راحيل
اسمي رَاحيل.
نصحني طبيبي النفسي أن أكتب يومياتي لأنني لا أجيد البوح بمشاعري ولا أفكاري ولا أملك حتى أصدقاء، ولكنني أحب الحكاوي والقصص، لذلك سأكتب يومياتي في شكل قصة.
ولكن لماذا أذهب إلى طبيب نفسي؟
أنا مختلفة، كنت أشعر بذلك منذ كنت صغيرة، واختلافي أودى بي لفشل زواجي، ليت زوجي تركني ورحل في هدوء، لكنه كان يمضي بين الناس لاعنًا فيّ فاشيًا أسرارى حتى أسرار الفراش، لقد صنفني الطبيب مريضة هلاوس بصرية، ثم أدركت فيما بعد أنه مخطئ فصرت أمقت الأطباء النفسيين، لم أستفد من هذا الطبيب سوى أنه أكسبني عادة الكتابة فصرت أعشق الكتابة كما أعشق الرسم.
منذ اثني عشر عامًا أصبت بأول نوبة صرع بعد وفاة أبي، الغريب في الأمر أنه ليس هناك أسباب عضوية لهذه النوبات.
أنا مُتعلمة، حصلت على بكالوريوس صيدلة، تبعه وظيفة في شركة أدوية، مديرة هذه الشركة صديقة أبي، لذلك لم أتعب في الحصول على هذه الوظيفة ولا حتى في الحفاظ عليها، فأنا أكره تخصصي الدراسي وعملي، ولكنها كانت رغبة أبي و حينما يريد أبي شيء لا ينبغي علينا اعتراضه، كما أنني غبية لا أستطيع إتخاذ قرارات مصيرية.
لقد خُذلت آلاف المرات من قبل، وأعود دائمًا إلى نفس الإدراك، أن الشخص الوحيد الذي بإمكاني الوثوق به هو نفسي، الهروب دائمًا ليس أمرًا سيئًا، إنه أحد الأسباب التي تجعلني أقوى.
ولكني اصطدمت في طريقي بزوجي (إياد)، خلال رحلة حياتى أدركت أنني لا أود أن أموت، أنا أرغب في العيش، إنني في حاجة دائمة للمواساة، لم أعش أبدًا الحياة التى يحبني فيها أولئك الذين أحبهم، لكني مع ذلك أردت سماع شخص يقول لي أنه بوسعي أن أعيش وأنه عليّ الاستمرار في العيش، ولكن ذلك لم يكن حقيقيًا، لم يمنحنِ المواساة ولا السبب في الاستمرار لذلك كرهته، ومع ذلك لم أجرؤ على طلب الطلاق منه، هو من تركني.
عدت من فشل زواجي بخيبات أمل أحملها فوق أكتافي لأعيش مع أمى وجدتي، ثلاث نساء مختلفات، ثلاثة أجيال متفاوتة، كانوا يحاوطونني باهتمامهم بطريقة قاتلة، بكلمات اللوم اللاذعة، بنظرات الحسرة والشفقة في أعينهم، لكنهم رغم كل ذلك كانوا عالمي الآمن.
لا تظن عزيزي القارئ أن قصتي مملة وأنَّ ما أعيشه عاشته نساء كثيرات غيري، أرجوك أنعم الصبر ولا تصدر أحكامًا بشكل سريع، سوف أخبرك الآن من أين بدأ الجنون...
تقول أسطورة إغريقية قديمة:
"علامة الولادة المعروفة باسم (الوحمة) تدل على الطريقة التى مات بها الشخص في الحياة السابقة، إن من لا يمتلكون وحمات ماتوا بشكل طبيعي في حياتهم السابقة"
بالقرب من صحراء العباسية عام (1517) ميلاديًا
بحر من الرمال، تتحرك الكثبان الرملية كأمواج البحر الهادئة، صفرة الرمال تجعلك تشعر أن أمامك مساحات كبيرة من حقول الذهب المكشوف وكأنك في عالم يستطيع فيه المرء زراعة الذهب وليس فقط استخراجه.
هل كانت تلك الجميلة ترقص فوق سبائك الذهب أَمْ الرمال؟
أعتقد أن ذلك لا يهم طالما أنها كانت تشعر بالكون كله داخلها، كانت ترقص كعادتها مع حركة الأرض أمام الشمس، جسدها الصغير، شعرها يشبه لون الذهب، عينان زرقاوان بلون السماء، ابتسامة حالمة على فم أشبه بقطعة كرز طازجة.
