Darebhar

Share to Social Media

لمبة جاز
لم يكن مجرد منزل ريفي بسيط، لكنه كان المكان السحري الذي يجعل الوقت ينقضي في هذه القرية التي تفتقر لأبسط وسائل الترفيه.
أتذكر ذلك جيدًا، كأني عُدت لذلك الجسد الطفولي الذي يسعى في الجلباب الأزرق القصير المرقع، وهذه الأقدام الرفيعة الحافية المتشققة التي تتحرك دائمًا ولا تستكين، عُدت لصوت أمي الذي ينطلق بأجمل الكلمات؛ فأطير من السعادة.
- خد يا ولا، ودي الصحن ده لخالتك صابرة، اوعى يقع من إيدك المفلوتة دي، خلي بالك يا واد.
وقبل أن تكمل جملتها أكون قد خرجت من الدار، أسابق الرياح وأنا أحلم بهذه الضحكة الشهية التي تنطلق من خالتي صابرة، وأنتظر لمسة يدها عندما تمسك وجهي وتضغط عليه بقوة.
- والنبي خدودك دي أحلى من بسيسة المولد يا واد يا مصطفى، سلم لي على أمك يا ولا.
صابرة، الفتاة الصغيرة الجميلة، حُلم كل شباب القرية، الكل يقدم فروض الولاء ويطلب الرضا، لكنها اختارته هو؛ عم فتحي المصري، شابٌ رقيق الحال، ضعيف البِنية، توفي والده وترك له خمس بناتٍ وأمًا، لم يكن يحتكم على شيءٍ إلا فدان أرض بورٍ، وبعض حزمٍ من الخوص يصنع منها الحصير الملون الذي يُفرش في الجامع وفي دوار العمدة فقط.
فتحي المصري، ابن خالتها تربى معها وأحبته رغم أنه فقير وفي رقبته كوم لحم هكذا كانت تقول أمي، وتحكي أيضًا أنها قالت لوالدها الحاج علِيّ الدسوقي الرجل الثري المقتدر عندما احتدم بينهما النقاش:
- فتحي المصري ده لحمي ودمي، يعني أخصه حتى لو أنا في رقبة رجل تاني، إن مكنتش أضلل عليه مين هيعمل كده؟ والنبي واللي نبى النبي نبي لو موافقتوش لأرمي روحي في الريَّاح، وذنبي يبقى في رجبتكم كلكم.
تزوجته وعاشت معه في دارٍ صغيرة من الطوب اللَّبِن المتهدم؛ هذه الدار التي اختارها العم فتحي لتجاور دار أمه وأخواته حتى يكُن تحت عينه وفي رعايته.
كل هذه الذكريات التي تندفع وتتزاحم في عقلي لا أعلم لما تتجسد أمامي هذا المساء؟! ربما لأن هذه الطالبة الإنجليزية المشاغبة لها نفس ضحكتها، نفس النظرة المتلاعبة بالأقدار، كيف خطفتني هذه الصغيرة وأنا الأستاذ الجامعي المرموق الذي لا تؤرقه النساء؟!
كيف جعلتني أتعرق أمامها وهي تتحدث وتتمايل بكل هذا الدلع والثقة في أنوثتها؟ كيف جعلتني أتمناها وأسرح معها إلى أبعد مما كنت أتخيل؟ كيف جعلتني أعدها بمقابلةٍ أخرى وحديثٍ آخر؟ ما السحر الذي يميزها عنهن جميعًا؟
كل هذه التساؤلات أعادتني إلى هناك إلى وجه خالتي صابرة، إلى وجه المرأة كما يجب أن تكون، أعادتني إلى تلك الليلة، إلى ثقب الجدار الذي كان بينها وبين أمي لتبادل احتياجات المنزل، هذا الثقب السحري الذي كان يُغلق ليلًا فتُغلق كل أبواب السعادة أمام عيني.
أتذكر جيدًا يوم أُغلق نهائيًا عندما غادرت خالتي صابرة وزوجها العزبة، أتذكر جلستها على العربة الكارو وهي تخفي دموعها بطرف طرحتها السوداء التي تحيط وجهها الجميل، وبجانبها بناتها الصغار وبعض الحاجيات المنزلية البسيطة، وأهل القرية يطلقون الشتائم والسباب ليرحل عم فتحي النصاب كما كانوا يقولون، وتلك الدعوات من النساء لخالتي صابرة أن تتركه يرحل بمفرده وتعود ببناتها لدار أبيها الغني، وتنجو من هذا النصاب المديون لطوب الأرض، ولكنها لم تستمع لهم أو تعطي أي إشارةٍ أنها تهتم حتى بما يقولون.
عندما انطلقت العربة أخذت أجري خلفها بكل قوتي، وأتمنى أن تحدث معجزة تمنعها من الرحيل، أخذت أجري وأجري حتى انقطعت أنفاسي فسقطت على الأرض وشُجت رأسي، وسالت الدماء على وجهي لتختلط بدموعي التي لم تتوقف حتى اختفت العربة عن الأعين.
كبرت وغادرت القرية لأكمل تعليمي الجامعي، ولم ألتفت لكل هذه الدعوات التي تطلقها أمي عن بنت الحلال والبيت والزواج، كنت أتساءل دائمًا هل هناك مثلها؟ الإجابة القاطعة دائمًا لا. فقد ذهبت وذهبت معها أنوثة وجمال كل النساء.
كنت الأول دائمًا في كل شيءٍ إلا الحب، تفوقت في دراستي وتخرجت من الجامعة، غادرت مصر في منحةٍ دراسيةٍ لخمس سنوات وعند إتمام المنحة قبلت بالعرض المقدم لي بالتدريس في هذه الجامعة العريقة، لتمر سنوات وسنوات لم أعد أحصيها، انغمست في حياةٍ مختلفة عملية جامدة صلبة، لأنسى الكثير من ذكرياتي وحياتي القديمة إلا هي؛ لم تغب عني ولم تغب صورتها أبدًا.
في بعض الأحيان، أسمع رنة ضحكتها فأبتسم لها وأزيد، أتمنى أن أراها وأتساءل كيف سارت؟ وإلى أين؟ وهل ما زالت جميلة كما أتذكرها؟
اشتقت لفنجانٍ من القهوة، وفي طريقي لإعداده وقعت عيني على المرآة المعلقة على الحائط، لأرى هذه الشعيرات البيضاء المتناثرة والتي تعلن عن نفسها بوضوحٍ وبلا خجل؛ وقفت أتأملها ودار هذا السؤال في رأسي: لماذا لم أتزوج حتى الآن؟
انتبهت على صوت حبات المطر التي تنهمر بقوة خارج نافذتي، لتأخذني لتلك الليلة الشتوية المظلمة التي غاب عنها القمر، كنت خائفًا من صوت المطر والرعد والبرق؛ فتحركت وأنا أرتجف من البرد لأشرب بعض الماء من القُلة وقدمي الصغير يتحاشى أن يغوص في ذلك الطابور الطويل للأجساد المتلاحمة التي تفترش الأرض، كتلة اللحم البشري الممتزج التي تُسمى إخوة.
أخذت أتحسس موضع قدمي حتى لا أصطدم بهم أو أصيبهم بالأذى، ونجح المسعى ووصلت للقُلة وقبل أن أشرب سمعت صوتها وهي تغني كأنه يأتي من عالم الأحلام، اقتربت من الثقب لأستمع أكثر فأنساني صوتها الرقيق كل مشاعر الخوف والعطش، لأجدني أقترب أكثر من ذلك الثقب السحري وأخفف من سدته ولا أبالي بكل المحاذير التي تطلقها أمي دائمًا عن أبي مكحلة الذي يدب أصابعه في عين مَن يتلصص على الناس؛ فأنا أريد أن أنظر، كيف أكتفي بالسمع ومن الممكن أن أراها؟ رفعت السدة وبدأ كل شيءٍ؛ ها هي هذه الساحرة التي تجلس وتضع الإوزة الضخمة تحت فخذها الأبيض الممتلئ، وتقوم بتزغيطه وهي تغني:
ع الزراعية يا رب أقابل حبيبي
ع الزراعية الواد ده من نصيبي
كانت تغني وتتمايل وأنا أغوص في بياضها الناصع الذي ينير الظلمة أكثر من ضوء شمعتها الخافت، ويدور في رأسي سؤالٌ عن سر كل هذا الجمال، وهل ما يقوله الأولاد الصغار عن أن جِنية الريَّاح الكبير سحرتها وهي صغيرة على شاكلتهم؛ حتى تزوجها لابنها عندما تكبر؟! كل هذا الجمال الذي يعلن عن نفسه بلا تردد أو خوف من خلال هذا الجلباب القديم، وهذا المنديل الأحمر الذي يلتف حول ضفائرها الذهبية لتضيء جبهتها بنورٍ يملأ عيني، فلا أرى شيئًا بعده لتتوقف الحياة ولا يبقى إلا صوتها الرقيق الناعم.
- يا تجيب لي شكلاتة يا بلاش يا ولا
روح رجع البطاطة يا بلاش يا ولا
عايزة فستان بكُلفة .. وجزمة حمرا تحفة
أكتم أنفاسي المتسارعة عندما أرى عم فتحي يدخل وهو يلقي حمل القش عن ظهره، ويخرج طرف جلبابه من الكلسون الصوفي ويحك قدمه العارية المملوءة بالطين في جانب الحائط.
- الدنيا عمالة تشتي، اطينت على الآخر، مش مولعة اللنضة ليه يا بت؟ كتر شمع يعني.
لترد عليه بدلالٍ:
- الجاز خُلص.
- خُلص، مجراش.. دكر الوز ده مسيره يفطس، هتفضلي تنفخيه كده لحد ما يطق من جنابه.
ترفع رجلها لينتفض ذكر الإوز وينفض أجنحته ويهرب من أمامها بتثاقل.
- هو أنا يعني بزغطه لمين؟ مش عشانك تاكل وتتهنى.
- صحيح يا بت؟ بتحبيني كده؟
- حب إيه وبتاع إيه؟
- يعني مش بتحبيني؟
صابرة تقترب منه وهي تبتسم:
- أيوه مش بحبك، وعمري ما هحبك، وهفضل طول عمري أقول ...
لم يتركها عم فتحي تكمل جملتها، كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها رجلًا يقبِّل امرأةً بكل هذه الشهوة، لتقتحم جسدي هذه المشاعر التي جعلتني أرتفع عن الأرض، وأمد وجهي وأفتح عيني على اتساعها، ويسيل لعابي وكأني لا أتحكم في جسدي! لأنتبه مرغمًا على صوت طرقات الباب التي لم أكن أعرف هل هي لنا؟ أم لهما؟ عندما انطلق الصوت عرفت أنه صوت أبويا الحاج علِيّ أبي خالتي صابرة، الذي كان يطرق طرقاتٍ سريعة وغاضبة وصوته يكاد يصل إلى الصراخ:
- يا فتحي يا مصري، افتح الباب يا ابني، يا فتحي.
فتقول خالتي صابرة بهمسٍ:
- ده صوت أبويا.
- أبوكِ! إيه اللي جابه؟ هو ده وقته؟ حد يروح لحد في الجو ده، الله يسامحك يا حاج، هروح أفتح الباب.
لكن خالتي صابرة في حركةٍ مباغتةٍ تمسك يده وتضع الأخرى على فمه ليسكت، وتتحدث بهمسٍ أكثر:
- لا، متردش عليه.
فتزداد الطرقات والغضب:
- يا فتحي، يا وله يا فتحي، ما تفتح اتفتحت راسك فتحة ميلحقوش يلموها، الشتا سبَّحني إلهي تتسبَّح بمية نار.
عم فتحي يحاول أن يتقدم ويفتح الباب، لكن خالتي صابرة تمنعه وتتجه للباب وتنظر من خرم صغير؛ لترى أباها وتسمع صوته وهو يبتعد:
- حد يسيب داره في الشتا كده! عيال هاملة صحيح، وحياة راس أبويا لطين عيشة أمك يا صابرة، قال إيه روح شوف البنت، البنت زمان الشتا مغرق دارها، أهو الشتا خرم دماغي ودماغ اللي جابوني، إلهي تغرق هي والدار واللي خلفتها، أدي آخر اللي يسمع كلام النسوان.
أسرعت إلى شباكي لأشاهد الحاج علِيّ وهو يركب حماره ويغادر في منتهى الغضب، لأعود مسرعًا إلى الثقب وأشاهد ما يحدث، وأستمع لعم فتحي وهو يقول:
- ليه مفتحتيش لأبوكِ الباب؟! كده تخليه يجي لحد دارك ويرجع والشتا مغرق الدنيا؟!
- لو أبويا كان دخل كان هيعرف إن معندناش جاز حتى ينور اللنضة، ومكنتش هعرف أضايفه وساعتها كان هيفتح في التقطيم، وأنت عارف الموشح، وأنا شبعت خلاص، وأنت كمان مش حمل كلامه وتقطيمه.
- مش ندمانة يا صابرة؟
- لو كان في ندم يبقى على كل يوم كنت فيه بعيد عنك يا فتحي.
ثم اندست في أحضانه ليطوقها بذراعيه، وأنا أندس معهما في غفلةٍ وكأننا شخصٌ واحدٌ لا ينفصل.

* * *

التَّبِيعة
يسبقني دائمًا بمترات كثيرة؛ فهو يسير بتلك الخطوات المفتوحة السريعة التي تجعلني ألهث وأتعثر وأنتزع أقدامي التي تغوص في الطين، لألعن هذا المطر الذي اختار اليوم بالذات لينهمر بكل قوةٍ وبلا توقف وكأنها رسالة السماء أن أتوقف ولا أكمل الطريق.
أسير خلفه على غير هدى، وأكاد أضيع في هذا الظلام الدامس لولا أزيز جلبابه الذي يتخبط به بقوةٍ؛ فأتبع ذلك الصوت وأدعو ألا يمر رجلٌ آخر ربما اختلط علَيَّ الأمر ويضيع مني الطريق، ثم أسخر من نفسي وأقول مَن يجرؤ أن يمر أو حتى يقترب من طريق المقابر في باطن الليل، وفي هذا الجو العاصف؟! أكثر من مرة يحاول لساني أن يتحرك وينادي عليه؛ لنعود أدراجنا إلى الدار ونعدل عن تلك الفكرة المجنونة، لكنه يصاب بالخرس والخوف.
نعم، أعلم أنها فكرة شيطانية مجنونة وتزيد عن الجنون بمراحل، لكن لم يكن أمامي غيرها؛ فأنا مَن تحمل لقب مطلقة في سن الثانية عشرة وبدون أطفالٍ، وكانت أمي تحمد الله على أنني خرجت بطولي حتى تجد لي فرصةً جديدةً في عالم المتزوجات، وفعلًا تزوجت للمرة الثانية، تزوجت من ابن خالي ذلك الرجل كبير السن ضيق الحال والنفس، الذي يعول أمه الأرملة وسبعة من البنات، صاحب الحمل الثقيل كما تقول أمي دائمًا، والوحيد المناسب لظروفي بعد أن أصبحت خَرْج بيت كما تقول أمي.
تزوجته لكن الحَمل تأخر لثلاث سنوات، حتى وصلت لسن البلوغ ومن يومها بدأ القيل والقال واللوم حتى تم المراد وحملت، كان هذا الحمل بمثابة طاقة نورٍ وطريق أملٍ جديد في حياتي فبه أصبح إنسانة مكتملة؛ فأنا الآن زوجة وأم.
مع مرور الوقت وكلما زاد بروز بطني تزيد سعادتي، وأنسى حالي في تلك الحياة الصعبة مع غضب زوجي المستمر، وهذه الحماة صعبة المراس، وغيرة إخوته بنات البنوت اللاتي لم يسعفهن الحظ بالزواج بعد.
حتى هذا العمل الشاق الذي أقوم به ليل نهار لم يعد يضجرني؛ فأنا حاملٌ وسأكون أمًا كسائر نساء القرية.
إلى أن جاء يوم الوضع، عندما شهقت الداية بخيبة أملٍ إنها أنثى؛ تلك الأنثى التي أنارت حياتي وسودت حياة الآخرين، فمن العار أن تكون الخلفة الأولى أنثى، لكن ما ذنب الصغيرة المسكينة التي شعرت بالألم، أو قد تكون رضعته مني رغمًا عني ليتكتل في قلبها الصغير الذي لم يحتمل.
لن أنسى نظرتها لي وصوت الحشرجة الذي لا يتناسب مع بنت الأيام السبعة التي لم نوقد لها شمع السبوع بعد، لتغمض عينيها فجأة وتهرب من هذا العالم البغيض؛ فتنشق روحي لهذا الرحيل!
رحلت طفلتي التي أغضبتهم جميعًا، رحلت وتركتني أعاني بمفردي من جديدٍ؛ لم أسلم من حماتي التي أضافت لي لقبًا جديدًا من ألقابها التي تلقيها علَيَّ ليل نهار، فلم أعد فقط المطلقة، وخَرْج البيت، وصاحبة خلفة البنات، لكن أيضًا شؤم. أنا شؤمٌ عليها وعلى زوجي وعلى كل عائلتها، وأنا السبب في كل مشاكلها ومشاكل بناتها.
مر العام ولم أحمل من جديدٍ وكأن رحمي غاضب مني، فقرر أن يعاقبني بشدة، إلى أن جاءت أمي يومًا على غير موعدٍ ومعها الداية؛ تلك العجوز الداهية التي تعلم كل أمور النساء والتي كشفت عني ثم تنهدت، وبدأت في قراءة بعض آيات القرآن على بطني، وقالت:
- من الآخر يا جماعة الخير، البت دي متبوعة وأختها اللي تحت الأرض غضبانة عليها ومش هتخليها تحبل، وحتى لو حبلت هتموت جنينها علشان كده لازم تقطع التبيعة دي خالص.
وبدأت تشرح لحماتي ولأمي خطوات قطع التبيعة:
- عايزين فرخة شامورت سودا زي سواد الليل، تدبح وتتسلق سليمة والبت تكون طاهرة وتاكلها كلها لوحدها وتسيب العضم سليم، مفيش عضمة تسيب أختها، وتلفها في قماش أبيض بفتة، وتحط معها حنة سوداني، ولبان دكر، وكبدة دكر وز عجوز، هي وجوزها يحفروا قبر بنتهم في أواخر الشهر العربي، ويدفنوا اللفة باللي فيها، ولازم يكونوا لوحدهم من غير ما حد يساعدهم وكل ده يتم في أول ليلة طهارة للبنت من الدورة، وفي نفس الليلة يخش عليها جوزها وهيتم الحمل بإذن الله.
ومن ذلك اليوم وأنا أرتجف؛ كيف أفعل ذلك؟! كيف أفتح لحد طفلتي وأزعجها؟! كيف أكشف سترها للعالم لأحمل من جديد؟! ربما حملت في أنثى مرة أخرى، فهل يعاودها مصير أختها المسكينة أو مصير أمها البائس؟
من الأفضل أن أعود؛ فأنا لا أتحمل تلك الأفكار التي تأكل قلبي، وقررت أن أصرخ فيه لنعود وقبل أن يتحرك لساني من مكانه كان يحفر اللحد بيده؛ كان يحفر بهمة وقوة لم أرها من قبل وهو يتمتم باللعن والشتم، وبأنني البومة التي تنعق في بيته بالخراب.
كنت أنظر إليه وماء المطر يغرق وجهي ليختلط بدموعي التي لم أعد أمتلك غيرها، كيف لا يشعر بالخوف؟! كيف لا يشعر حتى بالحزن؟ ألا يتذكر أنه السبب في موت ابنتي؟ ألا يتذكر تلك اللكمات التي كان ينهال بها على بطني وكأنه يعاقبني على ضعفه ووهنه الدائم، وعدم قدرته على أن يكون كباقي الرجال؟
إنه يحفر ولا يشعر بأي ذنبٍ، حتى انفتح اللحد لينطلق منه فجأة ذلك الظل الأزرق اللامع الذي غطى وجهه كاملًا، ليصرخ بصوتٍ مخيفٍ وينقلب على ظهره! فأسقط بجانبه ويمر الوقت لأستفيق وأعود به إلى الدار وهو ضرير! وأنا أهيئ نفسي للقبٍ جديدٍ ستمنحه لي حماتي العزيزة.

