artherconan

Share to Social Media

لم يعُد شيرلوك إلا مُتأخرًا، وقد عادَ بمفرده؛ لأنَّ ليستراد كان يُقيم في مَسكنٍ في
المَدينة.
لا يزالُ البارومتر يُشير إلى ارتفاع الضَّغط الجوِّي، المهمُّ ألا » : قال وهو يَهُمُّ بالجلوس
تُمطر قبل أن نتمكَّن من فَحص الأرضِ. ومن ناحيةٍ أخُرى، على المَرء أن يكونَ في أفضلِ
حالاتِه وأَوجِ حِذَقِه وحَماسته للقيام بمِثل هذه المُهمَّة اللطيفة؛ لذا لم أرغَب في القِيام بها
«. عندما كنتُ مرهقًا؛ جرَّاءَ الرحلة الطَّويلة. لقد قابلتُ مكارثي الصَّغير
«؟ وبماذا خرجتَ من هذه المُقابلة »
«. لاشَيء »
«؟ ألم يستطِعشرحَ أيِّشيء »
لا شيءَ على الإِطلاق. لقد كنتُ أميلُ في وقتٍ من الأوقات إلى الاعتِقادِ بأنه يعرِف »
القاتلَ، وأنه يتستَّر عليه، لكنَّني مقتنعٌ الآن أنه في حَيرة من أمرِه، شأنُه شأنُ الجميع. إنه
«. ليس شابٍّا فطِنًا للدرَجة، بالرَّغم من وَسامته التي تسرُّ الأعين، وأظنُّ أنه سليمُ القَلب
ولكن لا يمكنني أن أوافقه على ذَوقه في النِّساء، لو أنه بالفِعل يرفُض » : قلتُ معلِّقًا
«. الزواج من شابَّة في مثلِ جمالِ وجاذبيةِ الآنسَة تيرنر
آه، ثمَّة قصةٌ مؤلِمة وراءَ هذا المَوضوع؛ فهذا الفتَى عاشقٌ لها حتى الجُنون، ولكنَّه »
قبل عامَين — وكان حينَها فتًى صغيرًا، وقبلَ أن يعرِفها حقَّ المعرفة؛ لأنها قضَتْ خمسَ
سنوات في مدرسَة داخلية بعيدة — وقَع ذلك الأحمَقُ في حبائل نادلةٍ في حانَةٍ في بريستول،
وتزوَّجها في مكتبٍ لتوثيقِ الزواج. لا أحدَ يدري أيَّ شيءٍ عن ذلك؛ ولكن لك أن تتخيَّل كَم
هو مثير للغضَب والجنون أن يوبَّخ على عدم فعل ما يتمنَّى أن يفعلَه من صميمِ قلبه؟!
لكنه يعلمُ مدَى استحالةِ حُدوثِه. وقد كانت نوبةٌ من نَوبات الجنون هذه هي ما جعلَه يُلوِّح
بيدَيه في الهواء عندما كان والدُه — في آخِر مقابَلة له — يحثُّه بشدَّة على التقدُّم للزَّواج
من الآنسة تيرنر. من ناحيةٍ أخرى، لم يكُن لديه أيُّ مصدرِ دخلٍ لإعالَة نفسه، ووالِدُه
— الذي كان بشَهادة الجميعِ فظٍّا غليظًا للغَاية — كان سيتَخلَّى عنه تمامًا لو عرَف
الحقيقةَ. لقد قضَى مع زوجتِه النَّادِلة الأيامَ الثلاثةَ الأخيرةَ في بريستول، ولم يكُن والدُه
يعرِف مكانَ وجودِه. سجِّل هذه النقطة؛ فهي ذاتُ أهميةٍ. ومع ذلك، رُبَّ خيرٍ يولَد من
رَحِم الشَّرِّ؛ لأنَّ النادلةَ علِمت عن طريقِ الصُّحف أنه في مأزِق خطيرٍ ومِن المحتمل أن يُعدَم،
فتخلَّت عنه تمامًا وكتَبت تخبِرُه أنها متزوجةٌ — بالفعل — من رجُل يعمَل في حوض
برمودا لبناءِ السُّفن؛ ولذا فلا يوجَد ما يَربِطُهما. وأعتقد أنَّ هذا الخبر كان بمثابة عزاءٍ
«. لمكارثي الصغير وسطَ كلِّ ما يُعانيه
«؟ ولكن إن كان بَريئًا، فمَن القاتل »
نعم، مَن إذن؟ أودُّ أن ألفِت انتباهك، على نحوٍ خاصٍّ جدٍّا، لنُقطتَين؛ أوُلاهما: أنَّ »
القتيلَ كان على موعدٍ مع شخصٍ ما عند البُحيرة، وأن ذلك الشخصَ ليسَ ابنه؛ لأن ابنَه
كان مُسافرًا في ذلك الوَقت، ولم يكن يدرِي متى سيعود؟ والنقطةُ الثانية: أن القتيل سُمع
قبل أن يعرف بعودَة ابنِه. تلك هي النِّقاط الحاسِمةُ التي تعتمِد عليها «! كوي » يَصيح ب
القَضية، والآن، لنَتحدَّث من فضلك عن الكاتب جورج ميريديث، ولنَترك كلَّ الأمور الثانويةِ
«. للغَد
في صباح اليوم التالي لم تمطرِ السماء، كما توقَّع هولمز تمامًا، وكان الجو صَحْوًا
صافيًا بلا غُيوم. وفي التاسعة جاء ليستراد في العربة واستدعانا، ثم انطلَقنا إلى مزرَعة
هاذرلي، وبحيرة بوسكومب.
