artherconan

Share to Social Media

تتميَّز أفكار صديقي واطسون بأنها شديدة الإلحاح على قِلَّتها؛ فلَطالما ألحَّ عليَّ في شأن
تدوين تجربة خاصَّة بي. ولعلي، في الحقيقة، مَن جلبتُ على نفسيالمتاعب؛ فكثيرًا ما دعتني
الظروف إلى التلميح إلى مدى سطحيَّة مَروِيَّاته، واتِّهامه بالانسياق وراء إرضاء أذواق
العوامِّ بدلًا من الاقتصار الصارم على الحقائق والأرقام. وكان ردُّ واطسون على اتهاماتي
ولا مفرَّ أمامي من الاعتراف بأنَّني بمجرَّد أن أمسكت القلم «! جرِّب بنفسك يا هولمز » : هو
بدأتُ أدركضرورة عرضالأمر بحيث يُثير اهتمام القرَّاء. والحقُّ أن القضية التالية يَسعُها
بالتأكيد تحقيق ذلك المطلب؛ فهي واحدة من أغرب الوقائع التي تضمُّها مجموعتي ولم
يُدوِّنها واطسون في مجموعته. بالحديث عن صديقي القديم وكاتب سيرتي الذاتية، سوف
أغتنِم هذه الفرصة للإشارة إلى أن تَجشُّمي عبء اتِّخاذ رفيقٍ في شتَّى تحقيقاتي البسيطة
ليس استجابةً لعاطفةٍ أو اتِّباعًا لهوى، وإنما لما لواطسون من بعضالسمات المُميزة التي،
لتواضعه، لم يُعِرها الانتباه اللازم في غمرة تقديره المُبالَغ فيه لإنجازاتي. إن مُرافَقةشريك
يتنبَّأ باستنتاجاتِك وتصرُّفاتك لهو قرار ينطوي دائمًا على خطورة. أمَّا الرفيق الذي يرى
كلَّ مُنعطف للأحداث مُفاجأةً لا تنقطع والمُستقبلَ غيبًا لا يُتوقَّع لهو خير مُعين.
وجدتُ مدوَّنًا في مُذكرتي أنَّني تلقيتُ زيارةً من رجل بريطاني، ضخم البنية، أَسْفَع
الوجه، تبدو عليه حَداثة السنِّ واستقامة الخُلُق، ألا وهو السيد جيمس إم دود، وذلك في
شهر يناير من عام ١٩٠٣ ، بعدما خمد أوُار حرب البوير مُباشرةً. كان صديقي الوفيُّ
واطسون قد هجرَني حينئذٍ ليُزَفَّ إلى عروسه، ولا أذكر له تصرُّفًا أنانيٍّا طوال رُفقتِنا إلَّا في
هذه السابقة؛ فقد تركني وحيدًا.
مغامرة الجندي الشاحب
من عادتي أن أجلسمُولِّيًا ظهريصوبَ النافذة بينما أجُْلِسزوَّاري على المقعد المُقابل
بحيث يقَع الضوء عليهم كاملًا. بدا السيد جيمسإم دود مُتردِّدًا نوعًا ما في كيفية استهلال
الحديث، ولم أحاوِل مساعدته؛ إذ أمدَّني صمتُه بمزيدٍ من الوقت لمُلاحظة هيئته وسلوكه.
وقد وجدتُ أنَّ من الحِكمة أن أثُير إعجاب عُملائي بإظهار تمكُّني من عملي؛ لذلك بادرتُ
بإخباره ببعضما خَلَصتْ إليه مُلاحظاتي.
«. أظنُّك يا سيدي، من جنوب أفريقيا »
«. أجل يا سيدي » : أجابني وقد علَتْ وجهه بعضالدَّهشة
«. أحسبُك من فرقة اليوامنة الإمبراطوريِّين »
«. بالضبط »
«. فيلق ميدلسكس بالتأكيد »
«. هو كذلك. أنت عبقري يا سيد هولمز »
قابلتُ ذهوله بابتسامة.