* * *

السوار
إنها أنا التي تمتلك كل هذا القدر من الجمال والإغراء الذي ينهار أمامه الجميع بلا استثناء، الكل يحاول التقرب وطلب الرضا، آخر المحاولات كانت الليلة؛ عندما فزت بهذا الخاتم الماسي الضخم كهديةٍ بسيطةٍ من السفير عادل بحري، الذي ظل طوال الليل يحاول أن يحظى بابتسامةٍ واحدةٍ حتى تكون له الحجة للاقتراب مني، وعندما منحته إياها تقدم بلا تردد قبَّل يدي وعرَّف عن نفسه.
لم تمر الليلة إلا وقد قدَّم لي هذا الخاتم الضخم، فاستحق أكثر من الابتسامة؛ لذلك همست له ببعض الكلمات كاد معها أن يقع على ظهره من الضحك، وهمس لي أيضًا بكلماتٍ كنت أعرف أنه سيقولها، ولكنه قالها أسرع مما توقعت.

انتهت الليلة سريعًا، وعدت إلى بيتي كالعادة؛ فأنا لا أحب النوم إلا في سريري مهما كان العرض المقدم، أخرجت الخاتم الضخم من حقيبتي وألقيت به في العلبة الكبيرة، ليستقر بجانب القطع الأخرى التي تشترك جميعها في أنها نادرة وباهظة الثمن، لكنها لا تملك أي إبهارٍ أو إثارةٍ، إلا هو .. فبالرغم من مرور كل هذا الوقت ما زال لامعًا تلك اللمعة الغامضة التي تجعل قلبي يكاد أن يتوقف من شدة فتنته، لمعة تجعل عيني لا تغادره بسهولة إذا وقعت عليه، لمعة تبقي فمي مفتوحًا حتى يسيل لعابي بغزارة وأتذكر كل شيء. لكن لماذا أشعر بالحزن؟! وجدت الإجابة واضحة بلا بهتان؛ إنه نفس اليوم نفس التاريخ الذي تبدلت فيه الأشياء وتغيرت فيه المسميات، كل السنوات التي مرت، الثلاثون عامًا التي جعلت مني ما أنا عليه الآن.
لم أعِ ما أفعل إلا وأنا في القطار عائدةً إلى قريتي، إلى بيتي، إلى ذكرياتٍ لم أنسها ولن أندم عليها أبدًا.
حتى تلك اللحظة التي قررت فيها أن أبيع كل شيء، لم يكن ذلك لعلاج أمي التي تقاسي عذابات المرض، ولا من أجل إخوتي الجوعى الذين لم يخلقوا من الأساس، لكن من أجله؛ من أجل هذه اللمعة التي أضاءت عيني وسرقت كل مشاعري لنبرم ذلك العهد السحري، فيكون لي للأبد بمقابل يحدده هو في الوقت الذي يريد والذي لم أعرفه بعد.
كنت أتأمله في شغفٍ لفتراتٍ طويلة، وأقول لصديقتي الوحيدة إن هذا السوار الذهبي ذا النصل اللامع سوف يقدم لي كهديةٍ من أبي العمدة، الحقيقة لم يكن أبي عمدة، ولم يكن هناك أب من الأساس، لا يوجد إلا تلك الكتلة التي تحمل لقب أم، ذلك العبء الثقيل الذي أدعو الله دائمًا أن يرحمها، وأن يأتي الموت ليخلصها من عذاب المرض والفقر؛ لترتاح وتُريح وترحمني من عار الفقر ونظرات الشفقة والإحسان في عيون أهل القرية، الذين يحسنون على تلك الغريبة التي هبطت عليهم وهي تجر في يدها طفلة صغيرة يتيمة.
أعطوها دارًا صغيرةً، وجعلوها تساعد نساء القرية في أعمال المنازل؛ لتكسب قوت يومها هي وابنتها. وبالرغم من هذه الظروف صممت أن تجعلني أذهب لمدرسة المركز لأتعلم، لا أعرف لماذا؟! لعلها كانت تحلم أن أكون يومًا ما العوض عن سنوات الشقاء والتعب، مسكينة أمي.
ما زلت أتذكر ذلك اليوم؛ عندما خرج صاحب المحل ونظر لي من خلف نظارته الضخمة المستديرة في محاولةٍ منه لاجتياز ستين عامًا من فرق العمر بيننا، وسألني عن سبب وقوفي المتكرر أمام المحل، أخبرته عن مدى إعجابي بهذا السوار البراق، فرمقني بنظرةٍ واضحة المعنى، حتى لي أنا التي في عمر الخامسة عشر قد فهمت معناها، وابتسمت وقلت له وأنا أمد يدي بعد أن كشفت عنها الغطاء لتمر أمام عينيه حتى كادت أن تلامس وجهه:
- مش بذمتك يا عم، هيبقى حلو على إيدي دي؟
فابتسم لي ونظر يمينًا ويسارًا، ثم أمسك يدي وهمس:
- طيب تعالي.
ليمر الوقت وأخرج من المحل بسواري اللامع، وبعض الدموع الباردة على خدي، ومجموعة من الأحاسيس الغامضة المختلطة التي هجرها إحساس واحد فقط؛ وهو الشعور بالندم. فلماذا أندم؟! كل شيء له مقابل وكان علَيَّ أن أدفع الثمن.
منذ ذلك اليوم وأنا أتزين به معظم الوقت وكأنه مصدر فتنتي الوحيد، ذلك السحر الذي يزيد جمالي ولم تستطع أي قطعةٍ أخرى أن تبهرني مثله، أنه فريدٌ ويفي معي بوعده دائمًا.
ولكن لماذا أتذكر كل ذلك؟! ولماذا أستقل القطار بعد كل هذه السنوات؟! لماذا أبحث في أشباح الماضي؟! لماذا أشعر بالحنين لأشياءٍ لا أعرفها؟ ربما أبحث عن ذكرى طفولتي، عن تلك العروس الصغيرة منزوعة الرأس، عن سريرٍ يحمل رائحة أمي التي رحلت دون أن أراها، عن هذا الشريط الأبيض الذي كان يزين ضفائري، عن ذلك العجوز المتهدل الذي لا أعرف له اسمًا، ولكني أتذكر لمسة يده المرتعشة ورائحة فمه التي ما زلت أشمها على جسدي، أو قد أكون أبحث عن رائحة الموت في ذكراه؛ فيكون ذلك اليوم البعيد قد دُفن معه تحت التراب، ربما وربما وربما، احتمالات وأسئلة ليس لها نهاية، ولن يكون لها أبدًا، لكني أبتسم عندما أنظر إلى جائزتي التي تزين يدي، الجائزة التي جعلتني ما أنا عليه الآن، ملكة القلوب وفتنة تتحرك على الأرض.
تحررت فجأة من قبضة الذكريات على صوت ذلك الشخص الجالس أمامي، وهو يقول برقةٍ شديدة:
- حمدًا الله على السلامة، داخلين على البحيرة، هو حضرتك رايحة البحيرة ولا مكملة للإسكندرية؟
فتأملته بعيني الخبيرتين لأجده وسيمًا غنيًا وغير متزوج، فأومأت برأسي وابتسمت ابتسامةً رقيقةً تخليت فيها لأول مرة منذ سنواتٍ عن أسلحتي الفتاكة، وكل وسائل إيقاع الفريسة في فخ جمالي الذي لا يقاوم، لا أعرف لماذا؟ لكني فعلت، وقلت له:
- البحيرة.
لأجده يقدم لي لوحةً صغيرةً على استحياءٍ ويقول:
- من أول ما ركبنا وأنتِ سرحانة، وبصراحة مقدرتش أقاوم جمالك، اوعي تفهميني غلط، أنا رسام، والجمال شغلتي، رسمتك بس يا خسارة اللوحة مكملتش ووصلنا بسرعة، ممكن لو ما يضايقكيش نتقابل تاني؛ علشان أكمل اللوحة.
هنا توقف القطار وكأنه أمر بنهاية اللقاء قبل أن يبدأ، ارتديت نظارتي الشمسية وحملت حقيبة يدي، ونظرت إليه وأنا أغادر:
- ميرسي على اللوحة، بس لو كان لازم تكملها كملها من خيالك.
ليرد ببعض الخيبة:
- خسارة، طيب على الأقل قولي لي أسميها إيه؟
التفت إليه وأنا أنزل الدَّرج:
- وعد .. سميها وعد.
لم تكتمل جملتي، لا أعلم ماذا حدث، الدنيا تغيم في عيني، قلبي دقاته تتسارع، الناس كالأشباح من حولي، الهواء بارد ثقيل حتى أنفاسي تتقطع، صرخات هذا الوسيم الذي يحملني بين يديه الجميلتين التي ما زالت تحمل ألوان لوحتي غير المنتهية، ابتسمت له ليهدأ قليلًا، فابتسم لي ودموعه تسيل على خديه لتسقط على وجهي. في تلك اللحظة، شعرت به بكل كياني، إنه في رقبتي هذا النَّصل الحاد اللامع الذي استقر أخيرًا في مكانه الصحيح! رفعت يدي ببطءٍ لمسته للمرة الأخيرة، إنه دافئ حنون وقد همس لي: إنها لحظة الوفاء؛ فاستسلمت ولم أقاوم وأغلقت عيني ولم أفتحها ثانيةً.

