Darebhar

Share to Social Media

إهــــداء

إلى أمي..
روح اللّه التي أحاطتني بين أربعة جُدران؛
روحي، قلبي، عيشي ووهني.
لو أنكِ قصَّرتِ في جدارٍ منهم لكنتُ ذكرتُ الآن ثلاثًا فقط.



إهــــداء ثانٍ

لنفسي اللي ماشية في العوِج ولِسّه مش ناوية تتوب..
لقلبي اللي بيعاتب قلبه كُل ليلة عشان مظلمش حد وظلمه..
لمُصطفى ابراهيم اللي لِسّه قلبه متعبش من الجري ومن الأحلام..
إهداء.. لشيكا.. المزيكا.. اللي لحم قلبي من خيرُه..
إهداء للزمالك اللي قصّر بأجلي وبحبه.. مُجبر أخاك لا بطل..
وإهداء لأفلام وحيد حامد اللي ربِّت فـ نفسي شيء من الخوف وعُريّ الكون..
لعادل إمام في فيلم الحرّيف..
إهداء للطحان.. اللي فضلت أسمعه لمّا كانت عيني وجعاني..
إهداء لمينا تادرس صاحبي الهلّاس ابن الناس..

إهداء لشكوكي اللي مؤمن بيها..
وخوفي من بُكرة وامبارح وكل يوم باقي لي بعافر فيها.



﴿هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ
بَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾
[لقمان: 11]



البداية
"وَلَّى زمن الخالق..
ظلت سطوته باسطة كفيها على أكتاف الكون لسنينٍ يعجز الخلق عن عَدَّها، فتزعم طائفة أنها ملايين السنين استنادًا لتحليل بعض حفريات خلقه ودراسة العُلماء لجوف الأرض التي هي من صُنع يديه أيضًا، وطائفة أخرى تميل لأن الكون شأنه شأن خالقه، لا بداية له ولكن نهايته لا مفر منها، هاتان الطائفتان هما الأحق بالتصديق لو سألتني عن رأيي، بل رُبما أعطيك براهين على صدق الطائفتين إذا اتسع صدرك، ولكن داخل جوفي هناك رُكن حالك السواد أشبه بكهف سكنه ثلاثة ورابعهم كلبهم سلفًا، لا أتبين مكانه بالضبط ينبض يقين آخر يؤرق منامي، يُنغص عليّ أيامي، لعله منافٍ للعقل ولكنني أراه منافيًا لعقل خلقه الله..
ويحك.. كيف لك أن تتخيل عقلًا من صُنع ربه يؤيد نظرية تنهي قدرته؟! القضية أشبه بدساتير الدول قديمًا - قبل أن يخطو الكون نحو نهايته الآن - أنى لها أن تضع قوانين تعرّيها قُبالة العالم، تكشف هوانها وحماقتها نُصب أعيننا، حتمًا دستور رادع يقوي ظهر الدولة في شتّى قراراتها ويثبت صحتها، حتى لو قررت مدينة حرق الكون عن بُكرة أبيه ما عداها فعلى الدستور أن يدعم أحقيتها في هذا الخراب، وإلا انهارت هالة هذه المدينة أمام العوام.. لهذا كُتِبَت الدساتير، ولطالما كانت ديانات الله دساتيره الحامية له.
لك أن تتخيّل الله ذاته يمنحك عقلًا مُدبرًا يكشف الستار عن سخافاته، أن ينسج لك خيوطًا تتشابك مع بعضها البعض حتى تريك الحق.. والحق أقول، كوني بشريًا لم يُذهلني يومًا خلق الكون بما فيه، لا يُثار فضولي لكشف ماهيته، لم أنظر للإبل وأتدبر، لم أتأمل السماوات وعمدانها الشفافة التي أبقتها مرفوعة ثم أقول سبحانه، حتى المعجزات التي لم تجري قُبالة عيني وإنما سُرِدَت على مسامعي من كتبه المقدسة لم تُعِر انتباهي.. فقط قدرة واحدة نالت استحساني، خَلقه لبني البشر.. هذه المعجزة ربما تستحق بعض الثناء عليها، إلى أن يقوم بها غيره، ولعل ناظره قريب.
ولو كنت غافل عما يجري الآن.. فدعني أنير بصيرتك بأننا على مشارف النهاية، وليست القيامة، فلا قائمة لنا قومة بعد أن فقد القدير سطوته، أرواحًا جمّة أُزهِقَت، جنس الرجال عفى عليه الزمن وطغت ذوات المهبل على الأرض، وهذه ليست كناية عن مقت النساء وإنما هو حال اليوم، لعل ذلك يتضح لك في الوريقات القادمة لكن هذه ليست قضيتنا الآن، فقد ول زمن نفخ الروح في أبناء الطين وحان أذان فناء الإنسان، لكن هذه الصفقة لا تستهويني، أرى كوني خُلِقت عبثًا دون رغبتي، وأن تستمر اللعبة الإلهية وينتهي أثري قهرًا لهو ظُلم بيّن، لذا لو كان الله يفرد سيطرته عليّ لكونه الخالق الوحيد؛ فقد حان اليوم الذي تُنتَشَل فيه هذه الهِبة وينالها الخالق الحقيقي على وجه البسيطة.. الإنسان.
هذه هي رؤيتي وقنديل دربي، ولو أن الله خلق آدم ليُعمّر الأرض فقد فشل فشلًا ذريعًا، وعليّ أن أعدّل عليه، أنا الإنسان سأخلق آدم آخر ليُعيد ترميم الأرض.. أنا "يعقوب".. وهذه مُذكراتي وصُنع يدي.. منحت الخالق العظيم راحته وبدأت ورديتي كـ"رب الكون"..
سأخلق ابني وعبدي.. "يونس".. ابن الله".
***


