artherconan

Share to Social Media

زرتُصديقي السيد شيرلوك هولمز في أحد أيام الخريفمن العام الماضي، فوجدتُه مستغرقًا
في حديثٍ مع رجل مهذبٍ كَهْلٍ سمين، مُتورِّد الوجه، ذي شعرٍ أحمرَ كاللَّهَبِ. كنتُ على
وشك التراجُع معتذرًا عن مقاطعتي لهما، عندما جَذَبني هولمز بسرعة داخلَ الحجرة، وأغلقَ
الباب من خلفي.
«. لم تكنْ لِتأتي في وقتٍ أكثر ملاءمةً من هذا يا عزيزي واطسون » : وقال بحميميَّةٍ
«. خشيتُ أن تكون مشغولًا »
«. نعم، أنا كذلك بالفعل، مشغولٌ جدٍّا »
«. يمكنني انتظارُك إذن في الغرفة المجاورة »
لا، على الإطلاق. هذا الرجل، يا سيد ويلسون، لطالما كانشريكًا ومساعدًا لي في العديد »
«. من قضاياي الناجِحة، ولا يُساوِرُني شكٌّ في أنه سيكون ذا فائدة عظيمة في قضيَّتِك
نهضالرجل البَدينُ في نصف وقفة، وحرَّك رأسه مُرحِّبًا، وألقى نظرةً عَجلى من عينَين
متسائلتَين مُحاطتَين بالدُّهون.
قال هولمز، وهو يعود ليجلس على كرسيِّه المريح ضامٍّا أصابعَه، كما كانت عادته عند
فلتجلسْ على الأريكة يا عزيزي واطسون، فأنا أعلم أنك » : التفكير بعمق للحُكم على الأشياء
تتقاسم حبِّي لكل ما هو غريب ومخالفٌ لعاداتِ ورتابةِ روتين الحياة اليومية. لقد أبدَيتَ
وَلَعك بذلك من خلال الحماس الذي دفعك إلى التسجيل الزمني للأحداث، أو فلتَسمحْ لي
«. أن أقول: تزيينُ الكثير من مغامراتي
«. لطالما كانت قضاياك ذات أهميةٍ كُبرى بالنسبة لي » : قلتُ
كما تذكر فقد قلتُ يومًا، قبل أن نبدأ العمل في القضية البسيطة للغاية التي عرضَتْها »
الآنسة ماري ساذرلاند مباشرةً: إننا يجب أن نقصد الحياة ذاتها؛ من أجل تفسير التأثيرات
عُصبة ذوي الشعر الأحمر
الغريبة والتركيبات غير العادية، وأنَّنا سنجد في الحياة ما هو أكثر جرأةً ممَّا قد يخطُر على
«. الخيال
«. وهو الأمر الذي سمحتُ لنفسي أن أشكِّك في صحته »
هذا صحيحٌ يا دكتور، لقد فعلتَ، ولكن مع ذلك يجب أن تسلِّم بوجهة نظري، »
وإلا فسأواصل تكديس الحقائقِ الواحدة فوق الأخرى أمامك؛ حتى ينهارَ منطِقُك تحت
وطأَتها، وتعترف بأنني على صواب. والآن، أكرمني السيد جابز ويلسون بزيارتِه هذا
الصباح، وحكى بالتفصيل قِصةً تنبئُ بأن تكون واحدةً من أغرب القضايا التي استمعتُ
إليها منذ زمن. لقد سمِعْتَني وأنا أقول: إن أكثر الأشياء غرابةً وتفرُّدًا لا ترتبط في كثير من
الأحيان بالجرائم الكُبرى، وإنَّما بالجرائم الصغرى، وأحيانًا نجدها، في الواقع، عندما يكون
هناك مجالٌ للشكِّ أن هناك جريمة مؤكَّدة قد ارتُكبَت. وبحسب ما سمعت من الحكاية،
لا يمكنني أن أجزم ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتُكبَت بالفعل أم لا، ولكن مسارَ
الأحداثِ بالتأكيد من بين أكثر الأحداث التي استمعت إليها غرابةً. ربما تتفضَّل يا سيد
ويلسون بإعادةسَرْد الأحداث مرةً أخرى. أنا أطلب ذلك لا لأن صديقي السيد واطسون لم
يسمع بداية الحديث، ولكن أيضًا لأن الطبيعةَ الغريبة للقصَّة تجعلني متشوِّقًا لسَماع كل
التفاصيل المُمكِنة من شَفتَيك. وكقاعدةٍ عامة، عندما أستمع إلى بعض الإشارات البسيطة
لتسلسل الأحداث، فإنني أسترشدُ بآلافِ القضايا المماثلةِ الأخرى التي تخطُر على بالي. إلا
«. أنني في الوضع الراهن مضطرٌّ للاعتراف أن هذه الوقائعَ — حسب ما أرى — غير عادية
نفَخ العميل البَدينُ صدرَه — وقد بدا عليه الفخر قليلًا — وسحب صحيفةً متسخةً
مجعَّدةً من الجيب الداخلي لمعطفه الثقيل. وبينما كان ينظر إلى عمود الإعلانات في الصحيفة،
مع توجيه رأسه للأمام والورقة منبسطة على ركبتَيه، ألقيتُ نظرةً فاحصةً على الرجل
وجهدتُ، كعادة رفيقي، في قراءة المؤشرات التي قد يبديها زِيُّه أو مظهره.
ومع ذلك، فلم أجنِ الكثير من المعلومات بتفحُّصيإيَّاه؛ إذ كان لدى زائرنا كلُّ الدلائل
التي تشير إلى أنه تاجرٌ بريطاني عادِيٌّ من النوع المألوف، يُعاني من السِّمْنة المُفرطة
والغرور والتراخي. كان يرتدي بنطالًا واسعًا ذا مربعاتٍ رماديَّة وبيضاء، وعليه سترةٌ
سوداء غير نظيفة مشقوقة الذَّيل، لم تُزرَّر من الأمام، تصل إلى ركبتَيه، وصدرية رمادية
تتدلَّى منها سلسلة جَيْب نحاسية ثقيلة، معلَّق بطرفِها قطعة معدنية مربَّعة الشكل كنوع
من الزينة. وبجانبه على الكرسيِّاستقرَّت قبَّعة أعلاها مهترئٌ، ومعطف بُنِّيٌّ باهت له ياقة
مِخمَلية مُجعَّدة. وعلى الرغم من إمعاني النظر فإنه لم يكن هنالكشيء يَلفِت الانتباهَ فيما
يخصُّ الرجل، باستثناءِ شعر رأسه المُتوهِّج احمرارًا، وما يبدو على ملامحه من استِياءٍ
وانزعاج.
