دوى صوتٌ قوي في الخارج أفزع غطيطي، استيقظت هلوعًا، كأن السماء تُبدل بسماءٍ أخرى، تأفأفت أستند على الحائط، صرخت قدمي بدون صوتٍ، تمالكت عليها واقتربت من الباب، فرجت الباب وخرجت، وجدت الدكتور مختار يجلس على ركبته وأمامه عجلٌ صغير، وحوله يقف رجلان وصبي، صرخ الدكتور مختار في أحدهم أن يأتي له بسكين، أشار إلى المطبخ فهرول صبي يرتدي جلباب زيتي يغطيه كالكفن نحو المطبخ، سحب سكينًا وأخذ في السير، انتزع منه الدكتور مختار السكين، ثم ردد الشهادة وجرى بها على رقبة العجل ثلاث مراتٍ بطريقة مستعرضة بعيدًا عن قصبة العجل الهوائية، تركه في الأرض ينزف دماءه، قام عن الأرض واتجه نحو الحوض غسل يده، فتلطخ الحوض بالدماء وتدنست الصابونة كذلك، دنا نحو الراجل الذي علا الحزن وجهه، ربَّت على كتفيه قائلًا:
- ربنا يرزقك بغيره.. ويكون خير لك عن ده.
أجابه الرجل حزينًا:
- منها لله.. هي السبب في موته.
- متقولش كده.. ده نصيبك.
انتشر بعض الصمت حتى تحدث الرجل:
- هنعمل إيه دلوك؟
- ولا حاجة.. سيبه عندي هنا لحد ما ينزف باقي دمه.. ولو عايز تاخده وتسلخه عندك تمام.. عايز تسلخه هنا عشان متلوثش بيتك تمام برضه.
- ربنا يخليك يا ضكتور.
- متقولش كده.
- سعادتك هتعوز كام؟
- أنا معملتش حاجة.. أنا لحقته بس قبل ما يطلع في الروح.
- ولو يا ضكتور.. الأصول أصول.
- خلاص لو مصمم ممكن تجيب ليا اتنين كيلو لحمة منه.
- كلامك أوامر يا ضكتور.
نظر الرجل نحو الصبي وصرخ فيه:
- هات العربية يلا عشان نحمله.
نظر نحوي الدكتور مختار فوجدني أقف مستندًا على الحائط، اقترب مني وساعدني في الجلوس على الأريكة، ابتسم لي قائلًا:
- أخبارك إيه النهارده؟ عرفت تنام؟
- آه الحمد لله.. نمت كويس.
- معلش لو قلقتك وصحيتك بدري كده!
- لأ لأ خالص.. هو حصل إيه؟
- مش مهم دلوقت.. لما يمشوا وانضف الدم ده هبقى أحكي لك.
قام الدكتور مختار وفتح باب منزله، أدخل الصبي عربة كارو بظهرها فتح أبوابها والتف الجميع حول العجل الصغير، رفعوا العجل عن الأرض ووضعوه في العربة، أغلقوا أبوابها ثم ركب الجميع وتركوا الحمار أرضًا يجر العربة، أغلق الدكتور مختار الباب وبدأ يشمر سرواله، انحرف نحو المطبخ وجاء بخرطومٍ صغير، وضع طرفه في الصنبور وألقى طرفه الآخر في الدماء، التقط مكنسة من الحمام وبدأ يوجه المياه المختلطة بالدماء نحو ماسورة صغيرة أسفل الحائط، أخمن أنها تلقي المياه في بئرٍ أو في المصرف، دقائق وانتهى شطف يده ثم اتجه نحو المطبخ، جلب شاشًا وقطنًا واقترب مني رفع قدمي عن الأرض ووضعها على الطاولة الصغيرة، استبدل لي الشاش الذي يغطي الجُرح بآخر ثم ربّت على قدمي، أسكنت قدمي أرضًا ثم نظرت نحوه قائلًا:
- أنا زهقت م القعدة.
أجاب عليَّ وهو يلملم القطن:
- عايز إيه؟
- أشم نفسي شوية.
- برضه عايز إيه؟
- عايز أخرج أتمشى.. أنا حاسس إني في سجن.
نظر نحو قدمي قائلًا:
- وهتقدر تمشي على رجلك؟
أجبته:
- هتحمل.