اليوم الأول
انبثق الفجر كاشفًا عن يومٍ آخر، لا ماضٍ يُذكَر ولا غدٍ واعد، يبقى الحال على ما هو عليه منذ سنين عِدّة، بعد أن تقلّص عدد الرجال على الأرض وحل محلهم النسوة تطور الأمر لأن أضحت المجتمعات أنثوية بالكامل، صار الرجال أشبه بحيوانٍ أليف شارف على الانقراض، والمرأة التي تحصل على رجلٍ ضل طريقه فأمامها خيارين؛ إما أن تخبئه في قبوٍ لها لتمتص حليبه داخلها، تشبع رغباتها اللامكتفية حتى تجف خصيتيه عن الإنتاج ثُم تلقي به في الطريق، وإما تُعلن عن وجوده كأنها فازت باليانصيب، وهكذا تتكالب عليها الحكومات النسوية للحصول على هذا الذكر ووضعه في محمية صناعية ليس لمجرّد الإبقاء عليه وإنما لتغذيته جيدًا، وتسمينه بقدرٍ كافٍ حتى تكاد تنفجر بيضتاه من اللبن الحبيس، ثم يحلبونه شر حلبٍ ليجف تمامًا، وحليبه يُوزع على العالمات لتهجين جيلٍ جديدٍ من الذكور؛ يكفي لتهدئة لهيب مهابلهن الشبقة وكأنها فوهة بركان تلفظ حممها في انتظار خرطوم ماء سماوي يدق رأسه داخله ويفض ماؤه المبجل، في الأخير سيفنى الرجل في محاولاته البائسة لإسعاد المرأة، ولو كان هذا قدره الأسود فالأفضل لو خيروه.. أن يختار البقاء مع امرأة واحدة لا العديدات، أقله روي مهبل واحد أيًا كانت درجة ظمأه لن يكن بقدر مئات المهابل.
لعنات الأرض على حروب البشر التي وقودها الرجال والمدافع، لعنات الكون على لقمة العيّش التي أهلكت فحولًا لكونهم ابتغوا مرضاة نسائهم، آهٍ لو هلك البشر أجمعين، وبقي منهم حِفنة رجال فقط دون نساء، رُبما تتحول الحياة لرغد.. أو رُبما لا، في آخر الطريق سيحتاج الرجال لفك حصرتهم وإلا انفجروا، وكون ليس هناك حوض يدلون فيه بدلوهم.. فحتمًا مؤخرات الرجال الآخرين ستفي بالغرض.. لا، لا، هذا تخّيل مُريب، فحلب دبور الرجال أهون من دفسها في مؤخراتهم.
الآن وبعـد أن انهـار الكــون، ورحلــت التكنــــولوجيـا، وتهـدمت ناطحات السُحب وثروات الأغنياء الذين كانوا منذ قريبٍ مالكي الأرض وما عليها، بعد أن هلك أحد الجنسين وعاث الآخر فسادًا، وتناثرت السيدات في كل حدبٍ وصوب، بعضهن زرن القرى، سكنَّ الكهوف والجحور، وفئة قليلة أضحت حاكمة، عبارة عن جيوش مُرتزقة شغلهــا الشاغـــل البحث عن رجلٍ لأداء مهمتــه الانتحارية لا غير، حتى أن ما بقي من الرجال لم يعتادوا السير جوار الحائط كما جرى قديمًا، وإنما حفروا شِقًا في الحائط وتواروا فيه بعيدًا عنهن، وخوفًا من الوقوع في براثنهن.
كان هذا الفِكر يدور بخُلد "جوزيفين" وهي تحلب بز البقرة بكفٍ والآخر يمسك بصحنٍ فخاري يسقط فيه خيط اللبن الدافئ، بينما تغمغم بوتيرة خافتة لتُحنن بقرتها وتمِن عليها بلبنٍ أكثر، حتى فرغت منها وعادت من الزريبة إلى بيتها الريفي، فتحت بابه الخشبي المتهالك والذي في كل مرّة تدفعه تعي كم وهن حاله ولم يستطع التصدّي حتى لظبيٍ صغير يندفع تجاهه، قابلت أبيها العجوز المشلول على مقعدٍ مُتحرك، كلما نظرت لذاك المقعد تشتاق