تلك الرقصة أتقنتها (لينا) مع الوقت بعد أن علمها إياها حبيبها وابن عمها منذ كانا صغيرين، تدور وهي تُشعِر آيات من القرآن الكريم ترتسم أمامها {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
أخبرها يومًا حبيبها: حينما ترقصين مع حركة الأرض تخيلي نفسكِ كوكبًا، دوري معه في رحاب الله، اشعري بالسعادة كونك ملكًا لإله عادل رحيم يحبك رغم أخطائك وحزنك وبكائك، ينتظرك ويحب أن يسمع مناجاتك.
تقول له: كلامك كالسحر يا ابن عمي، يدخل القلب ويغمره بالسكينة.
يرد عليها: الله داخلك هو مصدر هذه السكينة.
بينما تتمايل تتذكر حديثه، تسمع صوته، تنظر إلى السماء وهي تردد:
– الله، الله مصدر قوتي.
كانت هناك عيون شيطانية تترصدها، عيون لا تفهم أن الروح ترقص، عيون لا تفهم في الأنثى إلا جسدها.
انتهت (لينا) وبدأت في طريق عودتها إلى البيت، كان عليها أن تمشي طريقًا طويلًا قبل أن تصل إلى الشوارع المكتظة بالناس، لا أحد يعلم كيف تختزل الدقائق حتى تأتي لهذا المكان وتتأمل غروب الشمس، شعرت بأقدامٍ خلفها فنظرت لترى، خمسة رجال ملثمين، رغم كونهم رجال إلا أن قلبها رآهم شياطين، شعرت بوخزة في قلبها فركضت فركضوا خلفها مهرولين، زادهم ركضها شهوةً وإصرارًا على الصيد، أمسكوا بطرف ثوبها فسقطت، وكالضباع الجائعة انتهكوا جسدها، تناوبوا عليها، قيدها بعضهم والآخرون اغتصبوها وهكذا حتى فقدت وعيها وهي تقول: مدد يالله.
لم تشعر بألم رغم وجعها من أول ولوج داخلها، التف حولها الملائكة مبتسمين وفي يد أحدهم فستانًا أبيضًا، كهالات من النور داروا حولها فهبت رياح أسقطت الوشاح من على وجه أحد الرجال فصرخ أحدهم: اخفْ وجهك يا أبله.
غطى وجهه وهو يُطمئن الآخرين: لم ترني، لا تقلقوا.
ردت بصوت ضعيف لكنه لم يكن مُنكسر: بل رأيتك وعرفتكم أنتم جنود (شيخ البلد).
أخرج أحدهم سكينًا وطعنها في قلبها ثم هرولوا هربًا.
القاهرة في صيف (2013) ميلاديًا
أمام المرآة تقف (رَاحيل) ترتدى فستانًا قرمزيًا عارى الصدر، جميلة الملامح رغم حزنها ودموعها المتحجرة في عينها، وفي أعلى ثديها الأيسر (وحمة بيضاء)، دخل زوجها بخطوة بطيئة ووقف خلفها، احتضنها وهو يهمس في أذنها:
– لا أفهمك، كيف لامرأة في جمالك أن تكره الجماع؟
– هل حقًا ستطلقني كما أخبرتني أمك؟
– نعم.
تحولت عينه إلى عين شيطان ذاك الرجل الذي رأته في كابوس الليلة الماضية.
– لدي فكرة يا حبيبي.
– ما هي؟
– سآخذ منوم وخذ أنت جسدي.
– أنا لا أريد مضاجعة جثة، ولكن عندي حل أفضل، سأعطيكِ دواء يجعلك مستيقظة تشعرين بكل شيء ولكن عاجزة عن المقاومة.
– هل هناك خطر عليّ؟
– أنا طبيب يا رَاحيل لا تخافي.
– حسنًا موافقة.
– هل تحبينني حقًا يا رَاحيل؟
– لا أحب سواك.