- وإحنا فيها.. يلا نروح سوا نجيب الفطار وأفرجك على جمال البلد.
- بجد؟!
- هو أنت فاكرني حابسك؟!
- مقصدش.. أقصد هحتاج معين عشان رجلي.
- من الناحية دي متشلش هم.. هجيب لك عكاز تسند عليه.
قام واتجه نحو المطبخ، أظن مطبخه هو مصباح علاء الدين؛ يوجد به جميع أغراضه، دقيقة وعاد أعطاني عكازًا بني ذا مقبضٍ دائري تتناثر عليه بعض الأشكال، قمت واستندت عليه، نظر لي الدكتور مختار قائلًا:
- يلا بينا.
نظرت إليه متعجبًا:
- همشي كده!
- كده إزاي؟
- الكوتش بتاعي.
- آه.. لما لقيتك كنت بفردة واحدة.. التانية ملقتهاش.
- طيب معكش حاجة ألبسها؟
- ثانية واحدة.
ذهب نحو المطبخ مجددًا، غاب بضع دقائق ثم عاد ومعه صندل بني، متوسط الحجم عليه بعض قطرات من الدماء المتجلطة، ألقاه أرضًا ونظر تجاهي، ارتديته طلبت منه قماشة؛ كي أزيل عنه الغبار، فأجابني:
- كده كده مش هتحتاج تنضفه.. الطريق مليان تراب وهيتوسخ تاني.
سألته عن قطرات الدم التي تعلوه:
- دبحت به مرة جاموسة كانت هتموت.. يلا عشان
منتأخرش.
استندت على العكاز وخرجنا من المنزل، الهواء كان منعشًا رغم سطوع الشمس، نظرت إلى البيت من خارجه يبدو مذهلًا، أوصد الدكتور مختار الباب ثم انطلقنا.
المنزل يقع بجوار المصرف عند تقاطع طريقين؛ حيث يتقاطع المسار المجاور للمصرف مع الطريق الكائن على يمين المنزل.
انطلقنا على الممر الواقع على يمين المنزل، ممر ضيق يكفي لعبور سيارة واحدة، على جانبيه بعض حقول البصل، ظللت ألتفت عن يميني ويساري أكتشف المكان، المنزل يبدو مهجورًا، بُني بعيدًا عن منازل السكان، أكملنا السير لمدة خمسة دقائق حتى بدأت المنازل في الظهور، بعضها مسقوف والبعض الآخر مبني من الطوب اللبن، لا أثر لصوت أطفالٍ تلعب أو نساءٍ سائراتٍ في الطرق، لم نقابل أحدًا حتى وصلنا إلى مطعم أم طارق؛ غرفة مسقوفة بُنيت تحت الأرض ببضع سنتيمترات، تتزاحم عليها النساء والأطفال وقليلٌ من الكهول، أشار لي الدكتور مختار بالانتظار بعيدًا عن ذلك التزاحم ثم خطى نحوه، ربّت على كتف أحد الكهول، وطلب منه أن يبتاع له بعشر جنيهاتٍ طعمية، وكيس فول، وكيس من الباذنجان المخلل. ابتسم له العجوز واستجاب لطلبه، سحب منه الفطور ثم اقترب مني غير متعجلٍ.
- فرن العيش بعد دقيقتين من هنا.. هنروح ونرجع على طول.
لم أجبه، سرت بجواره لمدة دقيقة ثم انحرفنا يمينًا بين المنازل، وصلنا إلى ساحة واسعة على هيئة دائرة تتراص المنازل على حوافها، ووسط المنازل يقع الفرن، تزاحم الرعاع حوله ذكرني بيوم الجمع، تركني الدكتور مختار بعيدًا عن ذاك الحشد واقترب من النافذة المعدنية الصغيرة الموصدة؛ طرقها عدة مراتٍ.. ثوانٍ وانفتحت عن شابٍ ناضجٍ أسمر اللون، صافحه الدكتور مختار وأعطاه النقود وطلب الخبر، غاب الشاب قليلًا ثم عاد ومعه غرضه، ناوله للدكتور مختار وأترس النافذة مجددًا، أقبل نحوي حاملًا الخبز على يسراه، سحب الفطور من يدي ووضعه مع الرغفان ثم انصرفنا،
عبرنا أمام مطعم أم طارق ثانيةً حتى أدركنا الأراضي المستزرعة، لم نعد من ذاك الطريق الذي جئنا منه، سرنا على أحد جانبي قناة مائية صغيرة بين الحقول، المنظر كان آسرًا، لا يعكر صفوه إلا لون المياه المتسخ. أعملت النظر بها ثم تنهدت قائلًا:
- الميه دي م المصرف.. صح؟
- أنت شايف إيه؟
سألته مبهوتًا:
- وإحنا بناكل الخضروات المسقية بالميه دي؟!
