artherconan

Share to Social Media

سَرَّ الدكتورَ واطسون أنْ يجِدَ نفسَه مرةً أخرى في حُجرة الطَّابق الأوَّل غيرِ المُرتَّبة في
شارع بيكر التي كانت نقطةَ انطلاق العديد من المُغامَرات الرائعة. نَظر حوْله متطلِّعًا
إلى المخطَّطات العلمية المعلَّقة على الجِدار، ورفِّ المواد الكيميائية المتفحِّم سطْحُه بفعل
الأحماض، وحقيبةِ الكمان المركونة في الزاوية، وسَطْل الفحم الذي احتوى منذ وقتٍ طويلٍ
على الغلايين وعلى تبْغ. وأخيرًا، تحوَّلت عيناه إلى الوجه النَّضِروالمبتسِم لبيلي الخادمِ الشديدِ
الحكمةِ والفطنةِ رغم حداثة سِنِّه، الذي ساعد بعضالشيء على مَلْء فراغ الوحدة والعزلة
اللتين أحاطتا بشخصيةِ المحقِّق العظيمِ الكئيبةِ المزاج.
يبدو كلُّشيء كما هو إلى حدٍّ كبير يا بيلي. وأنت كذلك لا تتغيَّر. آمل أن يكون بوسعي »
«. قول الشيء نفسه عنه
ألقى بيلي، بشيء من القلق، نظرةً خاطفةً ناحيةَ باب غرفة النوم المغلَق.
«. أظن أنه في فِراشه ونائم » : قال
كانت الساعة السابعةَ من مساءِ يومٍصيفيٍّ جميل، لكن الدكتور واطسون كان معتادًا
بما فيه الكفاية على عدم انتظام أوقات خلود صديقه القديم إلى فِراشه واستيقاظه، فلم
يَشعُر بالاندهاش من الفكرة.
«؟ أظن أنَّ هذا يعني أنَّ لديه قضية، أليس كذلك »
بلى يا سيدي، إنه يبذل قصارى جهده فيها في الفترة الحالية. إنني أخشىعلىصحته. »
متى تود أن » : إنه يزداد شحوبًا وهزالًا، ولا يَقْرَب الطعام. وحين سألَتْه السيدة هدسون
أنت تعرف «. في السابعة والنصف من بعدِ غدٍ » : أجابها قائلًا «؟ تتناول العشاء يا سيد هولمز
«. طريقتَه حين يكون مهتمٍّا بقضية
«. نعم يا بيلي أعرف »
إنه يتتبع شخصًا ما. بالأمس خرج متنكِّرًا في هيئةِ عامل يدوي يبحث عن عمل، »
واليوم كان سيدةً عجوزًا. جعل الأمرَ ينطلي عليَّ تمامًا، حقٍّا فعل، وكان يجب الآن أن أكون
وأشار بيلي بابتسامة عريضة إلى مِظلَّة منتفخة جدٍّا كانت مُسْندةً إلى «. محيطًا بوسائله
«. ذاك جانبٌ من زي السيدة العجوز » : الأريكة، وقال
«؟ ولكن يا بيلي، ماذا وراء كلِّ هذا »
لا مانعَ عندي » : خفض بيلي صوتَه، كمن يناقش أسرارًا هائلة خاصة بالدولة، وقال
من أن أخبرك يا سيدي، لكن يجب ألا تخبِرَ أيَّ شخصٍ آخَر بالأمر. إنها تلك القضية
«. المتعلقة بجوهرة التاج
«؟ ماذا! أتقصد قضيةَ السطو على الجوهرة التي قِيمتُها مائة ألف جنيه »
نعم يا سيدي. ولا بدَّ لهم يا سيدي من استعادتها، ولهذا السبب كان رئيس الوزراء »