* * *

سبعة في سبعة
نذهب جميعًا في الإجازة الأسبوعية إلى المستشفى لنزور جدتي، لنجدها تزيد في الوهن عن ذي قبل وزاد عليها هذا الأسبوع تساقط الشعر بغزارة، كانت تفتخر بشكلها وترفض أن تضع أي ساترٍ لتخفي رأسها الصلعاء، بل كانت تمرر يدها من آنٍ لآخر عليها في حنانٍ وسعادةٍ.
في ذلك اليوم، أخذت تلقي النكات بكثرة على نفسها، وعلى ما ألمَّ بها لتهون علينا ما نشعر به من حزن، كانت ترسل الضحكات المشرقة لتسيطر بالمرح على هذا الشبح الثقيل القابع في غرفتها بلا دعوة.
عندما طالت جلستنا سألتني عن أبحاثي وتجاربي الجديدة؛ فحكيت لها عن كم المشاكل التي تواجهني في العمل، وكيف أشعر بالضيق في كثيرٍ من الأحيان، وكم كنت أتمنى أن أحيا في زمانها وزمن النساء أصحاب العقول الهادئة.
فطلبت مني أن أبقى وأقضي معها الليلة، وافقت لكن على وعدٍ أن تحكي لي حكايةً من حكاياتها الجميلة التي ما زلت أستمتع بها كما كنت أستمتع وأنا طفلة صغيرة.
ذهب الجميع، وبدأت جدتي تحكي لي تلك القصة الجديدة التي لم أسمعها من قبل عن زمنٍ بعيدٍ، وعن ذلك البراح المترامي والبيوت المنحوتة من طين الأرض، وكيف كان الظلام دائمًا لا يفرق بين ليلٍ أو نهارٍ؛ فالشمس لا تشرق عليها أبدًا.
قالت لي أن الشمس كانت تعاقب سكان المكان لذنبٍ اقترفوه في حقها، وأن الأسطورة تقول يمكن أن تعود من جديدٍ فقط إذا وُلدت فتاةٌ تحمل شعاع نور الشمس بداخلها.
جدتي، تلك الجميلة صاحبة القوة السحرية والقدرة على استحضار أي زمنٍ من خلال حكاياتها الرائعة، أخذت تتكلم وتحكي لأشعر مع تلك الكلمات التي تخرج بسلاسة وهدوء من فمها الجميل وكأنها تتحدث عن نفسها، فذهبت معها إلى ذلك الزمان وأصبحت جزءًا من تلك الحياة التي أسمع عنها حتى أنها كانت تتراءى أمامي وكأنني أحياها!
كانت الصرخات العالية تنطلق في الدار الفقيرة، والنساء يتخبطن كلٌ منهن في ذيل الأخرى، الكلمات تنطلق من الأفواه فتداخل وتختلط بشكلٍ سريع.
- المية السخنة يا بت يا ثريا.
- حاضر يا خالة أهو، أنا جاية أهو.
- فين المية السخنة؟ الله يزهركم بزهر الطين، الولية هتموت في إيدي.
- أهي يا خالة، المية أهي.
- ساعدي جنينك يا بت، احزقي لتحت ياللي تتنيلي، العيل هيموت يا موكوسة.
- مش جادرة يا خالة .. مش جادرة .. هموت .. هموت يا خالة .. هموت.
- ما تموتي ولا تروحي في ستين داهية، المهم العيل، أنا عايزة سند لابني، مش كفاية وكستك في الست بنات اللي فاتوا، احزقي يا بنت احزقي، علَيَّ الطلاق من دراعي زي الرجالة لو جبتِ بنت لأقعد عليها أفطسها، وأكتم نفسك لغاية ما تموتي وتريحينا.
- يا لهوي .. هموت حرام عليكم.
تسكن أصوات الجميع لتنطلق صرخاتي أنا، صرخاتي التي لازمتني من الطلة الأولى على الحياة، ثم حُشرت في صدري لتكتم أنفاسي في الباقي منها؛
فأنا العار الجديد الذي نكَّس رأس أبي وجعله مسكينًا مكسور الظهر بلا سند كما تقول جدتي.
أنا العرض المكشوف الذي يخشى الجميع أن يأتي بالفضيحة، أنا تلك الفتاة الجديدة في الزمن الذي يحتقر النساء.
تمر سنواتي السبع الأولى:
كانت هي كل ما أمتلكه من أيامٍ، أتذكر ذلك اليوم جيدًا حتى أنني ما زلت أشعر بالألم.
يومها كنت ألعب مع أطفال القرية، وكان يحكي لنا أحدهم ونحن نصطاد السمك في الترعة الصغيرة عن أخيه الأكبر الذي يتعلم في البندر، ويرتدي عمة وقفطان مِنَشي، وعن طعم الحلوى التي يحضرها معه في كل زيارةٍ، ووعدنا أنه سيحمل لنا بعضًا منها في المرة القادمة، لكنه قال إن أخاه يحكي لهم عن ذلك الشعاع الذهبي الذي يضيء السماء، ذلك الشعاع الضخم الذي يسمى الشمس، وقبل أن يكمل كلماته السحرية عن البندر والشمس، انتزعتني أمي من بينهم وحملتني وهي تسب وتلعن حتى وصلت بي إلى الدار، وضعتني في الطشت النحاسي الكبير ونزعت ملابسي، وصبت الماء على رأسي وألبستني جلبابًا أبيض واسعًا، وحملتني بعدها إلى غرفتها لأجد جدتي تجلس على المقعد الكبير وتمسك في يدها شيئًا صغيرًا لامعًا.
أقعدتني أمي أمام جدتي وباعدت بين أقدامي بقوةٍ، ثم التف جسدها حول جسدي النحيل لتشل حركي، ثم شعرت بيد جدتي تمتد نحوي وتدخل بين فخذي وتلكزني بلا رحمة، لتقول لها أمي:
- بالراحة عليها يا أمَّا.
فترد جدتي بمنتهى الغضب:
- بالراحة إيه .. ده أنا هقطعلها خالص، إحنا ناقصين مصايب، دي باكسة دي، الله يحرقها بجاز وسخ، مش عايزين عار، لما نسترها في عرض رجل ونخلص منها. والنبي ما عارفة دي هتلاقي مين يبص لها، القرعة السودة اللي شبه قعر الحلة.
لا أفهم ما يحدث لي، ولا أفهم معنى الكلمات التي تقولها جدتي، لأنتبه وهي تدفع يدها داخلي لتنطلق صرخاتي وأغيب عن الوعي.
تمر سبع سنواتٍ أخرى:
من ذلك العمر الذي لم يبدأ بعد، فبالرغم من تأخر نمو شعر رأسي لسنواتٍ عديدة إلا إنه نبت فجأةً، وأخذ ينمو بسرعةٍ رهيبة حتى وصلت ضفيرتي إلى أبعد من نصف ظهري عند سن الرابعة عشرة، كان لونها غريب عن بنات القرية؛ فأنا صاحبة الضفيرة الصفراء اللامعة، وجميعهن يحملن ضفائر سوداء كاحلة السواد.
تلك الضفيرة الغريبة كانت مثار حديث وإعجاب الجميع، وأيضًا كانت سببًا في خوف البعض مني.
أمي تقول لي دائمًا إنها الغيرة والحسد، وبالرغم من هذا الاختلاف كنت أحب ضفيرتي وأعتز بها، وفي بعض الأوقات كنت أفك الخصلات لأحررها وأجعلها تطير بي في غفلةٍ من الجميع، وخصوصًا أمي التي كانت مهمومةً دائمًا بي وبأخواتي حتى مَن تزوجت منهن؛ فقد سمعت حديثها يومًا مع أبي، وهي تقول:
- البت كبرت والعرسان بيجوا لها هي ومش بيجوا لإخواتها الكبار، أنا خايفة البنات تبور بسببها.
ليرد أبي بتأففٍ:
- عايزاني أعمل إيه يعني؟
لترد جدتي بحزمٍ:
- جوزوها واخلصوا منها.
لترد أمي ببعض الغضب:
- اتصرف، مش أنت الرجل يبقى تتصرف وتحلها.
ينهض أبي وينفض جلبابه بعصبيةٍ:
- هتصرف بس من النهارده متخطيش العتبة، وأنا سمرت الشباك بتاع الأوضة.
لم تمر إلا أيامٌ قليلة على هذا الحديث حتى بدأت حركة غريبة في الدار؛ أرى نساء القرية يساعدن أمي، والفتيات الصغيرات تغني وترقص، وخالتي سكينة التي جاءت من العزبة المجاورة لنا وهي تقرع الطشت النحاسي الضخم بالملاعق، وتغني بكل قوةٍ:
- سقف الأوضة بيلعب ليه .. سيد الكل ماشي عليه
لترد عليها أمي:
- على عينك يا ضرتي .. الأحمر والأبيض صنعتي.
الجميع يردد:
- على عينك يا ضرتي .. الأحمر والأبيض صنعتي.
لترد خالتي سكينة:
- أهو جالك أهو .. ريح بالك أهو.
الجميع يردد:
- أهو جالك أهو .. ريح بالك أهو.
ثم تنسحب أمي إلى مكان أبي الذي يدخن بتوتر ويقول:
- الشيخ عايز يتمم الفرح الليلة.
- الليلة! مش كان الخميس الجاي؟
- أيوه .. بس جات له سفرية للبندر؛ مراته بنت المأمور عيانة ولازم يكون جنبها، اعملي حسابك الشيخ والشهود جايين بعد المغرب.
لم تكن تلك الليلة كالليالي السابقة من عمري القصير، ولكنها كانت الفارقة؛ فمع حلول المساء تلطخ وجهي بالألوان، وألبستني أمي ثوب زفافها الأبيض، وأدخلتني غرفتها ثم قبَّلت وجنتي، وخرجت وأغلقت الباب خلفها.
أخذت أنظر حولي؛ لأرى الغرفة المظلمة التي لا يقطع ظلامها إلا الشعاع الخافت للسهارة الصغيرة، الشباك محكم الغلق كالعادة، وهواء ثقيل جدًا على القلب والروح، كل شيءٍ مرتب بدقة؛ اللحاف الأحمر الستان على السرير، والناموسية الشبيكة منصوبة فوقه، والملابس مرصوصة في الصندوق، والعشاء مغطى بالشال الأبيض.
مر بعض الوقت ليُفتح الباب، ويقتحم هذا الرجل الغريب الغرفة وتتبعه أمي، والداية، وخالتي سكينة، ومجموعة من نساء القرية، تلتف أمي فجأة بجسدها حول جسدي لتحكم السيطرة على حركتي من جديدٍ، نفس ما حدث لي عندما أقحمت جدتي يدها بين فخذي؛ لتنتقم من شيءٍ يزعجها شيء لا أعرفه، لكن هذه المرة حاولت أن أقاوم فكانت صفعة أمي بمثابة شلل مكرر أصاب جسدي الذي استسلم لتلك الأفاعيل الشريرة، لم أمتلك إلا دمعةً أجريتها على خدي وأنا أنظر للشباك الموصد فوقي، ولا أعرف لماذا تذكرت حديث ذلك الفتى عن الشعاع الأصفر في سماء البندر.
مرت الليلة ودموعي لم تتوقف وأنا أنظر لذلك النائم الذي لا أعرفه، هذا العجوز الهرم الذي قارب على الانتهاء، لكنه قرر أن يذبحني قبل أن يخرج من الحياة.
كنت أنظر إليه وأنظر للشباك وأتساءل لماذا يفعلون بي ذلك؟ هل تلك الضفيرة الصفراء هي السبب؟ هل لو تخلصت منها سيتركني الجميع لأعود وألعب في تلك الترعة، وأستمع لحواديت الشمس والبندر؟ التقطت يدي المرتعشة المقص الكبير الذي سقط مني فأصدر صوتًا عاليًا؛ ليستيقظ عليه هذا الغريب بفزعٍ، وينتفض واقفًا يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم ينهال علَيَّ باللكمات وهو يصرخ:
- يا ليلة سواد، أنتِ عايزة تقتليني يا بت، ألحقوني يا خلق، المجنونة عايزة تقتلني.
يدخل الجميع على صوته، وينزع أبي المقص من يدي وينهال هو أيضًا علَيَّ باللكمات وهو يصرخ:
- هتفضحينا يا بت الكلب.
لتتدخل أمي وهي تصرخ معهم:
- كفاية البت هتموت في إيديكم، يلا خد الشيخ واطلعوا بره، وأنا هفهم إيه الحكاية.
يخرج الجميع لتبدأ أمي بالكلام الذي لم أفهم منه شيئًا إلا الفضيحة والناس، أنهت الحديث وخرجت وهي تشعر أنها حلت المشكلة، لأعود وأمسك المقص الملقى على الأرض وأقص ضفيرتي الصفراء، وأحملها على يدي وأخرج بها عليهم جميعًا وعلى وجهي هذا التحدي والرفض؛ فيتحول الجميع إلى شبه تماثيل من هوْل الصدمة، ويقطع الغريب الصمت وهو يصرخ:
- مجنونة! والمصحف مجنونة.
أتقدم وألقي الضفيرة لتسقط في حجر أبي الذي ينظر لي مبهوتًا، فأنظر له وأبتسم ثم أسير إلى الخارج، والغريب لم يوقفني أحد.
عندما تجاوزت الباب، وجدت أهل قريتي جميعًا قد تجمعوا على صوت الصرخات، وأخذوا ينظرون لي؛ فلم أعبأ بهم، ولا بنظراتهم، ولا بتلك الهمهمات، ولا بضربات الكفوف بعضها ببعض.
كنت أشعر بتلك الطاقة التي تفتح لي بابًا جديدًا وكأنني أخف من الهواء، وكأنني أستطيع الطيران؛ فأخذت أجري وأجري وأجري وخلفي الصغار يغنون كلمات لم أفهمها، ولم أهتم بفهمها:
- يا مجنونة يالي ... قصيتي الشعر يالي
يا مجنونة يالي ... قصيتي الشعر يالي
المجنونة أهي أهي
ثم بدأوا في قذفي بالحجارة؛ فشجت واحدة منهم رأسي وسالت الدماء على عيني، وقبل أن أرفع يدي لألمس رأسي فجأة وأمام الجميع نبتت ضفيرتي الذهبية من ذلك الشق، وأخذت تتمدد وتتمدد حتى أصبحت أقف عليها بقدمي؛ فتوقف الجميع في ذهولٍ وساد الصمت الرهيب.
أخذت ضفيرتي تطول وتلتف حولي، وصنعت لي جناحين وطارت بي إلى السماء، لينقشع الظلام فجأة ويظهر شعاع الشمس ويطل للمرة الأولى على القرية، لحظتها هرع البعض إلى الكهوف البعيدة، والبعض الآخر نظر وشاهد وابتسم للنور.
انتهت جدتي من سرد الحكاية بعد الفجر؛ فطلبت مني أن أفتح الشباك المغلق؛ لتستقبل أول شعاعٍ للشمس الذي دخل مباشرةً من السماء إليها، لأجد تلك الضفيرة الصفراء الطويلة تنمو في رأسها ثم تلتف حولها، وتأخذها وتطير فيكتمل قرص الشمس.

* * *

الإوزة البيضاء
أحببت أن أراها وهي تتهادى برفقٍ وثقةٍ، لا تتعجل أبدًا مثل غيرها، وكأنها تعلم الطريق ولا تخشى شيئًا أبدًا. أمي كانت تدللها وتفتخر بها أمام الجارات، والأقارب، والأحباب ويتبادلن الضحكات وهي تقول:
- ريشة بيضا وريشة حمرا .. ورقبة تطول القمرة .. واللي عنده زي وزتي يضحك ضحكتي.
أمي صاحبة الإوزة المميزة التي لا يوجد مثلها في القرية ولا في المركز، تحرص عليها بشدة وتجعلها ترقد على البيض؛ لعل واحدةً تفقس وتكون مثلها يومًا، لكنه حُلمٌ لم يتحقق أبدًا.
إلى أن جاء يومٌ وقرر أبي أن يذبحها؛ تكريمًا لضيفٍ قادمٍ من تلك البلاد البعيدة، فأمر أمي أن تقوم بتزغيطها بالفول فقط؛ ليقل الدهن ويزيد اللحم الأحمر، ويصبح فصوصًا تشبع العين قبل البطن.
حاولت أمي الاعتراض لكنه نهرها بشدة، وعندما بكت صرخ فيها أن هذه الإوزة هي الشيء الوحيد المميز لديه، وسيذبحها حتى يشعر ضيفه بالاحتفاء والتقدير عندما يعلم أنه ذبح له إوزة فريدة من نوعها، وأنها لا بد أن تعلم أن ذبحها الإوزة سيعود علينا جميعًا بالخير الكثير.
رضخت أمي وبدأت في تزغيط الإوزة المسكينة، تضعها تحت فخذها وتمسك رقبتها وتفتح المنقار بالقوة، وتحشر تلك الدفعات والدفعات من الفول المبلول في تتابع وبلا توقف أو رحمة، كانت أمي تفعل ذلك وهي تبكي عليها.
في صبيحة يوم الأربعاء، أخذني أبي إلى الوحدة الصحية، لا أعرف لذلك سببًا؛ فأنا سليمة البدن ولا أشكو مرضًا، سمعت الطبيبة تنهى أبي بشدة وتهدده أنها ستبلغ عنه وأن ما سيقوم به جريمة، لم أفهم شيئًا مما قالت، فسألت أبي:
- آبَا، هي الدكتورة عايزة تحبسك علشان هتدبح الوزة.
لينظر لي أبي ويتنهد ويجر يدي بقوة حتى كاد ذراعي أن ينخلع في يده، عاد إلى الدار منكس الرأس مهمومًا حتى زاره حلاق القرية، سمعته وأنا أقدم لهم صينية الشاي يقول:
- محلولة يا سيدي، بلاها مأذون، مشيها عرفي ولما تبلغ السن ابقى اكتب الكتاب.
لم يمر الأسبوع إلا والدار مزدحمة بالأهل والأقارب، وأمي تجتهد في دعك جسدي بالردة الناعمة وكعب رجلي بالحجر الأحمر، وقد استغنت للمرة الأولى عن الجاز ودهنت شعري بالسمن البلدي، ولم تعقد ضفيرتي تلك المرة وألبستني فستان العيد الجديد، كانت تفعل كل ذلك وهي تبكي، فقلت لها:
- مالك يا أما، أنتِ على طول بتبكي، متزعليش على الوزة، أبويا طيب شوفي جاب لي فستان جديد إزاي، والنبي ما تزعلي.
لم تكن كلماتي تهدئ أمي لكنها جعلتها تبكي أكثر وهي تحتضني بشدة، أما عن أبي فقد شحذ السكين وأمسك بالإوزة ليذبحها، فكانت تصدر هذا الضجيج والرفرفة بجناحيها وكأنها تصرخ وتستغيث، لكنه لم يستمع لها ومرر السكين على رقبتها وبدأ في ذبحها بالفعل، فما كان من الإوزة إلا أنها أفلتت منه قبل أن يكمل الذبح، لتنتفض وتجري وتهرب خارج الدار بعد أن أغرقت جلبابه الأبيض بالدم.
جرى الجميع خلفها لنجدها تقفز في الترعة وتعوم مرفوعة الرأس، وكأنها تعلن العصيان حتى على الموت، وقبل أن يقفز أبي إلى الترعة ليمسك بها جاءت الطبيبة ومعها عساكر من المركز؛ لتقود أبي إلى قسم الشرطة.