سرعان ما لاحظ شيرلوك هولمز بنظره الحادِّ نظراتي المتسائلة، فهزَّ رأسه مبتسمًا،
لم أستطع التوصُّلَ إلى أكثرَ من كَوْنه مارس لفترةٍ ما عملًا يدويٍّا، وأنه يتعاطى » : وقال
السَّعُوط، وأنه عضوٌ ماسونيٌّ، وأنه قد زار الصين من قبل، وأنه قد قام بالكثير من الكتابة
«. مؤخَّرًا
قفز السيد ويلسون من فوق كرسيِّه، بينما كانت أصبعه السَّبابة لا تزال على الورقة،
وعيناه تنظران إلى رفيقي.
كيف بالله عليك استطعتَ أن تعلمَ كلَّ هذا يا سيد هولمز؟ كيف عرفتَ » : وصاح قائلًا
مثلًا أنني مارست أعمالًا يدويةً، إن ما قلتَهُ صحيحٌ تمامًا، حيث قد عملت في بدايتي نجَّارًا
«. على إحدى السفن
من يديك سيدي العزيز، فيدُكَ اليمنى أكبر قليلًا من يدك اليُسرى، ما يعني أنك كنت »
«. تعمل بها، فنَمَت عضلاتها أكثر من الأخرى
«؟ حسنًا، ماذا بشأن السَّعُوط إذن، والماسونية »
لن أقدَح في ذكائك بإخباركَ كيف استطعتُ الاستدلالَ على ذلك، لكن برغم التكتُّم »
الشديد على إظهار الرموز فإنك ترتدي رمز الماسونية (المثلَّث والفِرْجار) دبُّوسًا على
«. صدرك
«؟ آه! بالطبع لقد نسيت ذلك، لكن كيف عرفت بشأن الكتابة »
وهل أَدَلُّ على ذلك من اهتراء طرف كُمِّك الأيمن من عند الِمعْصم، ووجود بقعة مَلْساء »
«؟ عند كوعك الأيسر من المنطقة التي تستند بها على المكتب
«؟ حسنًا، وماذا عن الصين »
إن السمكة التي وَشَمْتَها أسفل رُسْغك الأيمن لا يمكن وَشْمها إلا في الصين، لقد قمت »
بدراسة عن علامات الوُشُوم، وساهمت بالكتابة في الموضوع، إن التلوين الدقيق لحَراشِف
السمكة باللون الوَرْدي تنفرد به الصين، كما أنني رأيتُ عملةً صينيةً تتدلَّى من سلسلة
«. الساعة، وهو ما جعل الأمر أكثر وضوحًا بالنسبة لي
حسنًا، لم يخطر هذا على بالي مطلقًا! لقد » : ضحك السيد جابز ويلسون بقوة قائلًا
«. ظننتُ في بادئ الأمر أنك قمت بعملٍ فائق الذكاء، إلا أنني أرى الآن أن الأمر كان بديهيٍّا
أظن أنني أخطئ يا واطسون بصراحتي هذه، فالجهل بالشيء يجعله أكثر » : قال هولمز
روعةً، وإن التزامي بالصراحة والوضوح قد يكلِّف سمعتي المتواضعة غاليًا، ألم تستطع
«؟ العثور على الإعلان بعد يا سيد ويلسون
بلى، ها قد » : قال، وأصبعه الحمراء الغليظة مُثبتة على منتصف أحد أعمدة الصحيفة
«. وجدته، ها هو، هذا بداية الأمر بِرُمَّته، يمكنك قراءته بنفسك يا سيدي
أخذْتُ منه الصحيفة، وشرعْتُ في قراءة ما يلي:
تُعلن عُصبة ذوي الشعر الأحمر — بناءً على وصية المرحوم إيزيكيا هوبكنز من
مقاطعة لبنان في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية — عن توفُّر وظيفة
شاغرة، وهي تطلب لها موظفًا براتب أسبوعيٍّ قيمته أربعة جنيهات إسترلينية،
مقابل خدمة بسيطة للغاية؛ أيُّما رجل ذي شعر أحمر يَجِد في نفسه القدرةَ
البدنية والذهنية، ويكون قد تخطَّى سِنَّ الواحد والعشرين عامًا؛ فهو مُؤهَّلٌ
لهذه الوظيفة، وعليه أن يتقدَّم شخصيٍّا يوم الإثنين، في تمام الساعة الحادية
عشرة في مَقرِّ العُصبة ٧ شارع محكمة البابا، مُتفرِّع من شارع فليت.
«؟ ما معنى هذا بحقِّ السماء » : هتفتُ قائلًا، بعد أن قرأت الإعلان مرَّتَين
ضحك هولمز ضحكةً مكتومةً، وتلوَّى في كرسيِّه كعادته عندما تكون معنوياته
إنَّه شيءٌ خارج المألوف أليس كذلك؟! والآن يا سيد ويلسون لنَعُدْ إلى » : مرتفعةً، وقال
البداية، احْكِ لنا كلَّشيء عن نفسك، وعن الأفراد المقيمين معك، وعن تأثير هذا الإعلان على
ثَروتك، لكن قبل كل شيء يا دكتور واطسون دوِّن في ملاحظاتك: اسم الجريدة، وتاريخ
«. صدور العدد
إنَّها صحيفة الكرونيكل الصباحية، بتاريخ ٢٧ أبريل من عام ١٨٩٠ ، منذ شهرَين »
«. فقط
«. جيِّد جدٍّا، والآن يا سيد ويلسون، فلتتفضَّل »
حسنًا، الأمر كما قلتُ لك تمامًا يا سيد » : قال السيد جابز ويلسون ماسحًا جَبينَهُ
هولمز، أنا سمسار رهونات، لديَّ مكتبٌ صغيرٌ في ميدان كوبورج، بالقُرب من المدينة. إنه
ليس عملًا تجاريٍّا كبيرًا، كما أنني في السنوات الأخيرة لم أَجْنِ منه أكثرَ من الكَفَاف. لقد
كنتُ معتادًا على الاستعانة بمساعدَين اثنَين، لكنني الآن لا يُمكنني إلا الإبقاء على واحد
فقط، ولم أكنْ حتى لأسَتطيع تحمُّلَ راتبِه لولا أنه وافق على أن يتَقاضَىنصفَ راتبِه مقابل
«. تعلُّم الِمهنة
«؟ ما اسمُ هذا الشابِّ الكريم » : سأل هولمز
اسمه فينسنت سبولدنج، كما أنه ليس شابٍّا، ومن الصَّعب تحديدُ عمرِه. ولم أكن »
لأتمنَّى مساعدًا أذكى منه يا سيد هولمز، وأنا على يقينٍ أنه يُمكنه أن يجِد وظيفةً أفضل
وأن يجني ضِعْف ما أعطيه إيَّاه، ولكن على أية حال، ما دام راضيًا بوضعه، فلِمَ عليَّ أن
«؟ أنبِّهه لذلك
صحيح، لماذا عليك فعلُ ذلك؟ يبدو أنك محظوظ جدٍّا بالحصول على خدمات مثل »
هذا الموظف الذي قَبِل بأَجْرٍ أقل من المتعارف عليه. فليس هذا شائعًا لدى أربابِ العمَل في
«. هذا الزَّمان، وأرى أن مساعدَك جديرٌ بالملاحَظة كإعلان الصَّحيفةِ تمامًا
آه، إن له عيوبَه أيضًا، فلم أرَ شخصًا في مثل وَلَعِه بالتصوير الفوتوغرافي، فهو »
ينشغل بالتصوير في الوقت الذي ينبغي فيه أن يعمَل على تطوير تفكيره، ثم يغوصُ في
السرداب — كما يختفي الأرنب في جُحْره — لتحميضالصُّوَر. هذا هو عَيْبُه الرئيسي، لكنه
«. في المُجْمل عاملٌ جيِّد ولا غُبار عليه
«؟ أفترضأنه لا يزال يعملُ لديك، أليس كذلك »
نعم سيدي، لا يزال يعمل لديَّ هو وفتاة في الرابعة عشرة من عمرها، تقوم ببعض »
الطَّهْو البسيط، وتحافظ على إبقاء المكان نظيفًا، وهما كل ما لديَّ في منزلي، لأنني أرملٌ،
ولم أَحْظَ بعائلة قَطُّ. نحن الثلاثة نعيش في هدوء تام سيدي، إننا نحافظ على المكان الذي
نعيش تحت سقفِه وندفع المستحقَّات التي علينا، ولاشيءَ أكثرُ من ذلك.
