artherconan

Share to Social Media

أطلق ستانلي هوبكنز سبابًا وهو يكزُّ على أسنانه، وضرَب بقبضته على فخْذه.
جيه » كم كنتُ غبيٍّا! بالطبع هي كذلك كما قُلت. إذن فالأحرُف الأولى » : صرخ قائلًا
هي الرمز المُتبقِّي الذي يَتعيَّن علينا حلُّه. لقد فحصتُ بالفعل قوائم سوق الأوراق « إتش إن
المالية القديمة، ولم أستطِع العثور على أحد في عام ١٨٨٣ — سواءٌ في البورصة المَحليَّة
أو بين السماسرة الخارجيِّين — تتوافَق الأحرُف الأولى من اسمه مع تلك الأحرف. على
الرغم من هذا، فإن لديَّ شعور بأن الدليل الذي توصلتَ إليه هو أهمُّ واحد. ستُقِرُّ يا سيد
هولمز باحتمالِيَّة رُجوع هذه الأحرف إلى الشخصالثاني الذي كان موجودًا وقتَ الجريمة؛
بعبارةٍ أخُرى القاتل. علاوةً على ذلك فأنا أصُرُّعلى أن ظهور مُستنَدٍ مُرتبِط بأعداد هائلة
«. من السَّندات المالية القيِّمة يُعطينا لأول مرَّةٍ دلالة على دافِع ارتكاب الجريمة
بدا على وجه شيرلوك هولمز أنه مذهول جدٍّا من هذا التطوُّر الجديد.
يجِب أن أعترِف بصحَّة وِجهة نظرِك. أعترِف بأن هذا الدَّفتر الذي لم يظهر » : فقال
في التحقيق غيَّر أيَّةَ فكرة كنتُ قد كوَّنتُها. لقد كوَّنتُ تَصوُّرًا عن الجريمة لا يمكِن أن أجِد
«؟ فيه مكانًا لهذا. هل حاولتَ تتبُّع أيٍّ من السَّندات المالية المذكورة هنا
تجرى التحقيقات الآن في المكاتب، ولكنَّني أخشى أن يكون السِّجِلُّ الكامل لحمَلة »
أسهم شركات أمريكا الجنوبية موجودًا في أمريكا الجنوبية، وفي هذه الحالة لا بُدَّ من أن
«. ينقضيبعضالأسابيع قبل أن نستطيع تتبُّع السندات المالية
ظلَّ هولمز يتفحَّصغلاف الدفتر مُستخدِمًا عدَسته المُكبِّرة.
«. قطعًا تُوجَد بُقعة هنا » : قال
«. أجل يا سيدي، هذه بُقعة دماء. أخبرتُك من قبل أنني التقطتُ الكتاب من الأرض »
«؟ هل كانت بُقعة الدماء من الأعلى أم من الأسفل »
«. على الجانب المُجاور للألواح الخشبية »
«. وهذا يُثبِت بالطبع أن الدفتر سقَط بعد ارتكاب الجريمة »
بالضبط يا سيد هولمز. لقد أدركتُ هذه النقطة، وخمَّنتُ أن الدفتر سقط من القاتل »
«. أثناء هروبه المُتعجِّل واستقرَّ قُربَ الباب
«؟ أعتقِد أنه لم يعثُر على أيٍّ من هذه السَّندات ضِمن مُمتلكات القتيل »
«. نعم يا سيدي »
«؟ هل لديك حُجَّة للاشتِباه بحالةسرِقة »
«. لا يا سيدي. لم يُلمَس أيشيء »
«؟ ربَّاه! هذه القضية مُثيرة جدٍّا. إذن كان هناك سكين. أليس كذلك »
بلَى وجَدنا سكينًا ذا غِمْد، ما زال في غِمْده مُلقًى عند قدَم القتيل. تعرَّفت السيدة »
«. كاري على السكين وقالت إنه يعود لزَوجها
غرِق هولمز في التفكير لبعضالوقت.
«. حسنًا، أعتقِد أنه يجِب أن أخرُج وألُقي نظرةً عليه » : وأخيرًا تكلم قائلًا
«. شكرًا جزيلًا يا سيِّدي. لقد أزحتَ عنِّي حملًا ثقيلًا » : صاح ستانلي هوبكنز فرحًا
أشار هولمز بإصبعه مُنبِّهًا للمُفتِّش.
كانت المُهمَّة ستصير أسهل إن تمَّت منذ أسبوع، لكن زيارتي الآن أيضًا من » : قال
المُمكِن ألَّا تكون غير مُثمِرة تمامًا. سأكون في غاية السعادة في صُحبتك يا واطسون إذا
كان لديك الوقت لتأتي معي. إذا طلبْتَ لنا يا هوبكنز سيارة؛ فسنكون جاهِزين للذَّهاب
«. لفورست رو في غضون ربع ساعة
نزلْنا بمحطَّةٍ صغيرة على قارعة الطريق، وسِرنا بضعةَ أميال عبر أطلال غابات
المَنيعة، تلك الغابة العظيمة التي « ويلد » فسيحة، كانت يومًا ما تُشكِّل جُزءًا من غابة
منعَت تقدُّم الغُزاة السكسونيِّين لسِتِّين عامًا وكانت حِصنًا لبريطانيا. لقد أزُيلَتْ مساحات
شاسِعة من الغابة فهي مقرُّ أوائل مصانع الحديد في الريف، وقُطعَت الأشجار لاستِخدامها
وَقودًا لإذابة المعادن. في الوقت الحالي استوعبَت الحقول الأغنى في منطقة الشمال هذه
الحِرفة، ولم يبقَ سوى هذه البساتين المُحطَّمة والنُّدوب العميقة في الأرض شاهدًا على ما
قامت به الغابة في الماضي. وفي منطقة خالية من الأشجار واقِعة على مُنحدَر التلِّ الأخضر
كان هناك منزلٌ حَجَري طويل ذو سقفٍ مُنخفض بجانبه طريق مُنحنٍ يمرُّ بالحقول.
وبمكانٍ أقرب إلى الطريق كان هناك كوخصغير مُحاطٌ بثلاثة جوانب من الشُّجَيرات، وكان
في اتجاهنا إحدى نوافِذ هذا المبنى وبابه. كان هذا مسرح الجريمة.