لزمن التكنولوجيا الجميل على عكس البدائية الخربة حولها، تقترب من أبيها وتجلس على ركبتيها نافشة تنورتها البالية والمتقرحة بفعل خراء الزريبة التي عادت منها للتو، تخرج من داخل قماشة صوفية مطوية رغيفًا صلب وتمزق أطرافه لقطع صغيرة تفتتها في كوب اللبن حتى يطرى، ثُم تنظر لأبيها بابتسامة مصطنعة وتداعبه في أنفه ليتلقف أولى ملعقته من الفطور، يجاريها الأب ويضحك ببلاهة بينما يمضغ لقيمته في فمه، تتوالى الملاعق والمداعبات إلى أن يهرّج الأب ويبصق عليها ملء فمه ويضحك، تغتاظ "جوزيفين" لفعلته لكنها تعود لهدوئها في لحظة، فكيف لها أن تغضب منه وهي أولى الناس برعايته وأحقهم علمًا بحالته، مسكين هذا العجوز، لم يكتف الله بسلب عقله منه بل شُل أيضًا ليبقى على هذا الحال حتى قضاء نحبه.
تمسح وجهها بطرف تلابيبها وتعود لإطعام أبيها، إلى أن دخلت عليها "تارا"، ذات الفرج الجائع، هكذا أطلق عليها نساء القُرى المجاورة تيمنًا بشبقها الدائم وغنجها الذي يجذب الضال في أرض الله، ويل الرجال لو قابلوا هذه المرأة وفُتِنوا بها، عليهم أن يسنوا فروجهم كرماحٍ حادة في كل مرّة وأخرى يعاشرونها، وإلا ستُبرى رؤوسهم الصغيرة من المرّة الأولى ولن يقدروا على خرق حصنها الخبير. تضحك "تارا" بسخفٍ وهي تتحرك نحو زير المياه وتملأ الكوب، تتجرّعه على شربةٍ واحدة وتقطّر الماء على صدرها لتلامسه بشهوة، فتعتصر حلماتها وكأنها تقطعهما، تنظر لـ"جوزيفين" قائلة:
- "ماذا بكِ أيتها العجوز، هل بصق عليكِ مجددًا؟".
تزفر "جوزيفين" بضيقٍ، مُجيبة دون النظر إليها:
- "للمرةِ الأولى بعد الألف أنا لستُ عجوز، الفارق بيننا سبع سنوات لا أكثر، ونعم فعلها مرة أخرى".
- "بحقِك يا امرأة، ألا تنظرين في المرآة؟ انظري لحالي وحالكِ، أنا لا ألومكِ لأنك أكبر مني، فهذا كأس العَجَز يدور على شفاهنا جميعًا، لكنني أعتب عليكِ لأنك أهملتِ نفسكِ ومظهركِ حتى باتت كلاب الطريق الضالة تعوف رائحتكِ، وكل هذا من أجل ماذا؟ أبيكِ الأبله؟!".
نظرت "جوزيفين" لأبيها الذي يضحك لها ملء فمه ولا يعي كم المهانة التي تطرأ على مسامعه الآن، تخرج فوطة صغيرة من جيبها وتمسح بقايا فتات الخبز على شفتيه بهدوء، ثُم تنهض متجهة نحو المطبخ عابرة في طريقها "تارا" التي تتحسس ثنايا جسدها الممشوق قُبالة المرآة، تستند "جوزيفين" منحنية على طاولة خشبية مُلقية بسؤالها:
- "إذًا، ماذا أنا بفاعلة؟".
ترد "تارا" بلامُبالاة:
- "اعتزلي ما يُضنيكِ".
- "وكيف هذا؟".
- "تخلّصي منه!".
تعتدل "جوزيفين" شاخصة ببصرها صوبها، متسائلة:
- "أتخلّص منه! أنى لكِ أن تتفوهي بهذا، كيف فكرتِ ولو لبُرهة أنني سأُقبِل على هذا الحرام؟".
تنظر لها "تارا" مستنكرة:
- "عن أي حرامٍ تتحدثين يا امرأة، الحرام الأعظم أن تظل الواحدة منا تأكل نفسها دون بعلٍ حتى تُفنى من الحرمان، ولو هُناك حرام وحلال في هذا العالم لكان خُلِق رجال جُدد يحبوننا، يتزوجوننا، يضاجعوننا لنطفئ لهيبنا، لكن يبدو أن الخالق قرر تعذيب النساء أجمعين، هذا هو الحرام البيّن، وأنتِ تقولين لي لا يجب أن أتخلّص من مُجرّد قعيد بلا قيمة فقط لأنه أبيكِ! أوفٍ!".