عندما يأتيني شابٌّ مُفعم بالحيوية تعلو بشرتَه سُمرة لا يُمكن إطلاقًا أن تُخلِّفها »
شمس إنجلترا، واضعًا منديله في كُمِّه لا جَيبه، لا يكون من الصَّعب إذن أن أحُدِّد مكان
إقامته. كما أنك قصير اللِّحية، ممَّا يُظهِر أنك لست جُنديٍّا نظاميٍّا، وتصفيفة شعرِك تدلُّ
على أنك فارس. أما بالنسبة إلى ميدلسكس، فقد أخبرتْني بطاقتك التعريفية أنك تعمل
«؟ سمسارًا في بورصة ثروجمورتون ستريت. بأيِّ كتيبةٍ عساك أن تَلتحِق إذن
«. أنت ترى كلَّشيء »
أنا لا أرى أكثر ممَّا تراه، لكنَّني دربتُ نفسي على مُلاحظة كلِّ ما تُبصِره عيناي. »
لكنك لم تطلُب مُقابلتي هذا الصباح، يا سيد دود، لنُناقِش عِلم المُلاحظة. ماذا جرى في
«؟ توكسبري أولد بارك
«!… : سيد هولمز »
سيدي العزيز، الأمر ليسلُغزًا. لقد صدَّرتَ رسالتك بهذا العنوان، وبالنظر إلى كونك »
«. قد حدَّدتَ هذا المَوعِد على وجه العَجَلة، فكان من الجليِّ أنَّ شيئًا مُفاجئًا ومُهمٍّا قد وقع
نعم، بالفعل. لكنني خطَطْتُ الخطاب عصرًا، وقد وقع الكثير من الأحداث منذ ذلك »
«… الحين. لو لم يطرُدْني الكولونيل إمزورث
«! يطرُدك »
حسنًا، هذا ما آلت إليه الأمور. إنه رجل غليظ القلب. كان، في عنفوان مجده، أشدَّ »
قيادات الجَيش صرامةً وحزمًا، كما كان سليطَ اللسان أيضًا. ما كنتُ لأتحمَّل الكولونيل
«. لولا إكرامي لجودفري
أشعلتُ غليوني وتراجعتُ مُسترخيًا في مقعدي.
«! هلا أوضحتَ ما تعنيه »
ابتسم عميلي ابتسامةً عريضة لا تخلو من خُبث.
كنتُ قد بدأتُ أفترِضأنك تُحيط بكلِّشيء علمًا دون حاجة إلى » : ردَّ السيد دود قائلًا
إخبارك. لكنني سأروي لك الحقائق وأدعو لله أن تنجح في تفسيرها لي؛ فقد بتُّ الليل كلَّه
مُنشغِلَ الفكر بهذه الواقعة، وكلما أنعمتُ فيها النظر، ازدادتِ استِعصاءً على التصديق.
تزامن التِحاقي بالجيش في يناير عام ١٩٠١ — أي منذُ عامين — مع انضِمام الشابِّ
جودفري إمزورث إلىسرية الخيالة نفسها. كان جودفري الابن الوحيد للكولونيل إمزورث
— إمزورث الحائز على صليب فيكتوريا لبطولته أثناء حرب القِرم — وورِث عنه الرُّوح
القتالية؛ ولذلك لا عجَبَ في انضِمامه مُتطوِّعًا. كان ألطفَمَن في الكتيبة. نشأتْ بينناصداقة؛
ذلك النوع من الصداقات الذي لا يُمكن أن يُولَد إلَّا بِمُعايشة الحياة نفسها ومُشاركة الأفراح
والأتراح عينِها. لقد كان رفيقي، وهو أمر يعني الكثير في حياة الجُندية. أمضَيْنا عامًا من
القتال الشرس، تقاسَمْنا خلاله لذَّة السرَّاء ومرارة الضرَّاء. ثم حدَث أن أصابتْه رصاصة
من إحدى البنادق الضخمة أثناء القتال بالقُرب من دياموند هيل خارج مدينة بريتوريا.