* * * 

البقرة
لم أجد مكانًا يتسع لبكائي إلا بجوار تلك البقرة الصامتة دائمًا؛ فهي مثلي الجميع يتغزل في جمال مظهرها الأحمر اللامع، وعيونها المسحوبة بغرابة، واللبن الكثيف الذي تدره بكثرة كل صباحٍ وكل مساء، لكن لا أحد يعلم مدى الحزن الذي تعانيه؛ ربما تصرخ ذلك الصراخ المكتوم الذي يقطع القلب، أو تكون ملت الصراخ مثلي فاكتفت بالصمت الرهيب الذي يقطع القلب أيضا.
أشعر بها وأعرف ما مرت به؛ فلن أنسى ذلك اليوم المر، يوم ذبحوا عجلها الصغير في فرح ابنة عمي.
تلك الطفلة التي تكبرني بعامٍ واحد، كنا نلعب سويًا ونعوم في الترعة الكبيرة، ونصنع العرائس الطينية ونزينها بالورق اللامع الذي كان يغلف الحلوى، كنا لا نهتم إلا بتلك الضحكات التي لا تنقطع، ونسعد بفك الضفائر المجدولة بعنايةٍ لنصنع تلك الكومة الضخمة من الشعر المنكوش، وتلك الأقدام العارية الملطخة بالطين دائمًا.
اليوم لم أعد أراها؛ لقد أصبحت سيدة متزوجة لا تجلس مع الصغار ولا تلعب معهم، أقسم أن ملامحها تغيرت بين يومٍ وليلة من صديقة مجنونة إلى تلك العالمة ببواطن الأمور وكل الخفايا والأسرار! أصبحت مِن مَن تتهافت عليهن الفتيات؛ لتجلس معهن وتحكي أسرار الزواج الخفية التي لا يعلمها إلا المتزوجات فقط، كثيرًا ما كانت تهمس لهن لتنطلق الضحكات التي تخبئها الأيدي وتتلون كل الوجوه بحمرة الخجل.
ابتعدت عنها وعن جلساتها التي لا تستهويني؛ فأنا لا أريد أن أتزوج مثلها، ولا أرى أن الزواج غاية المُنى مثلما ترى هي أو هن جميعًا، أنا أريد أن أتعلم.
كنت أحلم بالذهاب للمدرسة، لكن التعليم مش للبنات مثلما تقول أمي وجدتي، البنت مسيرها لجوزها ولبيتها.
كنت أشعر بالفرح الشديد عندما أوكلوني بمهمة مرافقة أخي الصغير إلى المدرسة، كان يركب الحمار وأنا أمشي بجانبه في زهوٍ شديدٍ؛ فأنا أخت الصبي الذي يذهب ليتعلم في مدرسة المركز والذي سيصبح في المستقبل أفندي أو دكتور، كنت أمقت كل هذا التمرد وعدم الرضا الصادر منه وهو يظهر هذا البغض للمدرسة وللتعليم، وأنهره بشدة عندما يعلن أنه يريد أن يصبح فلاحًا فقط مثل أبي.
في صباح كل يوم، وبعد دخول أخي من باب المدرسة لم أكن أنصرف مباشرةً، لكن أبقى لأسمع أصوات التلاميذ ونشيد الصباح الذي حفظته جيدًا، وحفظت كل ما يقال في تلك اللحظات التي كان يتبعها التأخير المستمر في الرجوع للدار؛ لذلك كنت أتلقى الكثير من اللوم والتعنيف الجسدي من أمي؛ لأنها تعتمد علَيَّ في أمور العجن، والخبز، وإعداد الطعام فالتأخير لديها جريمة شنعاء تستحق العقاب طبعًا، فلم أكن أهتم وأتقبل مصيري برضا في مقابل التمتع بتلك اللحظات الصباحية الغالية.
عندما كنت أجد بعض الوقت كنت أذهب لسيدة بنت عم إبراهيم الخولي التي تتعلم مثل أخي؛ لأستمع إليها وهي تحكي عما يحدث معها في الفصل، وشكل المدرسات والحروف والأغاني، كانت جلستها وحديثها من أجمل لحظات حياتي.
علمت من أمي أن أخي يهرب دائمًا من المدرسة، وأن الناظر قابل أبي اليوم في المركز وأخبره، تملكني الغضب وضربته ضربًا مبرحًا وبكيت بألمٍ؛ لأنه لا يعلم قيمة ما هو فيه، لا يعلم قيمة أنه ولد وله الحق في كل شيءٍ بلا مجهود أو طلب.
مرت سنوات عديدة ونسيت أو تناسيت تلك الأحلام التي كانت تسعدني بمجرد مرورها في نفسي، تزوجت وأنجبت وشُغلت بأمور الحياة، لكن اليوم تكالبت الذكريات على قلبي حتى أنني أشعر بثقل شديد على صدري، كأنه حجرٌ ضخمٌ يمنعني من التنفس.
لقد تخيلت للحظة أن الأحلام يمكن أن تتحقق رغم مرور الزمن؛ فقد علمت من سيدة بنت عم إبراهيم أن الجمعية الخيرية فتحت فصول لمحو الأمية للكبار، وأن الدراسة ستكون مسائية؛ فطلبت من زوجي أن أذهب لتلك الفصول مع وعود كثيرة مدعومة بقسمٍ غليظٍ بعدم التقصير في أمور الدار، والغيط، والأبناء فكان رد فعله أن ضحك بسخرية، ثم نعتني بالجنون
ثم نطق تلك الجملة التي شقت صدري:
- بعد ما شاب ودوه الكتاب!
حبست دموعي حتى انصرف، ثم ذهبت لأجلس بجانب بقرتي لأبكي معها حتى لا يراني أحدٌ من أهل زوجي أو أبنائي الصغار.

* * *

الغريب والصياد
عندما يدق جرس الانصراف تنطلق الصرخات المدوية، بعضها لمجرد انتهاء اليوم الدراسي الممل في معظمه، والبعض الآخر لوجود تلك الخطط المضحكة والمخجلة في كثيرٍ من الأحيان.
مثل خطة ولاء للذهاب للكوافير لترسم حاجبيها، وتتخلص من هذه المزارع الوارفة التي تكسو جبهتها، وتحجب عنها الرؤية ثم تتسلح بالبكاء والمسكنة لمواجهة والدتها التي ستصرخ فيها حتمًا حتى صباح اليوم التالي؛ فهي ترى أن الفتاة لا يجب أن تفعل ذلك قبل الزواج، مسكينة ولاء عليها أن تواجه كل هذا اللوم والتعنيف كل مرة.
أو بعض الخطط الغرامية مثل خطة مروة التي تركت الحصة الأخيرة، واستقرت في الحمام لتضع المساحيق والألوان على وجهها؛ لتظهر نفسها أكثر بياضًا مما هي عليه، على أمل أن يتحدث معها ذلك الشاب الضخم الذي ستقابله في إحدى الحدائق عن جمالها وفتنتها، ولا يقتصر الحديث عن الطعام الذي تحمله إليه كل مرة، أو على الأقل يمدحها بعد الانتهاء منه. مروة لا تقلق من الوقت أو أي شيءٍ؛ فدائمًا أمها لا تعود من العمل إلا متأخرًا.
الكثير والكثير من الخطط والحكايات، أما أنا فلا أفكر إلا في تلك اللحظة التي أصل فيها للمنزل؛ فاليوم سيعود أبي من رحلة الصيد، وكم أنا مشتاقة له ولحكاياته المثيرة عن أنواع الأسماك، وأدوات وطرق الصيد المتعددة، وتأكيده الدائم على أهمية الصبر واختيار الطُّعم المناسب والطريقة الملائمة لكل سمكة، أبي صياد ماهر يفوز دائمًا على كل أصدقائه لأنه يستحق.
دق الجرس، وقبل أن تنتظم الكتب في الحقائب يندفع الجميع في تيارٍ هادر لنختصر درجات السُّلم، ونتجاوز الفناء ونلتقي جميعًا عند البوابة ونخرج بقوة الدفع كما تقول سهام؛ فهي متخصصة في إلقاء النكات المضحكة وللحق تتمتع بخفة دمٍ لا تقاوم، فقد اشتركت في نشاط المسرح المدرسي بعد أن اختارها الأستاذ راضي لدور البهلوان، وأكد أنها ستكون قنبلة العرض. سهام تحلم دائمًا أن تصبح مثل شويكار، وتتمنى أن تمثل دورها في مسرحية سيدتي الجميلة.
أتنحى إلى جانب البوابة وأنتظر حتى خروج الجميع؛ فأنا لا أحب الزحام، وأتهادى في مشيتي، وأحتضن الحقيبة وأضمها إلى صدري لأجد زميلاتي بالخارج في انتظاري يصرخن كالمعتاد:
- البرنسيسة وصلت، ما لسه بدري يا هانم.
هكذا كانت كلماتهم دائمًا، ثم يقدمن لي بعض الحلوى التي خبأتها سهى في الحقيبة صباحًا من محل والدتها، نمشي ونتضاحك وتدفع كلٌّ منا الأخرى لتسبقها ونقلد مَن يغدو ومَن يروح، وإذا نظر إلينا أحدهم نخرج ألسنتنا وننطلق لنسابق الريح حتى نصل للمترو، نستقل عربة السيدات وقد سبقتنا الضحكات العالية التي تصل للصراخ، لتستقبلنا تلك النظرات التي تقول الكثير بلا صوت.
هذه التي تبتسم وتستعيد ذكرى أيام متشابهة عاشتها، وتلك التي تتمنى أن تترك كل أحمالها وتأتي وتعبث معنا، والأخرى التي ترانا مستهترات لا نفهم ما نحن مقبلات عليه من أيامٍ صعاب.
وهنا تنظر سهام للعربة الأخرى المختلطة لنجدها تبتسم وتتمايل؛ فننظر جميعًا مكان عينيها لنراه هناك في ملابسه التي تعلن بقوة أنه ريفي بسيط، وأنه أول مرة يرى هذه الحياة المدنية الصاخبة، ذكرتني ملامحه بأحمد ذكي في فيلم البرىء، نظرت إليه لأجده جالسًا في سكونٍ يخبئ خلفه الكثير من التيه والقلق والانبهار.
علمت ما سيحدث عندما استدارت لنا سهام بضحكتها المعهودة التي يملأها التحدي، لتأخذ الموافقة من الجميع وننطلق جميعًا عندما يتوقف المترو، ونترك عربة السيدات ونصعد للعربة الأخرى ليبدأ التحدي؛ مَن منا ستجعله يقف ويجلسها مكانه في هذا الزحام الرهيب؟
وبالفعل هرولنا جميعًا للعربة الأخرى بنفس الضجة، وتزاحمنا حتى ووقفنا أمامه مباشرةً، هذا الصيد الثمين الذي نظر إلينا وعيناه تتسع بقوة وهو يحاول أن يكتم تلك الابتسامة الخجلى على شفتيه، ليخفي انبهاره بهذا السيل الأنثوي المندفع ناحيته بلا رحمة.
لم تتعود صديقاتي أن يضعن خطةً، ولكن أنا أحب الخطط، نظرت إليه دون أن يلاحظ وأخذت أحسب الحسابات.
هل ستفوز صفاء؟ صاحبة الضفائر الذهبية اللامعة التي تخطف الأبصار، تلك البيضاء حمراء الخد ممتلئة القوام بشكل أنثوي جذاب، ها هي تستخدم أسلحتها على أكمل وجه؛ ترفع ضحكاتها وتتمايل لتلمس ضفيرتها بعضًا من خده، ثم تبتعد وتتمايل من جديد.
أم سيقوم ويجلس سهام التي تلقي النكات المضحكة؛ فتنتزع منه الابتسامة رغمًا عنه؟
لكلٍ منهن أشياء تقدمها لكن أنا ماذا لديَّ؟ كيف أتعامل مع هذا الساذج المنبهر؟ ما هو شعاع الضوء الذي يجذبه ويسيطر على عقله، ويجعله يسير في الاتجاه الذي أريده؟ عندها سأنقض عليه وأسيطر على كل ذرةٍ في كيانه؛ فينتفض من مكانه ويجلسني دون أن يفكر.
حسبت حساباتي ووجدتها سريعًا؛ لأنه صيدٌ سهل جائع سيلتقط الطُّعم المناسب بلا مجهود، المهم يكون الطُّعم مناسب ليلتقطه دون الالتفات إلى غيره من المغريات؛ لذلك بدأت التنفيذ الفوري فعامل الوقت مهم وخطير في هذه الخطة.
تنحيت جانبًا ليس ببعيدٍ عن نظره وأذنيه، وأخرجت كتاب الأدعية الصغير وفتحته، وأخذت أقرأ وأرسل بين الحين والآخر نظرات عتابٍ وعدم رضا عما تفعله صديقاتي. ومع اقتراب توقف المترو في المحطة، وعندما يهدأ الصوت أميل عليهن وأهمس له معهن:
- على فكرة عيب أوي كده، بطلوا ضحك على الفاضية والمليانة، ووطوا صوتكم إحنا بنات محترمة.
ليهتز المترو في نفس الوقت كما تم الحساب في الخطة؛ فأميل مع حركته وكأنها ميلة طبيعية، فأكاد أسقط عليه ليلتقطني، فألقي سهمي الأخير وأنظر في عينه ببراءةٍ وشكرٍ مع إظهار الكثير من الحياء والخجل الشديد؛ هنا تتم المهمة بنجاحٍ ويبتلع الطُّعم فأصبح المسيطرة الوحيدة على عقله؛ فأهمس له بصوتٍ رقيقٍ منكسر:
- أنا آسفة، مكنتش أقصد.
لتنهار كل دفاعاته وتحسم حيرته بيننا؛ فيقف مشدود الظهر مرفوع الرأس، ويقول في شهامةٍ زائدةٍ:
- اتفضلي يا آنسة، اقعدي ارتاحي.
لأرد عليه وأنا أنظر للأرض:
- شكرًا جدًا.
وأجلس مكانه وأنا أكتم نظرة الانتصار ولذة الفوز، هنا تنقطع ضحكات البنات وتتحول وجوههن إلى عبوس الهزيمة، وأنا أعتدل في جلستي القصيرة التي أنهض منها مسرعةً عندما يتوقف المترو ويفتح الباب لننزل جميعًا بعد أن أُجلس مكاني شخصًا آخر غيره، طبعًا فأختار ذلك الرجل الضخم المتجهم الذي كان يتابع، والذي أخذ يرسل نظرات اللوم وبعض كلمات الشماتة، ليضحك الجميع على هذا المسكين الساذج الذي ظل واقفًا وهو ينظر إلينا من الشباك في تعجبٍ وعدم فهمٍ، ولديه الكثير من الأسئلة التي تطل من عينيه. أما نحن فنطلق الضحكات وصيحات الانتصار لتقول سهام له من الشباك:
- تعيش وتاخد غيرها يا خفيف.
يتحرك المترو ونحن نسمع ضحكات ولعنات الركاب على تلك الأفعال الشيطانية، لتكمل سهام:
- شكلنا كده مش هنكسب أبدًا، أنتِ بتعملي لهم إيه بس؟ يلا حلال عليكِ الشيكولاتة، بس المرة الجاية هركز معاكِ أوي.
لأبتسم لهن وأخرج طرف لساني، وتنطلق الضحكات العالية مرة أخرى، ونكمل السير في ضوضاءٍ لن تنتهي أبدًا.