نزعت ملابسي بعد أن تناولت الدواء ونمت، تسرب الدواء في جسدي حتى شعرت بصعوبة تحريك أى جزء من جسدي، كنت أتضرع إلى الله في صمت، أنتظر أن يفرغ مني سريعًا ويتركني، ولكن فجأة بدأت الدقات على رأسي، أصبت بنوبة صرع فراح رأسي يرتج في يديه مع جسدي، رأيت وجوهًا عدة أطلتْ تُلقي السلام وأنا أبكي، حينما عدت لوعي وجدت زوجي يرتدي ملابسه وعلامات الاشمئزاز على وجهه وهو يصرخ في وجهي: لقد سئمت منكِ ومن هذه الزيجة، ليتني لم أركِ.
تركني عاريةً أبكي حتى أنه لم يضع الغطاء على جسدي، وكنت ما زلت تحت تأثير الدواء فلم أستطع تحريك جسدي، كنت هكذا لساعتين مروا مرور السنين.
في الصباح رسمت لوحة لزوجي، رسمت له ذيل طويل وأسنان حادة وقرون ونظرة تشبه الشيطان في كوابيسي.
تركت له اللوحة وأخذت ملابسي ورحلت وأنا أقسم ألا أعود، فتحت لي أمي باب منزلها وهي تنظر إلى حقائبي.
– لن أعود له يا أمي.
– طلاق بعد ستة أشهر يا رَاحيل!
– هذا قرار نهائي.
ليته أنهى إجراءات طلاقي بسهولة، لقد أخبر الجميع أني لست بامرأة، أنه لم يعش معي يومًا واحدًا سعيدًا، لقد أخبر الجميع بمرضي الذي عجز الأطباء عن تفسيره.
كان حبي الأول، ورجلي الأول وكسرتي الأولى.
الخطيئة الأولى
من الطبيعى أن نبدأ عد الخطايا من الخطيئة الأولى، ولكن غالبًا نحن لا ندرك أنها خطيئة إلا بعد مرورها، ولكن حينما تقع في الخطيئة ذاتها للمرة الثانية فلا بدّ أن تقف عندها وتتقبل فكرة أن تصيبك لعنة للباقي من عمرك.
لقد تزوجت للمرة الثانية، لا تضحكون لقد خذلني الأمل.
اسمه (ظافر)، عجوز يكبرني بخمسة عشر عامًا، اندمج في رأسه اللون الأسود والرمادى، هذب لحيته فصار أجمل، عيناه السوداء الواسعة مليئة بالحنو والدفئ، أب لابنتين أصغرهم تسعة عشر عامًا، لعلكم تتسائلون كيف حدث ذلك؟
لقد سرقني من نفسي ولا أدرى كيف؟!! كنت قد نويت ألا أقع في شباك علاقة مرة أخرى، عذبنى زوجي السابق بما فيه الكفاية، وما عاد داخلي شيئًا يقبل القسمة مع رجل آخر ولكني انتهبت لوجود (ظافر) فجأة في حياتي.
كل ما فيه جميلًا حتى أنه لا يرفع صوته إلا حينما يتحدث عن ناديه المفضل، يرتدي التيشرت الأحمر ويذهب لمشاهدة المباريات فينسى كل شيء، تتملكه روح ناديه فيتحول لطائر مغرد يشجع ويهتف لحبيبه.
اندهش الجميع حينما رأوه في يوم زفافنا، تهامسوا حتى وصل همسهم لأذني، لم تتعد دهشتهم دهشة (ظافر) حينما أخبرته بسري.
كنا نجلس في سيارته بعد مشاهدة مباراة لنادى الأهلى التي فاز فيها واكتسح مرمى غريمة بثلاثة أهداف فأراد (ظافر) أن يسجل هدف في مرماي، ولكن شبكة مرماي ضعيفة سقطت فوق رأسه.
أمسك بيدي ثم قبل خدي قبلةً حانيةً رقيقةً وهو يقول:
– أنا أحبك يا رَاحيل هل تتزوجيني؟
دمعت عيني ولكني قلتها باندفاع:
– أنا لا جنسية يا (ظافر) ومريضة صرع.
هرولت من السيارة، أحبس دمعي لأفرغهُ في غرفتي، أبكي شخصًا جميلًا فقدته للتو.
في الصباح وجدته وقد أرسل لي العديد من الرسائل.
لا بدّ أن هناك حل يا رَاحيل.
سأقبلك كما أنتِ.