تقدَّمَنا ستانلي هوبكنز إلى المنزل، حيث قدَّمَنا إلى أرملة القتيل، وهي سيدة هزيلة
ذات شعرٍ رَمادي اللون، يكشِف وجهها النحيل العميق التجاعيد، ونظرة الرُّعب الخفيَّة
في أعماق عينيها المكسوَّة بالحُمرة عن سِني العذاب وسوء المُعاملة التي تحمَّلتها. كانت
برفقة السيدة ابنتها، وهي فتاة شاحِبة شقراء الشعر. كانت عيناها تتوهَّج في تحدٍّ عندما
أخبرَتْنا عن مدى فرحتِها لمَوت أبيها، وأنها تُبارِك اليد التي أزهَقَت روحه. لقد خَلَق بيتر
كاري الأسود بيئةً أسَُرية مُروِّعة. وشعَرنا بارتِياحٍ شديد حين وجدْنا أنفسنا مرةً أخرى
تحت أشعَّة الشمس وشققْنا طريقنا عبر ممرٍّ وسْط الحقول أبْلَته أقدام القتيل.
كان الكوخ من أبسط ما يُمكن؛ فجُدرانه مصنوعة من الخشب وسقفُه مكسوٌّ بالألواح
الخشبية، وبه نافِذتان: واحدة بجانِب الباب والأخرى في الجانب المُقابِل. أخرج ستانلي
هوبكنز الِمفتاح من جَيبه وانحنى ليفتَح القُفل، ثم فجأةً توقَّف وعلَتْ وَجهه علامات
الانتِباه والدَّهشة.
«. لقد عبَث به أحد » : قال
لا يُوجَد مجال للشكِّ بشأن هذه الحقيقة. كان الخشب مشقوقًا وكشفَت الكشوط عما
تحت الطِّلاء من طبقةٍ بيضاء كأنها فُعِلَت منذ لحظات. تفحَّصهولمز النافذة.
أحدُهم حاوَل أن يقتحِم النافذة أيضًا. لقد فشل ذلك الشخصفي الدخول إلى » : وقال
«. هنا. بالتأكيد هو لصٌّفقير للغاية
هذا حقٍّا مُثير جدٍّا للدهشة، أقُسم أن هذه العلامات لم تكن موجودة » : قال المُفتِّش
«. هنا مساء البارِحة
«. من المُمكِن أن يكون من فعل هذا شخصٌمن القرية أثاره الفضول » : قلتُ مقترحًا
لا أعتقِد ذلك. قليلٌ منهم قد يَجرؤ على أن تطأ قدمُه هذه الأرض، ما بالك باقتِحام »
«؟ الكوخ! ما رأيك يا سيد هولمز
«. أعتقِد أن الحظَّ كريم جدٍّا معنا »
«؟ هل تقصِد أنَّ الشخصالذي فعل هذا سيأتي مُجدَّدًا »
نعم من المُحتمَل جدٍّا، لقد جاء مُتوقِّعًا أن يجِد الباب مفتوحًا ثم حاوَل أن يدخل »
«؟ باستخدام نَصل مُطواةٍ صغيرة الحجم، ولم ينجَح في الدخول. فماذا عساه أن يفعل
أن يأتي في الليلة التالية ويُحاوِل مرَّةً أخرى باستِخدام أداةٍ أكثرَ نفعًا لتُمكِّنه من »
«. الدخول
أوافقك الرأي. سيكون من الخطأ ألَّا نكون هنا لاستِقباله. أما في الوقت الحالي، فدَعْني »
«. أتفقَّد الكوخ من الداخل
أزُيلَت آثار المأساة التي حدثت، ولكن بَقِيَ الأثاث داخل الغرفة الصغيرة على حاله منذ
ليلة الحادثة. ولمُدَّة ساعتَين، وبتركيزٍ شديد جدٍّا، ظلَّ هولمز يتفقَّد شيئًا تلو الآخر، لكن بدا
على وجهه أنَّ بحثَه ليس ناجِحًا. ولم يتوقَّف عن بحثه المُتأنِّي إلَّا مرةً واحدة، وسأل:
«؟ هل أخذتَ شيئًا من هذا الرفِّ يا هوبكنز »
«. كلا. لم أحُرِّك شيئًا »
لقد أخُِذشيء من هذا الرف؛ فالغُبار عند هذه الزاوية أقلُّ من الغُبار على بقيَّة الرَّف. »
ربما كان هنا كتاب موضوع على جانبه أو ربما صندوق. حسنًا، حسنًا، ليس في وُسْعي
شيء آخر لأفعله. دعنا نَسِريا واطسون في هذه الغابات الجميلة ونمنح أنفسنا بعضالوقت
لتأمُّل الورود والعصافير. سنلتقي بك هنا لاحِقًا يا هوبكنز، وسنرى إذا استطعنا الاقتِراب
«. من هذا الرجل الذي جاء لزيارة الكوخ ليلة أمس
كانت عقارِب الساعة قد تخطَّت الحادية عشرة حين نَصبْنا الفخَّ الصغير. كان هوبكنز
يُفضِّل ترْك باب الكوخ مفتوحًا ولكن رأي هولمز أنَّ هذا سيُثير الشكوك لدى الغريب الذي
جاء لزيارة الكوخ. كان القُفل الذي يُوصِد الباب بسيطًا تمامًا لا يحتاج إلَّا نَصلًا حادٍّا
لكَسرِه. اقترح هولمز أيضًا أن ننتظِر خارج الكوخ مُتوارين بين الشُّجَيرات النامِية حول
النافذة البعيدة وليس داخله. وبهذه الطريقة نستطيع أن نُراقِب الغريب إذا أشعل النور
ونرى ما هي غايته في زيارته الليليَّة والسِّرِّية.
