الحياة في مصر بالنسبة لي كانت صعبة جدًا وكان لا بد من السفر.. البداية واحد قريبي اتصل بي وقالي جايبلك عقد عمل في (ع.ف) و (ع.ف) دي مدينة في المنطقة الوسطى من المملكة تابعة للرياض.
-هينقلك لفووق- تقريبًا هو كان قصده إنه هينقلني الآخرة بس أنا فهمته غلط، قولته تمام.. طبعًا مكنش فيه نت ساعتها ولا فيس عشان أسأل العقد ده كويس ولا تعبان. رحت المكتب مضيت العقد و خلصت الأوراق والكشف الطبي واخدت التأشيرة.
قبل السفر بيومين لقيته بيتصل بيا: خير يا ريس.
قالي - هتقابل هناك الحاج سيد حمايا هو اللي باعت العقد "علم من أعلام ( ع.ف)، له في الجبال علامات". اعتبره كفيلك لأنه هو الكل في الكل..
قولتله.. طيب إيه المطلوب؟؟
قالي - فيه حاجات تخصه هتاخدها معاك.
- قولتله بدون تردد: يا خبر ده أقل واجب طبعًا..
افتكرته هايبعت معايا كيس أدوية ولا بطة محمرة أو كيلو مشبك للكفيل.. لقيته جايبلي كونتينر مليان أكياس مقفولة تقريبًا للبلد كلها.. إيه ده يا عم الحاج!! هو الحاج سيد هيجامل الكوكب كله على قفايا؟!
اضطريت أسفًا إني أخد قرية البضايع دي معايا في الشنطة بس -الحمد لله- لقيت مكان احط فيه الشرابات بتاعتي.. بقية لبسي وحاجتي الشخصية حطيتها في شنطة هاند باج صغيرة مع حتتين لحمة الوالدة -الله يمسيها بالخير-حمرتهملي عشان اتسلى بيهم في الطريق.
ليلة السفر
ليلة السفر عندنا كمصريين وخاصة في القرى والأرياف بيكون لها طقوس خاصة.. بنعتبرها ليلة فرح بنستقبل فيها الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران، وتقريبًا البلد كلها بتيجي تهني وتبارك احتفالًا بهذا الحدث التاريخي..
وكعادة الأصدقاء أما بياخدوا العريس عشان يحتفلوا بيه في آخر ليلة قبل ما يكسر العزوبية، اتجمعت أنا وأصدقائي في بيت صديق لينا وقعدنا نفتكر ذكرياتنا المنيلة بحلوها ومرها، وحسسوني إني مش راجع وإني مش هشوف سحنتهم مرة تانية.. وعشان يكملوا السواد شغلولي أغنية شادية خلاص مسافر.. بعد ما سمعت أول كوبليه من الأغنية طفيت الكاسيت ودورت فيهم الضرب.. إيه يا جماعة ده انتو لو هتدفنوني مش هتعملو معايا كده.. هزرنا وضحكنا وقضينا الليلة وروحت البيت عشان احط اللمسات الأخيرة واظبط أوراقي وشنطي وأقصد وجه كريم مع أول ضوء للنهار.
الطريق إلى سفاجا
كعادتي بحب أسافر من غير ما حد يمشي معايا ويودعني عشان اكسر رهبة السفر؛ تقليلًا للتوتر والشد العصبي خاصةً وإني رايح للمجهول.
الرحلة كانت بري وما أدراكم ما السفر البري من مصر للسعودية.. رحت مكتب السفر اللي حجزت منه انتظارًا للباص اللي هياخدنا أنا وباقي الناس إلى ميناء سفاجا، معظم اللي كانوا معايا كانوا عمال نازلين إجازات ومتعودين على الجو ده، بدأنا نتحرك بالباص ومفيش ساعة إلا وبدأت اسمع سمفونيات عزف منفرد وأحيانًا جماعي..
شخير طبيعي شغل بلدنا، أصابني بنوع من الذهول والرعب؛ لأنه كان بيتحول لصراعات وخناقات أحيانًا.. معظم الشكامين كانت مسدودة، واللي كان بيصحى يريح شوية من الشخير كان بيلتهم علبة سجاير كيلوباترا محشية غازات مسيلة للدموع، وطبعًا الشبابيك معظمها مقفول عشان الرجالة تنام في هدوء.
قضيت تقريبًا ٦ ساعات في حالة احتضار لا قادر أتحمل ولا ينفع أنزل ولا عارف أتكلم مع حد أنه يرحم أمي العيانة ويفتح شباك أو يبطل تدخين، لكن الشيء الوحيد اللي صبرني هو جمال الطبيعة لأول مرة كنت اشوف الغردقة وسفاجا والجبال المبهرة اللي في الطريق ومياه البحر الأحمر الساحرة لحد ما وصلنا ميناء سفاجا -والحمد لله- وهناك شوفت المرار حرفيًا؛ وقفت في طابور أطول من طابور الجمعية لحد ما ختمت الجواز بعدها اتحركت بالشنط في اتجاه سفينة الأحلام.. وطبعًا مفيش حاجة اسمها مجانًا ولا فيه سائل عن مسؤول، كل عامل ساحبلي عربية لنقل الشنط وأما تسأله تاخد كم؟ يقولك على مبلغ أكبر من تمن الشنط اللي معاك باللي جواها، وده بيخليك تكمل مسلسل الانتحار وتشيل الشنط على كتفك أو تسحبها وراك..