تلقَّيتُ بعدَها رسالة منه أثناء وجوده في المستشفى بمدينة كيب تاون، وأخرى أثناء إقامته
بمدينة ساوثهامبتون، ومنذ ذلك الحين لم يُرسِل إليَّ بكلمةٍ واحدة، ولا كلمة واحدة يا سيد
هولمز، على مدى ستة أشهر ويزيد، وهو أقرب أصدقائي.
حسنًا، بعدما وضعَتِ الحربُ أوزارها وعُدنا جميعًا إلى دِيارنا راسلتُ والدَه مُستعلمًا
عن مكان جودفري، لكنَّني لم أتلقَّ ردٍّا، فانتظرتُ قليلًا ثم راسلتُه مُجدَّدًا، تَلَقَّيْتُ ردٍّا هذه
المرة، وكان قصيرًا وفظٍّا. لقد انطلق جودفري في رحلةٍ بحرية حول العالم، ولن يعود على
الأرجَح قبل عام. كان هذا كلَّ ما في الأمر.
لم أقتنِعْ بذلك يا سيد هولمز. بدا لي الأمر برُمَّته غريبًا جدٍّا. لقد كان شابٍّا وفيٍّا ولن
يَهْجُرَ صديقًا بهذه الطريقة. لم يكن هذا النَّمطَ من الشخصيات. ثم صادَفَ أن نما إلى
علمي أنَّ جودفري كان وريثًا لثروةٍ من المال، وأنه ووالده لم يكونا على وفاقٍ دائمًا؛
فالعجوز كان مُتسلطًا أحيانًا، وكان جودفري ذا طبع مُتمرِّد ولم يكن ليتحمَّله. لا، لم
أقنَعْ بهذا الرد، وعزمتُ على التقصِّيعن السبب الحقيقي لاختفاء صديقي. لكن حدَث أن
احتجْتُ احتياجًا شديدًا، بعد عامَين من الغياب، إلى إعادة ترتيب شُئوني؛ ولذلك لم يتسنَّ
لي استئنافُ مُتابعتي لقضيَّة جودفري إلَّا هذا الأسبوع، لكن بِما أني قد التفتُّ إلى القضية
«. مُجددًا، فإني عازِم على نبْذِ كلِّ ما سواها والتفرُّغ لها
بدا لي السيد جيمسإم دود من ذلك الطراز الذي يَحْسُن بك كسْبُصداقتِه لا عَداوته؛
فعَيناه الزَّرقاوان صارِمتان وفكُّه المُربَّع مشدود وهو يتحدَّث.
«؟ حسنًا، ماذا فعلت » : بادرتُه مُتسائلًا
كانت خطوتي الأولى هي الوصول إلى منزله في توكسبري أولد بارك، بالقُرب من »
بدفورد؛ لمُعاينة الوضع بنفسي؛ لذلك خطَطْتُ رسالةً إلى والدته — فقد لاقيتُ ما يكفيني
من والِدِه الفظِّ — باغتُّها فيها مُباشرةً بهجومٍ بارع، فأخبرتُها أنَّ جودفري كان صديقًا
حميمًا لي، وأن لديَّ الكثير من التفاصيل المُثيرة بشأن تجاربنا المُشترَكة ممَّا قد أقصُّه عليها،
وسوف أكون بالجوار، فهل ثمَّة اعتراض؟ … إلخ. تلقَّيتُ منها ردٍّا في غاية اللُّطف وعرضًا
باستِضافتي لليلة. هذا ما ساقَني إلى هناك يوم الاثنين.
من الصَّعب الوصول إلى توكسبري أولد هول؛ فهي على بُعد خمسة أميال من أقرب
منطقة آهِلة بالسُّكان، ولم يكن في المحطة عربات؛ لذا اضطُررْتُ إلى المسير حاملًا حقيبة
السفر، ولم أنفكَّ سائرًا حتى حلَّ الظلام تقريبًا ولمَّا أبلغْ وِجهتي بعد. كان منزلًا عظيمًا
يقِف كالشريد وسط مُتنزَّهٍضخم. كان المنزل في تقديري مزيجًا من جميع الحِقَب والطُّرُز؛
فمَبدؤه أساسٌ نِصف خشبي يرجِع إلى الحِقبِ الإليزابيثية ومُنتهاه رُواق فيكتوري مُعمَّد.