استغرَقَت نَوبة الحراسة وقتًا طويلًا وجثَمَت عليها الكآبة، ومع ذلك جلَبَت معها
شعورًا بالإثارة التي يشعُر بها الصيَّاد وهو راقدٌ بالقُرب من بِركة الماء مُتربِّصًا بقُدوم
فريسته الظمأى. يا تُرى ما نَوع المَخلوق الوحشيالذي سَوف يتسلَّل إلينا من عَتمة الليل؟
هل سيكون مُجرمًا كالنمر الضارِي الذي لا يُهزَم إلا بعراكٍ شديد يَستخدِم فيه أنيابَه
ومَخالِبَه اللامعة، أم سيتبيَّن أنه أشبَهُ بحيوان ابن آوى المُتسلِّل الذي لا يُشكِّل خطورةً إلَّا
على الضُّعفاء أو من لا يَحمون أنفسهم؟
جلسْنا القُرفصاء وسط الشُّجَيرات في صمتٍ مُطبِق، في انتظار ما سيأتي. في البداية
خفَّفمن وطأة نَوبة المُراقَبة خطوات الفلَّاحينالمُتأخِّرين وبعضالأصوات الآتية من القرية؛
لكن تلاشت هذه المُقاطعات واحدةً تِلوَ الأخرى، وعاد الصمتُ المُطبِق مُخيِّمًا علينا، ولم
يكسِرْه إلا رَنين الأجراسالذي كان يأتي من كنيسةٍ بعيدة، فنعلَم منه ما انقضىمن الليل،
وحفيف وهمْس رذاذ المطر الذي كان يقطُر على الشُّجَيرات التي تُظِلُّنا.
دقَّت الساعة معلنةً الثانية والنصف، وكانت أحلك الساعات التي تَسبِق الفجر، وعندها
وثَبْنا فجأة عند سماعِنا صوت طقطقةٍ مُنخفضًا لكنَّه حادٌّ، قادِم من اتِّجاه بوابة المَزرعة.
لقد دخل شخصٌما إلى المَمر. ومرةً أخرى خيَّم الصمتُ المُطبِق لمدَّة طويلة، وبدأت أخشى
أن يكون هذا إنذارًا زائفًا، حينما سمِعنا وقْع أقدام مُتسلِّلة عند الجانب الآخر للكوخ، تبِعَها
بعد لحظاتٍ صوت احتكاكٍ وخشخشة معدنية. كان الرجل يُحاوِل أن يكسرالقُفل! ويبدو
أنه هذه المرة كان أكثر مهارةً أو أن الأداة التي يَستخدِمُها كانت أفضل لأنَّنا سمِعنا فجأةً
صوت كسْر القُفل وصرير مفصلات الباب. بعدها أشعل الرجل عود ثِقاب، وسُرعان ما
غمَر نور الشَّمعة الثابت داخل الكوخ. ومن خلال الستائر الشفَّافة حدَّقْنا بأعيُنِنا في المَشهد
داخل الكوخ.
كان زائرنا الليلي شابٍّا واهنًا ونحيلًا، ذا شاربٍ أسود يُبرِز شُحوب الأموات الذي يعلو
وجهه. لا يُمكِن أن يكون تَجاوز العشرين عامًا. لم أرَ في حياتي إنسانًا في مثل هذه الحالة من
الذُّعر المُثير للشَّفَقة؛ فقد كانت أسنانه تصطكُّ بعضها ببعضٍبوضوح وكلُّ فرائصه كانت
ترتعِد. كان يُشبِه النُّبلاء في ملبسِه؛ حيث كان يرتدي سُترة نورفولك وسروال كنكربوكر
القصير ويضع قُبَّعةً قماشية على رأسه. رأيناه يُحدِّق فيما حوله بعينَين مذعورَتين. ثم
وضع عُقْبَ الشمعة على الِمنضدة واختفى عن مرمى بصرِنا في أحد أركان الكوخ. ثم عاد
حاملًا دفترًا ضخمًا، كان أحد دفاتر أحوال السفن المصفوفة على الرَّف. انكفأ على الدفتر
وأخذ يُقلِّب صفحاته بعُجالة حتى عثر على ضالَّته. ثم أغلق الكتاب بقبضة يدِه في غضب،
وأعاده إلى مكانه في الزاوية وأطفأ الشمعة. ولم يكَد يلتفِت ليُغادر الكوخ حتى أمسكت يدُ
هوبكنز بتلابيبه، وسمِعتُ شهقة ذُعرٍ عاليةً أطلَقها الرجل عندما أدرك أنه وقَع في الفخ.
أشعَلْنا الشمعة مرَّة أخرى، وجلَس أسيرُنا البائس ينتفِضويرتعِد في قبضة المُحقِّق. جلس
على صندوق البحر وأخذ ينظُر إلينا واحدًا تلوَ الآخر وعلى وجهه تعبيرات العَجْز.
«؟ والآن يا رفيقي العزيز، من أنت؟ وما الذي تبحَث عنه هنا » : قال ستانلي هوبكنز
لملَمَ الرجل شتات نفسه، وواجَهَنا مُحاولًا أن يبدو رابِط الجأش وقال:
أظنُّ أنكم مُحقِّقون. أليس كذلك؟ وأنتم تعتقِدون أن لي علاقة بمقتل بيتر كاري. »
«. لكنِّي أؤكد لكم أنني بريء
«؟ سنتبيَّنُ ذلك لاحِقًا، لكن أولًا ما اسمك » : قال هوبكنز
«. أدُعى جون هوبلي نيليجان »
لاحظْتُ هوبكنز وهولمز يتبادَلان نظرةًسريعة.
«؟ ماذا تفعل هنا »
«؟ هل يُمكِننا التحدُّث على انفراد »
«. كلا، بالطبع لا »
«؟ لماذا عليَّ أن أخُبرَك »
«. إذا لم يكن لديك إجابة، فمن المُحتمَل أن يكون موقفُك سيئًا أثناء المُحاكمة »
حسنًا، سأخبرُك بكلِّ شيء، ولمَ لا؟ على الرغم من أنَّني أمقُت » : فزِع الشاب وقال
«؟ فكرة إحياء تلك الفضيحة القديمة. هل سمِعتَ من قبل عن دوسون ونيليجان
عرفتُ من تعبيرات وجه هوبكنز أنه لم يَسمَع بهما من قبل، بينما بدا على هولمز
الاهتمام الشديد.