ثمَّة أخبار خطيرَة هذا الصَّباح. يقالُ: إنَّ السيد تيرنر مالك مزرعة » : قال ليستراد
«. هول مريضٌجدٍّا، ولا يُرجَى شفاؤُه
«؟ أظنه رجلًا مُسنٍّا، أليسَ كذلك » : سأل هولمز
في نحو الستين من العُمر، ولكن بِنيتُه ضعفت من عمَله خارجَ البلاد، وكانَت حالتُه »
الصحيَّة في تدهوُر منذ حِين، يبدو أن عملَه هذا كان له تأثير سيئٌ للغَاية على صحَّتِه. لقد
كان صديقًا قديمًا لمكارثي، ويمكِنُني أن أضيفَ أنه كان خيرَ معين له أيضًا؛ فكما علِمت،
«. فقد أعطاه مزرعةَ هاذرلي دونَ مطالبتِه بدَفْع إيجار
«. حقٍّا! هذا مثيرٌ للاهتِمام » : قال هولمز
أوه، نعَم! وقد ساعدَه بطُرق أخرى عديدَة، كلُّ مَن في هذه الأنحاء يحكِي عن كرَمه »
«. معه
حقٍّا! ألا تريان بعضَ الغَرابة في أن يتحدَّث هذا المدعُو مكارثي، والذي يبدُو أنه لا »
يملِك الكثيرَ من المال، وهو المُحاط بكرَم تيرنر وأفضالِه، بتلك الطريقةِ الواثقة عن تزويجِ
ابنِه بابنةِ تيرنر، والتي يُفترَض أنها وريثةٌ لأملاكِه، كما لو أنَّ الأمرَ متوقِّفٌ فقط على
عَرضالزواج، وبعده ستَسير الأمور بسلاسةٍ بلا أيِّ عائقٍ؟ ويشتد الأمر غرابةً في ظِل علمِنا
بأن تيرنر نفسَه، كان معارِضًا للفِكرة. لقد أخبرتْنا الابنةُ بالكثير. ألا تَستَنتجانِ شيئًا من
«؟ ذلك
ها قد جِئنا للاستنتاجات والاستِنباطات، يا هولمز. » : قال ليستراد، وهو يَغمِز لي بعينِه
«!؟ إنني أجِد صعوبةً في فَهم الحقائق، ما بالُك بالتَّحليق خلفَ النظَريات والتَّخيُّلات
20
لغز وادي بوسكومب
«. معَك حقٌّ، أنتَ تجد صعوبةً في فهم الحقائِق » : قال هولمز بوقار وتحفُّظ
على كلِّ حالٍ، لقد تمكَّنتُ من إدراك حقيقةٍ، يبدو أنَّك » : قال ليستراد ببعضالانفعال
تجد صعوبةً في إدراكِها، وهي أن مكارثي الكبير قد لقِي حتفه على يد مكارثي الصَّغير،
«. وأن كل النَّظَريات التي تُشير إلى غير ذلك هي محضُهراء
حسنًا، قد تكونُ هُراء، ولكنِّي على يقين تام أن مزرعة هاذرلي، » : فقال هولمز ضاحكًا
«. هي تلك التي على يَسارِنا
كان مَبنى المزرعة متراميَ الأطراف، مكوَّنًا من طابقَين، يسُرُّ «. أجل، إنها هِي »
الناظرين، مسقوفًا بألواح الإردواز، وتُلطِّخ جدرانَه الرماديةَ بقعٌصفراءُ كَبيرة من الطَّحالب
والفِطريات، وإن كانت السَّتائر المُسدَلة والمداخنُ التي لا يتصاعَد منها الدُّخان قد أعطَت
المكان مظهرًا يوحي بالنَّكبَة التي حلَّت عليه، وكأنَّه لا يزالُ يرزَح تحتَ وطأة تلك الكارِثة
المُرعبة. وقَفنا بالباب، بَينما عرَضت علينا الخادِمة — بناءً على طلَب هولمز — الحذاءَ الذي
كان يَرتديه سيِّدُها عند وفاتِه، وكذلك حذاءً يخصُّ الابن؛ ولكنَّه لم يكن الحذاءَ الذي كان
يرتدِيه في ذلك الوَقت. وبعد أن أخَذ قياساتِ الحِذاءَين بعنايةٍ فائقة من سبع نقاط مختلفة،
أو ثمانٍ، رغِب هولمز في الذَّهَاب إلى فِناء المنزل، ومن هناك اتَّبَعنا جميعًا المسارَ المتعرِّج
الذي أدَّى بنا إلى بحيرة بوسكومب.
