أفتح عيوني كامرأةٍ تعود للحياة الآن، كأنها مغيبةٌ عن الواقع، أجدني بملابس سوداء محاطة بالكثير من النسوة متشحاتٍ بالسواد أيضًا.
للحظاتٍ لا أدرك ما حدث؛ وكأنني قرأت للتو عن نظريات الأكوان المتوازية وأؤمن بأنها حقيقية، وأن هناك نسخةً مني في عدة أكوانٍ تعيش كل واحدةٍ حياتها بطريقةٍ مختلفة، ولا تعرف شيئًا عن نظيراتها الباقيات؛ فالآن وكأنني لست أنا، بل تم استبدالي بنسخةٍ أخرى مني تشبهني، بل تتطابق معي لذلك تلك النسوة اللاتي تحيطن بي لا تشعرن بالريبة تجاهي، لكنني لا أعلم أين أنا؟ ولماذا نرتدي جميعًا تلك الأزياء السوداء؟ لا أعتقد أنه زي موحد لاجتماعٍ ما؛ فأنا من الداخل فارغة تمامًا كصفحةٍ بيضاء لم يمسسها قلمٌ قط.
قطع شرود ذهني بعضهن يسلمن علَيَّ وتخبرني كل واحدةٍ منهن أن أصبر وأن والدتي في الجنة؛ فمرضها سيشفع لها بإذن الله.
ها أنا أخيرًا بدأت أدرك ما يحدث؛ أنا الآن في عزاء والدتي صديقتي الوحيدة في هذه الدنيا، لكن لحظة إدراكي للواقع كلحظة ارتطام جسدك بالأرض بعد السقوط من ارتفاعٍ شاهق!
وهذا التشبيه الذي جال بفكري يربكني الآن، فكثيرًا ما أثارت تلك الفكرة عقلي، فهم يقولون بأن الذي يسقط من ارتفاعٍ كبيرٍ يفارق الحياة قبل أن يرتطم جسده بالأرض.
لماذا إذن أشعر أن روحي رُدت إلَيَّ فقط لأشعر بالألم؟!
وأظل أتساءل كيف استسلمت للمرض وتركتني؟! لقد كنت أستحق وجودها بجانبي. كيف يا أمي، كيف؟!
ومن بعد رحيلها ستلازمني الوحدة طوال عمري؛ فلقد تزوج أبنائي ورحلوا، نعم ما زال زوجي يشاركني المنزل وينام بجانبي في الفراش، وقد تجمعنا بعض الوجبات على مائدةٍ واحدةٍ لكنه فعليًا ليس هنا.
هل من الطبيعي أنه في ظل هذا الظرف والحزن على والدتي، وبرغم أن أفكاري يغطيها أصوات القرآن المحيطة، إلا أن فكرةً شردت وأوحت لي جملة (زوجي ليس هنا فعليًا) بفيلم you were never really here يتشابه المعنى مع اختلاف المضمون.
يبدو أن هوس الأفلام والكتابة أصابني حقًا بالجنون؛ لا عجب أن زوجي ينعتني دائمًا بالمجنونة، ربما يكون محقًا.
والآن بعد رحيل والدتي، على مَن سأقص حكاياتي المشتتة لتضع هي لمستها السحرية بكلمةٍ واحدةٍ (رائع يا نيرمين، أنتِ كاتبة عظيمة.) ومِن بعدها أمسك لجام الكلمات، وأنطلق بين أوراقي أدون كل حروفي المبعثرة؛ لتكون قصةً جديدةً بعض منها يمثلني وبعضها خيالاتي الجامحة.
كيف ستساعدني أوراقي بدون لمساتك السحرية؟! من سيرتب فوضى روحي؟ يسكن جموح أفكاري ويطمئنني؟
بعد انقضاء عدة أشهرٍ على وفاة أمي، أرغب أن أرحب بكم في جلساتنا النسائية السرية، معكم نيرمين، امرأة غردت خارج السرب، قررت مساعدة نفسي وغيري من السيدات التعيسات والوحيدات.
منذ فترةٍ، كنت أعاني من حزنٍ شديدٍ لم أكن أعلم سبب هذا الحزن، حاولت التفكير مليًا في تفاصيل حياتي، البحث بداخلي عن الثغرات التي تغلل منها هذا الشعور، يشبه كثيرًا الغرق بأعماقٍ لا نهاية لها.