إن أول ما أزعَجنا كان ذلك الإعلان، حيث جاء سبولدنج إلى مكتبي في مثل هذا اليوم
منذ ثمانية أسابيع، ومعه في يده هذه الصحيفة بعَيْنها، وقال:
«! كم أتمنى لو كنتُ ذا شعرٍ أحمر يا سيد ويلسون »
«؟ ولماذا » : سألته
لماذا؟ ها هي وظيفة أخرى شاغِرة في عُصبة الرجال ذوي الشعر الأحمر، وهي » : قال
تساوي ثروةً صغيرةً لأيِّ رجلٍ يحصُل عليها، وما فهمتُهُ هو أن الوظائفَ المتاحة أكثر من
الأشخاصالمؤهَّلين لها، لذا فالأوصياء على التَّرِكة لا يدرون ماذا يصنعون بالأموال، لو أنَّ
«. بإمكاني صَبْغَ شعري بالأحمر فقط، لكان لديَّ فرصة أن أحصل على تلك الوظيفة
حيث إنني يا سيد هولمز رجلٌ أحِبُّ لزوم منزلي، كما «؟ لماذا؟ ماذا في الأمر » : سألته
أن عملي هو مَن يأتي إليَّ ولستُ مضطرٍّا للخروج إليه، وقد تمرُّ الأسابيع دون أن أَطَأَ عتبة
بيتي؛ لذا فأنا لا أعرف الكثير عمَّا يدور بالخارج، وأسعد بأيِّ خبرٍ يأتي من هناك.
«؟ ألَمْ تسمع قطُّ بعُصبة الرجال ذوي الشعر الأحمر » : سألني بعينَين مندهشتَين
«. مطلقًا » : قلْتُ
«. هذا أمرٌ يدعو للعجَب، حيث إنَّك من المؤهَّلين لإحدَى هذه الوظائف » : قال
«؟ وما المقابل » : سألته
«. تقريبًا مائتا جنيه في العام، لكن العمل بسيط، ولا يتعارضمع أي عمل آخر »
حسنًا يمكنُك أن ترى الآن بسهولة كيف أنَّ هذا الأمر حاز اهتمامي، فأعمالي لم تكُن
على ما يُرام لسنوات، ومائتا جنيه إضافية ستكون مفيدة جدٍّا.
«. أخبرني أكثر عن تفاصيل الأمر » : قلتُ له
حسنًا، يمكن أن ترى أن العُصبة لديها وظائف شاغرة، » : قال وهو يريني الإعلان
وهذا هو العنوان الذي يجب أن تُقدِّم فيه الطلب، وعلى حسب معلوماتي فإن العُصبة
أسَّسها المليونير الأمريكي إيزيكيا هوبكنز، والذي كان ذا سيرة عجيبة، فقد كان هو ذاتُه
ذا شعر أحمر، وكان لديه تعاطُف كبير تِجاه الرجال ذوي الشعر الأحمر، وعندما وافَتْه
المنية ترك ثروةًضخمةً في عُهدة الأوصياء، مع تعليمات أن تُخصَّصالعوائد من أجل توفير
«. أعمال سهلة للرجال ذوي الشعر الأحمر، وكل ما سمعته أن الأجر ممتاز، والعمل بسيط
لكن قد يكون هناك الملايين من الرجال ذوي الشعر الأحمر الذين سيتقدَّمون » : سألتُه
«. للوظيفة
إنهم ليسوا بتلك الكثرة التي تعتقدها، فكما ترى يقتصرالأمر على الأشخاص » : قال
البالغين المُقيمين في لندن فقط، فقد بدأ ذلك الأمريكي طريقَهُ من لندن عندما كان صغيرًا،
وأراد أن يرُدَّ المعروف للمدينة العجوز، كما أنني سمعت أيضًا أنه لن يكون هناك فائدة من
التقديم إن كان لون الشعر فاتحًا أو داكنًا، بل يجب أن يكون أحمر زاهيًا مُتوهِّجًا، والآن
إن قرَّرت التقديم يا سيد ويلسون فسوفتحصل عليها بمنتهى السهولة، ولكن ربما يكون
«. الأمر أقل شأنًا من أن تغيِّر له نمط حياتك وعاداتك من أجل بضع مئات من الجنيهات
في حقيقة الأمَرِ أيها السادة، وكما ترون بأنفسكم، إن شعري ذو لون زاهٍ وصارخ،
وقد بدا لي أنه لو كان هناك أي تنافسعلى هذا الأمر؛ فإن فرصتي فيه أفضل من فرصة أي
شخصٍقابلتُهُ في حياتي، وبما أن فينسنت سبولدنج يعرفعن هذا الأمر الكثير، فقد فكَّرت
في أنه ربما يكون مفيدًا؛ لذا أمرته أن يغلق المكتبَ لهذا اليوم، وأن يأتيَ معي في الحال، وقد
بدا سعيدًا للحُصول على يوم إجازة، وهكذا أغلقنا المكتب، وتوجَّهنا نحو العنوان المُدوَّن في
إعلان الجريدة.