كان شيرلوك هولمز يتحوَّل عند تعقُّبِ مثل هذه الآثار بتركيزٍ حادٍّ، حتى لَيعجز مَن
يعرِف المفكِّرَ الهادئ، والرجل المنطقيَّ المُقيم في شارع بيكر أن يتعرَّف عليه وهو في مِثل
هذه الحَالة؛ فقد احتقَن وَجهُه حمرةً وامتَلأ غموضًا، وتحوَّل حاجباه إلى خطَّينِ أسودَينِ
مشدُودَين، بينما التَمعت من تحتهما عيناه بلَمعة قوية كَلمَعان الفولاذ. كان وجهُه منكفِئًا
للأسفل وقد احدَوْدَب ظهره، وزمَّ شفتَيه ونفرَت عروقُ رقبتِه الطَّويلة القوية؛ لتُصبح
كحَبْل مُبرَم، وبدتْ فتحتا أنفِه متَّسعتَين كَحيوان برِّيٍّ يتُوق لمُطاردة فريستِه، وقد ركَّز جُلَّ
تفكيرِه في الأمر الذي كان بصدَده؛ حتى إنَّه لم يكُن يَلتفِت إلى أيَّةِ ملاحظةٍ أو سؤال، أو
في أفضل الحالات يردُّ سريعًا بزَمجرةٍ ونفادِ صبر. شقَّ هولمز طريقَه بين المُروج برشاقة
وهُدوء، عبرَ طريق الغابة المؤدِّي إلى بحيرة بوسكومب. كانت الأرضُرَطبة ومُوحِلة، كسَائر
أراضيالمَنطقة، وبها العَديد من آثار الأقدَام، سواءٌ على الطريق أو وسط العُشب القَصير
الذي يحدُّه من كِلا الجَانبَين. كان هولمز يُسرع أحيانًا ويتوقَّف تمامًا في أحيانٍ أخرى، كما
انعطَف قليلًا مرَّةً نحو طريقٍ جانبيٍّ وسط المروج. كنتُ أنا وليستراد نمشي خلفه، وكان
المحقِّق يَسير هازِئًا بما يَفعله وغيرَ مبالٍ به، بينما رُحْتُ أنا أراقبصديقي باهتمام انطلاقًا
من قناعَتي الشخصية بأن كلَّ حركة يقومُ بها موجَّهةٌ لغرَضمعين.
تقَع بحيرة بوسكومب — وهي عِبارة عن صَفحة مياهٍ صَغيرةٍ مُطوَّقةٍ بحِزام من
القصَب عرضُه حوالي خمسين ياردة — على الحُدود بين مزرَعة هاذرلي والمنتزه الخاصِّ
المملوك للسيد تيرنر الثري. كان يُمكِن رؤيةُ الأبراج الحَمراء البارِزة التي تميِّز موقعَ منزلِ
مالِك الأرضالثريِّ من فوقِ الغابات المُصطَفَّة عبر البحيرة من الجِهة الأبَعد. كانَت الغاباتُ
ناميةً على نحو كثيفٍ للغاية على الجانب المُطِلِّ على مزرعة هاذرلي للبحيرة. وكان يوجَد
حزامٌضيِّق من الحشائشالمبلَّلة يمتدُّ على مسافة عشرين قدَمًا بين حافَّة الأشجار والقصَب
المتراصِّعبرَ البحيرة. وقد دلَّنا ليستراد على الموقع الذي عُثِر فيه على الجُثَّة بالضبط، وكانَت
الأرضرطبة، لدَرجة أنني استطعت أن أرَى بوضوحٍ الآثار التي تخلَّفت جرَّاءَ سُقوط الرجل
بعدضربِه. أما هولمز فقد رأيتُ في عينَيه المُحَملقتَين ووجهِه الناضح بالشغَف واللَّهفَة أنَّ
ثمَّة العديد من الأشياء يمكن قراءَتُها بين الحشائش المتكسِّرة. ظلَّ هولمز يدورُ في المكَان
كالكَلب الذي يقتفي أثرًا، ثم استدَار صوبَ مرافقي.
«؟ عمَّ كنتَ تبحثُ في البُحيرة » : سأله
لقد مشَّطتُها بواسطة جرَّافة؛ ظنٍّا مني أنه قد يكون هناك أيُّ سلاحٍ، أو أيُّ أثَر آخر، »
«… لكن كيفَ بحق السماء
لا لا، لا وقتَ لديَّ للشَّرح. إن آثارَ قدمِك اليُسرى التي بها اعوجاجٌ للداخل منتشرَةٌ في »
المكان برُمَّته، حتى خلد المَاء يُمكنه تتبعُها، وها هو الأثَر يتوارَى بين القصَب. آه، كما كان
الأمرُ سيصبح أسهَل لو كنتُ قد جئتُ قبل أن يأتي الجميع ويجتاحوا المكان كقَطيع من
الجامُوس. ها هو المكان الذي جاء منه الجَمع الذي جاء برفقة حارس المُنتجع، وقد غطَّت
آثارُهم كلَّ الآثارِ الموجودة لمسافةٍ تتراوح بين ستٍّ إلى ثماني أقدامٍ حَول الجثة، لكن ثمَّة
ثم أخرج عدستَه، وانبطح على الأرضِفوق مِعطَفه «. ثلاثة مسارات منفَصِلة للقدَم نفسِها
هذه » . المُقاوِم للماء؛ ليحظى برؤية أفضل، وهو يتحدَّثُ معظمَ الوقت إلى نفسِه؛ وليسَإلينا
آثارُ أقدام مكارثي الصَّغير، مشَى مرَّتَين، ثم جرَى مهروِلًا فجأةً؛ ولذلك ترَك نعلُ الحذاء
آثارًا عميقةً، بينما الكَعب يكَاد لا يُرى، وهذا يدعَم روايتَه. لقد ركَضعندما رأى أباه مُلقًى
على الأرض، وها هي آثار قدمَيْ والدِه عندما خطَا ذهابًا وإيابًا. ما هذا إذَن؟ هذا أثَرُ عَقِبِ
البندقية عندما وضعها الابنُ ووقفَ يستمِعُ لوالده، وهذا؟ ها ها! ماذا لدينا هنا؟ إنها آثارُ
أقدامٍ لشخصٍ يمشِي على أطرافِ أصابعه، ومُقدِّمةُ حذائِه مُربَّعةُ الشَّكل، يا له من حذاءٍ
غير عاديٍّ! الآثارُ تأتي وتذهب ثم تعود ثانيةً؛ عادَت لأخذ المعطَف بالطَّبع. والآن لِنَرَ من
ركض هولمز ذهابًا وإِيابًا، يجِد الأثرَ تارةً ويفقِده تارةً، حتى وجدنا أنفسنا «؟ أين جاءتْ
عند حافةِ الغابة تظلِّلنا شجرةُ زانٍ ضَخمة، كانت هي الأضخَم وسطَ أشجارِ المنطقة. تتبَّع
هولمز الأثرَ، حتى وصَل إلى الناحية الأبعَد من الشجرة، ثم استلقَى مرةً أخرى على وجهِه،
وهو يُطلق صيحةَ ارتياحٍ خافتَة. وظلَّ هناك لفترةٍ طويلة، يقلِّب الأوراق والعِصيَّالمُجفَّفة،
ويجمَع — ما بدا لي — غبارًا في مَظروفويفحَصُبعدَسته الأرض، وما أمكنه الوصولُ إليه
من لِحاءِ الشَّجرة. كان ثمَّة حجرٌ مُسنَّن بينَ الطَّحالب، وقد فحصَه أيضًا بعنايةٍ واحتفَظ
به، ثم اتَّبع طريقًا عبرَ الغابة؛ حتى وصَل إلى الطَّريق الرئيسيِّ حيث فُقدَت كلُّ الآثار.