ووزير الداخلية عندنا، وكان كلاهما جالسًا على تلك الأريكة نفسِها. وكان السيد هولمز في
غاية اللطف معهما، وسرعان ما هدَّأ من رَوْعِهما ووعدهما بأنه سيفعل كلَّ ما بوسعه. لكن
«… اللورد كانتلمير
«! حسنًا »
نعم يا سيدي، أنت تعْلم ما الذي يعنيه هذا. إنه يا سيدي مثْل جثةٍ باردة بلا حياة، »
إن جاز لي قول ذلك؛ فبإمكاني أن أنسجِمَ مع رئيس الوزراء، وليس لدي اعتراضٌ البتة
على وزير الداخلية الذي بدا رَجلًا من النوع المهذَّب، طيب الخُلُق، لكنني لا أطيق سيادة
اللورد. ولا السيد هولمز يطيقه يا سيدي؛ فهو، حسبما أرى، غيرُ مقتَنِع بالسيد هولمز، وكان
«. معترِضًا على الاستعانة به. إنه يفضِّل لو فشل في مسعاه
«؟ أيعرفُ السيد هولمز ذلك »
«. إن السيد هولمز دائمًا ما يعرف كلَّ ما تَجِب معرفتُه »
حسنًا، فلنأملْ ألا يخفِقَ وأن يخيب رجاء اللورد كانتلمير. لكنِ اسمعْ يا بيلي، ما »
«؟ الغرضمن تلك السِّتارة التي تغطِّي النافذة
«. وَضَعَها السيد هولمز هناك منذ ثلاثة أيام؛ فقد وضعنا شيئًا عجيبًا خلفَها »
تقدَّم بيلي وأماط السِّتارَةَ التي كانت تحجُب مِحرابَ النافذة المقوَّسة.
لم يستطِع الدكتور واطسون أن يكتمَ صيحةَ اندهاش؛ فهناك كانت توجد نسخة
طِبْق الأصل من صديقه القديم، بلباس البيت وكل الأشياء الأخرى، ملتفتًا بثلاثة أرباع
وجهه ناحيةَ النافذة ومنحنيًا لأسفل، وكأنه يقرأ كتابًا غيرَ مَرئي، بينما غاص الجسد في
مقعدٍ ذي مسندَين. فصلَ بيلي الرأسَ ورفعه في الهواء.
نضعه بزوايا مختلفة، حتى يبدوَ أكثرَ محاكاةً للواقع. لم أكن لأجرؤ على لمْسه لو لم »
تكن الحاجبة منسدلة، لكن حينما تكون مرفوعةً تستطيع أن ترى هذا من الجهة المقابلة
«. من الطريق
«. استخدمنا شيئًا من هذا القبيل في مرة سابقة »
جذب سِتارتَي النافذة مباعدًا بينهما ونظر خارجًا نحو «. قبل مجيئي » : قال بيلي
ثمَّة أنُاسٌ يراقبوننا من هناك. يمكنني رؤيةُ شخصٍالآن عند النافذة. ألقِ نظرةً » . الشارع
«. بنفسك
تقدَّم واطسون خطوة للأمام وحينئذٍ فُتح بابُ حجرة النوم، وأطلَّ منه هولمز بهيئته
الفارعة الهزيلة، وقد بدا على وجهه الشحوبُ والإنهاك، وإن ظلَّ خطوُه ومِشيتُه بنشاطهما
المعهود؛ فبوثبةٍ واحدة كان عند النافذة، وسَحَبَ الحاجبة مرةً أخرى.
كفى يا بيلي؛ لقد كانت حياتك معرَّضة للخطر منذ حينٍ يا بني، ولا يمكنني » : ثم قال
بعدُ أن أتدبَّرَ أمري دونك. حسنًا يا واطسون، تَسُرني رؤيتُك في مسكنك القديم مرةً أخرى.