أما من الداخل، فكانت الجُدران جميعها مُغطَّاة بالألواح المؤطَّرة واللوحات النَّسيجية
المُزخرفة والصُّور العتيقة التي طمَسَالزمان نِصف ملامِحها. بدا كأنه منزل تَحفُّه الظلال
ويَلفُّه الغموض. وجدتُ في استقبالي كبير الخدم، وهو رجل عجوز يُدْعَى رالف، خُيِّل إليَّ
أنه يُضاهي هذا المنزل هِرَمًا، كما رأيتُ زوجته، والتي ربما تكبُره سنٍّا. كانت العجوز مُربِّية
جودفري، وسبق أن سمعتُه يصِفها بأنها أقربُ الناس إلى قلبه بعد والدته مُباشرةً؛ لذلك
ألفَيتُ نفسيمُنجذبًا إليها رغم هيئتها المُريبة. أعُْجِبْتُ بوالدته كذلك؛ فقد كانت امرأةً رقيقةً
وديعة ضئيلة الحجم. لم يُزعِجني إلَّا الكولونيل نفسه.
سُرعان ما نشَب بينَنا شِجار بسيط، وكنتُ سأرجِع قافلًا إلى المحطة لولا إحساسٌ
راودَني أنَّها ربما تكون لُعبة حاكها ليدفَعَني إلى الرحيل. توجَّهتُ إلى مكتبه مُباشرةً، وهناك
رأيته؛ رجل ضخم الجثة مُحْدَودب الظهر أدْخنُ اللون ذو لِحيةٍ شعثاء رمادية، يجلس
خلف مكتبه المُبعثر. لمحتُ أنفَه ذا العُروق الحمراء بارزًا كمنقار النَّسر، وعينيه الرَّماديتَين
القاسِيَتَين مُطلَّتَين من تحت حاجِبَين كثيفَين وقد حدَّقتا فيَّ. يَسعُني الآن أن أفهم لماذا لم
يكن جودفري يتحدَّث عن أبيه إلَّا لِمامًا.
حسنًا يا سيدي، إني أتطلَّع لمَعرِفة الأسباب » : استهلَّ حديثه معي بصوتٍ أجشَّ قائلًا
«. الحقيقية وراء هذه الزيارة
فأجبتُه بأنني قدشرحتُ تلك الأسباب بالفعل في الخطاب الذي أرسلته إلى زوجته.
أجل، أجل، قلتَ إنك تعرَّفت إلى جودفري في أفريقيا، وليس لدَينا بالطبع دليل إلَّا »
«. ادِّعاؤك
«. أحتفِظُ بخطاباته إليَّ في جَيبي »
«. فضلًا أرِني إيَّاها »
ألقى نظرةًسريعة على الخطابين اللذين ناولتُه إياهما ثم ألقاهما جانبًا.
«؟ حسنًا، ماذا بعد ذلك » : ثم التفتَ إليَّ سائلًا
لقد أحببتُ ابنك حبٍّا جمٍّا يا سيِّدي؛ فقد جمعنا الكثير من الروابط والذكريات. أمِنَ »
«؟ المُستغرب أن أتعجَّب من الانقطاع المُفاجئ لخطاباته وأن أرغَبَ في معرفة ما حدَث له
لقد راسلتُك من قبل، فيما أذكر، وأخبرتُك بالفعل بما حدَث له يا سيدي. لقد انطلق »
في رحلةٍ بحرية حول العالَم. لقد ساءت صحَّتُه بعد الذي تعرَّض له في أفريقيا ورأيتُ
ووالدته أنه في حاجةٍ إلى الراحة التامَّة والتَّغيير. أرجو أن تَنْقُل هذا التوضيح إلى من قد
«. يَهْتَمُّ بالأمر من أصدقائه
بالتأكيد. لكن لعلَّك تتفضَّل بإخباري باسم الباخِرة والخطِّ الِملاحيِّ » : أجبتُه قائلًا
«. الذي أبحرَ عليه، بالإضافة إلى تاريخ إبحاره، وسوف أنجحُ بالتأكيد في مُراسلتِهِ
بدا لي أنَّ طلبي قد أربكَ الرَّجُل وأغضبَه. فدنا حاجِباه الكثَّان من عَينَيه وهو يَطْرُق
بأصابعه الطاولة بنفادِ صبر، وأخيرًا رفعَ بصرَه إليَّ بنظرة مَن رأى خَصمَه على وشْك
القِيام بحركة خطيرة في لُعبة الشِّطْرَنْج فقرَّر كيفيَّة مُواجهتها والتَّصدِّي لها.