إنها قضيَّةٌ مثيرةٌ للاهتِمام. أعتقدُ أنَّ هذا المنزلَ » : قال هولمز، وقد عاد إلى طبيعتِه
الرَّماديَّ على اليمين هو منزِل الحارِس. سأدخُل وأتحدَّث مع موران، وربَّما أكتبُ رسالة
صغيرة، بعد ذلك يمكننا أن نعودَ لتناوُل الغداء. يمكنُكما التوجُّه نحو عرَبة الأجرة،
«. وسأكون معكما بعدَ قليل
مرَّت حوالي عشْرِ دقائق قبل أن نستعيد عربتَنا، ونعود إلى روس. كان هولمز لا يزالُ
يحمِل معه الحجَر الذي التقَطه عندما كان في الغابَة.
قد يعينُك هذا يا ليستراد. إنه السِّلاحُ الذي نُفذَت » : قال هولمز، وهو يستعرضالحجَر
«. به الجَريمة
«. لا أرى عليه أيَّ علاماتٍ تدلُّ على ذلك »
«. كلا، ليس به أيةُ علاماتٍ »
«؟ كيف عرفتَ إذن »
كانت الحشائشُناميةً تحته؛ فهو لم يوضع هناك إلا منذ أيامٍ فقط، كما لا يوجد أثرٌ »
«. يدل على المكان الذي أخُذ منه، كما أنه يتَطابق مع الإصابات، ولا يوجد أثرٌ لسلاحٍ آخر
«؟ وماذا عن القاتِل »
رجلٌ طويلُ القامة أعسَر اليَد، مصابٌ بعَرَج في قدَمه اليمنى، يرتدي حذاءَ صيد ذا »
نعل سَميك، ومعطفًا رماديٍّا، ويدخِّن سجائرَ هندية باستخدام المبسم، ويحمِل في جَيبه
مطواةً غير حادَّةٍ. توجد علاماتٌ كثيرة أخرى؛ إلا أن هذه قد تكونُ كافيةً لمساعدتنا في
«. البحث
أخشىأنَّني ما زلتُ مُتشكِّكًا، فبرغم جودةِ نظريَّاتِك، فإن علينا » : قال ليسترادضاحكًا
«. أن نتعامل مع هيئة محلَّفين من الإنجليز شديدي الِمراس
فلْيَعمل كلٌ منَّا بطَريقتِه وسنَرى، سأكونُ مشغولًا بعد ظهرِ » : أجاب هولمز بهدوء
«. اليوم، وربَّما أعود إلى لندن في قِطار المَساء
«؟ وهل ستَتركُ قضيَّتك دونَ أن تُنهيَها »
«. لا، بل أنهَيْتُها »
«؟ وماذا عن اللُّغز »
«. لقد حلَلتُه »
«؟ مَن القاتلُ إذَن »
«. الرجل الذي وصفتُه لك »
«؟ لكن مَن يكونُ »
«. بالطَّبع لن يكون العثورُ عليه صَعبًا؛ فهذه المنطقة ليسَت مزدحمةً بالسُّكان »
أنا رجلٌ عمَلي، ولا أستطيع أن أتعهدَ بتفتيش البلدَة بحثًا » : هزَّ ليستراد كتفَيه، قائلًا
«. عن رجُلٍ أعسرِ اليد ذي ساقٍ عرجاء؛ وإلا فسأصبح أضحوكةَ سكوتلاند يارد
لا بأسَ، لقد منحتُك الفرصة. ها هو مسكنُك، وداعًا! وسأترك لك » : قال هولمز بهدوء
«. رسالة قبل مغادَرتي
ذهبنا إلى فندقِنا بعد أن تركنا ليستراد في مَسكنه؛ لنجد الغداءَ جاهزًا على الطَّاولة.