«. جئتَ في لحظةٍ حرجة
«. هكذا استنتجت »
يمكنك أن تذهبَ يا بيلي. ذلك الفتى يمثِّل لي مشكلةً يا واطسون. ألديَّ مبررٌ كافٍ »
«؟ للسماح بتعريضه للخطر
«؟ أيُّ خطر يا هولمز »
«. خطرُ الموت المفاجئ؛ فأنا أتوقَّع أمرًا ما هذا المساء »
«؟ ما الذي تتوقَّع حدوثه »
«. أن أقُْتل يا واطسون »
«! لا، لا، أنت تمزح يا هولمز »
حتى حِسُّ دُعابتي المحدودُ يمكنه أن يتفتَّقَ عن مَزْحةٍ أفضلَ من تلك، ولكن يمكننا »
أن نَركنَ إلى الاسترخاء حتى ذلك الحين، أليس كذلك؟ ألَنا أن نتناولَ الكحوليات؟ جهاز
تحضير الصودا والسيجار موجودان في مكانهما القديم. دعني أراك جالسًا مرةً أخرى في
المقعد المعتاد ذي المسندَين. لم تتعلَّم، حسبما آمل، ازدراءَ غليوني وتبْغي المَعيب، أليس
«. كذلك؟ فلا بدَّ أن يَحُلَّ محلَّ الطعام في هذه الأيام
«؟ لكن لِمَ لا تأكل »
لأن القدرات العقلية تُصْقَل عندما تُجَوِّعُها؛ لذلك قطعًا، بصفتك طبيبًا يا عزيزي »
واطسون، لا بدَّ أن تُقِرَّ بأنَّ ما يحظى به هضمُك من إمدادات الدم هو إلى حدٍّ كبير بمثابة
خسارة للمخ. وأنا أعتمد اعتمادًا كاملًا على مخي يا واطسون، أمَّا بقية جسدي فهو مجرَّد
«. زائدة دودية؛ لذا فالمخُّ هو ما يجب أن أهتم به
«؟ لكن ماذا عن هذا الخطر يا هولمز »
حسنًا، نعم، في حالةِ وقوعِه ربما تضطر أنت أيضًا إلى أن تُرهِق ذاكرتَك باسم القاتل »
وعنوانه، ويمكنك أن تعطيهما لسكوتلاند يارد، مع حبِّي ووداعٍ أخير. اسمه سيلفيوس؛
الكونت نيجريتو سيلفيوس. فلتدوِّنْه يا رجل، دوِّنْه! ١٣٦ موورسايد جاردنز، شمال غرب
«؟ لندن. أفهمتَ
راح وجهُ واطسون الموحي بالبراءة ينتفضمن القلق؛ فقد عرف حقَّ المعرفةِ المخاطرَ
الجمَّةَ التي يخوضها هولمز، وأدرك جيدًا أنَّ ما قاله هو على الأرجح تهوينٌ لا تهويلٌ. كان
واطسون على الدوام رجلَ أفعال، وقد كان على قدْرِ الحدث.
«. أنا معك يا هولمز؛ فليس لدي ما يَشغلني ليوم أو يومين »
لا انصلاحَ لأخلاقك يا واطسون؛ لقد أضفْتَ الكذبَ إلى نقائصك. أنت تَحمل كلَّ »
«. أمارات الطبيب المشغول، الذي يتلقَّى استدعاءاتٍ كلَّ ساعة
«؟ إنها ليست ذات بال. ولكنْ أَلَا يمكنك أن تعمل على القبضعلى هذا الشخص »
«. نعم يا واطسون أستطيع. وهذا ما يُقلقه للغاية »
«؟ ولكن لماذا لا تفعل »
«. لأنني لا أعرف مكانَ الألماسة »
«! أجل! أخبرَني بيلي بذلك؛ جوهرة التاج المفقودة »
نعم، جوهرة مازارين الصفراء الضخمة. لقد ألقيتُ شبَكَتي ولديَّ سمكاتي، لكنني »
لم أظفرْ بالجوهرة. فما فائدة الإمساك بهم؟ يمكننا أن نُخلِّصَالعالَم منهم بأن نأتي بهم