هل تقصد صاحِبَي مَصرف مُقاطعات غرب إنجلترا. لقد أعلَنا إفلاسَهما، وهما »
مَدينان بمليون جنيه إسترليني، وقد تسبَّبا في دَمار نصف عائلات مُقاطعة كورنوال، وبعد
«. هذه الحادثة اختفى نيليجان
«. بالضبط، نيليجان هو والدي »
حصلْنا في النهاية علىشيءٍ قاطِع، لكن ما زالت هناك فجوَةٌ كبيرة بين هُروب صاحِب
المَصرف وبين إلصاق الرُّبَّان بيتر كاري على الحائط بأحد رِماحه. أصغَينا لكلِمات الشابِّ
باهتمامٍ شديد.
كان أبي المسئول عن هذه الحادثة؛ فداوسون كان قد تَقاعَد. وعلى الرغم من أنني »
كنتُ في العاشرة من عمري في ذلك الوقت فإنَّني كنتُ كبيرًا بما يكفي لأشعُر بالخِزي
والرُّعب. دائمًا ما كان يقول الناس إن أبي سرَق كلَّ السَّنَدات المالية وهرَب. لكن هذه
ليست الحقيقة. لقد اعتقد أبي أنه لو مُنِح بعض الوقت لتحصيلها لأصبح كلُّ شيءٍ على
ما يُرام، وحصل كلُّ صاحِب دَين على حقِّه كاملًا. لقد ذهب في رحلةٍ إلى النرويج بيَختِه
الصغير قُبيل صدور الأمر بإلقاء القبض عليه. أتذكَّر آخر ليلةٍ عندما ودَّع أمُِّي، ترك لنا
قائمةً بالسَّنَدات المالية التي أخذها وأقسم أنه سيعود ويُثبِت نزاهته وأنه لن يُعرِّضأحدًا
ممَّن وثِقوا به للمُعاناة. إلَّا أننا لم نَسمَع عنه أي أخبارٍ بعد ذلك. لقد اختفى أبي واليَخت
تمامًا. اعتقدتُ أنا ووالدتي أنه غرِق في قاع البحر باليَخت والسندات المالية التي كانت معه.
إلَّا أن أحد أصدقائنا الأمَُناء الذي يعمل رجل أعمال اكتشف منذ فترةٍ أن بعض السندات
المالية التي كانت بِحَوزة أبي ظهرت ثانيةً في سوق الأوراق المالية في لندن. لن تتخيَّل كم
كنَّا مَذهولين. قضيت أشهرًا في مُحاولة تعقُّب السندات المالية، وفي النهاية وبعد كثيرٍ من
الإحباطات والصعوبات، اكتشفتُ أن البائع الأصلي للسندات هو بيتر كاري صاحب هذا
الكوخ.
بطبيعة الحال تحرَّيتُ عن هذا الرجل. وعلمتُ أنه قائد سفينة مُخصَّصة لصَيد
الحِيتان، كانت على وشْك العودة من القطب الشمالي في نفس الوقت الذي كان يُبحِر فيه
أبي قاصِدًا النرويج. كان خريف هذا العام مُضطربًا تعصِف فيه الرياح الجنوبية بشكلٍ
مُتواصِل. ومن المُحتمَل أن يكون يَخت أبي قد انجرَف إلى الشمال، وهناك التقى بسفينة
الرُّبَّان بيتر كاري. ولو كان ذلك قد حدَث بالفعل إذن فماذا حلَّ بأبي؟ على أيِّ حالٍ، لو
استطعتُ أن أعرف من دليل بيتر كاري كيف أتَت هذه السندات إلى السوق، فإن ذلك
سيكون دليلًا على أن أبي لم يبِعْها، وأنه حين أخذَها لم يكن لديه الدافِع للتربُّح منها بشكلٍ
شخصي.
جئت إلى ساسكس بِنيَّة مُقابلة الرُّبَّان، لكن في هذه اللحظة كان قد لقِيَ حَتفَه
الشنيع. قرأتُ في التحقيق وصفًا لكوخه، وذَكر هذا التحقيق أن الرُّبَّان يحتفِظ في هذا
الكوخ بالدفاتر القديمة الخاصَّة بسفينته. وفكرتُ أنني إذا استطعتُ أن أطَّلِع على ما حدث
في شهر أغسطس عام ١٨٨٣ على مَتن السفينة سي يونيكورن، فسأتمكنُ من حلِّ لُغز
مصير أبي. حاولتُ الليلة الماضية أن أحصُل على هذه الدفاتر، ولكن عجزتُ عن فتْح الباب.
وقمتُ بمحاولةٍ أخرى الليلةَ وبالفعل نجحت؛ ولكنني وجدتُ الصفحات المُوافِقة لشهر
«. أغسطس مَنزوعةً من الدفتر. وفي هذه اللحظة وجدتُ نفسي أَسِيرَكُم
«؟ هل هذا كلُّشيء » : سأله هوبكنز
«. نعم هذا كلُّشيء » : أجاب مُشيحًا بنظَره
«؟ ألَا يُوجَد لديكشيء آخر لتُخبرنا به »
«. نعم لا يُوجَدشيء آخر » : تردَّد لبُرهةٍ ثم أجاب
«؟ هل جئتَ هنا قبل ليلة أمس »
«. لا»
وأمسك الدفتر الذي تُوجَد بأولصفحةٍ «؟« هذا » إذًا بماذا تُفِّسر » : صرخ هوبكنز قائلًا
فيه الأحرُف الأولى التي ترجِع لاسم أسيرِنا وتُوجَد به أيضًا بُقعة دمٍ على الغلاف.
انهار أسيرُنا البائس. ودفن رأسه بين كفَّيه، وارتعدَت فرائصُه.