كان هولمز صامتًا مُستغرقًا في التَّفكير، وترتَسم على وجهِه ملامحُ الانزِعاج والضِّيق، كمَن
يجِد نفسَه في موقف مُحيِّر.
انظر يا واطسون، اجلِسعلى هذا الكُرسي، » : وعندما رُفع الطعام عن المائدة، قال هولمز
ودعني أضُجرك قليلًا؛ فأنا لا أدري بالضبط ما عليَّ فعلُه، وسأقدِّرُ لك نصيحتك. فلتُشعل
«. سيجارًا، ولتدعْني أشرَح لك الموضوعَ
«. كلِّي آذانٌ مُصغية »
حسنًا، الآن، عندما بحَثنا هذه القضيةَ، كان هناك نقطَتان في قصَّة الشابِّ مكارثي »
استوقفَتانا معًا على الفور، على الرغم من أنني اعتبَرتها دليلًا في صالحِه، وأنت اعتبَرتها
قبلَ «! كوي » — دليلًا ضدَّه؛ النقطةُ الأولى كانت حقيقةَ أنَّ والده صاحَ — بحسَب روايتِه
وهو يُحتضَر. لقد غمغَم بعدَّة كلماتٍ، كما « رات » رؤيتِه. والنُّقطةُ الأخرى أنه ذكَر كلمة
تعلَم؛ ولكن كان هذا كلَّ ما استطاع الابنُ أن يسمَعه. الآن يجِب أن ينطلِق بحثُنا من هذه
«. النقطة المُزدَوجة، وسوف نبدؤه بافتراضِأنَّ ما قاله الفتَى حقيقيُّ تمامًا
«؟ هذه «! كوي » إذن، ماذا عن صَيحة »
حسنًا، بالطبع لم تكن موجَّهةً إلى الابن؛ فقد كان يعلم أن ابنَه في بريستول، وكان »
وجودُ الابنِ في مَجال سَماع الصيحة مجردَ صُدفة بحتة. لقد أطلَق القتيل الصيحةَ؛ لجذب
صيحةٌ أسترالية « كوي » انتباهِ الشخص الذي كان على موعد معه، أيٍّا كانت هويتُه. لكن
مميَّزة، وهي مستعملَةٌ بين الأستراليِّين، ولديَّ افتراضٌقويٌّ أنَّ الشخصَ الذي كان يتوقَّع
«. مكارثي ملاقاتَه، عند بُحيرة بوسكومب، كان يعيشُ في أستراليا
«؟ وماذا عَن كلِمة رات إذن »
هذه » : أخرج شيرلوك هولمز ورقةً مطويَّة من جَيْبه، وبسَطها على الطَّاولة، ثم قال
ثم وضع يدَه «. خريطةٌ لمُستعمرة فيكتوريا، وقد أرسَلتُ في طلَبها من بريستول عبرَ البرق
«؟ ماذا تَقرأ » : على جزءٍ في الخَريطة وقال
«. أرات » : قرأتُ
«؟ والآن » : ثم رفَع يدَه وقال
«. بالارات »
بالضَّبط. كانت تلك هي الكلمة التي نطَق بها الرجُل، ولم يسمَع ابنُه سوى المقطعِ »
«. الأخير منها. لقد كان يُحاول النُّطق باسمِ قاتلِه. شخصما من بالارات
«! هذا رائِع » : صحتُ قائلًا
إن الأمر واضِح. والآن، كما ترَى، لقد ضيَّقتُ نطاق البحثِ إلى حدٍّ بعيد؛ أما حيازة »
معطف رمادي — إذا سلَّمنا بصحة أقوال الشَّاب — فتلكَ نقطةٌ ثالثة مؤكِّدة. ها قد خرَجنا
من نِطاق الغُموض التَّام وتوصَّلنا إلى تخيُّلٍ محدَّد لشخصٍ أسترالي من بالارات، يرتدي
«. مِعطفًا رماديٍّا
«. بالتَّأكيد »
وهو شخصٌ سكن بالمنطقة؛ إذ لا يمكن الوُصول إلى البحيرة إلا عن طريق المزرعة، »
«. ويصعُب على الغُرباء أن يتجوَّلوا فيها
«. بالضَّبط »
نأتي الآن إلى رِحلتنا التي قُمنا بها اليوم. من خِلال فحصِيللأرض، عرَفتُ التَّفاصيل »
«. التَّافهة التي زوَّدت بها ليستراد الأبلَه، فيما يتعلَّق بشَخصية المُجرِم
«؟ ولكن كيف حصَلت على تلك المعلومات »
«. أنت تعرفُ أسلوبي، وهو قائمٌ بالأساس على ملاحظة تَوافِه الأمور »
أعرف أنَّك قد تكون خمَّنتَ طولَه من اتساع خطوته، وحذاؤه أيضًا يمكِن معرفته »
«. عن طريقِ آثاره على الأرَض
«. أجَل، لقد كان حذاءً مميَّزًا »
«؟ ولكن كيفَ عرفت أنه أعرَج »
كان أثر القدم اليُمنى دائمًا أقلَّ وضوحًا من القدَم اليسرى. إنه يضَع ثقلًا أقلَّ عليها، »
«. لماذا؟ لأنه يعرَج؛ إذن فهو أعرَج
«؟ ولكن كيف عَرفت أنه أعسَر »
لقد لفتَ نظرَك طبيعةُ الإصابات التي ألمَّت بالقَتيل كما سجَّلها الجرَّاحُ في التحقيق. »
فبالرغم من أن الإصابة وُجِّهت من الخَلف، فقد وقعَت على الجانبِ الأيسَر من الرَّأس،
فكيف يُمكن أن يحدُث هذا؛ إن لم يكُن القاتل أعسَر؟ لقد كان واقفًا خلفَ الشَّجرة خلال
المُقابلة التي جرَت بين الأب وابنِه، بل إنَّه دخَّن، ووجدتُ رمادَ سيجار هناك، وتمكَّنت عن