«. مكبَّلِين بالأصفاد. لكن ليس هذا ما أسعى إليه؛ فالجوهرة هي ما أبتغيه
«؟ وهل هذا المدعو الكونت سيلفيوس هو إحدى السمكات التي اصطدْتَها »
نعم، وهو سمكة قرش؛ فهو فتَّاك. والآخر هو سام ميرتون الملاكم. إنَّ سامَ ليس »
شخصًا شريرًا، ولكن الكونت استغلَّه. سام ليس سمكةَ قرش، إنه سمكةُ بربوط ضخمة
«. عظيمة وحمقاء وعنيدة، لكنه يتخبَّط في مكانٍ ما في شبكتي على كل حال
«؟ أين هذا الكونت سيلفيوس »
كنتُ على مقربة شديدة منه طوال الصباح. لقد رأيتني متنكِّرًا في هيئة امرأة عجوز »
من قبلُ يا واطسون. لم أكن قَطُّ مقنِعًا كهذه المرة. المفاجئ في الأمر أنَّه مرةً حَمَل مِظلَّتي
فهو نصف إيطالي ويتحلَّى بسلوك أهل الجنوب «. بعد إذنكِ يا سيدتي » : من أجْلي، وقال
المتَّسِم بالكِياسة حين يكون مزاجُه رائقًا، لكنه شيطانٌ متجسِّدٌ عندما يتعكَّر مزاجُه. كم
«! في الحياة من تقلُّباتٍ يا واطسون
«. وربما كانت مأساةً »
حسنًا، وربما كانت كذلك. لقد تتبَّعته إلى ورشة العجوز ستروبينزي في شارع »
مينوريز. والمسألة كما أفهم، أن ستروبينزي صَنع له البندقيةَ الهوائية؛ يا له من عملٍ
يدويٍّ ماهرٍ جدٍّا! وأكاد أجزم أنها في النافذة المقابلة في اللحظة الراهنة. هل رأيتَ المجسَّم؟
بالطبع، لقد أراك بيلي إياه. حسنًا، قد يُصاب برصاصة في رأسه الجميل في أي لحظة. نعم
«؟ يا بيلي، ما الأمر
كان الفتى قد ظهرَ من جديد في الغرفة ومعه بطاقةٌ فوق صينية، فألقى هولمز عليها
نظرةً بحاجبَين مرفوعَين وابتسامةِ تَفكُّه.
إنه ذات الرجل. لم أكن أتوقَّع هذا. تَماسكْ يا واطسون! يا لجرأة هذا الرجل! ربما »
يكون قد بلغ سمْعَك صيتُه بوصفه صيادًا للطرائد الكبيرة. لا شكَّ أنها ستكون خاتمةً
مظفَّرة لسجله الرياضيالمتميز إنْ أضافني إلى جَعْبةصيده. هذه الزيارة دليلٌ على شعوره
«. أنني في أعقابه
«. استدعِ الشرطة » : بادرتُه قائلًا
ربما أفعل، ولكن ليس الآن. هلَّا نظرتَ نظرةً خاطفة بحذرٍ من النافذة يا واطسون »
«! لترى إن كان هناك شخصٌيتجوَّل في الشارع
نظرَ واطسون محتاطًا من وراء طَرَف السِّتارة.
«. نعم، ثمَّة شخصٌفظُّ المظهرِ بالقُرب من الباب »
«؟ لا بدَّ أنه سام ميرتون؛ سام المخلصولكنه أحمق. أين هذا السيد يا بيلي »
«. في حجرة الانتظار يا سيدي »
«. رافِقْه لأعلى حين أقرع الجرس »
«. حسنًا يا سيدي »
«. إن لم أكن في الغرفة، أدخِلْه على أي حال »
«. حسنًا يا سيدي »
انتظرَ واطسون حتى أغُلق الباب، ثم التفتَ بجديةٍ إلى رفيقه.