«. من أين أتيتَ به؟ أنا لا أعرف، اعتقدْتُ أنَّني أضعتُه في الفُندق » : تنهَّد قائلًا
هذا يكفي، أيُّ شيء آخر تودُّ أن تقوله عليك أن تقولَه في » : قال هوبكنز بصرامة
المَحكمة. ستأتي الآن معي إلى القِسم. حسنًا يا سيِّد هولمز أنا مُمتنٌّ جدٍّا لك ولصديقك
لمَجيئكما لمُساعدتي. لقد اتَّضح أن وجودكما غيرضروري، وأنني كنتُ أستطيع حلَّ هذه
القضية بدون الاستِعانة بكما؛ ومع ذلك فأنا مُمتنٌّ جدٍّا. لقد حجزتُ غُرفتَين لكما في فندق
«. برامبلتاي، ومن ثم فبِوُسعنا السير إلى القرية معًا
حسنًا يا واطسون، ما » : في الصباح التالي أثناء رِحلتنا للعَودة للندن سألني هولمز
«؟ رأيك فيما جرى في الأحداث السابقة
«. أرى أنك لستَ راضيًا »
نعم يا عزيزي واطسون أنا في غاية الرِّضا؛ إلا أنني في الوقت نفسه لا أوافِق على »
الطرُق التي يتَّبِعها ستانلي هوبكنز. لقد خاب ظنِّي في ستانلي هوبكنز. توقَّعتُ منه أمورًا
أفضل. يجِب دائمًا أن تبحث عن البدائل المُمكِنة وتحتاط لها. هذه هي القاعدة الأولى في
«. التحقيق الجنائي
«؟ وما هي البدائل في هذه القضية »
مسار التحقيقات الذي أتَّبِعه بنفسي، من المُحتمَل ألَّا يُجدي نفعًا، لا يُمكنني الحُكم »
«. على ذلك، إلا أنَّني على أيِّ حالٍ يجِب أن أتَّبِعه إلى النهاية
العديد من الخطابات كانت في انتِظار هولمز بشارع بيكر ستريت. انتزَع واحدًا منها
وقرأه ثم انفجر ضاحكًا في انتِصار.
ممتاز يا واطسون؛ لقد وُجِد البديل. هل لديك استمارات تلغراف؟ من فضلك اكتُب »
المرسل إليه: سمنر، وكيل الشحن، شارع راتكليف هايواي؛ » : بعض الرسائل من أجلي
هذا اسمي «. أرسِلْ غدًا ثلاثة رجال ليصِلوا في تمام الساعة العاشرة صباحًا. إمضاء: بازل
المرسل إليه: المُفتِّش ستانلي هوبكنز، ٤٦ شارع لورد » : في هذه المناطق. الرسالة الأخرى
أبرِقْ .« مُهم » ستريت، بريكستون؛ احضرْ على الفطور في تمام الساعة التاسعة والنصف
هذا يكفي يا واطسون؛ فهذه القضية «. إليَّ إذا لم تستطِع الحضور. إمضاء: شيرلوك هولمز
اللعينة ظلَّت تَتبَعُني كالشبَح لعشرة أيام. ولهذا السبب سأصرِفُها عنِّي كُليٍّا. أوُمِن أن غدًا
«. ستكون آخر مرة نَسمع عنها شيئًا
في الوقت المُحدَّد جاء المُفتش ستانلي هوبكنز، وجلسْنا جميعًا لتناوُل الفطور الشهيِّ
الذي أعدَّته لنا السيدة هدسون. كانت رُوح المُفتِّشالشاب المعنوية مُحلِّقة في السماء؛ فكان
في غاية سعادته لنجاحه في القضية.
«؟ هل تعتقد حقٍّا أنك توصَّلتَ إلى الحلِّ الصحيح للُغز هذه القضية » : سأله هولمز
«. القضية اكتملَت تمامًا »
«. لا يبدو لي أن القضية قد حُسِمَت »
«؟ لقد أدهشتَني يا سيد هولمز. ماذا بعدُ يُمكننا أن نرغَب فيه »
«؟ هل تفسيرك غطَّى كلَّ النقاط »
بلا شك. لقد اكتشفتُ أن نيليجان الصغير كان موجودًا في فندق برامبلتاي في يوم »
الجريمة نفسه. ادَّعى أنه جاء ليلعَب الجولف. كانت غُرفته بالدور الأرضيوكان بإمكانه
الخروج متى شاء. في تلك الليلة ذهب إلى وودمانز لي لمُقابلة بيتر كاري في الكوخ، وتشاجَر
معه وقتلَه مُستخدِمًا الرُّمح. ولمَّا ذُعِر لما فعله، هرَب خارج الكوخ وسقط منه الدفتر الذي
جلَبَه معه ليسأل بيتر كاري عن هذه السندات المُختلِفة. يُمكن أن تكون قد لاحظتَ أن
بعضًا من هذه السَّندات، وليس أغلَبها، تحمِل علامة صح. تلك السندات الحامِلة لعلامة
صح وُجِدت في سوق لندن. أما السندات الأخرى فهي على الأرجَح كانت لا تزال في حِيازة
بيتر كاري. وبحسْب ما جاء في أقوال نيليجان الصغير، فقد كان مُتلهِّفًا لاستردادها لمُراضاة
دائني أبيه. وبعد هروبه لم يَجرؤ على الاقتِراب من الكوخ مُجدَّدًا لبعض الوقت؛ ولكن في
النهاية أجبر نفسه على فِعل هذا لكي يحصُل على المعلومات التي يحتاجها. كما ترَون. هذا
«؟ كله بالتأكيد سهل وبديهي. أليس كذلك
ابتسمَ هولمز وهزَّ رأسه.
يبدو لي أن هناك ثغرةً ما يا سيد هوبكنز، وهي أنَّ ما قُلتَه مُستحيل في حدِّ ذاته. »
هل جرَّبتَ من قبلُ أن تغرِز رُمحًا في جسدٍ ما؟ لا لا يا عزيزي هوبكنز، يجِب أن تُعِير
هذه التفاصيل اهتمامًا. يُمكن لصديقي واطسون أن يُخبرك أنَّني قضيتُ نهارًا كاملًا في
هذا التدريب. إنَّ الأمر ليس سهلًا ولتقومَ به فعلى ذِراعك أن تكون قَويةً ومدرَّبة. أما هذه
الضربة فلقد تمَّت بكثيرٍ من العُنف، حتى إن رأس الرُّمح كان مغروسًا بشكلٍ غائر في
الحائط. هل تتخيَّل أن هذا الشابَّ الهزيل يُمكن أن يقدِر على ارتكاب مثل هذا الاعتِداء
الشنيع؟ هل يكون هو الرجل نفسه الذي جلَس جنبًا إلى جنبٍ مع بيتر الأسود يَحتسون
مَزيج شراب الروم والماء في منتصف الليل؟ هل كان جانِب وجهه هو نفسه الذي شُوهد
ظلُّه على الستائر قبل ليلتَين من الحادثة؟ لا لا يا هوبكنز؛ فعلَينا أن نبحث عن شخصٍ
«. آخر، شخصأكثرشراسة
كان وَجهُ المُحقِّق يتجهَّم أكثر فأكثر طوال حديث هولمز، وقد أخذت كلُّ أحلامه
وطموحاته تتداعى فوق رأسه. ولكنه لن يتخلَّى عن رأيه بسهولة.