وصلت أخيرًا المركب وداخل أسلم الشنط لقيت واحد بلدياتي بيسلم عليا، اخدته بالحضن طبعًا؛ لأنه أول حد أعرفه في الليلة دي..
بعد السلامات والطيبون لقيته بيقولي بكل ثقة: خد الشنط معاك وأنت طالع المركب..
قولتله- ليه يا ريس، هي هتخاف تنام لوحدها؟
قالي - الشنط بتتقلب، أنا قديم عالخط وفاهم..
حسسني إنه هو اللي بيلم الأجرة على المركب...
قولتله: تتقلِّب ازاي؟ ده مستقبل (ع.ف) كلها في الشنطة دي..
اخدت كلامه على محمل الجد ورفعت الشنطة وطلعت العبَّارة شوفت ليلة زرقا أصعب من كاللو الصوبااااع سعادتك. متخيلين أول سفرية وكمان بري ومعايا شنطة سفر وزنها ٢ طن تقريبًا وشنطة هاند باج متشعلقة في رقبتي زرقت وشي من قلة الأكسجين طلعت بيهم ارتفاع ٤ أدوار؛ لإني كنت حاجز عالسطح مباشرةً للاستمتاع بأسماك القرش وهي بتلعب باليه مائي.. هعمل إيه نزيه من يومي..
والأجمل كمان إنها كانت عبَّارة السلام ٩٨ اللي غرقت بعدها بشهور معدودة واللي كانت نسخة طبق الأصل من مراجيح السبتية رغم هدوء الرياح، واحنا بنتمرجح فوق سطح العبَّارة أنا وبلدياتي الخبير في أعالي البحار لقيته منكمش كده في نفسه وباين عليه القلق قولتله –مالك ؟
قالي.. أنا قلقان من المركب لأنها بتميل أوي واحتمال تعملها معانا..
قولتله .. نعم يا عم الحاج! قلقان ازاي؟ ده أنت من شوية كنت عاملي فيها القبطان عزوز. أنت بتستعماني يا هرم.. اومال أنا اعمل إيه ؟؟ ده أنا أول مرة اتمرجح.. قصدي اركب عبَّارة في حياتي، بقولك إيه هي موته ولا أكتر احنا هنتبت فيها ليه..
ضحكنا وهزرنا عشان نكسر حالة الرعب اللي عشناها في الليلة الغامضة دي.. بعدها فتحت الشنطة الصغيرة وطلعت اللحمة وقعدنا نأزأز فيها أنا وهو.. يعني ينفع نموت على لحم بطننا؟!
الحمد لله العبَّارة وصلت ميناء ضبا بالسلامة... ختمنا الجوازات وخرجنا.. سلمت على بلدياتي واللي -الحمد لله- ربنا انقذني من صحبته الغالية ونصايحه اللولبية؛ لأنه كان رايح بريدة.. ودعنا بعض بالدعاء وتسهيل الحال، ركبت الباص من ضبا للرياض لمدة ١٣ ساعة لحد ما جالي تيبُّس في المفاصل وشلل أطفال مؤقت.. نزلت من الباص زي البطة البلدي اللي واخده رصاصتين في ركبها، دخلت استراحة شربت شاي وعملت اتصال من موبايل حد كان معانا في الرحلة عشان أبلغهم في (ع.ف) إني جاي في الطريق عشان يبعتولي حد يستقبلني ، ركبت الباص ل(ع.ف) لمدة ٦ ساعات تقريبًا لحد ما وصلت محطة النقل الجماعي..
نزلت واخدت شنطي وهناك لقيت مجموعة مصريين عاملين قعدة حلوة وفي وسطهم واحد نينجا كده في نفسه وقدامه شيشة ولا الحاج عبد الغفور البرعي عرفت بعد كده إنه الحاج سيد.. وقفت على جنب لا معايا موبايل ولا راديو حتى عشان اتصل بحد.. لقيتهم بينادوا على اتجهت ناحيتهم من غير ما انطق؛ لإني كنت ميت اكلينيكيًا وعايز سرير يلمني.. عرفتهم بنفسي لقيتهم بياخدوني بالأحضان ولا اللي داخل عليهم بكأس العالم..
سلمت عليهم بحرارة وتقمصت شخصية اللمبي في فيلم الناظر وقولتلهم "الا هو الكفيل مجاش معاكم ليه ولا احنا مش قد المقام؟!.." ضحكو طبعًا عالهبل اللي بقوله، واخدوني على بيت غريب الأطوار وهو السكن بتاعهم لحد الكفيل ما يوفرلي سكن، أول ما وصلنا فتحت الشنطة ووزعت غنايم الحرب اللي جواها.. كان هاين عليا اسيب الشنطة كلها للحاج سيد بعد ما آخد منها شراباتي، دخلت غيرت هدومي وخرجت لقيت العشاء جاهز بصراحة دلعوني بعد المرمطة اللي شوفتها وكأني عريس جديد أو خروف هايدبحوه عالعيد مكنتش متأكد.
قعدت معاهم شوية احكيلهم عن مغامراتي في أعالي البحار والأوقات العصيبة اللي عشتها من أول الرحلة لحد ما شافوا خلقتي، وأخيرًا الحاج سيد قام عشان يروح بيته سلم علينا وذهب مع الريح، دخلت أنا كمان نمت ورحت في سبات عميق ولا أهل الكهف....
*****