لا أتمنى أن أرى مثل هذا المنظر مرةً أخرى يا سيد هولمز؛ فقد حضر كل رجل في
شعره مِسْحَة من احمرار من شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها؛ تلبيةً لإعلان الصحيفة،
واكتظَّ شارع فليت بذوي الرءُوسالحمراء، وتحوَّل شارع محكمة البابا إلى ما يشبه عربة
الخضريِّ الممتلئة بالبرتقال. لم أكن أعتقد أن في البلاد بأكملها كلَّ هذا العدد من ذوي
الرءوس الحمراء، لولا أن جَمَعَهم هذا الإعلان الأوَْحَد. كان هناك كل درجات الألوان بدايةً
منصُفْرَة القَشِّوالليمونيِّ والبرتقاليِّ والأحمر الطوبيِّ، والبُنيِّ المائل للكِسْتنائي (لون كلب
الصيد من نوع آيريش سيتير)، والبُنيِّ الضارب للحُمْرة، والبُنيِّ الصَّلْصالي، ولكن — كما
قال سبولدنج — لم يكن هناك الكثير من أصحاب الشَّعر الأحمر المُتوهِّجِ الزَّاهي. عندما
رأيتُ كَمَّ المنتظرين، تملَّكني اليأس وكِدْت أستسلم، ولكن سبولدنج لم يكن لِيسمح بذلك،
إن ما قام به لم أكن لأتخيَلَه، فقد أخذ يدفع الناسويجذبهم ويناطحهم؛ حتى استطاع أن
يجد لي طريقًا وسط تلك الحشود، ليوصِّلني إلى الدَّرَج المؤدِّي إلى المكتب. كان ثمةَ طابوران
من الناس على الدَّرَج، أحدهما يصعد في أمل باتجاه المكتب، والآخر يهبط في كآبة وقد
«. رُفض، ولكننا واصلنا شقَّ طريقنا بصعوبة؛ حتى انتهى بنا الأمرسريعًا في المكتب
قال هولمز مُعلِّقا، عندما اعترى عميلَنا الصمت وهو يحاول إنعاشَ ذاكرتِه باستنشاق
«. لقد كانت تجربتك ممتعةً جدٍّا، أرجو أن تكمل لنا روايتك المثيرة للاهتمام » : السَّعوط
لم يكن في المكتب سوى كرسيَّين خشبيَّين وطاولة، يجلس خلفها » : أكمل العميل قائلًا
رجل صغير الحجم، ذو شعر أكثر احمرارًا حتى من شعري. كان يقول بضع كلمات لكل
مُرشَّح يدخل عليه، وكان ينجح دائمًا في إيجاد عيبٍ ما في كل مُرشَّح يستبعده من المنافسة.
لقد بدا أن الحصول على هذه الوظيفة ليس بالأمر السهل أبدًا. على أية حال، عندما حان
دَوْرُنا، أظهر الرجل اهتمامًا بي أكثر من أي مُتقدِّم آخر، وأغلق الباب بعد دخولنا؛ ليتسنَّى
«. له أن يخاطبنا على انفراد
هذا هو السيد جابز ويلسون، وهو يطمح في شَغْل الوظيفة المتاحة في » : قال مساعدي
«. العُصبة
وهو مناسب لها بشكل رائع، فهو مستوفٍ لكل متطلباتها، إنني » : أجاب الرجل الآخر
ثم أخذ خطوة للوراء وأمال رأسه، وأخذ «. حتى لا أذكر متى رأيت شيئًا بتلك الملاءمة
يُحدِّق فيَّ حتى استحييت، ثم مال باتجاهي بطريقة مفاجئة وصافحني بقوة مهنئًا إيايَ
بحرارة لحصولي على الوظيفة.
سيكون من الإجحافأن أتردَّد. لكنني متأكِّد أنك ستعذرني لاتخاذي إجراءات » : وقال
قال ذلك وقبض بكلتا يديه على شعري وشَدَّه «. واضحة للتأكُّد من صحة توفُّر الشروط
هناك دموعٌ في عينيك، » : بعنف حتىصرَخت من شدة الألم. ثم قال بعد أن أفلَتَ شعري
وأعتقد أن كلَّ شيء كما ينبغي، لكننا يجب علينا أن نكون حَذِرين؛ إذ تعرَّضنا للاحتيال
مرتَين؛ مرةً باستخدام الشعر المُستَعار، ومرةً بالشعر المصبوغ، يمكنني أن أخبرك حكايات
بعد ذلك ذهب إلى النافذة، «. عن شمع الإسكافي ستشعرك بالاشمئزاز من الطبيعة البشرية
وصرخ بأعلى صوتِه معلنًا أن الوظيفة الشاغرة قد شُغلَت. تصاعدت صَيْحات التذمُّر
المُحبَطة من الأسفل، وتفرَّقَت الجموع مبتعدةً في اتجاهات شتَّى؛ حتى لم يبقَ ذو شعر
أحمر سواي أنا والمدير.
اسمي السيد دنكان روس، وأنا نفسي أحد المستفيدين من التَّرِكة التي أوصى » : قال
«؟ بها مُحسِننا النبيل، هل أنت متزوج يا سيد ويلسون؟ ألديك أسرة
أجبته نافيًا ذلك.
فتغيَّر وجهُه على الفور.
يا إلهي! هذا أمرٌ جِدُّ خطير، آسِفٌ لسماعي ذلك، لأن الغَرَض من » : وقال بحزن
التمويل في الأصل هو تكاثُر وزيادة أعداد ذوي الشعر الأحمر وإعالتهم. إنه لمن الحظ
«. السيء جدٍّا أن تكون عَزَبًا
عند ذلك شعرتُ بالكآبة يا سيد هولمز، فقد ظننت أنني لن أحصل على الوظيفة بعد
كل هذا، ولكنه قال، بعد أن فكَّر لعدَّة دقائق: إن الأمرَ قد ينجح.