لا يمكنك أن تُنكِر وجود نيليجان في هذه الليلة يا سيد هولمز. والدفتر سيُثبِت ذلك. »
وإخال أنني أملك أدلةً كافية لإقناع هيئة المُحلِّفين، حتى لو استطعتَ أن تجِد ثغرة فيها.
بالإضافة إلى ذلك يا سيد هولمز، هذا الرجل أصبح تحت يدي الآن. أما الشخصالمُروِّع الذي
«؟ تتكلَّم عنه، فأين هو
في الواقع أعتقد أنه على الدَّرَج، أعتقِد يا واطسون أنك ستُبلي » : قال هولمز بهدوء
نهض ثم وضع ورقةً مكتوبة «. حسنًا إذا وضعتَ المسدَّس في مكانٍ يُمكنك الوصول إليه
«. نحن مُستعدُّون الآن » : على الِمنضدة الجانبية. وقال
خارج الغرفة، سمِعنا حديثًا يجري بين بعض الأصوات الغليظة، ثم دخلَت علينا
السيدة هدسن تُبلِغنا بأن ثلاثة رجال يسألون عن كابتن بازل.
«. اسمحي لهم بالدخول واحدًا تلوَ الآخر » : قال هولمز
دخل الرجل الأول، كان قصير القامة مُكتنزًا وتكسو وجنتَيه الحُمرة، ويمتلك أيضًا
«؟ ماذا تُدعى » : سوالِف منفوشة بيضاء. أخرج هولمز خطابًا من جيبه، وسأله قائلًا
«. جيمس لانكاستر »
أعتذِر منك يا لانكاستر لكن المنصِب مشغول. تفضَّل، هذا نصف سوفرن (قطعة »
نقدية بريطانية سابقة) تعويضًا لقدومك. من فضلك ادخُل هذه الغرفة وانتظرْني هناك
«. لبضع دقائق
كان الرجل الثاني طويل القامة وهزيل البِنية وذا شعرٍ مُسترسِلٍ ووجنتَين شاحِبتين.
كان يُدعَى هيو باتنز. رفضَه أيضًا وأعطاه النصف سوفرن وطلَب منه الانتظار.
المُتقدِّم الثالث كان ذا مظهرٍ مُميَّز. كان وجهه ككلب البولدوج الغاضِب يَحوطه إطار
مُتشابك من الشَّعر واللِّحية، ويملك عَينين حادَّتَين وغامِقتَي اللون تلمعان خلف غلافٍ
يتكوَّن من حاجِبين سميكين وكثيفين وناتِئين. ألقى التحيَّة ثم وقف كالبحَّارة وقلب القُبَّعة
بين يدَيه.
«؟ ما اسمك » : سأله هولمز
«. باتريك كارنز »
«؟ هل أنت صائد حِيتان »
«. أجل يا سيِّدي، لقد قمتُ بستٍّ وعشرين رحلة »
«؟ من دندي على ما أعتقِد »
«. أجل يا سيدي »
«؟ وهل أنت مُستعدٌّ للانطلاق على متن سفينة استكشافية »
«. أجل يا سيدي »
«؟ كم أجرُك »
«. سآخُذ ثمانية جُنيهات في الشهر »
«؟ هل بإمكانك البدء في الوقت الحالي »
«. أجل، بمجرَّد أن أجلُب عُدَّتي »
«؟ هل جلبتَ أوراقك معك »
«. أجل يا سيدي »
أخرَجَ من جيبه رِزمة من الأوراق البالية واللَّزِجة. ألقى هولمز نظرةً خاطفة عليها
وأعادها إليه.
أنت الرجل الذي أبحث عنه، ها هي الاتفاقية هناك على الطاولة الجانبية. » : قال هولمز
«. وقِّع عليها لتسوية المسألة برمَّتها
اندفع البحَّار عبر الغرفة وأخذ القلم.
«؟ هل أوقِّع هنا » : سأل وهو ينحني على الطاولة
مال هولمز على كتِف البحَّار ومرَّر كِلتا يديه على رقبَته.
«. هذا سيَفي بالغرَض » : وقال
سمعتُ صليل أصفادٍ وخوارًا كأنه ثَور هائج. في اللحظة التالية كان هولمز والبحَّار
يتدحرَجان على الأرض معًا. كان البحَّار ذا قوَّةٍ جبَّارة؛ فعلى الرغم من أن هولمز أحكم
الأصفاد ببراعةٍ حول مِعصَميه، فقد كاد أن يتغلَّب على هولمز بسهولةٍ لولا أن هُرِعتُ أنا
وهوبكنز لنجدته. عندما وجَّهتُ فُوهة المسدس الباردة تجاه صدغه، أدرك حينها أخيرًا
أنَّ مُقاوَمته لن تُجدِي نفعًا. فأوثقْنا الحبل حول كاحِلَيه ونهضنا نلتقِط أنفاسنا بعد هذه
المعركة.
في الحقيقة أودُّ الاعتذار لك يا هوبكنز؛ فلقد أصبح البيض المخفوق » : قال هولمز
باردًا، إلَّا أنك ستستَمتِع بباقي فطورك على نحوٍ أفضل. أليس كذلك؟ لأنك أخيرًا انتهيتَ
«. من قضيتك مُنتصِرًا
لا أعرِف » : عقد الذهول لسان ستانلي هوبكنز، وكسَت وجهه الحُمرة وتفوَّه أخيرًا قائلًا
ماذا أقول يا سيد هولمز، فمِن الواضِح أني من البداية كنتُ أجعل من نفسي أضحوكة.