- ما أنتم بتشربوا ميه ملوثة وعادي.. بتشموا ريحة الدخان اللي طالعة من شكمانات العربيات كل يوم وعادي.. بتشوفوا زبالة كل يوم ف كل مكان وعادي.. مجتش على دي.
لم أجد ردًا في فمي سوى السكوت.
- إلا صحيح إحنا رايحين على فين؟
- هشربك أحلى كوباية شاي شربتها ف عمرك كله.
- فين؟
- هتشوف دلوقت.
أكملنا سيرنا بين حقول البصل والقلقاس والذرة الصغير، جمدت في مكاني أستنشق الهواء، كان منعشًا خاليًا من الضباب الدخاني والتلوث الصناعي.. ما أروعه! قطع شرودي الدكتور مختار:
- وقفت ليه؟
- المكان حلو أوي.
- فايتك الجو ده في الشتا مع البرسيم.. يلا عشان منتأخرش.
- نتأخر على إيه؟!
- الشاي.
أكملنا سيرنا حتى وصلنا على الطريق بجانب المصرف، وجدنا ماكينة ري تسقي الحرث، عبرنا من جوارها وسرنا لدقيقة حتى وصلنا إلى كوخٍ صغير بجوار المصرف بُني من الحطب، دخله الدكتور مختار وألقى السلام على 3 رجال، رحبوا به بحفاوة ودعوه للجلوس. صاح فيَّ الدكتور مختار ودعاني للقعود؛ دخلت الكوخ، من الداخل عبارة عن أربع حصائر وسقف من الخشب الذي يعلوه بعض القش، يتوسطه فجوة نار يعانقها براد. جلست بجوار الدكتور مختار ونظرت نحو القاعدين، لا توجد صفة تميزهم سوى أنهم بسطاء، صب لي أحدهم كوب شاي وناولني إياه، عم الصمت قليلًا حتى بدأ الدكتور مختار الحديث:
- أعرفك بعيسى يا حاج أمين.. قريبي وجاي يقعد معايا شوية.
- يا مرحب يا مرحب.. نورت يا عيسى بيه.
التقطت نظرة نحو المدعو الحاج أمين؛ عجوزٌ وسيم لم أستطع تقدير عمره أظنه تخطى الستين، وجهه ممتلئ بالتجاعيد، ذو عينين غائرتين، وشنب أبيض مغرور، يغطي شعر رأسه بعمامة بيضاء متسخة، يرتدي طقم كلسون رمادي يعلوه صديري أبيض ذو خطوطٍ ذهبية اللون. هبطت بعيني عنه ثم ارتشفت رشفة شاي، كنت على وشك الإجابة لولا سحرني شيء ما؛ مذاق هذا الشاي مختلف، به رائحه نعناع بسيطة، لونه صافٍ إلى حدٍ كبير، نظرت نحو الحاج أمين متسائلًا:
- هو الشاي ده معمول إزاي؟
- ميه.. وسكر.. وشاي.
- مقصدش كده.. أقصد إن طعمه غريب شوية.
- كيف يا بيه؟
- حلو أوي.
- يمكن عشان معمول بالجلة.
نظرت نحو الدكتور مختار فهز لي رأسه متفهمًا، ثم أكمل الحديث مع أمين:
- أخبار جاموستك إيه؟
- زين قوي.. بقت تحش في الأكل حش ولبنها زاد.
- خلاص يبقى تبعتلنا نص كيلو لبن ع البيت.
- تؤمر يا ضكتور.
- هو أنت شغال إيه يا حاج أمين؟
عاجلته بذاك السؤال، ارتشف رشفة شاي ثم نظر تجاهي:
- محسوبك فلاح.
- بس!
- لولا الفلاح مكنش أبو بدلة عاش مرتاح يا بيه.