لو كان شخصٌ غيرك يا سيد ويلسون لمَا نجح معه الأمر، ولكان عدم قبوله شيئًا »
مفروغًا منه، ولكنهشرطٌ يمكننا التغاضيعنه، نظرًا لأنك رجلٌ لديه مثل هذا الشعر الذي
«؟ على رأسك. متي يمكنك البدء في ممارسة مهامِّ عملك الجديد
«. إن الأمر مزعج بعضَالشيء، إذ إنني لديَّ بالفعل عملٌ آخر » : قلت له
«. آه، لا تحمل هم ذلك يا سيد ويلسون، فسأعتني بذلك لأجلك » : قال فينسنت سبولدنج
«؟ ما هي ساعات العمل » : قلت
«. من العاشرة إلى الثانية » : قال الرجل
إن أعمال سمسرة العقارات يا سيد هولمز غالبًا ما تجري في المساء، خصوصًا مساء
الخميس والجمعة، واللذين يكونان قُبَيل يوم الدفع للمُستحِقِّين؛ لذا فقد بدا لي أنه سيكون
من المناسب جدٍّا أن أكسب القليل من المال الإضافي في الفترة الصباحية، كما أنني على عِلْم
أن مساعدي رجلٌ طيِّبٌ، وسيُحسِن التصرُّف مع أي مُستجدَّات في العمل.
«؟ هذا يناسبني جدٍّا، وماذا عن الراتب » : قلت
«. أربعة جنيهات أسبوعيٍّا »
«؟ وما هي طبيعة العمل »
«. إنه عملٌ سهلٌ للغاية »
«؟ وما هو ذلك العمل الذي تصِفُه بأنه سهلٌ للغاية »
حسنًا، ينبغي عليك التواجُد في المكتب، أو في المبنى على الأقل، طوال الوقت. لو »
انصرفت في أي وقت طوال فترة عملك؛ فستخسر هذه الوظيفة للأبََد، إن الوصية واضحة
جدٍّا فيما يخصُّهذا الشرط، ولن تكون ملتزمًا بالشروط إن تحرَّكْتَ من المكتب طوال ذلك
«. الوقت
«. إن ساعات العمل أربع ساعات فقط، ولن أفكِّر في الانصراف » : قلتُ
لن تُقبَل أيَّةُ أعذار؛ لا أعذار مرضية، ولا بسبب أعمالك، ولا » : قال السيد دنكان روس
«. أيَّة أعذار أخرى، وسيتوجب عليك المكوث هناك وإلا فستخسر وظيفتك
«؟ وما هي طبيعة العمل »
ستقوم بنسخ دائرة المعارف البريطانية، ها هو المجلد الأول منها، سيتوجب عليك »
إحضار الحِبْر والأقلام وورق تجفيف الحِبْر، وسنوفِّرُ نحن لك هذه الطاولة والكرسي. هل
«؟ ستكون جاهزًا غدًا
«. بالتأكيد، سأكون جاهزًا »
إلى اللقاء إذن يا سيد جابز ويلسون، واسمح لي أن أهنِّئك مرةً أخرى على هذا المنصب »
وانحنى لي وأنا خارج من المكتب، ثم «. المهمِّ الذي كنت محظوظًا كفايةً للحصول عليه
ذهبتُ إلى منزلي مع مساعدي، وأنا لا أدري ما أقول ولا ما أفعله من شدَّة سعادتي بحسن
حَظِّي.
حسنًا، لقد ظللت أفكِّر في الأمر طوال اليوم، وعند حلول المساء كانت معنوياتي قد
انخفضت مرةً أخرى، وأقنَعتُ نفسيأن الأمر لا يعدو عملية خداع أو نَصْب كبيرة، ولكنني
لم أستطِعْ تحديد المغزى منها، ولا الغرض من ورائها. فقد كان من الصَّعب تصديقُ أن
يقوم شخصٌ ما بكتابة مثل هذه الوصية، أو بدَفْع مثل ذلك المبلغ نظير عمل في بساطة
نَسخ الموسوعة البريطانية. لقد فعل فينسنت سبولدنج كل ما في استطاعتِه ليبهجني، ولكن
عند حلول وقتِ النوم كنت قد أقنعتُ نفسيبعدم جدِّيَّة الأمر كله، وعقدت العزم في الصباح
على إلقاء نظرة مرة أخرى في الأمر برُمَّتِه، فاشتريت زجاجة حِبْر صغيرةً، وقلمًا مصنوعًا
من الرِّيش، وسبع رُزَمٍ من الأوراق، ثم اتَّجهت إلى المكتب.
بلغ السرورُ والدهشة مني مَبلغًا عندما رأيت كلشيءٍ كما يَنبغي له أن يكون. فرأيت
الطاولة موضوعةً هناك لأجلي، والسيد دنكان روس كان حاضرًا؛ ليتأكَّد من حُضوري في
الموعد المُحدَّد، وقد تابعني حتى بدأت النسخ من أول الموسوعة ثم تركَني ومضَى، على أن
يمرَّ عليَّ من وقت لآخر؛ ليرى إن كانت أموري تسير بشَكلٍ سليم. وفي تمام الساعة الثانية
تمنَّى لي يومًا طيِّبًا، وأظهر إعجابه بالقَدْر الذي نسخته من الموسوعة، وأغلق الباب خلفي
بعد خروجي.
جرى الأمر على هذا المنوال يومًا بعد يوم يا سيد هولمز، وفي يوم السبت أتى المدير ودفع
لي أربعة جنيهات ذهبيةً نظير عملي لأسبوع. تكرَّر الأمر في الأسبوع التالي ثم الأسبوع الذي
يليه، كنت أذهب إلى هناك في العاشرة صباحًا، وأنصرِف في الثانية بعد الظهر، وبالتدريج
أصبح السيد دنكان يأتي مرةً واحدةً صباح كل يوم، ثم بعد ذلك لم يَعُدْ يأتي مطلقًا،
ومع ذلك لم أجرؤ على الخروج من الغرفة قطُّ، لأنني لم أكُن أعلم متى سيأتي، وقد كانت
الوظيفة جيدةً ومناسبةً لي جدٍّا، ولم أكن لأخاطر بضَياعها من يدي.
مرَّت ثمانية أسابيع على هذا الحال، كتبت فيها الشيء الكثير ممَّا يبدأ بحرف الألف، »
وتمنَّيْتُ أن أصل لحرف الباء قريبًا. لقد كلَّفني ذلك الكثير من الورق وملأت كتاباتي ما
«. يقرب من رَفٍّ كامل، ثم انتهى كلُّشيء فجأةً
«؟ انتهى كلشيء فجأةً »
نعم يا سيدي، حدث هذا صباح هذا اليوم، حين ذهبت إلى عملي كالمعتاد في الساعة »
العاشرة، لكن الباب كان موصدًا وعليه قطعة مُربَّعة صغيرة من الورق المُقوَّى مُثبَّتة
«. بمسمار في وسط الباب، ها هي، يمكنك قراءَتها بنفسك
ثم أمسك بقطعة بيضاء من الورق المُقوَّى بحَجم ورقة الملاحظات، كُتِبَ عليها ما يلي:
حُلَّتْ عُصبة ذوي الشعر الأحمر
. في ٩ أكتوبر ١٨٩٠
تفحَّصْت أنا وشيرلوك هولمز هذا الإعلان المُقتَضَب ووجهَ الرجل الكئيب، حتى غلب
الجانب الهزليُّ للموقف تمامًا على أيَّة اعتبارات أخرى. فانفجرنا ضاحكَين.