أصغِ إليَّ يا هولمز، هذا مستحيلٌ تمامًا؛ فهذا رجلٌ يائس، وهو على استعدادٍ لفعل أي »
«. شيء. ربما يكون قد أتى ليقتلك
«. لن يفاجئني ذلك »
«. إنني مصرٌّعلى البقاء معك »
«. ستُمثِّل عائقًا فظيعًا »
«؟ في طريقه »
«. لا يا عزيزي، في طريقي أنا »
«. حسنًا، مُحالٌ أن أتركك »
بل تستطيع يا واطسون، وستفعل لأنك لم تُخفِق قَطُّ في الالتزام بالقواعد، وأنا على »
يقينٍ أنك ستفعل ذلك حتى النهاية. هذا الرجل جاء من أجل هدفه، لكنني سأدَعَه يبقى
ثم أخرج هولمز دفترَ ملاحظاته وكتبَ بضعةَ سطور بغيرِ اعتناءٍ، ثم قال: «. من أجل هدفي
استقِلَّ عربةَ أجرةٍ إلى سكوتلاند يارد، وأعطِ هذه الورقةَ إلى يول في قِسْم التحقيقات »
«. الجنائية. عُدْ ومعك الشرطة؛ فالأمر التالي سيكون القبضعلى الرجل
«. سيسرني القيامُ بذلك »
لمسَ الجرسَ «. ربما يُتاح لي وقتٌ كافٍ بالضبط لمعرفةِ مكانِ الجوهرة قبل أن ترجع »
أعتقد أننا سنخرج من خلال غرفة النوم. هذا المخرج الثاني مفيدٌ للغاية. » : وأردفَ قائلًا
«. أفُضِّل أن أرى قِرشيدون أن يراني، ولديَّ، كما تَذْكر، طريقتي الخاصة للقيام بالأمر
ومن ثَمَّ أرشدَ بيلي بعد دقيقةٍ الكونت سيلفيوس إلى غرفةٍ خاوية. كان هذا الصيَّاد
والرياضيورجل المجتمع الراقي الشهير شخصًا هائلًا، داكن البشرة، ذا شارب داكن مهيب،
يغطِّي فمًا قاسيًا رفيعَ الشفتين، ويعلوه أنفٌ طويلٌ ومعقوفٌ مثل منقار نسر. كان يرتدي
ملابسَ أنيقةً، إلا أن ربطة عنقه اللامعة، ودبُّوسه البرَّاق، وخواتمه المتلألئة كانت ذات وقْع
مبهرج. ما إن أغُلق الباب خلْفه حتى جال ببصره بعينَين حادتَين ذاهلتَين، كشخصٍيشتبه
في وجودِ فخٍّ في كلِّ رُكن. ثم انتفضانتفاضةً عنيفةً حين رأى الرأسَ الجامدَ وياقةَ الرِّداءِ
المنزلي اللذين برزا من فوق المقعد ذي المسندَين لدى النافذة. في البداية بدا عليه سيما
الاندهاش التام، ثم التمع في عينيه الداكنتَين الفتاكتَين بصيصُ أملٍ مريع؛ فألقى نظرةً
سريعةً أخرى حوْله ليتأكد من عدم وجود شهود، ثم اقترب على أطراف أصابعه من الجسد
الساكن، وعصاه السميكة مرفوعة بعضالشيء. وبينما كان يربضمتهيئًا لِهَبَّتِه وضرْبتِه
الأخيرتَين، بادره صوتٌ باردٌ متهكِّمٌ صادرٌ من باب غرفة النوم المفتوح قائلًا:
«! لا تَكسِره يا سيدي الكونت! لا تَكسِره »
تراجعَ القاتل للخلف، والذهول على وجهه المضطرب، وللحظةٍ رفع عصاه الثقيلة
بعضالشيء مرةً أخرى، كما لو كان سيحوِّل عُنفَه من المثال إلى الأصل، لكن ثمَّة شيء في
تَينك العينَين الرماديتَين الثابتتَين والابتسامة المتهكمة جعل يده تسقط إلى جانبه.
صَنَعه المثَّال الفرنسي » . قال هولمز وهو يتقدَّم ناحية التمثال ،« إنهشيء بسيط بارع »
تافيرنير. إنه يجيد صناعةَ تماثيلِ الشمع كما يجيد صديقُك ستروبينزي صناعةَ البنادق
«. الهوائية
«؟ بنادقُ هوائية! ماذا تقصد يا سيدي »
ضعْ قبعتك وعصاك على الطاولة الجانبية. شكرًا! تفضلْ بالجلوس. هلَّا تفضلتَ »
بإخراج مسدسك أيضًا؟ أوه، لا بأسما دمتَ تفضِّل الجلوسَعليه. حقٍّا لقد جاءت زيارتُك
«. في وقتٍ مناسب جدٍّا؛ فقد كنتُ أرغب بشدة في الدردشة معك لبضع دقائق
هنا عبس الكونت بحاجبَين كثيفَين متوعِّدَين.
أنا كذلك أردتُ تبادُلَ بضع كلمات معك يا هولمز. لهذا السبب أنا هنا، ولن أنُكِر أنني »
«. كنت أنوي للتوِّ مهاجمتَك
أَرْجَحَ هولمز ساقَه ووضعها على حافة الطاولة.