قد يُثير إلحاحُك المُزعِج استياء الكثيرين، وربما يرَون أنَّ هذا » : ردَّ الكولونيل قائلًا
«. الإصرار قد بلغَ حدَّ الصَّفاقة البغيضة
«. لا بُدَّ أن تعزو سلوكي إلى مَحبَّتي الحقيقية لابنك يا سيِّدي »
بالضبط. فكلُّ تساهُلٍ معك كان مَرجِعُه هذا السبب، لكن عليَّ أن أطلب منك الكفَّ »
عن هذه الاستفسارات؛ فلكلِّ عائلةٍ تفاصيلها الداخلية ودوافعها الخاصَّة، والتي قد لا
تتَّضِح دائمًا للغُرَباء مهما كان حُسْنُ نواياهم. إنَّ زَوجتي مُتلهِّفة لمَعرفة بعضالتفاصيل
عن ماضيجودفري، وهو أمرٌ في استطاعتك، ولكنِّي أسألُك أنْ تدَعَ عنك الحاضروالمُستقبل؛
«. فمثل هذه التساؤلات يا سيِّدي لا تُجدي نفعًا وتَضعُنا في موقفٍ دقيق وصعب
وصلتُ إلى طريقٍ مسدود يا سيد هولمز. لم يكن أمامي مَفرٌّ من التَّظاهر بتقبُّل
المَوقف، لكنِّي قطعتُ عهدًا في قرارةِ نفسيألا تقرَّ لي عينٌ قطُّ حتى أستَجلِيَ ما آل إليه مصير
صديقي. كان مساءً مُملٍّا؛ فقد تناول ثلاثتُنا العشاء في سكونٍ داخل غُرفة قديمةٍ باهتة
الألوان تُخَيِّم عليها الكآبة. راحتِ السيدة تَسألُني بلهفةٍ عن ابنها، لكنَّ العجوز بدا مُتجهِّمًا
مَحزونًا. سئمتُ الأمر بِرمَّته، حتى إنني استأذنتُ للانصِراف متى وجدتُ ذلك لائقًا وأويتُ
إلى غرفة نومي. كانت غرفةً رحيبة شِبْهَ خالِيَةٍ في الطابق السُّفلي، لا تقلُّ كآبةً عن بقيَّةِ
المنزل، لكن بعد عام من افتِراش سُهُوب جنوب أفريقيا، لا يُدقِّقُ المرء كثيرًا في مَحلِّ إقامته
يا سيد هولمز. أزحتُ الستائر مُتطلعًا إلى الحديقة، ولاحظتُ أنها كانت ليلةً صافية وقد
انتصف فيها القمر وسطع ضَوْءُه، ثم جلست بالقُرب من نِيران المدفأة المُستعِرة إلى جوار
مِنضدة ذات مصباحٍ، وحاولتُ التَّشاغُل بمُطالَعة رواية، لكن رالف، كبير الخدَم العجوز،
قاطَعَني بدخوله حاملًا دَفْعةً جديدة من الفحم.
لقد خطر لي أنك قد تحتاج إلى مَزيدٍ من الفحم ليلًا يا سيِّدي؛ فالطقس قارسٌوهذه »
«. الغرف باردة
تردَّد العجوز قبل مُغادرة الغرفة، وحين استدرتُ ألفيتُه واقفًا في مُواجهتي وقد علتْ
وجهَهُ المُجعَّدَ نظرة مِلؤها الأسىواللهفة.