لا أرى في الأمر أي مَدْعاة » : هتف عميلُنا، وقد احمرَّ وجهُهُ حتى منابت شَعْرِه المُتوهِّج
«. للضحك، إذا لم يكن لديكما ما تفعلانه سوى السخرية مني؛ فيمكنني الذهاب لمكان آخر
لا لا، أنا لن » : صاح هولمز، وهو يعيد الرجل إلى كرسيِّه الذي هَمَّ بالقيام عنه قائلًا
أترك قضيَّتَك مهما بلغ الأمر، فهي غريبة بشكل مُنعِش. ولكن اعذرني إن قلت لك إنها
«؟ طريفة إلى حدٍّ ما. أرجوك أن تقول لي ماذا صنعت عندما قرأتَ الورقة المُعلَّقة على الباب
لقد كنت أترنَّح يا سيدي، لم أكن أدري ماذا أصنع، وقمت بسؤال المَكاتِبِ المُجاوِرة، »
لكن أحدًا لم يكن يعلم أي شيء عن الأمر، وفي نهاية الأمر ذهبتُ إلى صاحب المبنى، وهو
محاسبٌ يعيشفي الطابق الأرضيِّ، وسألته عمَّا إذا كان يستطيع إخباري بما حلَّ بالعُصبة،
لكنه قال إنه لم يسمع بهذا الكيان من قبل، ثم سألته مَن يكون السيد دنكان روس،
فأخبرني أن هذا الاسم لم يطرق سَمْعه من قبل.
«؟ حسنًا ماذا عن الرجل المُهذَّب في المكتب رقم ٤ » : قلت له
«؟ أتقصد الرجل ذا الشعر الأحمر »
«. نعم »
آه، اسمه السيد ويليام موريس، وهو محامٍ كان يستخدم إحدى حجراتي كمأوًى »
«. مؤقَّت حتى يجهِّز مبناه، وقد انتقلَ بالأمس
«؟ أين يمكنني إيجاده »
آه، في مكتبه الجديد، لقد أخبرني بعنوانه، ١٧ شارع الملك إدوارد، بالقُرب من كنيسة »
«. سانت بول
مَضَيْت يا سيد هولمز، لكن عندما وصَلتُ للعنوان وجدتُه مصنعًا للرُّكَب الاصطناعية،
«. ولم أجد هناك مَن سمع بالسيد ويليام موريس، أو السيد دنكان روس
«؟ ماذا صنعتَ عندها » : قال هولمز
عُدْت إلى منزلي بساحة ساكس كوبورج، وأخذت بنصيحة مساعدي، ولكنها لم تغنِ »
عني شيئًا، إذ قال لي أن أنتظر حتى أسمع بالأمر عن طريق البريد، ولكنها نصيحة لم تكن
جيدةً كفايةً يا سيد هولمز، لم أشَأْ أن أخسرهذا العمل دون أن أبذل جهدي للحفاظ عليه.
ولأنني سمعت أنك لا تتوانى عن تقديم النُّصح للمُحتاجين، فقد أتيتُ إليك مباشرةً يا سيد
«. هولمز
وهو تصرُّفٌ حكيم جدٍّا، فقضيَّتُك غريبةٌ لأبعد الحدود، ولسوف أكون » : قال هولمز
سعيدًا بالنَّظَر فيها، وممَّا أخبرتني إيَّاه، أعتقِدُ أن في الأمر خطرًا أكبر ممَّا قد يبدو من
«. الوهلة الأولى
خطيرٌ كفايةً! فقد كلَّفني خسارة أربعة جنيهات في » : قال السيد جابز ويلسون
«. الأسبوع
أمَّا فيما يخصُّ شخصَك، فلا أرى أساسًا أيَّ مَظْلَمة وقعت عليك » : قال هولمز مُعلِّقًا
من هذه العُصبة غير المعتادة، بل على العكسمن ذلك فقد جعلتك أغنى من ذي قبل بحوالَيْ
ثلاثين جنيهًا كما فهمت منك، هذا إن لم نأخذ في الاعتبار المعلومات الدقيقة التي اكتسبتها
«. من المواضيع التي نسخْتَها البادئة بحرف الألف؛ لذا فأنت لم تخسر أيشيء بسببهم
لا سيدي، ولكنني أريدُ أن أعرف كل شيء عن حقيقة هذه العُصبة، ومن هُم »
أصحابها؟ وماذا كان الهدف من وراء هذه المُزْحَة؟ إن كانت كذلك؛ فهي مُزْحَة مُكلِّفة جدٍّا
«. في رأيي، إذ كلَّفَتْهم اثنين وثلاثين جنيهًا
سنسعى جاهِدِينَ لتوضيح هذه النقاط من أجلك، ولكن أولًا، لديَّ سؤال أو اثنان »
أودُّ منك الإجابة عليهما يا سيد ويلسون. مساعدك الذي لفت نظرك للإعلان أول مرة، كم
«؟ من الوقت كان قد عمل لديك وقتها
«. كان قد عمل لمدة شَهرٍ تقريبًا »
«؟ كيف حصَل على وظيفتِه »
«. عن طريق إعلان »
«؟ هل كان هو المُتقدِّم الوحيد »
«. لا، بل كان هناك الكثيرون »
«؟ ولِمَ اخترتَهُ هو بالتحديد »
«. لأنه كان بارعًا وقَبِل بالأجر الزهيد »
«. بل بنصف الأجر في الواقع »
«. نعم »
«؟ كيف يبدو، فينسنت سبولدنج هذا »
صغير الحجم، قويَّ البِنْيَة، حليق الوجه، سريع الحركة جدٍّا، ولا يقلُّ عمره عن »
«. الثلاثين عامًا، وعلى جبهته بقعةٌ بيضاء من أَثَر حَرْق قديم
ذلك ما توقَّعْتُه، هل لاحظتَ إن كانت » : اعتدل هولمز في جلسته، وقال في انفعال واضح
«؟ أذناه مثقوبتَين
«. أجل يا سيدي، وقد أخبرني أن غَجَرِيٍّا صنع له ذلك عندما كان صَبِيٍّا »
هل ما زال يعمل » : هَمْهَم هولمز، وهو يغرق في التفكير راجعًا إلى الوراء، ثم قال
«؟ لديك
«. نعم يا سيدي، فقد تركته منذ قليل »
«؟ وهل كان عملك يسير بشكل جيد في غيابك »
«. ليس في الأمر ما يدعو للشكوى، فكما أسلفْتُ، العمل قليل جدٍّا في فترة الصباح »
هذا يكفي يا سيد ويلسون، وسأكون مسرورًا بتقديم رأيي فيما يتعلَّق بهذه القضية »
«. في غضون يوم أو اثنين. اليوم هو السبت، وأتمنَّى أن نصل إلى نتيجة بحلول يوم الإثنين