طريق مَعرفتي الخاصَّة برَماد التَّبغ من الحُكم بأنه سيجارٌ هِنديٌّ. فقد كرَّستُ بعضًا من
اهتمامي لهذا الأمَر، كما تعلَم، وكتبت دراسةً صغيرة حول رماد ١٤٠ نوعًا مختلفًا من
الغليون، والسيجار، وتَبغ السجائر. وبعد أن وجدتُ الرَّماد، نظرتُ حولي فوجَدتُ العقب
«. وسطَ المستنقع حيثُ رماه. لقد كان سيجارًا هنديٍّا من النَّوع الذي يُلف في روتردام
«؟ وماذا عن المبسم »
لقد استطعتُ أن أخمِّن أن عقب السيجار لم يلمس فمه، إذن فقد كان يَستخدم »
مبسمًا، كما أن السيجار كان مقطوعًا وليس مقضومًا، ولكنَّ القطع لم يكُن متساويًا، لذا
«. علمتُ أنه قُطع بمطواة غيرِ حادة
لقد أحكمتَ الحصارَ حول ذلك الشخص، يا هولمز؛ بحيث لا يمكنُه الفرار، » : قلت
وأنقذْتَ روح إنسان بريءٍ من المَوت، كما لو أنك قطَعتَ الحبل الذي كان سيُشنق به. أرى
«… الاتِّجاهَ الذي تسير فيه كل هذه النِّقاط. المُجرم هو
صاح نادل الفُندق، وهو يفتح بابَ الصَّالون الذي كُنَّا نجلس فيه، ويدخل زائرًا:
«. السيد جون تيرنر »
كانت بنية الرَّجل الذي دخلَ غريبةً ومثيرةً للإعجاب؛ فقد أعطَت خطوتُه البطيئة
العَرجاء وانحناءةُ كتفَيه إيحاءً بالهرَم والعجز، بينما دلَّت ملامحُ وجهه القاسية الخَشنة
وخطوطُه العميقة على قوةٍ غير عاديةٍ في الجِسم والشَّخصية. وبدت لحيتُه الكثَّة، وشعرُه
الرمادي، وحاجباه المتدلِّيان البارِزان، قد اتَّحَدوا معًا لإضفاءِ انطباعٍ بالوَقار والقُوة على
مَظهره، وإن بدا وجهُه شاحبًا كالمَوتى، بينما اصطبغَت شَفتاه وزوايا منخارَيه بزُرقة
خفيفة. كان واضحًا لي، من نظرةٍ واحدة، أنه فريسةٌ لأحد الأمراضالفتَّاكة والمُزمِنة.
«؟ أرجو أن تجلِسَ على الأريكة، هل وصلَتْك رسالتي » : قال هولمز بلطف
«. نعم، سلَّمها لي الحارس، قلتَ إنك توَدُّ مقابلتي هنا؛ تجنُّبًا للفضيحة »
«. فكَّرتُ أن الناس سيُثرثرون، إذا ذهبتُ إلى القَصر »
نظر إلى رَفيقي وفي عينَيه المُرهقتَين نظرةُ يأس، وكأنه قد تلقَّى الإجابةَ على سؤاله
قبل أن يسمَعها.
«؟ ولماذا رغبتَ في رُؤيتي »
حقيقةُ الأمر أنني أعرِفكلَّ ما حدَث » : قال هولمز، وكأنه يُجيب عينَي الرجلِ، لا سؤالَه
«. لمكارثي
فليساعِدني الرَّب! لكنني ما كنت » : أخفَى الرجلُ العجوز وجهَه في كفَّيه، وصاح قائلًا
«. لأدَع أيَّ مكروهٍ يحدُث للشاب، أقسِم لك أنَّي كنت سأعترف، لو حكَموا عليه في المَحكمة
«. أنا سعيدٌ لسَماع ذلك منك » : قال هولمز بجدِّيَّة
كنت سأعترف الآن لولا ابنتي العزيزة، قد يفطُر الأمر قلبَها، وقد يتحطَّمُ فؤادُها »
«. عندما تعلَم أنني اعتُقِلت
«. قد لا يصِل الأمرُ إلى هذا الحَدِّ » : قال هولمز
«؟ ماذا »
أنا لستُ ضابطًا رسميٍّا، وأتفهَّمُ أن ابنتَك هي مَن طلبَت حُضوري هنا، وأنا أعمَل »
«. لصالحها، ولكن مكارثي الصَّغير يجِب أن يخرُج
أنا رجلٌ أحُتضَر، فقد أصُبتُ بداء السُّكري منذُ أعوامٍ، » : قال السيد تيرنر العجوز
ويقول الطبيب إنني قد لا أعيشُ شهرًا آخَر، ولكنِّي أفضِّلُ الموت على فراشِي، على الموت في
«. السِّجن
نهَض هولمز، وجلَس على الطاولة مُمسكًا بقلَم في يدِه، وأمامه حزمةٌ من الأوراق،
أخبِرنا فقط بالحقيقة، وسأدوِّنُ الحقائق، وستُوقِّع عليها، وها هو السيد واطسون، » : وقال
يمكِنه أن يشهَد على ذلك، عندئذٍ يُمكنني تقديمُ اعترافِك للمحكمة ملجأً أخيرًا لإنقاذِ مكارثي
«. الصغير، وأعدُك أنني لن أستخدِمها إلا إذا اضطرَّتني الظروفُ لذلك
هذا جيِّد، ليسَ مؤكَّدًا إن كنت سأظل حيٍّا حتى موعِد المحاكمة؛ لذا » : قال العجوز
فالأمرُ لا يهمُّني كثيرًا، ولكن كل ما أريده أن أجنِّبَ ابنتي أليس ويلاتِ الصدمة، والآن
سوف أوضِّح لك كلَّ شيء. لقد وقعَت الأحداثُ على مدار زمنٍ طويل، ولكنني لن أطيلَ في
سردها.