أدُرِك الآن ما كان يجِب ألَّا أنساه أبدًا، وهو كوني التلميذ وكونك المُعلِّم. فحتى الآن، على
«. الرغم من أنَّني رأيتُ ما فعلته، فإنني لا أعلم كيف فعلته أو ما مدلوله
حسنًا، حسنًا، كلُّنا نتعلَّم عن طريق الخِبرة، والدرس الذي » : قال هولمز بروح الدُّعابة
يَتعيَّن عليك تعلُّمه هذه المرة هو ألا تتجاهل البدائل أبدًا. لقد استحوذ نيليجان الصغير على
كلِّ انتباهِك حتى إنك لم تُمهِل نفسك وقتًا للتفكير في بيتر كيرنز القاتل الحقيقي لبيتر
«. كاري
قطع حديثَنا صوت البحَّار الأجشُّ قائلًا:
اسمَع يا سيِّد، أنا لا أشكو من اقتِيادي بهذه الطريقة لكن أريدُك أن تُسمِّي الأشياء »
« أزهقتُ رُوحه » بمُسمَّياتها الصحيحة. لقد قُلتَ إنَّني قتلتُ بيتر كاري عمدًا وأنا أقول إنني
فقط، وهناك فرق شاسع بين الأمرَين. ربما لا تُصدِّق ما أقول. ربما تعتقد أنني أختلِقُ
«. الأكاذيب
«. لا، على الإطلاق. دعنا نسمع ما تودُّ أن تقوله » : قال هولمز
سأقصُّ عليكم الحادِثة باختصار، وأقُسم إن كلَّ كلمةٍ سأتفوَّه بها هي الحقيقة. »
أعرِف بيتر الأسود جيدًا، وعندما سحَب سكينه غرزتُ الرُّمح فيه بكلِّ قوة، لأنني علمتُ
لحظتها أنني لا أملك خيارًا؛ إما حياته أو حياتي. وهكذا مات.
يُمكن أن تقول إنه قُتل عمدًا. على أية حال أنا مَيتٌ، سواء كان عن طريق حبل المَشنقة
«. الذي ينتظِر رقَبتي أم بسكين بيتر الأسود الذي كان سيُغرَز في قلبي
«؟ كيف وصلتَ إلى هناك » : سأله هولمز
سأخبرُك بكلِّ شيءٍ منذ البداية؛ فقط ساعِدني في الجلوس حتى أستطيع أن أتكلَّم »
بأريحية. لقد حدَث الأمر في سنة ١٨٨٣ ؛ في شهر أغسطس من هذا العام. كان بيتر كاري
وأنا كنتُ صائد حِيتان مُساعدًا. كنَّا نشقُّ طريقنا من الكُتَل ،« سييونيكورن » رُبَّان سفينة
الجليدية مُتَّجهَين إلى الموطن، واصطحبَت الرياح المُعاكِسة والعواصف الجنوبية رحلتنا لمدَّة
أسبوع. حين انتشلْنا مركبًا صغيرًا قد جرفَتْه الرياح تجاه الشمال، وجدْنا رجلًا واحدًا على
مَتنه، وكان الرجل من القرية. اعتقَد الطاقم أن السفينة كانت ستغرَق فحاولوا الوصول
إلى الشاطئ النرويجي في هذا القارِب الصغير. أعتقِد أنهم غرِقوا جميعًا. هكذا أخذنا الرجل
معنا على متن السفينة، وجرَت مُحادثات طويلة بين هذا الرجل والرُّبَّان بيتر كاري في
المقصورة. كان كلُّ ما وجدْناه معه من أمتعة صندوق مصنوع من الصفيح. وعلى حدِّ
علمي، لم يذكر اسم الرجل مطلقًا. وفي الليلة التالية كان قد اختفى كأنه لم يكن هنا. ظنَّ
بقية الطاقم أنه إما أن يكون قد ألقى بنفسه من على متن السفينة، أو أنه سقط من على
متن السفينة في ظلِّ الطقسالسيئ الذي كنَّا نواجِهه. رجل واحد فقط هو الذي كان يعرِف
ما حدَث له، وكنتُ أنا هذا الرجل، لأنَّني في منتصف نَوبة مُراقبة في ليلةٍ مُظلمة رأيتُ بأم
عيني كيف أمسكه الرُّبَّان وألقاه من فوق سور السفينة، قبل يومَين من رؤيتنا لمنارة جزر
شِتلاند.
حسنًا، احتفظتُ بما رأيتُ لنفسي وانتظرتُ حتى أرى ماذا سأجني من وراء ذلك.
عندما عُدنا إلى اسكتلندا تكتَّمْنا على الموضوع بسهولةٍ ولم يُثَر حوله أيُّ أسئلة؛ فلقد مات
أحد الغُرباء وليس من شأن أحدٍ أن يُحقِّق في موته. وعقب هذا بوقتٍ قصير تقاعَد بيتر
كاري، ومرَّت سنوات طويلة قبل أن أعلم بمكانه. اعتقدتُ أنه ارتكب هذه الجريمة من
أجل ما وَجَده في الصندوق الصفيح، وأنه يستطيع أن يدفَع لي مَبلغًا مُعتبرًا مُقابل شراء
سُكوتي.
علمتُ بمكانه عن طريق بحَّار كان قد التقى به في لندن، ذهبتُ إليه لأضغط عليه. في
الليلة الأولى كان عقلانيٍّا على نحوٍ كافٍ وكان مُستعدٍّا أن يُعطيني ما يكفيني للتقاعُد من
العمل في البحر بقيَّة حياتي. اتَّفقْنا على أن نُرتِّب كلَّ شيءٍ بعد يومين. عندما ذهبت إليه
وجدتُه قد دخل في حالة سُكْر وكان مِزاجه بشِعًا. جلسْنا واحتسَينا الخمر وثرثرْنا حول
الأيام الخَوالي، لكن كلما تمادى في السُّكر زاد بُغضيللنظرة التي تَعلو وَجهه. لمحتُ هذا
الرُّمح مُعلَّقًا على الحائط، وخطر ببالي أنني ربما أحتاج إليه قبل أن يقضي عليَّ. وأخيرًا
انفجَر في وجهي يبصُق عليَّ ويَلعنُني، ونِيَّة القتل تُطلُّ من عَينيه، وكان يَحمِل مطواة
ضخمة في يديه. لم يكن لديه الوقت الكافي لإخراجِها من جرابها لأنَّني كنتُ قد غرزْتُ
الرمح فيه. يا إلهي! لقد أطلَق صيحةً مُروِّعة؛ وما زال وجهه يَحُول بيني وبين نومي!