حسنًا يا واطسون، ماذا تستنتج من هذا الأمر » : قال هولمز، بعد أن غادر ضيفنا
«؟ برُمَّتِه
«. لاشيءَ، الأمرُ في غاية الغموض » : قلتُ بصراحة
كقاعدة عامة، أشدُّ الأشياء غرابةً هي ما يتبيَّن فيما بعد أنها الأقل غموضًا، » : قال هولمز
وإن أكثر القضايا وضوحًا هي في الحقيقة أكثرها غرابةً، تمامًا كصُعوبة تحديد ملامح
«. الوجه العادي، حسنًا ينبغي عليَّ الآن الإسراع في حلِّ هذه القضية
«؟ إذن، ما الذي ستَفعلُه » : سألتُهُ
سأقوم بالتدخين أولًا، إن الأمر يحتاج إلى تدخين الغليون لثلاث مرات، كما » : قال
ثم احتبى في كرسيِّه جاذبًا ركبتَيه النحيلتَين «. أرجو منك ألا تحادثني لمدة خمسين دقيقةً
تجاه أنفه المعقوف كمِنقار الصقر، وجلس مُغمِضًا عينَيه ويبرز غليونه الصَّلْصالي الأسود
كمنقار طائر غريب. استنتجت من وضعِيَّتِه تلك أنه غطَّ في نومه، وبينما كان يميل رأسي
أنا أيضًا للنعاس، قفَزَ فجأةً من فوق كرسيِّه، كما لو أنه استقرَّ على رأيٍ ما، ووضَع غليونه
على المدفأة.
سيعزف ساراسيت في قاعة سانت جيمس هذا المساء، ما قولك يا سيد » : وقال لي
«؟ واطسون، هل يمكنني أن أستعيرك من مرضاك لسُوَيْعات معدودة
«. ليس لدي ما أفعلُه اليوم، فمِهنتي لا تشغل حيِّزًا كبيرًا من وقتي » : قلتُ
فلترتدِ قبعتَكَ إذن، ولتأتِ معي، سأذهب لوسط المدينة أولًا، وربما يمكننا تناول »
الغداء في طريقنا، لقد لاحظتُ أن البرنامج يحتوي على مقدار دسِمٍ من الموسيقى الألمانية،
التي تناسب ذوقي أكثر من نظيرتها الإيطالية أو الفرنسية، فالموسيقى الألمانية تُجلِّي الأفكار
«. وتمكِّن المَرْءَ من فحصأفكاره الذاتية، وهذا ما أريده، هيَّا بنا
ركِبْنا قطار الأنفاق حتى وصلنا إلى شارع إلدرسجيت، ثم سِرْنا على الأقدام مسافةً
قصيرةً حتى ميدان ساكس كوبورج، ذات المكان الذي شَهِد وقائع القصة التي سمعناها
هذا الصباح، وهو مكان ضيِّق مُبتَذَل، شَبِيهٌ رديءٌ بالأماكن الراقية، حيث تُطِلُّ أربعة
صفوف من المباني الحجرية المُلوَّثَة ذات الطابقَين على مساحة مُلحَقَة مُسيَّجة تنمو فيها
الكثير من الأعشاب، وبعض شُجَيْرات إكليل الغار الباهتة التي تكافح ضدَّ الهواء المُشبَّع
بالدخان والجوِّ غير الملائم لنُموِّها. أرشدتنا ثلاث كُرَيَات مُذَهَّبات ولوح بُنِّيٌّ — مكتوبٌ
مُعلَّق على زاوية أحد البيوت — إلى مقرِّ عمل عميلنا ،« جابز ويلسون » : عليه بحروفبيضاءَ
ذي الشعر الأحمر. توقَّف شيرلوك هولمز أمام المنزل، ورأسه مائل، وأخذ يتفحَّصبنظراتِهِ
المكان كله، وعيناه تلمعان بين جفنَيه الضيِّقَين، ثم سار ببطءٍ نحوَ ناصية الشارع، ثم عاد
إلى حيثُ الزاوية مرةً أخرى، وظلَّ ينظر عن كَثب إلى المنازل، ثم عاد إلى منزل السِّمْسار
أخيرًا، وضَرَب بعصاه الرصيف بقوةٍ مرَّتَين أو ثلاثةً. صعدَ إلى الباب وطَرَقَه، ففتح في
الحال شابٌّ حُلْوُ المظهر حليقٌ، طلب منه أن يتفضَّل بالدخول.
«. شكرًا لك، أنا فقط كنت أودُّ أن أسأل عن كيفية الذهاب إلى شارع ستراند » : قال هولمز
«. ثالث منعطف إلى اليمين، ثم الرابع إلى اليسار » : أجاب المساعد بسرعة مُغلِقًا الباب
يا لَهُ من شخصٍذكيٍّ! إنه في رأيي رابع أذكى رجل » : علَّق هولمز قائلًا، بينَما نمضي
«. في لندن، ويمكنني أن أقول: ربما يكون الثالث طِبْقًا لِمَا علمته عنه سابقًا
هذا واضح، فمساعد السيد ويلسون عليه عامل كبير في حلِّ لُغْز عُصبة ذوي » : قلتُ
«. الشعر الأحمر، وأنا على يقين أنك سألته عن الطريق فقط لكي تراه
«. ليس لأراه هو »
«؟ ماذا إذن »
«. رُكبتَي بنطاله »
«؟ وماذا رأيت »
«. ما توقَّعْتُ أن أراه »
«؟ ولماذا طَرَقْت على الرصيف »
عزيزي الدكتور، هذا وقت الملاحظة، لا وقت الكلام، فنحن كالجواسيسخلفخطوط »
«. العدوِّ، وقد علِمْنا شيئًا عن ميدان ساكس كوبورج، فلنكتشِفِ الجزء الواقع خلفه
كان الشارع الذيوجدنا أنفسنا فيه بعدما استدَرْنا حول زاويةِ ميدانساكسكوبورج
المنعزل يمثِّل صورةً معاكسةً تمامًا لِمَا بدا عليه الميدان كتناقض وجهِ الصورة وظَهْرِها،
كان ذلك الشارع بمثابة الشِّرْيان الرئيسيلحركة المرور التي تربط شمال المدينة بجنوبها،
وكان الطريق مُغلَقًا بسيلٍ من التجارة المُتدفِّقة في كِلا الاتجاهَين ذهابًا وإيابًا، بينَما غمرت
ممراتِ المشاة أسرابٌ مسرعةٌ من الناس. وقد كان من الصَّعب أن نستوعب، ونحن نرى
صفَّ المحلات الراقية والمباني التجارية الفخمة، أنها تقع على الجهة الأخرى من الميدان
المُضمَحِلِّ الكاسد الذي كُنَّا نعاينه منذ قليل.
