Darebhar

Share to Social Media

رائحة الياسمين"
مرحبًا بكن سيداتي، في مقرنا الآمن والهادئ، معكم مضيفتكن مدام نيرمين. بالطبع أنا لست طبيبةً، بل مجرد امرأةٍ تشعر بكن، وأتمنى أن تقدم لكن جلسات الفضفضة بعض من الراحة.
في البداية، قبل حديثنا أحب أن أؤكد على السرية التامة، وحرية استخدام الأسماء المستعارة؛ لضمان الراحة والخصوصية.
قاطعتني سيدةٌ تجلس في منتصف المجلس وقالت:
- أنا ياسمين، أحب أن أبدأ الجلسة بالتحدث إذا سمحتن لي بالطبع.
- لنرحب جميعًا بالسيدة ياسمين.
كانت سيدة جميلة، وصفي لها قد لا يعطيها حقها؛ فالجميلات قد تنازلن عن جمالهن لزيادتها جمالًا هكذا أظنه وصفًا مناسبًا لها.
ترتدي ثوبًا زهريًا داكنًا بديعًا، غُزلت على أطرافه زهورٌ ملونة، بقدميها صندلٌ ذو سيورٍ رفيعة، يكشف عن كعبيها الملونين بدم الغزال، أما عن شعرها الأسود القصير فكأنه تاجٌ للحسن صُنع لأجلها.
رأيت الإعجاب بعيون كافة السيدات في الغرفة وأولهم أنا؛ ربما تساءلت في نفسي وما قد تكون أزمة تلك الحسناء؟! أهناك ما قد يؤرق بالها؟!
قاطعت ياسمين حبل أفكاري قائلةً:
- في البداية، أحب أن أصحح لكن أنا ما زلت عذراء لم أتزوج قط.
حينما رأيت الإعلان عن الفكرة تحمست كثيرًا، ورغبت في المشاركة برغم رهبتي من التجربة ومدى مصداقيتها، لكن الخوف أقل ما يمكن أن أحمل همه الآن، فبعد هذا العمر من الوحدة تغير مستوى المخاوف عن ذي قبل، أتذكر حينما كنت أتأكد من إغلاق الباب جيدًا قبل النوم، عدم الإجابة على الأرقام الغريبة تجنبًا للإزعاج. أحيانًا ألجأ لبعض الحيل التنكرية؛ تجنبًا للسلامات واللقاءات أثناء ذهابي للتسوق.
وبعد عدة سنواتٍ من الوحدة، أصبحت أقل همومي اقتحام لصٍ ما لبيتي، وربما تمنيت هذا سرًا؛ فقط لكي أتمكن من إقامة حديثٍ معه! وربما يعترف لي عن دافعه للسرقة! ربما أعطيه جزءًا من مالي؛ مقابل أن يتبرع بسرقتي مرة كل شهر واقتحام وحدتي.
أصبحت الأرقام الغريبة لغزًا مثيرًا، فيمكنني الاحتيال ببعض الكلمات لأتمكن من إطالة وقت المكالمة. يمكنني أن أحتضن البائعة في المتجر لمجرد أنها تبتسم لي!
لا تشعرن بالشفقة تجاهي. نعم، فأنا وحيدة، تنهشني أنياب الوحدة كل ليلةٍ، وربما تكون تلك الجلسات هي فرصتي الذهبية للتحدث عن أحزاني التي يستنكرها الجميع.
مثلما رأيت بأعينكن في البداية؛ فتساؤلاتكن كانت تقفز من العيون.
أنا السيدة ياسمين، أنحدر من أسرةٍ عريقة، كنت الطفلة الوحيدة لأبويين ثريين، توفيا وأنا في بداية العشرين من عمري إثر حادث سيارة.
تركت فيلتنا لشعوري بالضآلة الشديدة فيها، فبعد وفاة والديَّ انقطعت الزيارات تدريجيًا، انتقلت إلى شقةٍ بأحد المناطق الراقية.
تبدأ الحكاية من اللقب الذي أطلقه عليَّ حارس العقار سيدة (B) وهو الحرف الأول من الثلاثة ألوان المفضلة لديّ: brown, black, blue
يبدو أنه كان بوابًا مثقفًا، بل أيضًا شديد الملاحظة.
لاحظ ألوان أثاث بيتي، سيارتي، ثيابي والتي تنحصر تقريبًا في تلك الألوان الثلاث.
اشتهرت في بنايتي بتلك التسمية، ثم أصبح الشارع الذي أقطن به يعرفني بالسيدة (B) كان الأمر لطيفًا في البداية؛ فلقد أشعرني بالتميز بينهم، لكن بمرور الوقت انقلب الحال من التميز إلى النبذ.
فتحدث الرجال فيما بينهم السيدة B ما أجملها لكن ... وكأنها هاربة من حقبة زمنية قديمة، الكلمة بمقدار، الخطوة بحساب نتخيل أن لها متطلبات نعجز عن تلبيتها، ونحن كالصعاليك بجانبها.