* * *

المُعْجِنة
ما زال الحُلم يعاودني وكأنه يريد أن يقفز من عالمه الخيالي في رأسي إلى عالم الحقيقة والواقع.
أحلم بدارٍ واسعةٍ لها حوش كبير؛ ليلعب فيه أطفالي على راحتهم بلا قيود أو خوف عليهم من الغرق في الروزافة الكبيرة التي يغرق فيها الكبير والصغير.
أحلم بجزءٍ منفصلٍ للفرن والمحاصيل، أحلم بحظيرةٍ كبيرةٍ لأربي فيها الطيور، والعجول، والأغنام.
أحلم أن أشتري بقرةً؛ لتدر اللبن، وأصنع الجبن، والقشدة، والسمن البلدي، أطعم أبنائي وأحمل الباقي وأذهب للسوق، وأبيع وأشتري وأكسب نقودًا حتى أستطع أن أدخلهم الكُتَّاب مثل أبناء كُبرات البلد.
كل هذه الأحلام والأمنيات التي تملأ رأسي حتى أنها تحرمني النوم لليالٍ عديدة.
حتى جاء ذلك اليوم، وعرض مسعود المحمدي داره القديمة للبيع، وكانت داره خلف داري مباشرةً، شعرت أنها إشارةٌ وأن الحُلم يمكن أن يتحقق، تحدثت مع زوجي لنشتريها ونضمها إلى مساحة دارنا الحالية؛ حتى نحصل على التوسعة المناسبة، وأخذت أحكي له عن حُلمي وما أراه في المستقبل.
زوجي رجلٌ طيب وحمله ثقيل؛ فهو الابن الوحيد لأبيه الذي توفاه الله من سنواتٍ عدة، وله عشر أخواتٍ من البنات وأمهن، الجميع في رقبته ودائمًا يحمل الهم.
لم تكن تلك الظروف هي المشكلة، لكن افتقاره للهمة والقدرة على الحُلم كانت أكبر مشاكله، فقال ساخرًا:
- الفكرة حلوة يا عين، بس هنجيب منين أجرة الدار وأجرة المُعجنة والبنا، بصي خليكِ في الحلم، الحلم ببلاش.
ابتسمت وقلت له:
- ارضى أنت بس ونفض إيدك خالص، متشغلش بالك بحاجة؛ أنا اللي هتصرف في الصغيرة قبل الكبيرة.
ضحك ساخرًا وقال:
- إزاي بقى يا شملولة؟
قلت:
- تمن الأرض بتمن الحلق والكردان بتوعي، والباقي سهل.
ليرد وهو ينفض جلبابه ويعطيني ظهره:
- ماشي يا فالحة أنتِ حرة، بس متسألنيش في حاجة.
تم الاتفاق مع صاحب الدار، وتم الشراء ودفع الثمن، وفي اليوم التالي مباشرة انتظرت أول شعاعٍ للنور، وارتديت بنطلوني الكستور القديم وعقدت الجلباب عقدةً دائرية إلى جانب ركبتي، ثم أحكمت قمطة رأسي وأخذت الماجور وذهبت إلى الترعة الموجودة أمام الدار؛ أقطع الطين بالفأس وأضعه في الماجور، وأحمله فوق رأسي لأضعه أمام الدار. الناس تنظر لي وتبتسم ويطلقون المباركات والتهاني، حتى الكيادة صفية بنت ستيتة ابتلعت بعض سُمها وقالت لي وهي تجر جاموستها لتشرب من الترعة:
- بتقطعي الطين بنفسك يا معدولة، ده أنتِ هتتهدي يا بت، وبعدين فين جوزك؟ هو عجن الطوب بقى شغلة الحريم؟!
لأرد عليها:
- الهدة في العمار صحة يا صفية، عقبالك لما تتهدي زيي يا رب.
لتنصرف وهي تقول:
- طيب يا أختي بخاطرك.
لأستمر في العمل حتى الظهيرة، كانت كمية الطين التي جمعتها بالماجور كمية كبيرة، شعرت بالسعادة والهمة التي أخفت أي ألمٍ، قررت أن أكمل العمل وأن اليوم لن يمر إلا وقوالب الطوب مرصوصة لتأخذ حرارة شمس اليوم التالي من بدايتها.
أحضرت أحمال التبن والكثير من الماء لأخلطهم بالطين، كانت أقدامي تغوص وتخرج ثم تغوص وتخرج والأحلام تتجسد أمامي؛ فتعطيني الطاقة والقوة حتى حصلت على الخليط المطلوب، وشكلت قوالب الطوب من تلك المُعجنة التي لا يستطيع أن يعجنها أي رجلٍ حتى لو كان ابن بارم ديله.
كررت نفس العمل لأسبوعٍ كامل من بداية النهار حتى نهايته، لا يفصلني إلا إعداد الطعام على عجلٍ والعودة سريعًا، ليكتمل العدد المطلوب من قوالب الطوب، لم يصدق زوجي، ولكنه كالعادة يجيد تكسير المجاديف، أشك أنه حلم يومًا حتى وهو نائم؛ فالحلم يصنع المعجزات، ليقول لي:
- طيب يا فالحة، الأرض وجبناها والطوب واتعمل، هنجيب منين أجرة البنا بقى؟
لأرد عليه باستغرابٍ شديدٍ:
- ليه؟! هو أنت مش هتساعدني يا رجل؟!
فيقطب جبينه ويقول:
- أهو مش قلت لك، هتعكيها وتسبيها، أنا قلت لكِ مليش صالح بالموضوع دِه، وبعدين اللي حضَّر العفريت يصرفه.
- يعني إيه؟
- يعني اللي عمل الطوب يبنيه، أو فضيها سيرة أنا مش ناقص هم.
ينفض جلبابه ويخرج ويتركني في تلك الحيرة، تنفست وقررت أن أكمل الطريق حتى أصل لما أريد؛ فالحُلم كاد أن يصبح حقيقةً ولن أتوقف.
وبالفعل، نظفت الأماكن المتهدمة في الدار القديمة، ورسمت أماكن البناء الجديد بالدقيق الأبيض، وبدأت في رص الطوب وكنت أرص معه تلك الأحلام ليعلو السور ويصبح أعلى من رأسي، شعرت بالفرح والفخر؛ فالحُلم قارب أن يلامس الحقيقة، لأجد زوجي يدخل ويقترب مني ويرفع معي الطوب وهو يقول:
- ما تستريحي شوية يا بت، ده أنتِ اتهديتِ.
لم أصدق أذني، ولكنه أكمل حديثه قبل أن أرد عليه وهو يحمل الطوب:
- خالتي عزمتني على الغدا، دي كانت دابحة لي بطاية قد كده، أه وباعتة لك السلام.
لأرد عليه وأنا منهمكة في العمل:
- لا والله، بقى دبحت لك بطاية بحالها، طيب .. ربنا يهني سعيد بسعيدة، عمومًا الله يسلمها يا أخويا.
- أنتِ زعلانة منها ولا إيه؟!
- أيوة زعلانة، دي عدت علَيَّ ليلة إمبارح ومهانش عليها حتى تقول لي مبروك ما بتعملي، ولا كانت خلت عجل من ولادها يجي يساعدني. عمومًا كل واحد بيعمل بأصله.
- أصل سنية بنتها هتطلق، اتعاركت مع دار راجلها وسابت لهم الدار.
وأخذ يكمل الحكاية ويشرح لي معاناة سنية مع حماتها، وكيف أنها تحيا في مأساةٍ تجعلها تبكي ليل نهار، وأن زوجها هددها بالطلاق إذا لم تجد حلًا، وأخذ يصف لي حال خالته ووقوعها في عرضه أن يعطيهم ذلك الجزء الخلفي من الدار؛ لينقذ ابنتها وذلك طبعًا بشكلٍ مؤقت؛ لأنه ابن خالتها الجدع وهي مثل أخته ملزومة منه في كل الأحوال.
لم أتمالك نفسي لحظتها ونظرت إلى الطين الذي يغطيني من رأسي حتى قدمي، وقلت له وأنا أصرخ:
- ما تطلق ولا تروح في ستين داهية، ده أنا مغروسة في الطين بقالي شهر، وبايعة الحلق والكردان اللي حيلتي علشان أوسع الدار وأعمل حياة عدلة، آجي ألاقي خالتك وبنتها طمعانين فيَّ، حسبي الله ونعم الوكيل.
ليصرخ في وجهي ويتهمني بكل التهم بدايةً من الأنانية إلى الطمع، وسواد النفس، وضيق العين، ثم أخذ يعدد أن مساعدة الأهل واجبٌ ومن الدين، وأن شيخ الجامع أكد على هذا في خطبة الجمعة، وقال أيضًا لا بد أن تكون الزوجة مطيعة لزوجها.
لأصرخ فيه:
- والشيخ مقلش إنه حرام سرقة مجهود الناس، يا أخي حسبي الله ونعم الوكيل فيك وفي الشيخ بتاعك.
لأرزع ما في يدي وأنصرف وأنا منهارة، وأسمعه يصرخ ويطلق قراره بلا رحمة:
- الدار وهياخدوها، ولو ما أخدوهاش وبنت خالتي اطلقت هكتب عليها وأجيبها لك تكيدك، وهي الجديدة وأنت القديمة، ولو نطقتِ بكلمة تاني تكوني طالق بالتلاتة.
لتنحبس الكلمات في قلبي، ولا تنقطع دموعي وأنا أراهم يكملون البناء بالطوب الذي صنعته بيدي؛ لتقوم لهم دار في يوم وليلة ويضيع حُلمي كله بغدوة بط!!
فجأة أشعر بتلك اليد التي تلتف حولي وتهمس وتقول:
- يا عبيطة متزعليش، ده أنتِ وسنية إخوات، وبعدين أنا شارط عليها تفتح طاقة بينك وبينها والدار تبقى واحدة.
كان هذا كلام خالة زوجي التي تحاول أن تلطف الأمور؛ حتى يمر الوقت ويتم البناء، وفعلًا صدقت وتركت سنية تلك الفتحة الكبيرة في الجدار الذي بيننا؛ لنتحدث منها ونتبادل حاجيات الدار، ولكن لم يمر الأسبوع الأول حتى أغلقتها بالطين، وقالت لي وهي تملأ الماء من الترعة:
- معلش متزعليش إني قفلت الطاقة يا أختي، أصل جوزي بيقول البص على الطيور بيخليها تموت.
* * *

تُمن شاي
لم تكن تلك الليلة مثل الليالي السابقة؛ الجميع نيام كعادتهم بعد صلاة العشاء، أنا فقط التي تمتلك عيونًا ساهرةً متطلعة لشروق شمس يوم الأربعاء، ذلك اليوم الفارق في حياتي للأبد؛ فهو بالنسبة لي حياة أو موت.
قبل هذه الليلة بسنواتٍ طوال، كنت تلك الفتاة الصغيرة صاحبة الإحدى عشرة عامًا، سمعت أبي وهو يصرخ في أمي ويقول:
- البت فاضل لها أسبوع على الجواز، وسيباها تلعب مع العيال في الطين يا ولية يا هاملة.
لتأتي أمي وتمسك بي، وتنهال باللكمات والضربات على جسدي الصغير:
- هتفضحينا يا اللي تنفضحي، يقولوا إيه عليكِ؟! عيلة ولسه بتلعب في الطين!
لم أفهم ماذا تقصد بهذه الفضيحة التي تحدث عندما ألعب في الطين، سنوات طوال وأنا ألعب في ذلك الطين ولم يعترض أحد، جاءت الماشطة وأخذت تتفحص جسدي وتتحسس صدري وأنا كالصنم لا أتحرك، لأجدها تضحك وتنظر لأمي:
- والنبي البت دي باجسة، شوفي يا أختي مش هاممها إزاي؟
لتضحك أمي:
- صغيرة مش فاهمة.
- يا أختي كلنا كنا صغيرين وكنا بنستحي، البت صدرها زي الليمون الأخضر، بس متقلقيش حشوة القطن هتظبط كل حاجة.
صدري مثل حبات الليمون الأخضر هكذا قالت الماشطة، والحل في حشوة القطن؛ حتى أبدو كالنساء في زي العُرس.
سألت أمي:
- يعني إيه جواز يا أمَّا؟
لتضحك وهي تحاول أن تداري بعض الخجل وتنظر للماشطة التي ترد عنها:
- عارفة الحلاوة البيضا اللي بتجيبها لك أمك من سوق الأربع؟
- أيوة عارفاها، دي حلوة جوي.
- الجواز بيخلي عندك الحلاوة دي على طول.
- صحيح يا أمَّا؟
لترد أمي وهي تتغامز وتضحك مع الماشطة:
- صحيح يا بت.
كنت سعيدة بالفستان، والألوان على وجهي، وكل هذه البهرجة والزينة، والحلاوة البيضاء التي لن تنقطع أبدًا، لتختفي تلك السعادة فجأة عندما ضغطت أمي على وركي النحيل، وكأنها تترك لي علامة تذكرني أن أكون صالحة وألا أصرخ عندما يدخل العريس بي.
أصرخ!! لماذا؟! ماذا سيحدث لي كي أصرخ؟ سيطر الرعب والقلق على نفسي، وتذكرت أفراح البنات السابقين في القرية وهذا المنديل الأبيض المختلط بالدماء الذي تخرج به الداية من حجرة العريس؛ لتُضرب طلقات النار في الهواء، ويهلل الجميع ويتبادلون التهاني والمباركات. ماذا سيحدث لي؟ ومن أين تأتي هذه الدماء؟
مر اليوم ومرت سنوات كثيرة على زواجي؛ الزواج هذه العلاقة الغريبة التي لا أفهمها وهؤلاء الصغار الذين أعطوني لقب أم. أنا أم! أنا التي ما زالت تحن لطفولتها البريئة، وتشتاق إليها عندما ترى هؤلاء الصغار في لعبة الغميضة يتضاحكون بسعادةٍ صافيةٍ لا يشوبها فكر أو هم.
كثيرًا ما تمنيت أن يعود الزمن لألعب معهم وأبتسم مثلهم، ولكن كيف وأنا أحمل هذا اللقب.. أم؟! لكن طبيعتي العنيدة لم تجعل الأمر يتوقف عند التمني؛ ففي لحظاتٍ من الجنون كنت أذهب في غفلةٍ من الجميع إلى خلف الدار، وأصنع هذه العرائس الطينية الجميلة وأنغمس معهم في حواديت وحكايات، وأصنع لهم حياة أكثر سعادة من حياتي، حياتي الغريبة التي تسير بمفردها وكأنها لا تخصني في شيءٍ، وعندما أنتهي من اللعب أخبئهم في أحد أكوام التبن أو في طاولة إحدى الحيوانات.
كانت كل الأيام متشابهة إلا يوم الأربعاء العظيم، يوم السوق الأسبوعي الكبير، هذا السوق الذي كانت تحتكر الذهاب إليه كبيرة الدار والمتصرفة الأولى في كل الأمور، صاحبة الكلمة التي لا تُرد .. حماتي، هذه السيدة القوية الحازمة التي تستطيع أن تُسكت جَمعًا كبيرًا من الرجال بكلمةٍ واحدةٍ منها.
سيدة قوية تدير الدار بكل حزم؛ تنظم كل شيءٍ، لها عشرة من الأبناء الرجال ولكل منهم زوجة وأولاد، والجميع في طاعتها وتحت تصرفها.
كانت تعرف كل صغيرة وكبيرة في الدار، حتى دبة النملة كانت تعرفها، ولا تنسى أبدًا، تغلق كل شيءٍ وتحتفظ بالمفاتيح في خيطٍ غليظٍ حول رقبتها، تعد الملاعق بعد كل غسلة للأواني، وتعد قطع اللحم وتربطهم بخيطٍ واحدٍ قبل وضعهم في قِدر السواء على الكانون، تعرف ما يدور من أسرارٍ داخل حجرات النوم وكأنها كانت معنا، ويُحكى عنها أيضًا أنها قتلت ذئبًا وأخرجت كبده وأكلتها نيئة.
لا أخفيكم أني أنظر إليها بكل إعجابٍ، وأتمنى أن أكون مثلها يومًا ما بالرغم من ضيقي الشديد من تزمتها الدائم، لكن قوتها وسيطرتها تروق لي؛ فأحفظ كل تصرف وكل كلمة تقوم بها، وأفرح مثل الصغار عندما تعود من السوق محملة باحتياجات الدار ومعها الحلاوة البيضاء الناعمة التي يحبها الجميع.
يومًا ما قالت لي:
- خدي يا بت، تعالي هنا. أنتِ مالك كده باصة لي وهتاكليني بعينك الواسعة البجحة دي؟!
لأرد عليها في بعض الخوف:
- لا والله يا أمَّا ده أنا بحبك وبتعلم منك.
لتنطلق منها ضحكة لا تتكرر إلا نادرًا، وتقول:
- عارفة .. أنتِ بت جدعة، ومرات الكبير يعني أنتِ الكبيرة بعدي، بس خلي بالك طول ما أنا عايشة مفيش حد يقدر يتنفس قدامي، وخصوصي لما تبقى واحدة عبيطة زيك لسه بتلعب بالعرايس. -تنظر لي أكثر وتبتسم- ولا تكونيش فكراني غايبة يا بنت!
تنحشر الكلمات في حلقي، ولكنها تكمل كلماتها وتسرب فيها بعض الحنية:
- ابقي خبيهم كويس يا موكوسة، وأوعي العيال تشوفك ليقولوا عليكِ هبلة.
لأنكب على يدها أقبِّلها وأجلس تحت قدمها أدلكها وأُؤكد محبتي لها، وأنها في مقام أمي الغالية.
أخذت أنظر إليها وأتمنى أن أصبح مثلها؛ حتى أتحكم في حياتي بمفردي، وأكون صاحبة قرارٍ قوي لا يرده أحد.
حتى جاء ذلك اليوم الذي لم أكن أتصور أنه سيأتي أبدًا؛ يوم رقدت مريضة في سريرها لا حول لها ولا قوة، يومها طلبتني وقالت:
- اسمعي يا بت، أنتِ اللي هتروحي سوق الأربع وتتسوقي للدار كلها بدالي، وإياكِ تنسي حاجة ولا تضيعي حاجة، ولو حصل عمرك في حياتك ما هتشمي ريحة السوق تاني.
لتنتابني حالة من الفرح المقترن بالخوف الذي يصل لحد الرعب؛ السوق إنه علامة القوة والسيطرة وبداية للحصول على لقب كبيرة الدار. هنا دارت الأسئلة كلها في رأسي، وبدأت تتزاحم حتى أني لم أعد أفهمها، لكن السؤال المُلح والوحيد الواضح كان هل أنا حقًا أستطيع؟
أشرقت شمس الأربعاء، وارتديت الملس الأسود الخاص بحماتي، الملس الوحيد المخاط به سيّالة، هذا الجيب السحري الذي نحتفظ فيه بالمال؛ حتى لا نتعرض للسرقة، وأكملت الزي بالطرحة السوداء الطويلة التي تغطي كامل رأسي، والحذاء البلاستيكي الأسود اللامع الذي ننتعله في المناسبات الهامة فقط. حملت القُفة في أحضاني وانتظرت، لحظات ثقيلة تمر وكأنها سنوات طوال حتى سمعت ذلك الصوت:
- عربية السوق وصلت.
لأنتفض وأخرج مسرعةً وأجلس على العربة الكارو، وبجانبي هؤلاء السيدات العظيمات وكلٌ منهن تسأل عن صحة حماتي الغالية وتتمنى لها الشفاء، ثم يتضاحكن ويتغامزن؛ لأن مرضها فرصة ذهبية لي لأصبح سيدة الدار.
تنطلق العربة، وطول الطريق لم أنطق بكلمةٍ، ولكن عقلي يراجع كل طلبات الدار مرات ومرات حتى لا أنسى شيئًا. ومن حينٍ لآخر أطمئن نفسي وأقول بلا صوت:
- الفلوس في السيّالة، والبضاعة في السوق، وأنا فاكرة كل حاجة بالتنتوفة، كله ساهل إن شاء الله.
إلى أن وصلنا السوق هذا المكان الكبير الذي يصل لحد الضخامة، تزاحم شديد وتخبط، بضائع كثيرة ومتنوعة، أصوات عالية متداخلة، كل ذلك جعلني أرتجف للحظة، وأشعر بغمة نفس ودوران الأرض من تحتي، لأعود إلى ثباتي بعض الشيء عندما أسمع صوت سائق العربة وهو يقول:
- هرجع لكم هنا بعد ساعتين، وحياة النبي محمد ما حد يتأخر مش ناقصين عطلة.
لتنطلق السيدات وأنا معهن وما زلت أردد:
- الفلوس في السيّالة، والبضاعة في السوق، وأنا فاكرة كل حاجة، أيوة فاكرة كل حاجة.
وتبدأ الرحلة وأشتري الحاجيات بكل سهولةٍ، وأكتشف أني أستطيع وأن التسوق أمرٌ سهل وممتع جدًا.
اشتريت كل شيءٍ حتى تلك الحلاوة البيضاء الناعمة التي ينتظرها الصغار، وأنا أنتظرها أكثر منهم، لكن لماذا أنتظر وهي في يدي؟! فأنا كبيرة الدار ويمكن أن أتذوق الحلوى الآن. جلست على جانب الطريق؛ لأتذوق بعضًا منها وأراجع كل شيءٍ من البداية، وأتأكد أن كله تمام، ولكن اكتشفت المصيبة التي أنستنيها لهفة تذوق الحلوى.
وقت الرجوع للعربة اقترب، وأنا قمت بشراء كل الأشياء إلا تُمن الشاي ولم يتبقَ معي نقودًا، حماتي أعطت لي النقود كاملةً أين ذهب ثمن تُمن الشاي؟ كيف أعود من غيره؟ ماذا أقول؟ هل النقود ضاعت؟ كيف أفشل؟ كيف يبدد تُمن شاي كل أحلامي؟
أخذت أبكي وأتحاشى أن يرى أحدهم دموعي، ويعلم مصيبتي ويخبر الجميع، غامت الدنيا مرة أخرى في عيني، وبدأت الدنيا تدور حولي في دوائر تسحبني لقاع الأرض، تمنيت أن يتوقف الزمن أو تقوم القيامة لأنتهي من هذه الورطة، لينقشع السواد فجأة ويتجدد الأمل عندما رأيته يلمع في ضوء الشمس؛ فاتسعت عيناي وأنا أنظر لهذا الخلخال الفضي الذي يزين ساقي؛ إنه الحل بلا منازع! الحل الذي سيحمي لي أحلامي ومستقبلي القادم. وفي غفلةٍ من الجميع وضعت قدمي خلف قُفة البضائع وخلعت فردة الخلخال اليمنى، وذهبت لبائع الشاي، وقلت له:
- فردة الخلخال دي فضة، هرهنها عندك للسوق الجاي وهاخد تُمن شاي ناعم.
يبتسم بخبثٍ:
- أول مرة لكِ في السوق مش كده؟
- أيوة أول مرة.
- أنتِ من دار مين؟
- وأنت مالك أنت، دار مين ولا مش دار مين، هتاخدها وتدهولي ولا لأ؟
ليبتسم الرجل ويوافق وكأن الأمر ليس بجديدٍ عليه ويضع في يدي تُمن الشاي؛ فأتنفس وأنصرف من أمامه مهرولةً إلى العربة التي كادت أن تتحرك بدوني، لتنظر لي إحدى النساء في لؤمٍ:
- كان هيمشي ويسيبك، مكنش مستحمل روحه.
لأرد عليها وأنا أستوي في جلستي:
- يمشي! مشيت عليه بطنه، هو يستجرى! طيب والنبي كنت سودت عيشته.
ليعتذر السائق:
- والنبي ما قلت حاجة يا ست، وعمومًا حقك على راسي يا ست الكل.
لتنطلق العربة ولديَّ هذا الشعور الغريب، هذا الخليط بين العزة والفخر والقوة؛ لقد اتخذت قراري بمفردي، تخلصت من قلقي، لقد كبرت .. نعم كبرت.
تصل العربة إلى البلدة ليستقبلنا الصغار بهتافٍ وفرحٍ لانتظارهم الحلوى البيضاء الناعمة التي نحملها لهم:
- عربية السوق رجعت، الحلاوة جت من السوق يا عيال.
أنزل أمام داري وأسمع إحدى النساء تقول لي:
- هنستناكِ السوق الجاي بقى.
لأرد عليها بكل ثقةٍ:
- أومال إيه، إن شاء الله.
أدخل الدار وأهرول إلى حماتي؛ لأعلن لها انتصاري وفوزي في المعركة، لأجدها تتفحصني وتقول بصوتٍ صحيح بعيدًا عن رنة المرض:
- حلو السوق مش كده؟!
- حلو قوي يا أمَّا.
- قربي هنا يا ست الدار، ارفعي رجلك يا بت.
- رجلي! ليه يا أمَّا؟
- ارفعي يا بت متوجعيش جلبي.
فأرفع رجلي اليسرى لتنظر إليها وتقول:
- اليمين.
أبتلع ريقي الذي تحجر وأرفع رجلي لأجدها تتحسس مكان فردة الخلخال.
- نزليها يا عدلة.
ثم تتنفس وتبتسم وتقول:
- عارفة يا بت أنتِ لو كنتِ رجعتِ بحاجة ناقصة من السوق ومتصرفتيش، كنت خليته طلقك وجوزته ست ستك اللي تعرف تتصرف.
ليتهلل وجهي وأبتسم وأجلس تحت قدميها وأقول:
- طيب دلوقتي بقى؟
- دلوقتي طلعتِ جدعة، ومن اليوم ورايح أنتِ بس اللي هتروحي السوق، ومتنسيش ترجعي خلخالك يا فالحة.
لأبتسم أكثر وأشعر بالانتصاروالقوة لأول مرة في عمري، تعتدل حماتي ويعود صوتها للخنوع:
- هاتي حتة حلاوة يا بت ريقي مر.
- حاضر يا أمَّا.