وقفتُ هناك ودماؤه تنضَح في كلِّ مكان. انتظرتُ لبُرهة؛ ولكن كل شيء كان ساكنًا؛ لذا
لملمتُ شتات نفسيمرة أخرى، ونظرتُ حولي فوجدتُ الصندوق الصفيح فوق أحد الأرفُف.
وعلى أيِّ حال، فأنا أملك الحقَّ فيه تمامًا مثل بيتر كاري؛ لذا أخذتُه معي وتركتُ الكوخ.
لكنَّني كنتُ غَبيٍّا حين تركتُ حافِظة التَّبغ الخاصَّة بي على الِمنضدة.
الآن سأقصُّعليكم الجُزء الأكثر غَرابةً في القصَّة كلها: ما إن خرجتُ من الكوخ حتى
سمعتُ وقْع أقدام أحد الأشخاص، فاختبأتُ وسط الشُّجَيرات. جاء رجلٌ يتسلَّل ودخل إلى
الكوخ، وصرَخ كأنه رأى شبَحًا، وفرَّ راكضًا بأقصى سُرعةٍ لديه حتى اختفى. ليس لديَّ
فكرة عن هُويته أو ماذا كان يُريد. أما أنا فقدسِرْتُ عشرة أميال، وركبتُ قطارًا من محطَّة
تونبريج ويلز. وهكذا وصلتُ إلى لندن دون أن يعرِف أحدٌ ما حدَث.
حسنًا، عندما فحصتُ محتويات الصندوق لم أجِد مالًا بداخله، بل لم أجِد شيئًا غير
سندات لا أجرؤ على بَيعها. لم أستطِع الحصول على أيِّشيءٍ من بيتر الأسود، وتقطَّعَت بي
السُّبل في لندن وأنا لا أملك حتى شلنًا. لم يَبقَ لي إلا مِهنَتي. رأيتُ تلك الإعلانات التي تبحث
عن صائدي الحِيتان وبأجورٍ مُغرية، لذلك ذهبتُ إلى وكلاء الشحن، ومن ثَمَّ أرسلوني
إليكم. هذا كلُّ ما أعرِف. وأقول مُجدَّدًا لو أني قتلتُ بيتر الأسود عمدًا، فعلى العدالة أن
«. تَشكرَني لأنني وفَّرتُ لهم ثمن حَبل المشنقة
هذا إقرار واضِح للغاية، أعتقِد يا هوبكنز أنك يجِب » : رفع هولمز غليونه وأشعله قائلًا
ألَّا تُضيِّع الوقتَ وتنقِل سَجينك إلى مكانٍ أكثر أمانًا؛ فهذه الغرفة ليست مُناسبة لأن تكون
«. زنزانة، والسيد باتريك كيرنز يحتلُّ مساحةً كبيرة جدٍّا من السجادة
لا أعرِف يا سيد هولمز كيف أعُبِّر لك عن امتِناني. حتى الآن لا أفهم » : قال هوبكنز
«. كيف وَصلتَ إلى هذا النتيجة
ببساطةٍ شديدة، لقد حالَفني الحظُّ أن أحصل على الدليل الصحيح منذ البداية. كان »
من المُحتمَل جدٍّا أن تتشتَّت أفكاري مثلما حدَث لك لو علمتُ بوجود الدفتر. إلا أنَّ كلَّ ما
توصلتُ إليه كان يُشير إلى اتجاهٍ واحد. القوَّة الهائلة والمهارة في استِخدام الرُّمح، وشراب
الروم المَمزوج بالماء وحافِظة التَّبغ المصنوعة من جِلد الفُقمة والتي يوجَد بها تَبغ خشِن؛
كلُّ هذا يجعلني أفكر في بحَّار، وخصوصًا صائد حِيتان. كنتُ مُتأكدًا من أن الأحرف الأولى
المكتوبة على الحافظة هي مجرَّد صُدفة ولا تُشير إلى بيتر كاري، حيث إنه نادرًا « بي سي »
ما كان يدخِّن، وإننا لم نجِد غليونًا في الكوخ الخاصِّ به. هل تتذكر حين سألتك عما إذا
كان هناك ويسكي وبراندي في الكوخ وأنت أجبتَ بنعم. كم شخصًا من الفلاحين سيفضِّل
احتساء الرُّوم حين يتسنَّى له احتِساء الكحوليات الأخرى؟ بالطبع كنتُ واثقًا من أنه
«. بحَّار
«؟ وكيف عثرت عليه »
يا سيدي العزيز، لقد أصبحَت المشكلة في غاية البساطة. إذا كان القاتل بحَّارًا، »
.« سييونيكورن » فبالتأكيد سيكون واحدًا من البحَّارة الذين كانوا معه على متن
وحسب ما توصَّلتُ له من معلومات، فهو لم يُبحِر على متن أي سفينة أخرى. قضيتُ
ثلاثة أيام أرُسِل البرقيَّات إلى دندي، وفي نهاية هذه المدَّة كنتُ قد عرفتُ أسماء طاقم سفينة
في سنة ١٨٨٣ . وعندما وجدتُ باتريك كيرنزضمنصائدي الحِيتان، كنتُ « سييونيكورن »
قد قاربتُ على الانتهاء من بحثي. اعتقدتُ أن الرجل ربما يكون في لندن، وأنه قد يرغب
في أن يُغادر البلد لبعض الوقت. لذلك قضيتُ بضعة أيام في الطرف الشرقي من لندن،
اختلقتُ رحلةً استكشافية للقطب الشمالي، ووضعت أجورًا مُغرِية لصائدي الحِيتان الذين
«! سيعملون تحت قيادة الكابتن بازل؛ وها هي النتيجة
«! مذهل! مذهل » : صاح هوبكنز قائلًا
عليك أن تُفرِج عن نيليجان الصغير بأسرع وقتٍ مُمكن. وأعتقد أنك » : قال هولمز
مَدين له بالاعتِذار. يجِب أن نُعيد إليه الصندوق المعدني، لكن السندات التي قام بيتر كاري
ببَيعها قد ضاعت إلى الأبد بالطبع. ها قد وصلَت سيارة الأجرة، بإمكانك أن تأخُذ سجينك
وتذهب. إن احتجْتَ إليَّ في المُحاكمة، فستجِد عنواني أنا وواطسون في مكانٍ ما في النرويج؛
«. سأرسِل التفاصيل لاحقًا
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.