أدركتُ نوعًا ما أن في رأسك أفكارًا من هذا النوع. لكن لماذا هذا الاهتمام » : وقال
«؟ الشخصي
«. لأنك بذلتَ قصارى جهدك لمضايقتي، ولأنك وضعتَ تابعيك في أثري »
«! تابعيَّ! أؤكد لك أنني لم أفعل »
«. هراء! لقد أرسلتُ في إثْرهم مَن يتعقَّبهم. يمكنني أن أردَّ لك صاعًا بصاعٍ، يا هولمز »
إنها نقطة قليلة الأهمية يا كونت سيلفيوس، ولكن ربما سيكون من الأفضل لو »
تكرَّمتَ بأن تُلْحِق لقبًا باسمي عندما تخاطبني. يمكنك أن تتفهَّم أنني، مع نمط عملي،
قد أجد نفسي وقد رُفِعَت الكُلْفة بيني وبين نصف المجرمين، ولعلك توافقني الرأي في أن
«. الاستثناءات ظالمة
«. حسنًا، إذن يا سيد هولمز »
«. رائع! لكن أؤكد لك أنك مخطئ بشأن جواسيسي المزعومِين »
حينذاك ضحك الكونت سيلفياس باستهزاء.
ثمَّة أناسٌ آخرون يستطيعون ملاحظةَ الأشياء مثلما تفعل. بالأمس كان ثمَّة رجلٌ »
«. رياضيٌّمُسِنٌّ، واليوم كانت توجد سيدةٌ عجوز، ظلَّا يراقبانني طوال اليوم
حقٍّا يا له من إطراء منك يا سيدي! قال البارون الراحل داوسون في الليلة السابقة »
على شنقه إنَّ المكسبَ الذي تحقَّق للقانون، في حالتي، يعادل الخسارة التي مُنيت بها
«. خشبة المسرح. وها أنت الآن تتكرَّم وتُثني على تقمُّصيالمتواضع للشخصيات
«؟ كان ذلك أنت؛ بنفسك »
يمكنك أن ترى في الزاوية الِمظلَّةَ التي ناولتني إياها بمنتهى » : هزَّ هولمز مَنْكِبيه، وقال
«. الذوق في شارع مينوريز قبْل أن يتسرَّب إليك الشك
«… لو كنتُ أعلم ربما ما كنتَ أنت قد »
رأيتُ هذا البيتَ المتواضعَ ثانيةً. كنتُ أدركُ ذلك تمامًا. لدى كلٍّ منَّا فرصٌ ضائعةٌ »
«! يتحسَّر عليها. واقع الأمر أنك لم تكن تعلم؛ ومِن ثَمَّ ها نحن أولاء
ما تقوله يزيد » : ازداد انعقادُ حاجبَي الكونت الكثيفَين فوق عينيه المتوعدتَين، وقال
الطين بِلَّةً ليس إلا؛ فلم يكن أولئك جواسيسَك، وإنما كنتَ أنت أيها الممثِّل الفضولي! أنت
«؟ تعترف أنك كنتَ تقتفي أثري، فلماذا
«. تصرَّفْ بعقلانية أيها الكونت؛ لقد كنتَ تصطاد الأسُود في الجزائر »
«؟ وماذا في ذلك »
«؟ لكن لماذا »
«! لماذا؟ لأجل التسلية، والإثارة، والمخاطرة »
«. ولأجل تخليصالبلد من إحدى الآفات بلا شك »
«! بالضبط »
«! إنها نفس أسبابي باختصار »
هبَّ الكونت واقفًا، وتحرَّكت يده للخلف لا إراديٍّا إلى جيبسرواله الخلفي.
اجلسْ يا سيدي، اجلسْ! كان لديَّ سببٌ آخَر، سببٌ عمليٌّ أكثر. أريد تلك الماسة »
«! الصفراء
تراجعَ الكونت سيلفياس في مقعده مبتسمًا ابتسامةًشريرة.