* * *

قطعة بسبوسة
لم تكن الرسالة التي وصلت لي من أمي وأنا في بلاد الغربة رسالة عادية؛ فهي تعرف كم أحب هذا الرجل الذي رحل عن العالم دون أن أودعه.
إنه جدي العجوز صاحب الابتسامة المشرقة والقلب الطيب، كان يستيقظ قبل الفجر، يتوضأ ويخرج من الدار ليصلي في الأرض، ويدعو الله دائمًا أن يُدفن في أحضانها.
كان متيمًا بها حتى أنني لم أكن أعرف وأنا أنظر إليهما معًا هل هو منها أم هي منه؟ أو مَن منهما جاء أولًا؟ هل هي أمه حقًا كما تقول جدتي؟ فهو له نفس اللون الأسمر الهادئ، والخطوط على جبينه مرسومة بعناية مثل الخطوط هي التي يصنعها المحراث على سطحها، حتى زرقة عينيه كانت كزرقة الماء الذي يرويها ويزهرها.
الأرض كانت قطعة من جدي، قطعة من روحه، كانت أنفاسه التي تهبه الحياة.
بكيت كما لم أبكِ من قبل، وتذكرت تلك الأيام البعيدة عندما كنت أسافر في الإجازة الصيفية لتلك القرية البسيطة التي تحتضن الطبيعة الصافية بداخلها، لتعزلها عن هذا العالم الرمادي المجنون.
فترة ما بعد الظهيرة كانت أحب الأوقات إلى قلبي، كنت أذهب إليه مع خالتي الكبرى، أنا أحمل منديل الغداء وهي تحمل القُلة الفخار، كان يبتسم بسعادةٍ غامرةٍ عندما يرانا، يترك الفأس ثم يستلقي في ظل شجرة الصفصاف الوارفة لتناول الغداء.
في إحدى المرات وهو يمسح قطرات العرق التي تتسابق على جبينه وقعت عيناه على مجموعةٍ من الحشيش الضارة التي اقتحمت مملكته الحبيبة؛ فهب من مكانه والتقط القَدوم الخشبي الصغير وأخذ ينزعها بلا رحمة، ثم يربت على الأرض بكفه الضخم ليساويها ويعيدها سيرتها الأولى، وكأنه يداوي جُرحًا لحبيب! بعدها يفتح المنديل ويبدأ في تناول الطعام وهو مستريح.
- مش هتغسل إيدك يا أبا؟
هكذا قالت خالتي ليبتسم متهكمًا:
- من إيه! من الطين؟! منها وإليها يا بنت أبوكِ.
- طيب أنا همشي بقى، عندنا خبيز.
تقول خالتي جملتها وهي تنظر لي فأهز كتفي لأخبرها بدون كلام أنني سأبقى مع جدي؛ فتنصرف غير عابئة بي، بعدها ألتفت لهذا الرجل الجالس أمامي وأتساءل بطفولية بريئة:
- جدي، أنت ليه بتحب الأرض قوي كده؟ حتى وأنت بترتاح ماسك القدومة وبتنضفها.
ابتسم لي وقال:
- الأرض دي هي الخير، مفيش حاجة تقع عليها إلا وتزيد وتكتر، ولو عايزة الخير ده لازم تراعيها، الأرض حضن ميحسش بدفاه غير اللي يحبها وتحبه، أنتِ عارفة إني كنت هموت علشان الأرض دي؟
- تموت! إزاي يا جدي؟
- كان فيه ناس طماعين عايزين ياخدوا الأرض بالعافية، حاربناهم أنا وأصحابي شفتهم بيموتوا قدام عيني ودمهم بيختلط بالأرض، بعد ما انتصرنا ورجعنا الأرض حلفت لأخضرها وأرعاها لغاية ما أموت، عارفة وإحنا بنحارب...
كنت أستمع إليه وهو يتحدث عنها وكأنه عاشقٌ يهيم في محاسن حبيبته، كنت أنظر إليه وأسافر بعيدًا إلى أعماق هذه الأرض، وأتساءل هل الأرض تشعر بمحبته؟ هل تحبه مثلما يحبها؟ لأنتبه على صوته مرة أخرى وهو يقول:
- ها .. تحبي تجربي؟
- أجرب إيه يا جدي؟
- تزرعي بإيديك.
- يا ريت.
ينهض ويخرج سكينه من جيب جلبابه المعلق على الشجرة، ثم يقطع شريحةً دائريةً من ثمرة الطماطم ويحفر حفرةً صغيرةً في الأرض، ثم يضع الشريحة فيها وينهال عليها بالتراب، ثم يرويها ببعض القطرات من ماء القُلة.
- شوفتي اللي عملته ده، هيطلع كذا شجرة طماطم بشرط لازم تراعيها، مش تزرعيها وتسبيها تنشف.
قدم لي السكين وابتسم لأفعل مثله؛ فقمت بقطع شريحة ثانية من الطماطم وزرعتها بنفسي ورششت عليها الماء، ليبتسم أكثر ويقول لي:
- دلوقتي بقى لك في الأرض زرعة يا قلب جدك، خلي بالك عليها.
هكذا كان جدي مع أرضه ومعي، لكنه في عالم آخر كان دائم الشجار مع جدتي التي لا تريد أن يتعلم أبناءها الفِلاحة، وتسعى دائمًا لإحضار أنفار بالأجرة للقيام بالعمل، وكانت تقول:
- أنا عايزة ولادي أفندية مش فلاحين.
ليرد جدي بعصبية:
- ولما كل الناس تبقى أفندية مين هيراعي الأرض؟!
ثم يتركها وينصرف غاضبًا للقاء محبوبته السمراء التي لا يقدرها أحد.
في اليوم التالي، ذهبت إلى دكان القرية، ومعي بيضة الإوزة الكبيرة التي أعطتني إياها جدتي بعد عملٍ شاقٍ لمدة أسبوع كامل في ترتيب الدار، وإعداد الغداء، وعجن وخبز العيش لأبادلها بقطعة بسبوسة.
هذه البسبوسة التي يحبها جدي العجوز صاحب الأسنان المتساقطة؛ يحبها لأنها تُبلع بسهولة وبدون عناءٍ، وغالبًا ما يأكلها بعيدًا عن جدتي حتى لا تغضب منه، وإن كانت دائمًا غاضبة من كل شيءٍ وعلى أي شيءٍ.
حصلت على غنيمتي وذهبت إلى جدي في موعد الغداء، وعندما جلسنا قلت له بعد أن انصرفت خالتي أن يغمض عينيه، وأخبرته أني أحضرت له هدية وقد عملت طوال الأسبوع مع جدتي مقابل ثمنها.
أخرجت هديتي وقدمتها له، ليفتح عينيه ويطيل النظر في وجهي الصغير ويذرف دمعةً ثم يحتضني بقوة.
- أنت بتعيط يا جدي! ده أنا جبتها علشان تفرح.
أخذ يمسح دموعه ثم أمسك وجهي بين يديه بحنانٍ وقال:
- لا يا حبيبتي، مين قال لك إني مش فرحان؟ دي دموع الفرح يا أحلى حاجة حصلت لي في الدنيا.
احتضنني وقبَّل خدي، ثم قسَّم قطعة البسبوسة بيني وبينه، وبدأ في تناول قطعته بسعادة، لكن أنا أسرعت وأمسكت بالقَدوم الخشبي وأخذت أحفر حفرةً صغيرة في الأرض وأضع فيها قطعة البسبوسة، وأغطيها بالتراب ثم أرشها بالماء.
فسألني متعجبًا عمَّا أفعل فقلت له:
- بزرعها يا جدي، علشان تطرح شجرة بسبوسة كبيرة، وتاكل منها كتير من غير ما حد يعرف.
لتنطلق ضحكته وترن في هذا الفضاء الجميل، ويحتضنني مرة أخرى بقوة.
ذهبت إلى القرية بعد كل هذه السنوات فلم أجدها، نعم لم أجدها؛ فقد تبدلت أصبحت مسخًا دميمًا من المدينة، بُدلت مبانيها الطينية بالطوب الأحمر على حساب الأراضي التي بار معظمها، ملابس النساء الملونة التي كانت تحضر الربيع قبل موعده أصبحت سوداء قاتمة، أطباق الاستقبال فوق أسطح كل المباني، جدتي لم تعد تخبز في الفرن الطيني بالقش وأقراص الجِلة، أصبحت تشتري الخبز من فرن العيش السياحي.
رحلت القرية التي كنت أعرفها، رحلت عندما رحل الرجل الطيب وأنا لا أعرف هل أخذها معه؟ أو أخذته إليها؟ سألت عن موته قالوا كان يصلي في الأرض، سجد ولم يعتدل، وترك وصيةً ذكر فيها اسمي ولن تُفتح إلا بحضوري، وترك لي خطابًا خاصًا.
تركتهم وذهبت إلى الأرض، وفرح قلبي أن شجرة الصفصاف ما زالت باقية، جلست في ظلها ونظرت لتلك الأعشاب التي زادت واستوطنت بأمانٍ، ووجدت القَدوم الخشبي مسنودًا على جزع الشجرة مثلما وضعه بيده قبل أن يرحل، وجدت نفسي أمسك القَدوم وأزيل هذه الأعشاب وكلماته في أذني فأبكي وأبكي حتى أصابني التعب، مر بعض الوقت وتذكرت الخطاب ففتحته لأجد تلك الكلمات:
- لا تحزني يا ابنتي، أنا الآن مع الحبيبة، أحيا فيها من جديد، أنا في كل نبتةٍ خضراء تولد، وفي كل ثمرةٍ وفي كل زهرةٍ، أنا في كل شبرٍ من حولك، الموت ليس فناءً يا ابنتي، فأنا أحيا فيها مثلما كانت تحيا بداخلي، الآن الأرض لكِ أنتِ؛ فأنتِ مَن زرع شجرة البسبوسة.

