوَّجت، دون أن
تساور الشكوك أي شخص بشأن مهنتي الحقيقية. كانت زوجتي العزيزة تعلم أنَّ لديَّ
عملًا في المدينة، ولكن لم تكن تعلم عنه سوى القليل.
كنت قد انتهيت يوم الإثنين الماضيمن جمع المال في هذا اليوم، وكنت أبَُدِّلُ ملابسيفي
غرفتي التي تقع فوق وكر الأفيون عندما نظرتُ من نافذتي ورأيتُ، لرعبي ودهشتي، أن
زوجتي كانت تقف في الشارع وعيناها مثبتتان بالكامل عليَّ. فصرخت من المفاجأة ورفعتُ
ذراعيَّ لأغطيَ وجهي، وهُرِعْت إلى كاتم سِرِّي، البحَّار الهندي، وتوسَّلت إليه أن يمنع أي
شخصمن الصعود إليَّ. سمعتصوتها بالأسفل، ولكنني كنت أعلم أنه لا يمكنها الصعود.
ألقيتُ ملابسيبسرعة، وارتديتُ ملابسالتسوُّل، ودهنتُ وجهي بالمساحيق ووضعتُ الشعر
المستعار. حتى عينا الزوجة لا تستطيعان تمييز ما يكمن خلف تنكُّر بارع. إلا أنني بعد
ذلك فكَّرت في أن الغرفة قد تتعرَّض للتفتيش، وأن الملابس قد تفضح سري. ففتحت
النافذة على مصراعيها، وتسبَّب عنفي في إعادة فتح جُرح صغير أحدثتُه لنفسي في غرفة
النوم في ذلك الصباح. بعد ذلك أمسكتُ بمعطفي، الذي أثقلتْه قطع النقود النحاسية التي
نقلتُها إليه لتوِّي من الحقيبة الجلدية التي أحمل فيها إيراداتي من التسوُّل. قذفت به من
النافذة، فاختفى في نهر التيمز. كنت سأتُبِعه بالملابسالأخرى، ولكن في تلك اللحظة هُرِعَت
مجموعة من رجال الشرطة تصعد الدَّرَج، وبعد دقائق قليلة، وجدتُ أنهم، بدلًا من التعرُّف
عليَّ بصفتي السيد نيفيل سانت كلير، يُلقون القبض عليَّ باعتباري قاتله، وهو ما أعترف
أنه قد بعث الراحة في نفسي.
لا أدري إن كان هناك أيشيء آخر يمكنني توضيحه. لقد كنتُ مصمِّمًا على الاحتفاظ
بتنكُّري لأطول فترة ممكنة؛ لذا كنت أفضِّل أن يظل وجهي قذرًا. ولعلمي بأن زوجتي
سيعتريها القلق الشديد، فقد خلعتُ خاتمي وأعطيتُه للبحَّار الهندي، في لحظة لم يكن
«. يراقبني فيها أيشرطي، مع رسالة كُتِبَت على عَجَل أخُبِرُها فيها أنه لا داعِيَ للخوف
«. لم تصلها هذه الرسالة إلا أمس » : قال هولمز
«! يا إلهي! لا بد أنها قد قضت أسبوعًا بالغ السوء »
لقد راقبَتِ الشرطة هذا البحَّار الهندي، ويمكنني أن أفهم » : قال المفتش برادسترييت
بوضوح أنه قد يجد صعوبة في إرسال خطاب دون أن يلاحظه أحد. الأرجح أنه سلَّمه لأحد
«. زبائنه من البحَّارة، الذي نسيَه تمامًا لعِدَّة أيام
هكذا كان الأمر فعلًا، ليس لديَّ أدنى شك في هذا. » : قال هولمز وهو يهز رأسه موافقًا
«؟ ولكن هل سبق أن حوكمْتَ بتهمة التسوُّل
«؟ العديد من المرَّات، ولكن ما قيمة الغرامة مقارنةً بما كنتُ أجنيه »
ومع ذلك، فلا بد أن يتوقَّف الأمر عند هذا الحد. إن كانت الشرطة » : قال برادسترييت
«. ستتكتَّم على الأمر، فلا بد أن يختفيَ هيو بون من الوجود تمامًا
«. لقد أقسمتُ على هذا بأغلظ الأيمان التي يمكن لإنسان أن يقسم بها »
في هذه الحالة، أعتقد أنه من المحتمل عدم اتخاذ أي خطوات أخرى في القضية، »
ولكن إن ألُقِيَ القبض عليك مرة أخرى، فحينئذٍ لن يكون ثَمَّة مفرٌّ من كشف الأمر كله.
أنا متأكد يا سيد هولمز أننا ندين لك بالكثير لتوضيح المسألة. ليتني أعرف كيف تتوصَّل
«. إلى نتائجك
توصَّلتُ لنتيجة هذه القضية بالجلوسعلى خمسوسائد وتدخين » : ردَّصديقي قائلًا
أوقية من التَّبغ. أعتقد يا واطسون أننا إذا توجَّهنا إلى شارع بيكر ستريت، فسنصل في
«. الوقت المناسب لتناول الإفطار