أذكر أحد هؤلاء المعجبين حينما حاول التقرب مني؛ كان شابًا يافعًا يُدعى سعد، أظن أنه كان يصغرني ببضعة أعوامٍ.
نتقابل باستمرار في المصعد، مهذبًا كان يفتح لي الباب ينتظرني في هدوءٍ، يتحرك خلفي بخجلٍ.
تكررت تلك الصدف والتي تأكدت فيما بعد أنها ليست صدفًا؛ فأظنه تقصى عن مواعيدي من حارس البناية .. ذلك المثقف الثرثار.
كان يفتعل المواقف من أجل التحدث إلَيَّ، ذات يومٍ في تمام الساعة الثامنة مساءً جاءني يطرق باب بيتي؛ فتحت الباب ووجدته أمامي يرتدي ثيابًا رياضية، وعلى الرغم أن زيارته تلك كانت على حين غفلةٍ إلا أنني كنت بكامل أناقتي.
ارتدي فستانًا أسود طويلًا، وعقدًا من اللولي الأبيض يغطي الصدر، وقرطًا فضيًا كبيرًا يتوارى خلف خصلات شعري الأسود.
كان يخفض عينيه بعيدًا عن عيوني، ثم تحدث إلَيَّ في لباقةٍ يطلب مني المشاركة المادية؛ لتجديد سطح العمارة وتزويدها بمجلس، ونباتات، وبعض التفاصيل التي لم أنتبه إليها حقًا؛ فكل ما كنت أفكر به كيف سأغوي ذلك الخجول؟!
فسمحت له بالدخول بينما أجهز له النقود. نعم، لا تنظرن إلَيَّ بتعجب؛ فلقد قمت بضيافته في بيتي، جلس على أريكتي الوثيرة وبين أثاث بيتي البني العتيق، كانت عيناه تدور في المكان بانبهارٍ، يبحث ربما عن بقعةٍ آمنة يتعلق بها قبل أن يغرق في عرقه.
قدمت له كوبًا ساخنًا من القهوة، وبعض قطع الشكولاتة، مجددًا تسافر عيناه في الفراغ حولي يتجنب أن تتلاقى أعيننا.
لكنه يراقب ظلالي على الحائط، يرسم منها انسيابية جسدي بين يديه؛ بيدٍ مرتجفة تناول مني الفنجان ونظر إلى الأرض فخطفت عيناه نظرات لساقي، جلست أمامه وأكملت حديثي عن تفاصيل تلك التجديدات، تنتشي روحه من كلماتي الحنونة وصوتي الناعس، أراه يرتشف القهوة وأتمنى أن يرتشف رحيق أنوثتي.
يشعر بالاسترخاء ثم الدفء والراحة، أعرف أنه يرغب أن يرفع قدميه عن الأرض ويختبئ داخل صدري، يتصبب عرقًا كطفلٍ مصابٍ بالحمى، يرتشف القليل من القهوة، ثم يذيب قطعة الشكولاتة بين شفتيه، ترتفع لديه النشوة، يرجو المزيد ولكنه يعلم جيدًا أنني لن أمنحه إلا ما يشعله أكثر، فكل ما رجوته أن تتكرر زيارته حتى يصبح صاحب البيت، برغم صغر سنه إلا أنني لم أكن لأمانع الزواج منه؛ فحاجتي لأنفاسٍ تدفئ روحي ولمساتٍ تكسو جلدي البارد كانت المتطلبات الأكثر إلحاحًا؛ فالوحدة كانت شبحي المخيف الذي يطاردني في بداية كل علاقة، فيدفعني خوفي للتمسك بكل الفرص المتاحة مهما كانت غير ملائمة.
كان يتمنى لو أنه ينتمي لهذا المكان، لكنه يشعر بالتيه، لا يحب أن يغادر لكن يتوجب عليه ومن هنا تكون العقدة؛ إنه مجرد شابٍ كان يعتقد أنني نافذته نحو الجنون، دليلٌ شاملٌ للعلاقات والتجارب، ظن أنني سأجعل من جسدي فأرًا معمليًا لاختبار رجولته، يتقن قبضته على المشرط ويرقص فوق أشلائي، ثم ينطلق من بعدي طبيبًا ممارسًا للمهنة يتباهى بفحولته بين الرجال، يفتتح عيادته الخاصة للمزيد من النساء.
كان يبحث عن فتياتٍ بعدد ألوان الطبيعة، فلم يقيد نفسه مع ألواني القاتمة التي تجذبه نحو الاستقرار، كنت أنوي منحه حياةً هادئةً تعجبه كثيرًا، لكنه يخاف؛ فهو لم يحزم أمتعته لقضاء بقية العمر هنا، يرحل قبل أن يدمن تذوق الشكولاتة فوق جسدي اللامع، قبل أن يدمن ارتشاف القهوة من بين أصابعي الناعمة، قبل أن يدمن حديثي الساحر من بين شفتي المثيرتين، وقبل أن يتذوق هاتين الشفتين حتى لا يثمل للأبد!