* * *

كوم قش
كان اللقاء الأول بيننا منذ أربعين عامًا، توقف عندما رآني مارةً أمامه وأنا أستعين بذلك بالعكاز الضخم؛ ليثبت حركتي التي لم تعد متزنة، لم أنتبه له إلا عندما سمعت صوته الذي أعرفه وأميزه جيدًا مهما مر من الوقت وهو يقول:
- إزيك يا وداد.
شعرت بتلك الخطفة القديمة التي كانت تنتزع قلبي من مكانه بلا رحمة، اعتقدت أنها اختفت أو تبددت مع الزمان، لكن الواضح أنها كانت كامنةً في بياتٍ طويلٍ حتى عادت تتنفس مع رنة صوته وهو يردد اسمي؛ تنفست بعمقٍ لأشعر ببعض الاتزان، ثم نظرت إليه؛ في البداية لم أرَ غير عينيه الجميلتين اللتين سافرت داخلهما لثوانٍ، ثم استعدت نفسي مرة أخرى لأرى تلك الكسرات التي تحيط بهما، لتخبرني كم كانت سنوات الفراق! وهذا الشعر الأبيض الذي كسا رأسه وذقنه الطويل غير المهندم. عجيب فعل الزمان بهذا العايق الذي كانت تتهافت عليه البنات في زمنٍ مضى:
- إزيك يا ابن خالتي.
لتنطلق ضحكته وهو يقول:
- لسه بتقولي ابن خالتي، مش هتناديني باسمي أبدًا.
لأبتسم له وكأن الزمان لم يمر وعدنا صغارًا أصفياء النفس والبال:
- ياه .. لسه فاكر.
ليرد بعد تنهيدةٍ مكتومة شعرت بلهيبها داخل صدري:
- وعمري ما نسيت.
ثم مد يده ليصافحني فتستكين يدي في يده، وأتذكر كل شيء؛ فأنا لم أنطق اسمه يومًا، ونحن صغارٌ كنت دائمًا أناديه ابن خالتي بالرغم من أني أعلم أنه يحب أن ينادَى باسمه فقط، لكن كنت أحب مشاهدته وهو غاضبٌ لينط مثل فرقع لوز داخل هذا الجلباب الكستور المخطط، فيلتف حول قدمه ليقع رأسًا على عقب، كثيرًا ما كان يفعلها متعمدًا لأضحك ويضحك على ضحكي، كنا صغارًا نلهو ونلعب ونضحك ولا يوقفنا إلا صوت أمي وهي تقول:
- الجدع فيكم اللي هيجمع الدَّحْي التايه ويملأ الصفيحة بتاعته، واللي هيملاها الأول هدي له حتة حلاوة، وهجيب له فلافل سخنة من سوق الأربع.
كانت تلك الكلمات كفيلة بتوليد شعور المنافسة بيننا جميعًا، كلٌ منا يحمل صفيحته ويبحث عن البيض الذي باضته الطيور في أماكن غير الحظيرة، وأنا كنت أعرف الأماكن السرية التي تصطفيها الطيور للقيام بتلك العملية؛ لذلك كنت أهمس لعَلِيّ أن يتبعني وننطلق لتلك المخابئ ونجمع البيض بسهولة؛ حتى يمتلئ الإناء على آخره ونفوز بالحلاوة والفلافل الساخنة، والكثير من الضحكات والمرح.
في أحد الأيام ونحن نقوم بتلك العملية المعتادة ونتوقع الفوز كالعادة، لم نلاحظ أن هناك مَن يتبعنا ليعرف السر؛ ماهر ابن عمتي. عمتي الكبرى الغنية التي تنقلب الدار رأسًا على عقب عند زيارتها، وتحاول أمي إرضائها بشتى الطرق حتى أنها تذبح حمامًا، وبطًا، وتدس الأرز المعمر بالقشدة والسمن البلدي. ماهر يكبرنا بعدة سنواتٍ، له شنبٌ يشبه قليلًا شنب الكبار، لكن عقله أصغر من عقل النملة. لا أعرف لماذا يلعب معنا؟ أو يهتم بجمع البيض وهو يأكل الحلاوة والفلافل وقتما شاء؟
أراد أن ينتزع مني صفيحة البيض بالقوة؛ فاشتبك معه علِيّ الذي كاد أن يهزمه بالرغم من صغر حجمه، لكن ماهر عندما شعر بقرب الهزيمة ترك علِيّ وخدعنا أنه ينهي الشجار، ثم دفع بي فجأة لأسقط من فتحة السطح إلى صحن الدار! ولولا تلك الكومة الكبيرة من القش لكنت في عداد الموتى، غبت عن الوعي وآخر ما شعرت به كان يد أمي وهي تحملني. لا أعلم كم مر من الوقت لكن عندما فتحت عيني وجدت أن الليل قد حلّ بظلامه الدامس، وبتلك القماشة الملفوفة حول رأسي.
مر الليل وحلّ النهار، وعلمت أن هذا العبيط الذي يُدعى ماهر قال للجميع أنه أمسك بي مع علِيّ ونحن نلعب عريس وعروسة؛ لذلك ضرب علِيّ بشدة لينتقم منه، أما عني فقد هربت من الخوف فسقطت من فتحة السطح. ذلك الكاذب المدعي الذي كان سببًا في عدم عودة علِيّ للعب معي مرة أخرى، كرهت هذا الكاذب الماكر المدعو ماهر، وأصبحت الأيام كئيبة فلم أعد أحب جمع البيض أو اللعب مع الأطفال، حتى الحلاوة والفلافل الساخنة لم يعد لها طعم في فمي.
مرت سنوات ولم أكن أرى علِيّ إلا في المناسبات، والأعياد، والزيارات العائلية، في معظم تلك اللقاءات كان يتحاشى الحديث أو حتى الاقتراب مني. بعدها غاب فترةً عن تلك المناسبات ثم عاد، ولكن كأنه تبدل؛ أصبح متجهمًا في وجهي مهتمًا بمظهره وملبسه وبنظرات البنات، الغريب أن البنات أيضًا كانت تهمس باسمه وأنه الواد الحليوة العايق.
تبدل علِيّ، لم يعد ذلك الصبي الصغير الذي يلعب معي؛ كنت أتعمد مضايقته لأنتقم من تلك المشاعر الغريبة في قلبي، فأقول له:
- إزيك يا ابن خالتي.
فيرد وهو متجهمٌ بشدة:
- أنا ليَّ اسم، ولو مش عرفاه اسألي أي بنت في العزبة هتقوله لك، وبعدين بطلي هبل بقى أنتِ كبرتِ خلاص.
لأخرج له لساني وأنصرف عنه أصعد للسطح مع العيال، ثم نقفز جميعًا من الفتحة لنقع على كومة القش الكبيرة، ونعيد الكَرَّة مرات ومرات ونحن نضحك بسعادة غامرة، كنت أضحك بصوتٍ عالٍ لأجعله ينظر رغمًا عنه، لكنه لم يكن يهتم أو هكذا يظهر.
لم أستطع أن أفسر مشاعره، هل هو حزين؛ لأنه لم يعد يلعب معنا؟ أم أن الضحك والمرح الطفولي البرىء أصبح مصدر ضيقٍ له؟
انصرف الأطفال عندما سمعوا صوت بائع الجرانيتة، وبقيت أنا أصعد وأقفز بمفردي وهو ما زال يشاهد في صمتٍ، فقلت له:
- ما تيجي تجرب ولا علشان طولت فبقيت عبيط زي الطوال.
لم أكن أتوقع أنه سيأتي، ولكنه فعلها ووقف أمام الفتحة ناظرًا لأسفل كأنه يفكر هل يفعلها؟ أو يتراجع؟ لكني لم أمهله لهذا التفكير دفعته في غفلةٍ منه ليقع على كومة القش، وقفزت خلفه فضحك ضحكته القديمة لتعود الابتسامة ويعود معها علِيّ الذي أعرفه، بعدها أخذنا نتسابق حفاة على السُّلم الطيني الطويل، ونقفز سويًا من فتحة السطح، لنسقط فوق كومة القش تلك الكومة الحانية التي تحملنا دائمًا.
كنا نسمع صوت أنفاسنا، الصدور تعلو وتنخفض لأشعر بالتعب فأستلقي على ظهري وأنا أضحك بقوة، فيقطع علِيّ ضحكته فجأة ويطيل النظر في عيني ثم يقبّلني!
لم أفهم ما حدث، أبعدته عني وانصرفت مسرعةً دون أن أنطق بكلمةٍ، كل ما كنت أشعر به هو أنني أتمنى أن يحدث ذلك مرة أخرى.
مر أسبوعٌ ثم جاء وأنا في طريقي للغيط لتوصيل منديل الغداء لأبي، وهمس لي:
- أنا بحبك يا وداد، وعايز أتجوزك.
لأرد عليه:
- ماشي.
- ماشي إيه؟ بقولك بحبك وعايز أتجوزك.
- وأنا قلت لك ماشي يا ابن خالتي، هو أنت كل ما بتكبر بتستغبى ليه.
ليمسك يدي بقوة ويديرني ناحيته ويقول:
- بصي بقى لما نتجوز مش عايز أسمع ابن خالتي دي تاني، عايزك تقولي لي يا علِيّ قولي كده .. علِيّ علِيّ .. قولي.
فقلت له وأنا أسبقه بخطواتٍ:
- مش قلت لما نتجوز، يبقى لما بقى يا ابن خالتي.
ليسرع ويلحق بي ويبتسم ثم يحمل عني منديل الغداء والقُلة، ونسير متجاورين وكأن هناك عقدًا قد عُقد بيننا بدون كلام.
بعد مدةٍ، أعلمتني أمي أن ماهر ابن عمتي تقدم لخطبتي وأبي وافق، ولا بد أن أستعد للزفاف القريب؛ فأسررت لها عما دار بيني وبين علِيّ لتنهرني بشدة؛ لأنه فقير لا يمتلك قوت يومه على عكس ماهر المتعلم صاحب الأراضي والأطيان.
كانت تلك هي النغمة السائدة التي لم تشفع معها دموعي وتوسلاتي، ثم علمت من أمي أن علِيّ سافر بعقد عملٍ للخارج، سافر فجأة دون أن يتحدث معي، دون أن يبرر لي، دون أن يحارب من أجلي، سافر وتركني!
تزوجت ماهر مغصوبة، بعد فترة اكتشف أنه لم يكن شخصًا سيئًا مثلما كنت أتصور على العكس كان عطوفًا طيبًا كريمًا لأبعد الحدود، عشت معه سنوات كثيرة في سعادة صنعها لي بكل ما يستطيع حتى تركني هو الآخر ومات.
رفضت الزواج من بعده، لا أعلم هل كان ذلك من أجل أبنائي الخمسة فقط؟ أم لأنني أعلم أن علِيّ لم يتزوج بعد؟
حتى قابلته اليوم في فرح ابني الأصغر آخر العنقود، قابلته ورأيت ابتسامته التي أحبها، وعندما أردت أن أناديه ناديته بابن خالتي ولم أناديه باسمه؛ يبدو أن الوقت قد فات على ذلك، ولم يبقَ لنا إلا تلك الذكريات والضحكات الصافية.

* * *

لسانان
أصابهم الذهول ولساني المقطوع الذي سقط على حذاء أحدهم يخرج لسانه لهم ويضحك في سخريةٍ، ثم نبت له جناحان ليطير ويستقر في فمي ومعه صديقه الجديد؛ فأصبحت بلسانين بدلًا من لسانٍ واحد.
إنها أنا صاحبة القوة الخارقة التي لا يستطيع أحدٌ ولا شيء أن يوقفها حتى الأسلحة في أيديهم، ارتجفوا وتقهقروا للوراء عندما اقتربت منهم، وعندما اقتربت أكثر نفخت في وجوههم ليهربوا مسرعين للخارج البعيد، لأعود بهدوءٍ وأكمل مقالتي التي ستنشر في صحيفة الغد.
كنت طفلةً صغيرةً سمراء نحيفة بسيقان مثل عيدان الكبريت، تلتف حول نفسها دائمًا وتسقطني بلا رحمة، وشعرًا أشعث متشابكًا بحدة يرتفع فوق رأسي كشجرةٍ تسكنها الغربان.
أمي ليس لديها وقت لترتب مظهري أو مظهر إخوتي، ليس لديها الوقت لتطعمنا حتى فهي تعمل طوال اليوم في شقة الست الهانم، هكذا كانت تحب أن يناديها الجميع وخصوصًا أنا. أتذكرها جيدًا، كنت أحمل لها الصحف كل صباحٍ؛ لأتأمل حجمها الضخم، وذلك الوجه المتجهم الخالي من الألوان، والذي يتلون فقط عندما يظهر على التلفاز.
وفي يومٍ ضحكت وأنا أشاهدها على الشاشة؛ كانت تقول كلماتٍ أحفظها وأنطقها معها مثل: التعليم حق للجميع، والأطفال مستقبل الوطن فتضحك أمي وتقول:
- عقبال ما أشوفك أستاذة كبيرة كده.
لأقطع كلماتها وأقول:
- أمَّا هي ليه الست هانم بتتلون هنا بس، لكن في شقتها بتكون أبيض وأسود؟
لتبتسم أمي ابتسامةً خفيفة، ثم تضم شفتيها وتنظر لي وتقول:
- اوعي تعيبي على خلقة ربنا يا بنتي، كل واحد حر في حياته، واللي ينكشف على حرمة البيوت لا بد يحفظها وميطلعهاش بره.
أمي سيدة طيبة أصولها ريفية بسيطة، تزوجها أبي وأحضرها معه إلى القاهرة؛ لتربي أبناءه الستة من زوجته المتوفية، وتساعده في شئون العمارة وطلبات السكان. أنجبتني وأخي لنصبح ثمانية، أبي شخص متذمر دائم الشكوى، لا يمكن أن يرضيه شيء أبدًا، لافت عليه حسنية المصراوية المتقصعة كما تقول أمي دائمًا، لا يزورنا إلا في الأعياد، مسئوليتنا الكاملة كانت على أمي إلى أن أصابه المرض وتركته حسنية؛ لأنها لافت على علِيّ الجزار الغني، ليعود أبي مكسورًا ذليلًا يعيش معنا في تلك الحجرة تحت السُّلم، وأمي تمرضه وترعانا وتعمل لدى الست الهانم صاحبة العمارة المتجبرة التي تتحملها أمي؛ حتى لا نجوع، وتحمل لها الجميل لأنها لا تأخذ الإيجار من يوم مرض أبي، وفي بعض الأحيان تعطي لأمي بعض ملابس أبنائها القديمة وبعض الطعام.
حتى جاء ذلك اليوم، يوم تحولت أمي لوحشٍ كاسر فتك بالست هانم؛ عندما لطمت وجهي فنزف أنفي بشدةٍ، وسقط قرط أذني الذي انقطع! يومها صعدت لأوصل الصحف ككل يومٍ، فطلبت مني الست هانم أن أدخل لأساعد أمي، وعندما دخلت وجدت ابنها الصغير يلعب فتسمرت أراقبه وأراقب تلك الكومة الضخمة من الألعاب، وهذا الجيلاتي الأبيض الذي يسيل على فمه وملابسه، لأبتلع ريقي وأنا أشتهيه بشدة لأراها تتقدم مني وتعنفني، وتقول:
- خضيتِ الولد بمنظرك ده.
فبكيت لتخرج أمي مسرعةً وتعتذر للهانم وتهزني من كتفي، وتقول:
- مش قلت لك يا بت متطلعيش هنا تاني، من بكره أنا اللي هجيب الجرايد.
لترد الهانم:
- لا تطلع وتساعدك، بس ملهاش دعوة بالولد.
فتقول أمي:
- معلش يا ست هانم، أصل أنا عايزاها تتعلم ومش عايزاها تتمرمط.
لتنطلق ضحكةً غير مبررةٍ من الهانم:
- تتعلم! أنتِ لاقية تاكلي لما تعلميها؟ ريحي نفسك آخرها تبقى خدامة زيك.
فانطلقت مني صرخة في وجهها:
- أمي مش خدامة، أمي أحسن ست في الدنيا.
فتتعصب الهانم ولطمت وجهي بقوةٍ لأنقلب على ظهري ويسيل الدم من كل اتجاه، هنا كانت نقطة التحول التي لن أنساها أبدًا؛ أمي وكأنها طارت في الهواء، وانقضت على الهانم وأوسعتها ضربًا وهي تردد جملةً واحدةً:
- ولا عاش ولا كان اللي يمد إيده على بنتي أو يفكر يهنها.
بعد هذا الحادث وتدخل أولاد الحلال كنا في الشارع بلا منزل ولا مصدر رزق، قالت لي أمي وهي تبحث عن عملٍ جديدٍ:
- إلا الإهانة، اوعي تسمحي لحد يهينك أو يقلل من كرامتك، ومتخافيش طول ما معك الحق ربنا مش هيسيبك، ولو حد حب يقطع لسانك طلعي له لسانين.
ثم أحضرت لي كومة كبيرة من الجيلاتي الأبيض؛ لأتناوله وأبتسم وأشعر أن العالم ملك يميني.