تبتسم "جوزيفين" بطرف فمها وترد محاولة إظهار الجدية:
- "والله يا "تارا" لو خلق الله ألف رجلٍ تحت طوعكِ لما شبعتِ أبدًا، مسكينةٌ أنتِ، واجهتِ العالم وشروره بمفردكِ دون حِملٍ على كتفكِ، رحمكِ القدير وخلّصكِ من عائلتكِ كلها دفعةً واحدة، والحق أقول هذا عدل الله، لو كان بجوفكِ مثقال ذرةٍ من رحمة لأبقى الله على عائلتكِ أو حتى فرد منها يؤنس وحشتكِ، لكنه عليمٌ بما في جوفكِ من قُبح، ولا داعي لأن يُعذّب بني آدم آخر يجاوركِ".
شعرت "تارا" بخليطٍ من المشاعر ما بين غضبٍ عارم من لسان "جوزيفين" السليط، وشفقة على حالها كونها تحمل على رقبتها الكثير من المسئوليات، فقررت تخفيف حِدّة الحديث:
- "اهدئي يا "جوزيفين"، لم أقصد إيذائكِ بهذا القدر، كنت فقط أفضفض معكِ بما يدور بداخلي وكيف ترحمين نفسكِ من هذا العذاب المُقيم".
- "انتهينا إلى هذا الحد".
- "أنا آسفة يا عزيزتي، حقًا لم...".
تقاطعها "جوزيفين" من جديد بنبرتها الجادة الهادئة دومًا:
- "كفى يا "تارا"، دعيني الآن لأرتب المنزل واهتمي بشؤونكِ الخاصة".
تستطرد "تارا" بهدوء:
- "حسنًا، سأخلد إلى النوم، أتريدين شيئًا مني يا أختاه؟".
- "كلا".
- "إذًا أراكِ مساءً".
- "طيب".
خطت "تارا" نحو غرفتها وأغلقت بابها عليها، ألقت بجسدها المرهق على الفراش متأملة سقف الغرفة الخشبي ذا الجذوع البنية العتيقة، شعرت بذنبٍ يُنغص عليها رقدتها، هل ما قالته لـ"جوزيفين" كان لابد منه؟ هي تعلم وكذلك "جوزيفين" أن كلامها حقيقي حتى وإن حمل بعض القسوة، لكن ذلك لا ينفي كونه صحيح، مقارنة السيدات بعضهما ببعض دائمًا ما تؤدي لخسائر جمّة، وهذا ما اقترفته "تارا" للتو، نعم هي لا تزال تحظى بجسدٍ أنثوي ممشوق، مكتنزة الثنايا، ذات شعرٍ مُجعّدٍ بُني وبشرة بيضاء تميل للوردي، متوسطة الطول، هذا الجسد لهو نعمة إلهية لها، فقد اشتهته النساء بشبقٍ في القُرى المجاورة، تُرى ماذا سيفعل بعقول الرجال إذا كانوا قريبين من هُنا، على الرغم من كونها كسرت عقدها الرابع وخطت أولى خطواتها نحو الربيع الواحد والأربعين، إلا أنها لا تزال آية في الجمال، وهذا ما تفتقر له صديقتها التعيسة "جوزيفين" منذ سنوات.
تقلّبت "تارا" في فراشها محاولة تجاهل سوء ما بدر منها وعزمت على النهوض للاعتذار لصديقتها، ولكن في اللحظة التالية هاجس ضال بداخلها أخبرها أن الأمر لا يستحق كل هذه الشفقة على حالها، فهي في الأخير أرادت نُصح صديقتها العزيزة ونزع الحِمل عنها، رُبما خانها التعبير لا أكثر.. ما علينا.. ستنام الآن لترتاح من سهرتها ليلة البارحة المحفوفة بالمتعة في إحدى بيوت القرية المجاورة، وحين تصحو ستعتذر لـ"جوزيفين".. إن تذكرت من الأساس.
***
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.