لقد أحببتك يا رَاحيل بعد أن كسرتِ جمود أيامي ولن أتخلى عنكِ.
ستشفين معي، اقبلي الزواج بي.
أرسلت له:
– إنه ليس مرضًا يا (ظافر)، لن أتغير، أنا لا جنسية وأقبل ذاتي هكذا.
في اللحظة نفسها جاء رده:
– أقبلك كما أنتِ.
شعرت بسعادة وقتها وفرحة لا نهاية لها حتى شعرت أنه نمى لي جناحان أستطيع التحليق بهما، شعور لم أشعر به مرة أخرى طيلة حياتي، لحظة دفعت ثمنها فيما بعد.
ولكن، هل لو رآني وأنا في هوجة الصرع سيتقبلني؟
أنا مصابة بنوبات الصرع، الأطباء لم يجدوا في الأشعة والتحاليل ما يؤكد سبب تلك النوبات، الطبيب النفسي العشرون أخبرنى أن الأمر ليس فسيولوجى.
أنا لا أهتم بالسبب لأن ذلك لن يمنع حدوثه، حينما تبدأ تلك الحالة أشعر بالصداع يدق على عقلي، أغمض عيني من شدة الألم فَأرَى وجوهًا تشبهني ووجوهًا لا تشبهني، أفتح عيني لأجد والدتي تجلس جوارى وتُرتل القرآن، أنهض بنشاط غريب، أُمسك فُرشاتي وأرسم تلك الوجوه.
***
بعد مرور سنة
قالت لي جدتي: رحمك عاقر أصابه التصحر، تزوجتِ الصغير والعجوز وما زلتِ عاجزة عن بث بذرة نور في حياتك.
قالت أمي: السنين تمر لا بدّ من زيارة الطبيب.
أدخل حجرتي وأُغلق بابي، أتجاهل رنين هاتفي، أهرب من زوجٍ يلحُ ويغتصب وجودي من الحياة عنوة، حتى (ظافر) الذي ظننت أنه جاء بتاج السعادة ها هو يلقي بي من السماء، أنظر إلى لوحة منتصبة أمامي كالفارس المنتصر في انتظار فرشاة رسمي.
الرسم نافذة تخرجني من هذا العالم الكئيب، علمني الرسم أن أحترم النقطة وأن للممحاة دور غير إزالة الخطأ وأن شيئًا تافهًا وصغيرًا قد يصنع فرقًا.
انتهيت من رسم لوحتي التي كانت تضم امرأة تشبهني وحولها عناقيد العنب، كل حبة عنب كانت وجهًا لطفل.
تسرب ضوء الشمس من خلال ستائر نافذتي الخفيفة.
الله أكبر الله أكبر، صوت الابتهالات في الراديو تسربت مع الضوء إلى قلبي، إنه يوم الجمعة، تلك النسمات الروحية جعلتنى أشعر بالاطمئنان رغم ما يجول داخلي، نظرت حولي نظرة سريعة، غرفتي جميلة جدًا بالنسبة لي، لم أشعر باطمئنان كالذي أشعر به هنا في بيت أمي ورغم ذلك أمي لا تطمئن لوجودي، زوجتني لتستريح ولكنها وجدتني أقف في حلقها دائمًا متزوجة أو غير متزوجة، ولكن ثمة أشياء تحدث بدون تدخل منا، حتى ولو حاولنا إيقافها.
تركت أفكاري ورحت أرسم وأرسم، يسألني الجميع من هؤلاء الناس الذين ترسمينهم؟
في ذلك الوقت لم أجد إجابة، ولكني عرفتها فيما بعد.
يعتقد الهندوس في تناسخ الأرواح، حيث يؤمن الهنود أن الروح حينما تفارق جسدها عند الموت تنتقل إلى جسد آخر وتستمر هكذا في التنقل حتى تستقر في أصلها الأول الذي صدرت منه.
استيقظت بعد ليلة صاخبة صارعت التنين الذي كاد يقتلني بنيرانه لولا أن أنقذني ملك آشوري، تزوجني وأمر المصريين بالسجود لي ليرفع أحدهم رأسه ويضربني بخنجره في صدري.