«! عجبًا » : وقال
كنت تعلم أن ذلك ما اتبعتُكَ لأجله. والسبب الحقيقي لمجيئك الليلة هو أن تكتشفَ »
مقدار ما أعلم عن الأمر ومدى أهمية التخلُّص مني. حسنًا، دعني أخبرك أنه أمرٌ في غاية
الأهمية من وجهة نظرك؛ فأنا أعلم كلَّ ما يتعلَّق بالأمر، ما عدا شيئًا واحدًا، أنت على وشْك
«. أن تخبرني به
«؟ يا إلهي، حقٍّا! وما هي، رجاءً، هذه المعلومة الناقصة »
«. المكان الذي توجد فيه ألماسة التاج الآن »
هكذا إذن، ذلك ما تريد معرفته، أليس » : رمقَ الكونتُ جليسَه بنظرات حادَّة، وقال
«؟ كذلك؟ وكيف، بحق الشيطان، أستطيع أن أخبرَك بمكانها
«. تستطيع، وستفعل »
«! عجبًا »
كانت عينا هولمز، بينما كان يحملق فيه، «. لا يمكنك خداعي يا كونت سيلفيوس »
تنقبضان وتومضان، قبل أن تصيرا ثابتتَين كنقطتين متوعدتين من الفولاذ، ثم استطرد
«. أنت مجرَّد لوح من الزجاج. إنني أرى ما يدور في أعماق عقلك » : قائلًا
«! إذن، لا بدَّ أنك ترى مكان الماسة »
إذن أنت تعرف فعلًا. » : صفَّق هولمز بيديه تفكُّهًا، ثم أشار باستهزاء بأصبعه، وقال
«! لقد اعترفتَ بالأمر
«. لمْ أعترف بشيء »
اسمعْ أيها الكونت، إن تحليتَ بالعقل، يمكننا أن نعقد صفقة، وإن لم تفعل، »
«. فستتأذَّى
وأنت مَن كنت تقول إنني أحاول » : رفع الكونت سيلفيوس ناظريه إلى السقف، وقال
«! خداعك
نظر هولمز إليه متفكرًا، مثل لاعب شطرنج بارع يَدرُس خطوته الحاسمة، ثم فَتح
درجَ الطاولة بسرعة وأخرج منه دفترَ ملاحظات صغير وسميك.
«؟ هل تعلم ما الذي أحتفظ به في هذا الكتاب »
«! لا يا سيدي، لا أعلم »
«! أنت »
«! أنا »
نعم يا سيدي، أنت! كلشيء متعلِّق بك موجودٌ هنا؛ كل فعلة فعلتَها في حياتك الآثمة »
«. والمحفوفة بالمخاطر
عليك اللعنة يا هولمز! ثمَّة » : حينذاك صاح الكونت بعينَين مشتعلتَين غضبًا قائلًا
«! حدودٌ لصبري
كل شيء هنا يا أيها الكونت. الوقائع الحقيقية التي أحاطت » : بادره هولمز قائلًا
بوفاة السيدة هارولد العجوز، التي تركت لك إقطاعية بلايمر، التي سرعان ما بددتَها في
«. المقامرة
«! لا بدَّ أنك تحلُم »
«. وتاريخ حياة الآنسة ميني واريندير بالكامل »
«! يا للخسارة! لن تجني شيئًا من ذلك »
لديَّ المزيد هنا أيها الكونت. ها هي السرقة التي وقعت في القطار الفاخر المتجه إلى »
الريفييرا في الثالث عشر من فبراير، عام ١٨٩٢ . وها هو شيك بنك كريدي ليوني المزوَّر في
«. العام نفسه
«. لا، أنت مخطئ في ذلك الأمر »
إذن، فأنا على حق في الأمور الأخرى! والآن اسمعْ يا كونت، أنت تجيد لعب الورق. »
«. حينما يمتلك الشخصُالآخرُ كلَّ الأوراق الرابحة، فإن طرحك لأوراقك يوفِّر الوقت
«؟ ما علاقةُ كلِّ هذا الكلام بالجوهرة التي تحدثت عنها »
على رِسْلك أيها الكونت. فلتكبح جماح ذهنك المندفع! دعني أصِل إلى صُلب الأمور »
بأسلوبي الممل. إنني أملك ضدك كلَّ هذا، ولكن، الأهم من كل ذلك، أن لديَّ قضيةً واضحةَ
«. المعالم ضدك أنت وتابعك المقاتل المتنمِّر فيما يتعلَّق بماسة التاج
«! حقٍّا »
لديَّ حُوذِيُّ عربةِ الأجرةِ الذي أقلَّك إلى شارع وايتهول والحُوذيُّ الذي أقَلَّك منه. لديَّ »
الحاجبُ الذي رآك بالقرب من الواقعة. لديَّ إيكي ساندرز الذي رفضَأن يُقَطِّعَها لك. لقد
«. وشىإيكي بك، وانكشفتِ اللعبة
برزت العروق في جبهة الكونت، وقبضيديه الداكنتَين المشعرتَين اللتين تشنجتا تحت
وطأة انفعال مكبوت، وحاول أن يتكلم، لكن لم تطاوعه الكلمات.