* * *

نغم
يا له من يومٍ مشمس بعد أيامٍ طويلة من الغيوم، استحسنت الجلوس في الحديقة وقت الراحة لتناول الغداء، كنت أحاول أن أنصت لهذا اللحن الهادئ الذي تعزفه الطبيعة.
رأيته يقترب وهو يحمل تلك الابتسامة البلهاء، توقف فجأة وقطف زهرةً فانقطعت الألحان وساد الصمت الرهيب، أكمل طريقه متوددًا بلا تردد أو خجل، لتغادر عيني سريعًا تلك المساحة الباهتة على وجهه الأكلح، وتنظر إلى يده التي تقطر دمًا.
إنها تتألم، تحاول أن تصرخ بصوتٍ هزيل، تتوسل لي أن أنتقم لها.
أعدت النظر إليه وأنا أتساءل كيف تجرأ؟! ألم يعلم أنه يحرمها حق الحياة؟!
لا بد أنه يعلم ولكنها الأنانية التي تسيطر على نفسه المريضة، عقدت جبيني وأسكنت ملامحي كل ألوان الغضب؛ نهرته بشدةٍ فارتبك وألقى الزهرة على الأرض، ثم أدار ظهره وانصرف بعد أن دهسها بحذائه المدبب؛ ظنًا منه أنه يعاقبها لأنها لم تحقق له ما أراد.
لا يعلم أنه حررها وأعاد إليها الأمل؛ فعندما لامست الأرض تنفست وابتسمت، حملتها بإجلالٍ ووضعتها بين أحضان الشجر الذي أطلق سحر نغمات العودة.
مر اليوم وعدت إلى بيتي، وقبل أن أدخل المصعد سمعتها تغني من جديدٍ:
- الفرح باظ، وأبويا سابنا وطفش، بس أمي هترجعني المدرسة تاني، أصلها بتقول العلام حلو للبنات.
كانت تلك النغمات لابنة حارس العقار الذي أسكنه، عزفتها تلك الزهرة الصغيرة في أذني وهي تلعب الحِجلة مع الصغار على البسطة العريضة للسلم، ثم تتوقف عن اللعب لتقترب مني فأنحني لها:
- لما أكبر عايزة أبقى زيك، أمي بتقول إنك أستاذة كبيرة قوي، وشاطرة قوي قوي؛ علشان كده سمعت كلامك.
ابتسمت لها وابتسمت لي ثم انصرفت مسرعةً إلى عالمها، وأكملت طريقي إلى الشقة وأنا ما زلت أردد غنوتها في خشوعٍ وإجلالٍ.
هدى
البنت هدى جميلة الملامح، ممتلئة القوام، قصيرة القامة، مدورة مثل الكُرة الضخمة، هكذا كانت تصف نفسها دائمًا وهي تضحك وتنقلب على ظهرها، وتقول:
- والمصحف أجدع من قلبة الصرصار.
كانت مرحة لا تحب النكد ولا التكشيرة، ولديها القدرة على رسم الابتسامة في كل الظروف.
هدى بنت على ثلاثة ذكور، ويطلق عليها دلوعة أبيها الذي لا يرفض لها طلبًا، ويقال أنه مرة أحضر لها لبن العصفور!
كانت تأتي معي للدوار بعد انتهاء اليوم الدراسي؛ لنذاكر سويًا ذلك ما كانت تقوله لأبيها، أما الحقيقة أنها كانت تأتي لتستمتع بفطير دادة أم عبده الذي تعده بالسمن البلدي والقشدة.
أحب مشاهدة هدى وهي تأكل، وأشعر بلذة الطعام حتى لو لم أتذوقه وأقول لها دائمًا:
- بالراحة يا ملكومة هتفطسي.
لتنطلق ضحكاتها التي تهتز معها خدودها الحمراء الكبيرة، وتقول:
- ما إحنا كده كده هنموت، يبقى نموت وإحنا بناكل فطير أم عبده. مش بذمتك موتة ألاجة.
لم أكن أتخيل أن تذهب وتتركني، لم أكن أتخيل أن تموت! يوم علمت بالخبر ضربت على صدري وسقطت مغشيًا علَيَّ، لتمر أيام طويلة وأبي وأطباء المركز بجانبي طوال الوقت.
عندما استعدت وعيي بعد مرور شهرٍ كامل على رحيل هدى، ونصح الأطباء أبي أن يبعدني عن العزبة، وبالفعل تركت الدوار والقرية وذهبت إلى القاهرة المزدحمة؛ لأتوه فيها وأنسى، كانت معي دادة أم عبده، التي كانت لا تتحدث معي عن هدى حتى إن سألتها.
إلى أن جاء يوم كنت أحلم بضحكات هدى التي تحولت لصرخاتٍ تتوسل لي أن أقول الحقيقة، لأستيقظ من نومي وأنا أصرخ وأبكي بشدة؛ لتأتي أم عبده وتجلس معي، فأحلفها بكل غالٍ وأتوسل إليها أن تقول لي ما حدث؛ فترق لدموعي وتحكي تلك الحكاية المؤلمة.
أن هدى كانت على علاقةٍ بابن الكلاف الذي يعمل في دوار أبي، وقد وقعت معه في الخطيئة، ولم يكن أمام أبيها وإخوتها إلا قتلها لتطهير سمعتهم! وأن أبي العمدة قد أبلغ مأمور القسم الذي قبض على أهل هدى قبل قتلهم ابن الكلاف أيضًا.
لتنطلق صرخاتي وأنا أقول:
- مش هدى .. والله العظيم ما هدى .. أنا اللي.....
ثم تنقطع كلماتي ويلازمني الصمت، وأنطلق فورًا إلى العزبة وأتحدث لأبي، ولأعترف له بالحقيقة التي كادت أن تخرسه:
- أنا اللي بحب ابن الكلاف مش هدى، ومفيش حاجة حصلت بيني وبينه، هدى كانت بتوصل الجوابات بتاعتي بس، هدى مظلومة.
ليتنهد أبي ثم يخبرني أنها ماتت وانتهت ودُفن معها السر المخجل، وطلب مني ألا أتحدث في ذلك الموضوع مرة أخرى.
كنت أعلم أن أبي يخشى على العمودية التي توارثها أبًا عن جد؛ لذلك أمر بسفري لفرنسا لأعيش وأدرس مع أخي الأكبر، لكن ضميري لم يستكن يومًا وهو يحمل الحقيقة التي كُتمت بداخله بلا رحمة، وعلمت من دادة أم عبده في إحدى المكالمات أن الطب الشرعي أثبت عذرية هدى، وأن أباها مات في السجن حزنًا عليها.
* * *
الحَضرة
كان يجلس القرفصاء على عتبة داره المتهدمة في معظمها، ويرفع جلبابه الممزق إلى ركبتيه ليظهر ذلك الكلسون القطني المتهدل، والذي غادره اللون الأبيض من شدة الأوساخ. كان دائمًا ما يمرر يده ويزيح تلك الطاقية الحمراء الطويلة؛ ليحك رأسه الصلعاء بقوة مفرطة، يلف ورق البفرة ويبصق بين الحين والآخر.
بحكم جلسته على العتبة، وبحكم داره التي على الجسر الصغير الذي يعبر الترعة أيضًا كنا نستقبل السلامات من الغادي والرائح؛ فيرد تارةً ويلعن أخرى، وعندما زاد عدد المارة بدأ في التململ وأخذ ينادي على ابنته بصوتٍ عالٍ:
- يا وداد، أنتِ يا بت يا وداد.
لترد وهي تهرول إليه:
- أيوة يا أبا.
- خشي يا بت هاتي لي قُفة نلم فيها السلامات دي، كل اللي معدي وجارر له جاموسة ولا راكب حمار قال أيه يرمي السلام، ما إحنا شايفينكم وعارفينكم، هو أنا فاضي لهم.
تضحك وداد ضحكة مكتومة لينظر إليها ويكمل كلامه:
- بتفشخي ضبك على إيه أنتِ روخرى، اغلي لي شوية شاي يا فالحة، حبر يا بت خلينا نبلع، عالم دماغها فاضية.
كان قد اعتاد الجلوس على حافة تلك الترعة الصغيرة من حينٍ لآخر، في محاولةٍ لصيد ما قد تجود به من أسماكٍ غالبًا لا تظهر، إلا أن الحظ قد حالفه ذلك اليوم ليصطاد سمكتين.
وبعد ثوانٍ، يرى القطة الضخمة التي تسللت إلى جواره، وانتزعت نصف حظه كاملًا وهربت، فينتفض من مكانه وينفض جلبابه بعصبية ويجري خلفها، ثم يلتقط حجرًا ويقذفها به.
- غوري جالك غارة تاخدك أنتِ وصاحبك، بِسة سرّاقة.
ثم ينتعلني في قدميه لنذهب سويًا إلى مقام سيدي السيد، وهو ما زال يلعن ويسب جاره الذي لا يراعي حقوق الجيرة، ويطلق قطته لتسرق الناس.
أعلم أنه يكره ذلك الجار الذي رُزق بالبنين والبنات من زوجته الوحيدة الجميلة الغنية الهادئة، على عكسه هو فلم يُرزق إلا بتلك الفتاة رغم زيجاته الست!
عندما وصلنا أخذ يتحدث مع خادم المقام المعروف باسم سيدي العارف، والذي أخذ العهد من الشيخ صاحب المقام وأصبح العالم ببواطن الأمور وظاهرها والمفتي الوحيد لكل أهل القرية.
أخذ صاحبي يشتكي له ويطلب المشورة، فأفتى له سيدي العارف بعد أن أخذ المعلوم طبعًا، أن قتل القطة حلال لكن دون أن يغضب جاره، وشدد أن للجيرة حقًا عظيمًا.
كان ذلك حال صاحبي دائمًا؛ عندما تواجهه مشكلة يذهب ليأخذ المشورة من خادم المقام، ويدفع له الثمن ويجزل العطاء على غير عادته؛ ليحصل على المشورة التي يريدها حتى يفعل فعلته دون أن يشعر بأي ذنبٍ.
مر يومٌ وليلة، وكان صاحبي جالسًا على عتبة داره وأنا تحت فخده النحيل أحتمي من حرارة الشمس، فيدخل علينا الجار غضبانًا، ويمسك في يده جثة القطة الضخمة وهو يصرخ:
- أنت معندكش قلب علشان تقتل البِسة المسكينة كده، دي حيوان، كانت عملت لك إيه يعني ولا يعني عملت إيه ها؟!
ليبصق صاحبي على يمينه وينظر لجاره بنصف عين:
- طيب يا أخويا قول سلام عليكم الأول، وبعدين بِسة إيه دي اللي هقتلها؟! أنا مقتلتش حد. روح شوف مين اللي خزوجك يا حلو.
ليرد جاره بعصبيةٍ شديدة:
- يعني أنا بتبلى عليك يعني، ما هي في إيدي أهي، وأنت اللي قتلتها. أنا عارف وأنت عارف إنك الوحيد اللي في العزبة كلها اللي بتكره البِسة بتاعتي، هيكون مين غيرك يعني؟!
ليخرج صاحبي ورقة البفرة ويبدأ في لفها، ويكمل حديثه ببرودٍ شديدٍ:
- أنت زعلان على البِسة قوي كده ليه؟! ما أنت عندك كل حاجة هي جت على البِسة يعني.
ليرد الجار:
- يعني أنت اللي قتلتها؟!
فيبتسم صاحبي في شماتةٍ:
- أنا سميت السمكة بتاعتي وبستك اتطفست وأكلتها، أنا ذنبي أيه بقى، الحق عليك أنت اللي مخليها تطافس على بيوت العالم.
يرد الجار الذي كاد أن يبكي:
- ما أنت سميت السمكة علشان تقتلها.
يبصق صاحبي ما علق في فمه من البفرة ويقول:
- سمكتي وسميتها يا نعيم، لك حاجة عندي، بص روح اشتكيني للعمدة وقول له حافظ سم سمكته بتاعته اللي اصطادها بإيده، وبِستي الطفسة خطفتها وطفحتها وفطست. وشوف هيقول لك إيه بقى، كان نفسي أشربك شاي بس التموين خُلص.
لينصرف نعيم وهو حزين على قطته ويدعو على حافظ بكل دعوات الانتقام:
- منك لله يا شيخ، ربنا ينتقم منك، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
يبقى حافظ في جلسته وقد زاد عليها تلك الضحكة الصفراء التي أعرفها، والتي ترتسم دائمًا عندما يشعر بالزهو، وقد خرج صوتها شامتًا منتصرًا في جاره وأخذ يكمل لف البفرة وينفث الدخان بسعادة، وهو يقول لنفسه:
- رجل عبيط، بيعيط على بِسة! مش مكفيه كل اللي عنده، ناس طماعة بصحيح.
حافظ رجل بخيل لئيم، عاشرته طويلًا حاولت الفرار منه أكثر من مرة، لكنه دائمًا يخيط أجزائي الممزقة بيديه ويبقيني بجانبه حتى اعتدت عليه، وقد أكون أحببته فبالرغم من شخصيته الغريبة الناقمة على كل شيءٍ إلا أنه لطيفٌ ومضحك في كثير من الأحيان.
أتذكر يومًا كنا نعتلي الحمار في طريق السوق، فمر حافظ على شيخ الخفر بحماره دون أن يترجل، لا أعرف ماذا كان يدور في عقله ساعتها ليفعل تلك الفعلة الشنعاء والتي لم تمر بسلام؛ تقدم منه الخفر وأنزلوه عنوة عن حماره، ووبخه شيخ الخفر لسوء أخلاقه وعدم احترامه لكبار البلد، وأخذ منه الحمار كعقابٍ وتأديبٍ وأمر الخفر بجلده خمسين جلدة، ليرد حافظ على شيخ الخفر ويقول له:
- طيب يا شيخ الخفر، وحياة والديك أنا غلطان وابن ستين كلب، عبيط .. أنا رجل عبيط، هتعمل عقلك بعقلي برده؟ طيب بص خليهم مية ولا متين جلدة حتى مش مهم المهم الحمار، متخدش الحمار وحياة والديك.
لا يلتفت شيخ الخفر لتوسله، وينفذ الخفر الحكم بالجلد وحافظ لا يهتم رغم الألم، وكل ما يفكر فيه هو الحمار!
وعندما تنتهي العقوبة ينطلق بعدها مهرولًا وهو يحملني تحت إبطه، يجر نفسه لمقام سيدي السيد؛ ليشتكي له شيخ الخفر ويطلب منه أن يرد له حماره؛ فطلب منه خادم المقام أن يرجع إليه في اليوم التالي على وعدٍ بأن يدبر له الحل.
وفي اليوم التالي، تحدث معه خادم المقام واقترح عليه اقتراحًا غريبًا كاد أن يسبب له أزمةً قلبيةً؛ اقترح عليه أن يبيع الجاموسة الوحيدة التي لديه في سوق الأربعاء، ويذبح البقرة أيضًا ليتولى شرف استضافة ليلة الحضرة السنوية في داره، وبعدها سيصبح من أهل الله، وساعتها طبعًا لن يجرؤ أي أحدٍ أيًا كان أن يقترب منه بعدها.
فزع حافظ من الفكرة، وقال:
- ده خراب يا سيدنا، خراب سواده ناقع، البقرة والجاموسة في نفس ذات الوقت! يا سنة سوخة! لا يغور الحمار في غارة.
ليرد عليه خادم المقام وهو يلف السبحة بين أصابعه:
- ما تقولش كده يا حافظ يا ابني، العوض من صاحب العوض، وسيدنا اختارك يا حافظ، اختارك عشان يعوض عليك، والخير يعم ومش هتلاحق عليه. بص يا حافظ، أنت بعد ليلة الحَضرة ما تخلص تدفن عضم البقرة في الزريبة اللي ورا دارك، وشوف بقى الكرم هيكون إزاي؟ ده غير مقامك اللي هيبقى عالي ومحدش يقدر يطوله.
انصرف حافظ وهو يضرب كفًا على كفٍ، ويلعن شيخ الخفر، والحمار، والقطة وصاحبها، والحياة بأكملها.
وبالرغم من كل ذلك عقد العزم على التنفيذ؛ استيقظ باكرًا يوم السوق وأخذ الجاموسة وباعها، وعاد بكل لوازم الليلة؛ ذبح البقرة، وأعد الطعام، وجهز الدار؛ لاستقبال المشايخ وأكابر البلد وأهل الله.
وقبل أن تبدأ الليلة، وجد الخفير على بابه وهو ساحب الحمار بيديه، وقدَّمه له وقال:
- شيخ الخفر بيقول لك حمارك أهو، كرامة لمقام الشيخ والليلة المبروكة دي.
ثم يميل أكثر ويهمس:
- بقول لك إيه يا حافظ، صحيح أنت دابح بقرة بحالها؟!
ليأخذ حافظ الحمار ويقول بامتعاضٍ:
- أيوة يا سيدي، دابح بقرة بحالها، ابقى تعالى اتعشى.
ليرد الخفير وهو يدير ظهره لينصرف:
- تعيش يا حافظ، ربنا يكتر لحمتك ومرقها، سلام عليكم.
هنا شعر حافظ أن رجوع الحمار هو بداية الكرم الذي بشَّره به خادم المقام؛ فابتسم رغم ضيقه.
جاء الليل، وتوافد الجميع على دار حافظ، وبدأ المنشدون في وصلات الإنشاد، وعقدت حلقات الذكر وأخذ الجميع يتمايل مع الكلمات والتسابيح، وحافظ يحاول أن يخفي ضيقه ولا يستطيع أن يصدق ما يفعله، وأخذ يخترق الجموع حتى وصل لخادم المقام وبدأ في سؤاله، وعندما لم يسمعه بدأ في نغز جنبه:
- يا سيدنا، هو الكرم ده هيكون إيه يعني؟ ودفن العضم في الزريبة الغرض منه إيه؟ يعني هيحصل إيه يعني يا مولانا؟
ليرد عليه خادم المقام:
- ده وقته ده يا حافظ يا ابني، اذكر مع الناس وأكرم ضيوفك علشان تُكرم.
ينفض حافظ جلبابه ويقول:
- ماشي يا سيدنا ماشي، بس وحياة أبوك خلي بالك لحسن حد يهز الكُلوب والرتينة بتاعته تقع لحسن لو وقعت هتضلم على الكل يا سيدنا، وبدل ما تبقى ليلة مبروكة تبقى ليلة مطينة بطين.
يقول ذلك وهو يبتعد عن حلقة الذكر إلى عتبة داره، يرفع جلبابه ويجلس القرفصاء كالمعتاد ويلف البفرة، ويبصق ويطلق الدخان، ويصرخ بصوتٍ مكتومٍ من حينٍ لآخر:
- أوعى الكلوب يا شيخ وحياة والديك، أوعى الكلوب.
تمر الليلة وينفض الجمع، ويجري حافظ ليجمع العظم ويسارع بدفنه في الحظيرة وهو يضرب كفًا على كفٍ:
- يخرب بيت أبوكم يا مجانين، إيه الدناوة دي، العضم ممسوح مفهوش فتفوتة لحم!
ينتهي سريعًا من دفن العظم، ويستلقي بجانبه من التعب، وأنا أستقر تحت رأسه في هدوءٍ وسكينةٍ كالعادة.
عند بزوغ الشمس، يستيقظ حافظ ليجد الحال كما هو لم يتغير، ويسمع صوت الخفير ينادي فينتعلني بسرعة فائقة ويهرول مبتسمًا، ويقول:
- أيوة بقى، أكيد الكرم كله جاي معه، مدد يا مولانا مدد.
يخرج للخفير ليجده فارغ اليدين، ويسمعه وهو يقول:
- شيخ الخفر بيقول لك البلد دي لها أسياد يا حافظ، واحترامهم واجب. والبقرة والجاموسة دول كانوا قرصة ودن كده؛ علشان بس تعرف مقامك قصاد أسيادك، وبرده تعرف حقوق جيرانك عليك، تعيش وتاخد غيرها يا سِمَّاوِي البسس.
ينصرف الخفير متشفيًا في حافظ الذي يرتمي على العتبة، ويخلعني من قدمه ويرفعني في الهواء، وينزل بي على رأسه وهو يقول:
- يا خراب بيتك يا حافظ، ألّا هي كنت اتشكيت في نواضرك ولا انقطعت رجليك قبل ما تعدي وأنت راكب الحمار، اتجافصت يا أخويا، أهو الحمار رجع والجاموسة والبقرة ضاعوا. منك لله يا نعيم أنت اللي دعيت علَيَّ، أه يا خراب بيتك يا حافظ.

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.