شعرت بضيق كاد يقتلع أنفاسي لذلك أعددت حقيبتي واسكتش الرسم وألواني ورحلت، ركبت القطار على عجالة وكأنني أهرب من وحش يتتبعني ليفتك بي، (ظافر) لا يكف عن الاتصال لكنني لم أجب وهاتفت أمي التي جاء صوتها نائم:
– لماذا نزلتِ من المنزل مبكرًا؟
– أنا في قطار أسوان يا أمي لا تقلقِ.
– هل جننتِ؟ وبماذا سأخبر زوجك؟
– أخبريه أنني سافرت لأستريح لأنني عاجزة عن التعامل معكم.
– (رَاحيل) لا تغضبيني، عودي إلى بيتك.
– أسبوع واحد فقط يا أمي.
في العادة القطار من القاهرة إلى أسوان يستغرق ثلاث عشرة ساعةً، ولكن لا أبالي بطول السفر طالما في النهاية سأصافح نيلنا الصافي وأترك جسدي لدفئه فينزع عني كل ألمٍ وآهٍ، وجدتني أبتسمُ حينما وقفت أمام المركب الشراعي الذي سوف ينقلني إلى الفندق المفضل في جزيرة هيسا التي تقع في بحيرة خزان أسوان.
استقبلنى (سمير) استقبالًا حافلًا، ذلك الأسمر الجميل الذي لم يتعدَ عمره سبعة عشر عامًا.
– حمدًا لله على سلامتك يا أستاذة (رَاحيل).
– الله يسلم عمرك يا سمير، هل حجرتي فارغة؟
– نعم فارغة.
سلمت لهم بطاقتي وأنهيت اجراءات حجز الغرفة وأسرعت بتبديل ملابسي وألقيت بنفسي في مياه البحيرة، كنت أردد:
– اغسلني يا ماء النيل من همومي، طهر روحي حررها.
نمت بعدها في غرفتي نومًا هادئًا، وبعد أن استيقظت أخذني أحد المراكبية إلى جزيرة تسمى (نيجار) كما طلبت منه، جزيرة تحاوطها الأعشاب والحشائش من كل إتجاه، كان ضوء القمر ينعكس على مياه النيل فيشعل داخلي دفئًا غريبًا افتقدته كثيرًا طوال سنة زواجي من (ظافر)، جلست فوق الرمال، أخرجت اسكتش رسمي وألواني لأسجل تلك اللحظة الصافية، لكني لمحته بين الوجوه القليلة الموجودة فوق الجزيرة، شعرت أني أعرفه جيدًا، التفت هو الآخر لي وابتسم ثم نهض من مكانه واقترب ليجلس جواري وهو يسألني:
– هل تعرفيني؟
تلعثمت وضاعت الكلمات من عقلي، شعرت بالحرارة تغلي في أمعائي ودمائي.
– لا أعرفك.
– اسمي (يامن) أسكن في أسوان في (كوم أمبو).
– اسمي رَاحيل لكني هنا سياحة، كنت آتى إلى هنا كثيرًا لكنني انقطعت منذ سنة.
– ربما رأيتكِ هنا في مرة من تلك المرات، أشعر أنها ليست المرة الأولى.
– وأنا أيضًا.
تركني وعاد ليجلس بين المجموعة، اجتمعت المجموعة حول ثلاثة من الصبيان الذين غنوا الكثير من الأغاني النوبية المصحوبة بالدف والطبل والجميع يصفق ويغني إلا (يامن)، كان ينظر بإتجاهي بينما أرسم وجه في أوراقي.
ذلك الوجه أعرفه جيدًا!!
قبة الهواء
في صباح اليوم التالي كنت أتناول فطوري في مطعم الفندق بعد نومٍ هادئٍ بلا كوابيس، بلا ركض من رجال يختطفوني وخوف من قتل بجانب الملك الآشوري، نوم هادئ وسكينة خشيت أن أفقدها إن أجبت على رنين هاتفي الذي لا يكف، إنه زوجي الذي يمارس كل طقوس الضغط النفسي عليّ، لا بدّ أن تأتي لحظة مواجهة بيننا ولكنني كثيرًا ما تحدثت وما عاد يفهمني ولا يصغى لي، حتى لو نظر في عيني هو لا يراني، لا أعرف ما الذي حوله لهذه الدرجة.
وفي اللحظة التي وضعت فيها أصابعي على الهاتف لأجيب، ظهر (يامن) أمامي كملاك هبط للتو من السماء.
– صباح الخير.