هذه هي أوراق اللعب التي أعتمد عليها، أضعُها كلَّها على الطاولة، لكن » : قال هولمز
«. ثمَّة ورقة ناقصة، ورقة ملك الماس؛ فأنا لا أعلم أين الجوهرة
«. ولن تعلم أبدًا »
حقٍّا؟ فلتكن حصيفًا أيها الكونت. أمعِنِ التفكيرَ في الموقف. سوف تُسجَن خمسة »
وعشرين عامًا. وكذلك سام ميرتون. فما الفائدة التي ستعود عليك من ماسَتِك؟ لا فائدة
البتة، لكن إن سلَّمتَها فعندئذٍ سأعقد معك تسويةً ونتغاضىعن الجناية؛ فنحن لا نريدك
أنت ولا سام. نريد الجوهرة، فلتسلِّمْها، وفيما يعنيني، بوسعك أن تتمتَّع بحريَّتك ما دمتَ
ستُحسن التصرُّف مستقبلًا. أمَّا إن زللتَ مرة أخرى فعندئذٍ ستكون تلك المرَّةَ الأخيرة. لكن
«. المهمة المسندة إليَّ هذه المرة هي جلب الجوهرة وليس جلبك أنت
«؟ ولكن ماذا لو رفضتُ »
«. ما بالك! وا أسفاه! في هذه الحالة، سأضطر لتسليمك أنت، وليس الجوهرة »
كان بيلي قد حضراستجابةً لجرس.
أعتقد، أيها الكونت، أنه يجدُر أن يحضرَ صديقُك سام هذه المباحثة؛ فلا بدَّ، على »
الرغم من كلشيء، لمصالحه أن تُمَثَّل. سترى يا بيلي سيدًا ضخمَ الجثة وقبيحَ المنظر واقفًا
«. خارج الباب الأمامي، فلتطلبْ منه الصعود
«؟ ماذا إن رفضالمجيء يا سيدي »
من دون عنفٍ يا بيلي. لا تعاملْه بخشونة. إن أخبرتَه أنَّ الكونت سيلفيوس يريده »
«. فسيأتي بالتأكيد
«؟ ماذا ستفعل الآن » : عندما غاب بيلي عن أنظارهما، تساءل الكونت قائلًا
كان صديقي واطسون معي للتو. قلتُ له إنَّ لديَّ سمكةَ قرشوسمكةَ » : أجابه هولمز
«. بربوط في شبكتي؛ وأنا الآن آخذٌ في سحب الشبكة وستبرزان إلى السطح معًا
كان الكونت قد نهضمن مقعده، ويده خلف ظهره، أمسك هولمز شيئًا ما برزَ نصفُه
من جيب ردائه المنزلي.
«. لن تموت بسلام وأنت نائم في فراشك يا هولمز »
طالما راودتني الفكرةُ نفسُها. هل يُهِم ذلك كثيرًا؟ على أي حال يا أيها الكونت، الأرجحُ »
أنك ستخرج على قدميك لا مستلقيًا على ظهرك. لكن هذه التنبؤات المستقبلية مروعة. فلمَ
«؟ لا نُطلِق العِنان لأنفسنا لنستمتع بالحاضربلا قيود
لاح فجأةً وهجٌ في عينَي المجرم المحترف الداكنتَين المخيفتَين كأنه لحيوانٍ بري. وبدا
كأنَّ قامة هولمز ازدادت طولًا مع ازدياده توترًا وتأهبًا
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.