أستميحُك عُذرًا يا سيدي، لكنَّني لم أستطِعْ مَنْعَ نفسيمن استِراق السَّمْع إلى ما قُلتَه »
عن سيدي الشاب جودفري وقتَ العشاء. فأنت تدري يا سيدي أن زَوجتي قد أرضعتْه؛
ولذا فإنِّي بمنزلة أبيه، ومن الطبيعي أن نَهتمَّ لأمره. أحقٍّا أبلى السيد جودفري بلاءً حسنًا
«؟ يا سيدي
كان أشجعَ مَن في الكتيبة. لقد سحَبَني ذات مرَّةٍ من تحت بنادق البوير، ولولاه ما »
«. امتدَّ بي العمر لأكون ها هنا
«. فرَكَ العجوز يدَيه النَّحيلتَين »
أجل يا سيدي أجل، هذا هو السيد جودفري تمامًا. دائمًا ما كان جَسورًا. ليس في »
المُتنزَّه شجرة إلَّا وتَسلَّقَها ولم يكن شيء يُوقِفُه. كان فتًى رائعًا يا سيدي، أوه، لقد كان
«. رجلًا رائعًا
نهضتُ واقفًا.
انظر! لقد قلتَ إنه كان. أنت تتحدَّث وكأنَّهُ قد مات. ما كلُّ هذا » : ثم صحتُ قائلًا
«؟ الغموض؟ ما الذي دها جودفري إمزورث
أمسكتُ بكتِفِ الرجل العجوز، لكنه انكمش خوفًا.
لا أدري ما تَعنيه يا سيدي. فلتسألْ سيِّدي عن السيد جودفري. هو يَعلم. ليس لي »
«. أن أتدخَّل
وهَمَّ بمُغادَرة الغرفة لكنِّي أمسكتُ ذِراعه.
اسمع. سوف تُجيبُني عن سؤالٍ واحدٍ قبل أن تُغادِرَ وإن » : وتوجهتُ إليه قائلًا
«؟ اضطررتُ لاحتجازِك هنا طوال الليل. هل تُوفيَِّ جودفري
لم يستَطِعِ النظر في عَينيَّ. تَسمَّر الرجل كالمسحور وانفرجتْ شفتاه عن جوابٍ خرج
بشقِّ الأنفس. وكان جوابًا مُفزعًا وصادمًا.
ثُمَّ تحرَّر من قبضتي واندفع خارجًا من الغرفة. «! ليتَهُ كان » : صاح الرجل مُجيبًا
لعلك تتوقَّع يا سيد هولمز أنَّني عدتُ إلى مقعدي كاسِفَ البال، فكلمات العجوز لم
تكن تحمل بالنسبة لي إلا معنًى واحدًا. من الواضح أن صديقي المسكين قد تورَّط في واقِعةٍ
إجرامية أو مُشينة على الأقلِّ مسَّتْ شرفَ العائلة، وهو ما دفع ذلك العجوز الجافي إلى
ترحيل ابنه بعيدًا وإخفائه عن الأعيُن لئلا يُفتَضح أمره. لقد كان جودفري شخصًا طائشًا
سهل التأثُّر بِمَن حولَه. لا شكَّ أنه كان ضحيَّةً لأصحاب سوء أضلُّوه السبيل وقادوه إلى
التَّهلُكة. إنه لأمرٌ مُثير للشفقة، لو صحَّ بالفعل، لكن حتى في تلك الحالة فإن من واجبي
أن أبحثَ عنه وأرى إن كان بِوُسعي مدُّ يَدِ العَون إليه. وبينما كنتُ أنُعِم النظر في المسألة
«. والقلق يَتملَّكني، رفعتُ بصري فإذا بجودفري إمزورث شاخِصأمامي
صمتَ عميلي لبُرهة كمن انغمس في لحظة انفعالٍ عميق.