كم من المشاعر التي تسكن قلوبنا والكلمات التي تختنق بها حناجرنا، ونتمنى لو أن البوْح كان بالإمكان!
في البداية، تجاهلت شعوري هذا، كنت أُسكِت الأصوات الداخلية التي تطالبني بإيجاد حلٍ لتلك الحالة، مثلي كمثل الأم العاجزة عن إجابة أسئلة طفلها الصغير عن كيفية بِدء الخلق؛ معللةً تلك التقلبات بأنها ربما تكون اكتئابًا موسميًا مثلما قرأت بأحد المواقع على الإنترنت.
ربما يكون هذا اكتئاب الشتاء؛ ثم ينتهي الشتاء، لكن الاكتئاب والحزن لم ينتهِ معه!
فأقول ربما هذا اكتئاب موسمي نظرًا لتغير الفصول، وأخيرًا قرأت أن حالات الإنسان المزاجية تتغير مع أطوار القمر، يا له من هُراءٍ أضيع بأفكاري داخله!
بدأت الاستجابة لفكرة البحث عن طبيبٍ نفسي، لكنني تفاجأت من أسعارهم الباهظة وهي أكثر من إمكانياتي، حاولت التحدث مع أكثر من معالج نفسي عبر الإنترنت لكنني أيضًا شعرت بعدم الراحة، وأن كثيرًا منهم يستغل مهنته لابتزاز النسوة من خلال أسرارهن.
تذكرت والدتي -رحمها الله- عندما قالت لي: أن أكثر ما تحتاجه المرأة هو الفضفضة والحديث ليس إلا.
كلما رأتني حزينةً صامتةً قالت لي: تحدثي يا ابنتي، ففي الحديث تجدين الراحة. تحدثي إلَيَّ، أقيمي حوارًا مع نفسك أمام المرآة، أفرغي ما بداخلك في ورقةٍ ما ثم مزقيها ولا تحتفظي بها أبدًا؛ ولهذا السبب لا تتحدثي مطلقًا مع صديقةٍ أو شخصٍ يعرفك؛ فأنت تستطيعين تمزيق أوراق اعترافاتك لكنك لن تستطيعي محو كلماتك من ذاكرة أحدهم؛ لذلك ظلت كتاباتي وقصصي هي ملجأي الوحيد وبين سطورها الكثير من الاعترافات المشفرة التي لن يفك طلسمها غيري، لكنه كان دائمًا غير كافٍ، أحتاج إلى مستمعٍ يبادلني الحديث، يرتب معي خزانة الأفكار. ومن هنا جاءتني الفكرة؛ فقمت باستئجار مكانٍ صغيرٍ، وأعلنت عنه بأنه مكانٌ خاصٌ بالنساء نتجمع به للفضفضة والاستماع إلى بعضنا البعض دون الكشف عن هوياتنا.
يكون الدخول بسعرٍ رمزي؛ لتجميع إيجار الغرفة ليس إلا، وتقوم كل سيدةٍ بتسليم هاتفها عند الدخول، واستلام إقرارٍ من المكان بعدم وجود كاميرات أو أي وسيلةٍ لتسجيل الجلسة. كما توجد أقنعة لمن تحب أن تخفي هويتها ووجهها، ويمكنهن أيضًا استخدام أسماءٍ مستعارة إذا أحببن هذا.
كانت فكرةً مجنونة وتم التشكيك كثيرًا في السرية والنوايا، كنت أستقبل يوميًا عشرات المكالمات ومئات الرسائل من سيداتٍ أحببن الفكرة، لكنهن متشككاتٌ في الأمر.
أتفهم هذا جيدًا، لكني لم أكن أملك أي شيءٍ قد يطمئنهن سوى كلماتي، وأن أبث في نفوسهن الثقة من خلال دفء صوتي.
وبعد تحمل الكثير والكثير من المكالمات، وسماع السباب تارة والمعاكسات المزعجة تارة أخرى، استطعت إقناع عدة سيداتٍ بالانضمام لأول مجموعةٍ نسائية سرية؛ نتجمع هنا كل خميسٍ من كل أسبوعٍ لتقص علينا إحدى ضيفاتي العزيزات كل ما تضمره في نفسها بلا خجلٍ أو خوفٍ.
وأنتم الآن على موعدٍ معنا؛ لمتابعة جلساتنا فأرجو منكم التزام الصمت والعهد على السرية.