أنتما لم تعرفا القتيلَ، السيد مكارثي، لقد كان شيطانًا في صورةِ إنسان. أدعو لله
ألا تقعا في براثن شخصٍ مثلِه. لقد أحكم سيطرته عليَّ على مدار العشرين عامًا الماضية،
ودمَّر حياتي. سأخبِركما كيف وقعتُ تحت قَبضته.
كانت البداية في أوائل السِّتينيات في المَناجم. كنتُ وقتَها شابٍّا يافعًا مُتهوِّرًا، مُستهتِرًا،
مُستعِدٍّا لفعل أيشيء.صاحبتُ رِفاق السوء، وأدمنتُ الخَمر، وحينما لم نوفَّق في استخراج
الذَّهب، توجَّهت نحو الأدغال. باختصارٍ أصبحت قاطعَ طريق، كما تطلقون عليه هنا. كُنَّا
ستةَ رجال، وكنا نعيشُ حياة همجية بلا أيِّ ضوابط، نسطُو على محطةٍ من حينٍ لآخر،
بلاك جاك، من » أو نستوقِف العرَبات المتوجِّهة للمناجم، وكان الاسم الذي اخترتُه لنفسي
ولا يزالون يتذكَّرون اسمَ عصابتنا في المُستعمرة باسم عصابة بارالات. ،« بالارات
ذاتَ يومٍ، مرَّت قافلةٌ محمَّلة بالذهب في طريقِها من بالارات إلى ملبورن، فتربَّصنا
بها وسطَونا عليها. كان هناك ستة حراسٍ في مواجهة ستةٍ مِنَّا، وكانَت معركة عصيبة
وكِدنا نُهزم، ولكننا أسقَطنا أربعة منهم في الجولة الأولى؛ غير أن ثلاثة من فتياننا قُتلِوا
قبل أن نحصُل على الغنيمة. صوَّبتُ مسدسي على رأس سائقِ العربة، وكان ذلك المدعو
مكارثي. ليتَني قتلتُه في ذلك الوقت، ولكنني تركته، وإن كنتُ قد رأيت عينَيه الضيقتَين
الماكِرتَين تحدِّقان في وَجهي كما لو كان يريدُ أن يتذكَّر تفاصيلَه، بعد ذلك هرَبنا بالذَّهب
وصِرنا أغنياء، وجِئنا لإنجلترا، دون أن يشكَّ فينا أحدٌ، ثم ترَكتُ أصدقائي القُدامى وقرَّرتُ
الاستقرار وبناءَ حياةٍ هادئة محترمة؛ فاشتريتُ هذه المزرعة، التي تَصادف أن كانت
معروضةً للبيع، وقرَّرت أن أستخدِم بعض المال في القيام بالقليلِ من الأعمال الخيرية؛
للتَّكفير عن الطريقة التي حصلتُ عليه بها، وتزوَّجتُ أيضًا، وبالرغم من أن زوجتي قد
ماتَت في رَيعان شبابها، فقد تركَت لي صغيرتي الحَبيبة أليس، حتى عندما كانَت رضيعة،
كانت يدُها الصَّغيرة كأنها تقُودني عبرَ الطريق القويم، كما لم يفعل أيشيء آخَر من قبل،
باختصار فتحتُ صفحةً جديدة، وبذلت قُصارى جهدي للتَّعويض عن الماضي، وكان كلُّ
شيءٍ يسير على ما يرام، حتى أحكَم مكارثي قبضتَه عليَّ.
كنت ذاهبًا إلى المَدينة؛ لمتابعة أحد الاستثمارات، وقابلته في شارع ريجنت، ولم يكُن
يرتدي سوى معطفٍ مهترئٍ، وحذاءٍ بالٍ.
ها قد التَقينا يا جاك، وسنكونُ لك بمثابة العائِلة. نحن اثنان أنا » : لمَس ذراعي وقال
وابني، ويمكِنك أن تتكفَّل بنا. إن لم تَفعل، فلاضَيْرَ؛ فإنجلترا بلدُ القانون، ورجالُ الشرطةِ
«. في كل مكان دائمًا
حسنًا، لم أستطع التخلُّصَ منهما؛ فانتَقلا إلى ضَيعتي، وعاشا منذ ذلك الحين في
أفضل مَزارعي دون دفعِ أيِّ إيجار، ولم أشعُر من وقتها بالسَّلام أو النسيان، فحيثُما
أذهب أجِد وجهَه الماكر المستهزئ. وازداد الأمر سُوءًا عندما كبرَت أليس؛ إذ سرعان ما
أدرك أن خَوفي من اكتشاف ماضيَّكان أكبرَ من خوفي من الشُّرطة. وهكذا صار لزامًا أن
يحصل على كلِّ ما يريد من أرض، ومال، ومنازل، دون تردُّد؛ حتى طلب أخيرًا شيئًا، لم
يَكن بمقدوري أن أمنحَه إياه؛ لقد طلَب أليس!