– هل تقطن معي نفس الفندق؟
– لا.
– من أنتَ إذن؟
– (يامن).
– من الغريب رؤيتك مرتين.
– ربما هي مجرد صدفة يا رَاحيل.
كان اسمي مختلفًا من شفتيه ولكني استجمعت حواسي لأكمل حديثي.
– أنا لا أؤمن بالصدف، أؤمن بالقدر، والقدر تسبقه أسباب، وتتبعه نتائج.
– ربما أنا قدرك.
– أنت لا تعرفني ولا أعرفك.
– بالعكس، نحن نعرف بعضنا جيدًا، سأمر عليكِ بعد ساعتين.
– لماذا؟
– أريد أن أصطحبك إلى قبة الهواء.
شيء داخلي أوجعني، خشيت أن يكون ظاهري عكس باطني، أطالب الناس بالإخلاص بينما أخون أنا زوجي، حتى لو مصير علاقتنا الفراق لكنه زوجي، لذلك قررت مهاتفته، فجاء صوته غاضبًا:
– أين أنتِ؟!
– في النوبة.
– لماذا لم تخبريني، لماذا لا تجيبي على مكالماتي؟
– أنا أحتاج إلى وقت وأنت أيضًا تحتاج إلى وقت.
– ولماذا كل هذا الوقت.
– وقت تفكر فيه هل باستطاعتك أن تقبلني هكذا؟
– ولماذا ترفضين العلاج؟
– لأنني لست مريضة يا (ظافر).
أغلقت الهاتف وأنا أشعر بتمزق صدري من شدة الغضب، لم يكن في خيالي أن يكون يومًا هو السبب لكل هذا الألم.
(ظافر) الرقيق الذي لا يمكن نسيان أول مرة التقينا فيها، تصادمت أجسادنا في النادي، ابتسم فابتسمتُ، عدت إلى بيتي ورسمت له لوحة، في اليوم التالي عدنا إلى النادى كلانا يبحث عن الآخر، التقينا، تحدثنا، صرنا في وقت قصير صديقين مقربيين.
(ظافر) له وجه دائري جميل، عيناه واسعة تشبه عين الغزال ولولا أني تزوجته لاعتقدت أنه كان يجملها بالكحل، شفتاه مكتنزتان تدعونني دائمًا لتقبيله.
ظننت أن وجوده تاج سيزين روحي ما تبقى من عمري، ليس هناك أجمل من أن تجد شخصًا يتقبلك كما أنت دون رغبة منه في تغييرك أو تبديل صفاتك ولا تعديل مسارك، ولكنني صدمت به يُطالبني بما لا أستطيع منحه له.
مرت أربع ساعاتٍ وأنا أنظر للنيل وأفكر، أربع ساعاتٍ رغم أن (يامن) أخبرنى أنهم ساعتان، شعرت بغضبٍ شديدٍ ونويت ألا أمنحه أي اهتمام حين أراه، في تلك اللحظة وجدته أمامي.
– آسف بسبب التأخير.
– لم ألاحظ.
– هيا لنبدأ.
صعدنا المركب الذي سيأخذنا من الجزيرة إلى البر الآخر، كنت أنظر لوجه النيل ثم إلى وجهه، شعره أسود قصير، عيناه بنية تميل للسواد، قمحي البشرة، ملامحه دقيقة رقيقة، نظر لي مبتسمًا ثم قال:
– كيف كانت أحلامك أمس؟
– نمت نومًا هادئًا.
– هناك أسطورة تقول إنه بينما يكون الجسد نائمًا تنهض الأرواح وتهرب.
– لقد قرأت في ذلك الأمر كثيرًا، أنا مثلًا أحلم بوجوه كثيرة ومخلوقات غريبة.
– اوصفيهم لي.
– ليس الآن، ربما يومًا ما عندما تقوم بزيارتي في القاهرة، سأريكَ لوحاتي التي أسجل فيها كل ما أراه.
وصلت المركب إلى مقصدنا، نظرت إلى أعلى نقطة حيث قبة الهواء، دائمًا ما آتي هنا لحالي، هذه المرة الأولى التي يصطحبني فيها أحدهم، بدأنا رحلة الصعود، كان ينظر لي كل حين وآخر ولا يتحدث فقلت أنا:
– يوجد هنا مقابر للنبلاء، بينما تلك القبة بُنيت في عصر الفاطميين حينما كانوا يحكمون مصر، المنظر من أعلى أجمل بكثير.