«. أرجوك أن تُكمِل؛ فقضيَّتُك تأخُذُ مُنعطفًا شديد الغرابة » : ناشدتُه قائلًا
كان واقفًا خارج النافذة، يا سيِّد هولمز، لاصقًا وجهه في مُواجَهة الزُّجاج. كنتُ قد »
أخبرتُك أنَّني ألقيتُ نظرة إلى الخارج ليلًا. حين فعلتُ ذلك، تركتُ الستائر مفتوحةً بعض
الشيء. رأيتُ طيفَهُ مُحدَّدًا في هذه الفُرجة، بل تمكنتُ من رؤية كامل جسده؛ نظرًا لأنَّ
النافذة كانت مُمتدَّة إلى الأرض، لكنَّ وجهه هو ما خطف بصري. كان شاحبًا كالمَوتى. لم
أر قطُّ رجلًا بهذا الشُّحوب. أحسَبُ أنَّ الأشباح لا تختلِفُ عن تلك الهيئة؛ لكن عُيوننا تلاقتْ
وكانت عَينيْ رجلٍ حي. عندما رآني ناظرًا إليه تراجِعَسريعًا واختفى في حلكة الليل.
لاحظت شيئًا صادمًا فيه يا سيد هولمز. لم يكن مجرَّد وجهه المُروِّع الذي أومضَ
وسط العَتْمة كقطعة الجُبن الأبيض، بل كان شيئًا أدقَّ من ذلك، شيئًا ما يَشي بالانسِلال
والتَّخفِّي والشعور بالذنب، شيئًا لا يمتُّ بِصِلةٍ إلى ذلك الشاب الصريح الِمقدام الذي عرفتُه.
لقد خلَّف منظره شعورًا بالهلَع داخلي.
لكن حين تُمضِيعامًا أو اثنين جُنديٍّا جنبًا إلى جنبٍ مع البوير، تتعلَّم رَباطة الجأش
وسُرعة التصرُّف. لم يغِب جودفري عن ناظري حتى بلغتُ النافذة. كان للنافذة مِقبضٌ
يعلق أثناء الاستخدام، فلم أنجح في فتح النافذة إلا بعد بُرهة، ثم اندفعتُ إلى الحديقة
مُهرولًا في الاتجاه الذي حسبتُ أنه ربما يكون قد سلكَه.
كان المسار الذي سلكته في الحديقة طويلًا ولم يكن الضوء كافيًا، لكن بدا لي أنَّ شيئًا
ما كان يتحرَّك أمامي فركضتُ وناديتُه باسمه لكن دون جدوى. لمَّا بلغتُ نهاية المَسار
وجدتُ أمامي عدَّة مسارات أخرى مُتشعِّبة في اتِّجاهاتٍ مختلفة ومُؤدِّية إلى عدَّةِ مبانٍ
خارجية. وقفتُ في حيرةٍ من أمري، وبينما أنا كذلك، إذا بي أسمع بوضوحٍ صوت بابٍ
يُوصَد. لم يكن الصوت قادمًا من المنزل من خلفي بل من أمامي، من مكانٍ ما في الظُّلمة.
كان ذلك كافيًا يا سيد هولمز ليؤكد لي أنَّ ما رأيتُه لم يكن أضغاث أحلام؛ فجودفري ركض
هرَبًا منِّي وأوصَدَ بابًا دُونه. كنتُ على يقينٍ من ذلك.
لم يكن بوُسعي فِعل أيِّ شيء آخر، وأمضيتُ ليلةً قلقة أقُلِّب الأمر في ذِهني مُحاولًا
إيجاد فرضيَّةٍ ما تتعامل مع الوقائع. لمَّا قابلتُ الكولونيل في اليوم التالي، وجدتُه أكثر
مُسالمة، وعندما أشارت زوجتُه إلى وجود بعضالمزارات المُثيرة للاهتمام في الجوار، وجدتُ
في ذلك مدخلًا لأسألهما عمَّا إذا كان بقائي لليلةٍ أخرى سوف يُزعِجهما. قَبِل العجوز طلَبي
كارهًا، وهو ما أتاح لي نهارًا صحوًا لإجراء ملاحظاتي. كنتُ على قناعةٍ تامَّةٍ حينئذٍ أنَّ
جودفري مُختبئ في مكانٍ ما بالقُرب من هذا المنزل، لكن أين ولماذا؟ هذا ما لم أحُِط به
علمًا
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.