- مقصدش أقلل منك.. أقصد ملكش شغل تاني.
- اللهم لك الحمد.. الفلاحة ستراني وساترة عيالي.
- بتكسب منها حلو؟
- والله على حسب حالة السوق يا بيه.. سنة يبقى الخضار سعره عالي وسنه لأ.. كل يوم السوق بحال.. سنة تصيب وسنة تخيب.
قطع كلامه دخول صبي الكوخ، أعطاه بيدون صغير قائلًا:
- الچاز يابا.
التقطه منه أمين ثم أجابه:
- سلم على الضكتور مختار وضيفه.. وروح عشان تذاكر لامتحاناتك.
- حاضر يابا.
حيانا الصغير وانصرف.
- هو أنت بتعلم عيالك يا حاج؟
ذلك الأخير كان سؤالي.
- إيوه.. أنا بشقى وأتعب عشان أشوفه ضكتور وأشوف أخته محامية.
- غريبة.. أول مرة أشوف حد م الأرياف عايز بنته تكمل تعليمها.
- عايزها لما تتجوز متشلش الهم كيف أمها.. أمها ست غلبانة.. معايا ع الحلو وعلى المرة.. أنا بزرع الـ 16 قراط بتوعي وأراعيهم.. وهي بتذاكر للعيال وتشوف مصالح البيت.. مربية جاموسة بتحلبها وتبيع لبنها وأوقات تفرزه جبنة وسمنة وتصرف ع البيت.. ومربية شوية طيور.. شايلة البيت وقليل لما تطلب مني فلوس.
- ربنا يخليهالك.
- تعيش يا بيه.
نظرت نحو الحقل الشاسع ثم أزعجته بسؤالي مجددًا:
- محدش بيساعدك خالص؟
- لأ يا بيه.. الناس مبقتش عايزة تشتغل في الأراضي.. وكتير منهم بقوا يبيعوا أراضيهم ويمشوا.. محدش عايز يموت هنا في الطين والقرف.
- بيمشوا ليه؟
- مش عايزين يعيشوا عيشة أهاليهم
- طيب مراتك مبتجيش تساعدك شوية لو الشغل كتير؟
أزعجه سؤالي؛ بدا على وجهه الضيق، غسل كوبه بشربة ماء ثم ملأه شايًا مرة أخرى، ارتشف منه قليلًا ثم سعل وبصق أسفل الحصيرة.
- معلش لو ضايقتك بسؤالي.
- مضايقتش ولا حاجة يا بيه.. بس افتكرت حاجة كده.. من مدة كبيرة كان فيه سفاح مستقصد ستات البلد.. كان بيطلع عليهم وهما مروحين بالليل ويدبحهم.. الجرايم كترت ومحدش عرف مين وراها.. ومن ضمن اللي اتقتلوا كانت أختي الله يرحمها.. ومن يومها ومفيش ولا ست بقت تعتب الغيط تاني.. ولو خرجت ترجع قبل آخر النهار.
- متآخذنيش.
- ولا حاجة يا بيه.
تباطأ صوت ماكينة الري حتى توقفت، انتبه لها الحاج أمين.
- يووووه.. نسيت أحط لها الچاز.. هستأذنكم ثواني وراجع.
- إحنا هنستأذن يا حاج عشان طولنا عليك أوي.
تلك الأخيرة كانت من الدكتور مختار.
- ثواني وهرچع لكم على طول.
- معلش.. هنستأذن إحنا.
تركناه وانطلقنا خارج الكوخ، سرنا بجوار المصرف عائدين، مرت خمس دقائق في صمتٍ محكم حتى كسرت الصمت:
- حلو أوي الشاي.
- مش قلت لك.
- إلا صحيح إيه حكاية السفاح اللي الحاج أمين قال عليه.
- زي ما حكى لك كده.
- طب مش هتقولي دبحت العجل ليه؟
- مرات الرجل اللي جه كانت بتزأم العجل فول.. وقف في زوره ومعرفش يبلعه.. جابه وجه ليا.. معرفتش أعمل له حاجة.. لحقته قبل ما يطلع في الروح.
- أنا متشكر جدًا على اللفة الحلوة دي.
- أنا اللي مبسوط عشان لقيت حد يونسني.
أدركنا المنزل فوجدنا سيارة شرطة تقف في انتظارنا!