– المكان هو البطل الوحيد، والموت هو الهبة الأعظم.
– تتحدث مثل الفلاسفة وأنا لا أحب ذلك.
– حسنًا اجلسي هنا.
جلسنا بجوار بعضنا، أخرجت زجاجة الماء خاصتي وروحت أتجرع بعض مائها، دفعت قوة الهواء خصلات شعري فانزعجت لذلك، لكن (يامن) ضحك وهو يقول:
– أنتِ تحبين الشعر القصير ومع ذلك لم تجرؤي على قص شعرك.
– حقًا، ولولا خوفي من غضب أمي وجدتي لجعلته مثل شعرك.
– انظري إلى النيل يا رَاحيل ثم أغمضي عينكِ وأخبريني ما الذي رأيتيه.
– فعلت كما طلب مني فرأيت زوجي بوجهه الهادئ الذي يلح عليّ بنظراته الحنونة أن أمنحه المزيد من الحب، كان هناك يجلس فوق أريكته حزينًا، ينظر إلى لوحة رسمتها بعد زواجنا بيوم واحد، رسمت نفسي وأنا أجلس بين زهور (الأكوند).
عُدت إلى واقعي ونظرت إلى (يامن) فقلت:
– لن أخبرك بالذي رأيته، وبالمناسبة منذ متى وأنت تمارس (اليوجا)؟
– لا أمارسها.
– ما فعلته من لحظات يوجا.
– لا أعرفه ولكن هذا المكان مناسب جدًا للشعور بخروج روحك منك وتحررها.
– تقصد الموت؟
– لا.
– من المستحيل أن يحدث ذلك، رغبات النفس والجسد تُقيد الروح.
– وإذا منعنا تلك الرغبات ستتحرر؟ لا أقصد منعها دائمًا بل لبعض الوقت.
– ربما.
– هيا لننزل.
كنت رغم سعادتي بوجودي في رحاب هذا الشخص الغريب الذي يتحدث عن الروح كأنه يتحدث مع روحي، كأنه يلمسها ويداعبها برقة إلا أنني شعرت بالضيق، أنا امرأة متزوجة ولا يصح الشعور بالارتياح لغريب.
بمجرد وصولنا إلى الفندق طلبت طعامي، القليل من الأرز والخضروات، كان وجه (ظافر) يلاحقني، هل توقف قلبي عن حبه؟
لا أعتقد، أنا لا أتحمل فكرة أن أعيش بعيدًا عنه، هاتفته فجاء صوته وكأنه كان يبكي.
– من الغريب أن تهاتفيني.
– أنت صديقي قبل أن تكون حبيبي.
– ماذا لديكِ؟
– لقد تعرفت هنا علي صديق مهتم بالروح وحريتها، هل تتذكر حديثنا في هذا الأمر؟
– نعم.
– ما زلت أود تفسير كل ما أراه من أحلام ووجوه غريبة، هل حقًا روحي تعيش حيوات عديدة؟
– ما اسمه؟ هل هو نزيل معكِ في الفندق؟
– اسمه (يامن) ويعيش في (كوم أمبو).
– متى ستعودين يا رَاحيل؟
– لا أعلم ولكنني أشعر بحاجتي إليك، لليلة من تلك الليالي الشتوية التي كنت تأخذني فيها بين ذراعيك لنشاهد فيلمًا ما سويًا.
– إذا كفى وتعالي.
– نحن في حاجة لتلك الهدنة يا (ظافر).
– اهتمي لنفسك.
قالها وكأن صوته يربت على جرحي، ولكنني أقسمت ألا أعود إلا وأنا معافاة وقوية، يتقبلني كما أنا أو يرفضني، لا مزيد من الحلول.
اقتربت من النيل، جلست بعيدًا عن الناس وحدي، معابد فيلة وآلهتها تنظر لي من بعيد، الصخور تتحدث، تخبرني أنني جزء منها.
جلست في وضع اليوجا جعلت يدي بالقرب من قلبي، أغمضت عيني، أخذت نصيبي من الأكسجين المشبع برائحة النيل، كان لدي رغبة كبيرة في الهرب من الركض بعيدًا عن عالم لا أجد فيه راحتي.