كنت أقدم له كل إغراءات الإدمان، وفي تلك اللحظة فقط يدرك أنه شابٌ رياضي يحافظ على صحته، ويتذكر العبارة الدارجة في المنشورات الإعلانية "الإدمان طريق الدمار".
الجميع يتذكر صحته قبل أن يدمن الوجود معي؛ فأنا بالنسبة لهم سيجارًا فاخرًا يتمنون تدخينه مرةً واحدةً في العمر، والتقاط بعض الصور معه للتفاخر بين أقرانهم.
فكرت في طفلٍ يسرق وحدتي، ويعيدني للعالم مرةً أخرى؛ لذلك بحثت في أمر التبني وذهبت بالفعل لدار أيتامٍ، لكنني تفاجأت بالكثير من العراقيل التي تعيق إتمام هذا الأمر.
وأول عائق اشتراط وجود الزواج؛ لضمان انتقال الطفل إلى أسرةٍ تكفل له الشعور الطبيعي بوجود أبٍ وأمٍ؛ لذلك رجعت إلى نقطة الصفر، وهي معضلة وجود رجلٍ في حياتي.
أذكر ابتسامتي الساخرة في وجه مديرة الدار وهي تخبرني بشأن الزواج؛ للموافقة على التبني.
- عزيزتي، إذا وجدت هذا الزوج فلماذا لا أحاول الإنجاب أولًا؟
فهل أستأجر زوجًا أم ماذا؟ والآن أصبح الرجال شحيحين، ومن الذين يملأون الشوارع صخبًا ويمتصون هواء الحرية من حولنا، أين ذهبوا جميعًا؟ ذلك الازدحام والتكدس السكاني ولا أجد من أعجبه؟!
ربما سأظل أنا الياسمينة الوحيدة التي لم يستنشق عطرها أحدٌ!
هنا صمتت السيدة ياسمين عن الكلام، وانتهت الجلسة، لكنني تراجعت عن اعتقادي في البداية؛ فالجميلات يشعرن بالوحدة .. الحزن .. الخذلان.
الجميلات لا يمتلكن الكون في قبضة أيديهن كما يظن الجميع.
كانت تظن أنها أكثر من أن يمتلكها رجلٌ واحد، وأعقد من أن يفهمها الكثير من الرجال، بينما هي ليست هذا ولا ذاك لكنها الكثير والكثير من الخيوط المتشابكة، تحتاج فقط لرجلٍ هادئ مهتم ليعيد ترتيبها، ولكن..!
جميعهم هربوا قبل أن يحاولوا، خافوا أن بحل تلك العقد ستكون هي أبسط من اللازم، أبسط من أن يستوعبها رجل ساذج.
ذكية هي تستقبل كلمات المدح بخجلٍ ونكران، لكنها تعلم جيدًا مدى استحقاقها لكل حرف.
ماكرة عندما تستخدم أنوثتها، ترسل بعض الابتسامات، النظرات ربما تكتفي فقط بأن تتحدث بصوتها الناعم الدافئ وإذا شعرت أنك عصي عليها ربما فاجأتك بضحكةٍ تحطم صلابتك الهشة.
لكن في النهاية، جمالها كان بوابة وحدتها الأبدية، وأنا الأجدر حقًا لأحدثكم عن معنى الوحدة وقسوتها، عندما تمتلك الكثير من الكلمات ولا تجد من تشاطره تلك الخواطر، تقفز الهواجس إلى عقلك كل دقيقةٍ ويعجز هذا الفم عن القيام بدوره والبوْح بتلك المفردات؛ فتظل هناك بالداخل في إحدى البقع السوداء بعقلك لا يصل إليها أحد، وربما أنت أيضًا في الصباح أو بعد مرور عدة دقائق تنسى تلك الفكرة، أو الهاجس الهام الذي استحوذ على خُلدك في فترةٍ ما، وظننت حينها أنك تمتلك أكثر الكلمات أهميةً، وما يدفعك أن تبحث وتبحث لتتشاركها مع شخصٍ ما؛ فتيأس وتدفنها في تلك البقعة التي تعج بغيرها، حينها تظن أنك ستتذكر هذا الشعور دومًا، وعندما تعثر على الإنسان المناسب سوف تستحضر تلك الكلمات وتلقيها على مسامعه، ثم تمر دقائق فلم تعد تتذكر أيًا من هذا كله، تشكر الوحدة التي تلازمك عوضًا عن الرفقاء، فلولاها لتفوهت بأشد الكلمات بلاهةً وتدرك أنه من السذاجة إقحام الآخرين في تُرهاتنا. نعم، تُرهات فأنت الآن تدرك حقيقة الأمر؛ ما تفكر فيه أو تشعر به مجرد سخافات لا تهم أحد غيرك، هي دائمًا أحاديث هامة بالنسبة لنا وتفقد أهميتها عندما نتقاسمها مع أحدهم، أتمنى ألا تنزعج بقعنا المدفونة بالداخل من تكدس الأفكار وتستوعبها، فلا تمل منا فنتفوه بالفائض منها يومًا ما، وتظل هناك في مأمن عن الأضواء.

* * *
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.