لِنَرَ، فأنا أودُّ لو تذكَّرْت » : قال هولمز، وهو يقِف في الزاوية وينظر إلى صفِّ المتاجر
ترتيب المنازل هنا. إنها لمن هواياتي أن أكون على علم بالأماكن في لندن، ها هو متجر
مورتيمر بائع التَّبْغ، وها هو محل الجرائد الصغير، وفرع المدينة والضواحي لبنك كوبورج،
ثم المطعم النباتي، وأخيرًا مستودع مكفارلين لصُنْع العربات، والذي يؤدِّي بنا إلى مُجمَّع
البنايات التالي مباشرةً. والآن يا دكتور، لقد أنجزنا ما أتَيْنا لأجله، وحان وقت التسلية،
لنتناولْ شطيرةً، ولنَحْتَسِ فنجانًا من القهوة، وبعدها لنذهب إلى أرض الموسيقى، حيث
الجمال ورهافة الحِسِّ والتناغُم، وحيث لا وجود لعملاء ذوي شعر أحمر يرهقوننا بحلِّ
«. ألغازهم
كان صديقي موسيقيٍّا متحمِّسًا، ولم يكن عازفًا قديرًا جدٍّا وحسب، بل كان مُلحِّنًا
بارعًا أيضًا واستثنائيٍّا. وقد جلس طوال المساء في مقعد المسرح مُتدثِّرًا بسعادته البالغة،
وهو يلوِّح بلطفٍ بأصابعه الطويلة النحيلة متناغمًا مع الموسيقي، بينما تعلو وجهَه
ابتسامةٌ هادئة، وعيناه حالمتان، كأنهما ليستا عينَيْ ووجه هولمز مطاردِ اللصوص، هولمز
القاسيعديم الشفَقة، حادِّ الذِّهْن المُتأهِّب دائمًا للقَبْضعلى المجرمين، كما يصعب ذلك على
التَّصوُّر. كانت طبيعتاه تفرضان أنفسَهما على شخصيته الفريدة، فكانت دِقَّتُه وفِطْنَته
تمثِّلان، كما أعتقد، ردَّة فعل على مِزاجِه الشاعري التأملي الذي يغلب عليه بين الفَيْنَة
والأخرى. كان التُّقلُّب بين طبيعتَيه ينقله من حالة الكسل الشديد إلى حالة الحماسة
الضارِيَة، وكما تأكَّد لي أن عظمتَه تصل إلى ذِرْوَتها عندما يسترخي على كرسيِّه المريح
وسط كتاباته المُرتجَلَة، عندها تطغى عليه لذةُ المطاردة، وتصحو بداخِلِه قوة تبصُّرٍهائلة
قد تصل إلى مستوى الحَدْس، حتى ينظرَ إليه أولئك الجاهلون بأساليبه نظرةً مِلْؤُها الشكُّ
أن ما لديه من معرفة يتجاوز ما يمكن لبشَر عادي أن يتَّصف به. عندما نظرت إليه ذلك
المساء مستغرقًا في موسيقاه في قاعة سانت جيمس شعرت أن وقتًا عصيبًا ينتظر أولئك
الذين يطاردهم هولمز.
«. لابد أنك تودُّ الذهاب إلى منزلك الآن يا دكتور » : قال هولمز عندما خرجنا
«. نعم، هذا ما سأفعله »
وأنا لديَّ بعض العمل الذي سيستغرق منِّي ساعات لإنجازه، إن العمل الذي لدينا »
«. في ميدان كوبورج خطير
«؟ ولِمَ هو عمل خطير »
هناك جريمة ضخمة على وشك الحدوث، لديَّ كل الأسباب التي تجعلني أعتقد »
أننا سنكون هناك في الموعد المناسب لمنع وقوعها. ونظرًا لأن اليوم هو السبت، فضلًا عن
«. اعتبارات أخرى مُعقَّدَة؛ فإنني أرغب في مساعدتك لي الليلة
«؟ في أيِّ وقت بالتحديد »
«. الساعة العاشرة، ستكون مبكرةً بما يكفي »
«. سأكون في شارع بيكر في تمام العاشرة »
حسنًا، أودُّ أن أعُلِمَك يا دكتور أنه ربما يكون هناك بعضالمخاطر؛ لذا فضلًا أحضر »
«. مسدسك معك في جيبك
ثم لوَّح بيدَيْه، واستدار ومضىليغيب عن ناظريسريعًا وسطَ الجموع.
أنا على يقينٍ أنني لست أكثر غباءً من أقراني، لكنني طالما شعرتُ بغبائي في تعاملي
مع شيرلوك هولمز. فلقد سمعت ما سَمِعَه، ورأيت ما رآه، ومع ذلك وطبقًا لِمَا قاله، فلقد
ثبت لديه بما لا يدع عنده مجالًا للشكِّ ليس ما حدث وفقط، ولكن ما كان على وشك
الحدوث أيضًا، بينما لا تزال القضية غامضةً وملتبسةً بالنسبة لي. وفي طريقي للمنزل
فكَّرْت في الأمر مَلِيٍّا بدءًا من القصة الاستثنائية للرجل ذي الشعر الأحمر ناسخ الموسوعة،
مرورًا بزيارتنا لميدان كوبورج، وانتهاءً بالكلمات المُنذِرَة بوقوع شرٍّ ما والتي كانت آخر
عهدي بشيرلوك هولمز. ما سِرُّ عجلته في هذه الليلة؟ ولماذا طلب مني أن آتي إليه مُسلَّحًا؟
إلى أين سنذهب؟ وماذا الذي سنفعله؟ لقد لمَّح لي هولمز أن مساعد سمسار الرُّهونات
العقارية ذا الوجه الناعم كان شخصًا مُخيفًا، شخصًا يمكنه صُنْع خُطَّة عَوِيصة. حاولْتُ
أن أحُلَّ الأحُْجِية، لكنني استسلمْتُ في يأس ونحَّيْت الأمر عن تفكيري في انتظار ما سيُسْفر
الليل عنشَرْحه.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.