كان ابنُه، كما تعلَم، قد كبِر، وكذلك ابنتي؛ ولعلمه بسُوء حالتي الصحية، بدا له أن
استيلاءَ ابنه على كل مُمتلكاتي سيكونضربةً موفَّقةً له، ولكني وقفتُ بصرامةٍ أمام هذا
الأمر؛ فلم أكُن لأسمَح لسلالته الملعونة بالاختلاط بسلالتي، ليس لأنني أحمل أي ضغينة
للفتى، ولكن لأنه يحمل دمه، وكان هذا كافيًا؛ لذا تصدَّيت لهذا الأمر، وهدَّدني مكارثي،
فتحدَّيته أن يُخرِج أسوأَ ما في جَعبَته، وكان مُقرَّرًا أن نتقابل عند البحيرة، في مكان محايِد
بين منزلي ومنزله؛ كي نناقشَ الأمر.
عندما ذهبتُ إلى هناك، وجدته يتحدَّث إلى ابنه، فأشعلتُ سيجارًا، وانتظرتُ خلفَ
إحدى الأشجار؛ حتى يصبح بمفرده. ولكن عندما استمعتُ لكلامه، بدا كلُّ ما بداخلي من
شرٍّ وعُنف ومرارةٍ، وقد طفَا على السَّطح؛ فقد كان يحثُّ ابنَه على الزواج من ابنتي، دونَ
اعتدادٍ برأيِها، وكأنها بائعةُ هوًى من الشارع. وحينما فكَّرت بأنني أنا وأعزَّ ما لديَّ في
الوُجود، سنكون تحتَ رحمة هذا الرجل، دفَعني هذا إلى الجنون ولم أتمالَكْ نفسي، ألا
يُمكنني كسرُ هذا القَيْد؟! أنا رجل يائسٌ على شَفا الموتِ على أيَّةِ حالٍ. وبرغم أنني كنتُ
حاضرَالذِّهن قويَّ الأوصال، فقد عرَفت أنَّ مَصيري مَحتوم، لكن ألا يُمكنني أن أنُقذ ابنتي
وذكرايَ؟ نعم، يمكنني إنقاذُهما فقط لو أخرَستُ فمَ هذا القذِر. لقد فعلتُها يا سيد هولمز،
وسأفعلها مجدَّدًا لو عاد بي الزمن، لقد أذنبت كثيرًا، إلا أنَّني عشتُ حياةً مليئة بالعذاب
تكفيرًا عن ذنوبي، لكن أن تقعَ ابنتي في الشَّرَك الذي وقعتُ فيه، فهذا يفوق قدرتي على
التحمُّل. لقد ضربته دون أيِّ ندمٍ، كما لو كان وَحْشًا سامٍّا قذرًا. دفعَتْ صرخته ابنَه
للعودة فاختبأتُ بين الأشجار، ولكنني اضطررتُ للعَودة؛ لاستعادَة معطفي الذي سَقط
«. أثناء فراري. هذه حقيقةُ ما حدَث أيها السادة
حسنًا، ليس لي أن » : قال هولمز، بينما كان العجوزُ يوقِّع على الشَّهادة التي كتَبها
«. أحكُم عليكَ، وأرجو ألا أخضَع لمثل هذا الإغرَاء
«؟ أرجو ذلك يا سيدي. وماذا تَنوي أن تفعَل »
بالنظر إلى حالتِك الصحية، لا شَيء. لا بدَّ أنك نفسك تدرِك أنك سوف تقف قريبًا »
أمام محكمة أعلى؛ لتُحاسَب على أفعالك. سأحتفظ باعترَافك، وإذا ما أدُِين مكارثي، فسوف
أكون مُجبَرًا على استخدامِه؛ أما إذا برَّأت المحكمةُ ساحتَه، فلن تقع عليه عينا مخلُوق،
«. وسيكونسِرُّك في أمانٍ معنا؛ سواء كنتَ حيٍّا أم ميتًا
الوداع إذن. حينَ يأتي الأجل، ستشعران بالرَّاحة، وأنتما على » : قال العجوز في وقار
وخرَج من الغرفة، وهو يمشِيببُطء «. فراشالموت، عند تفكيرِكما بالأمان الذي مَنحتماه لي
وصعوبة، وجسدُه العِملاق يرجُف ويرتعد.
فليُعِنَّا لله! لماذا تحدثُ مثل تلك الأمور للمساكِين » : قال هولمز بعد صمت طويل
الحمد » : والبؤساء؟ إنني لا تمرُّ بي قطُّ قضية مثل هذه، إلا وقلتُ، كما قال باكستر من قبل
«.« لله الذي عافىَ شيرلوك هولمز
بُرِّئ جيمس مكارثي من تهمةِ القتل؛ بناءً على عدد من الاعتراضات التي قدَّمها
شيرلوك هولمز إلى محامِي الدفاع، وعاش تيرنر العَجوز سبعة أشهر بعد مقابلتِنا، ولكنَّه
ميت الآن، ومن المُحتمل أن يكون الابن والابنة قد تزوَّجا، وعاشا في سعادة دونَ أن يعرفا
بالسحابة السوداء التي ألقت بظِلَالِها على ماضِيهما
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.