Darebhar

Share to Social Media

1780

قنا...

تشابه ذلك المساء مع كل المساءات السابقة التي آتى فيها للقاء واحد من صبية غباشي؛ سماء حالكة بلا قمرٍ ودروبٍ ترابية تشوش الرؤية أمامه مع كل خطوةٍ يخطوها؛ دون أن تنجح في إلقاء الرهبة في نفسه حتى مع هامات النخيل المتشابكة من حوله والمطبقة عليه من كل جانب، كان يعرف مسبقًا أن الصبي سيظهر حتمًا قبل انقطاع طريق النخيل المؤدي إلى الجبانة؛ غير أنه شعر فجأةً بمن يتبعه في غير كللٍ بخطواتٍ بطيئة وخفيفةٍ في ذات الوقت، ابتسم- وهو يرمق ذلك الأسود ذا العينين الزمردية- وهو يتابع طريقه تاركًا إياه يموء من خلفه في خفوتٍ حذر.
في البداية، لم يكن يدقق كثيرًا في كُنه تلك الأمانات- التي كانت ترسله الغجرية جواهر لتسلمها- طالما كان يقبض الثمن، لكن استنتاج ذلك لم يكن صعبًا عليه خاصةً مع علمه بأن غباشي هذا ليس إلا تُربيًا، لاحظ أيضًا أن الأمانة في كل مرةٍ تختلف عن سابقتها؛ فمرةً تكون لينة كقطعةٍ من الدهن، ومرةً صلبة كشظايا الزجاج، ومرة ثالثة رخوة، وأخرى ناعمة تنفلت من بين أصابعه إذا ما حاول حصارها بداخل الكيس القماشي، الذي يتفاوت حجمه بين حجم الكف وجوال كبير!
- إلى أين يا فتى؟!
انتبه إبراهيم للصوت الخشن الذي هتف به ليتأمل صاحبه وهو يخرج من بين أشجار النخيل؛ بينما توقف القط بينهما وهو يموء بصورةٍ متواصلة ورتيبة، تأمل الرجل وهو يتقدم نحوه ناقلًا بصره بينه وبين القط في استغرابٍ؛ لكنه تجاهل ذلك وأجابه بلا أي انفعالٍ:
- الأمانة.
رفع الرجل قنديل الزيت الذي في يده ليتأمل إبراهيم عن قربٍ وهو يسأله:
- هل أنت مرسال جواهر؟!
توتر إبراهيم قليلًا حين تبين ملامح الرجل بدوره ورأى أنه ليس صبيًا صغيرًا ككل مرة؛ لكنه أومأ بنعم وهو يميل ليسحب ذلك الجوال الذي تركه الرجل بينهما حين وصل؛ ثم أخرج من طيات ملابسه كيسًا متخمًا بالنقود وقال في حذرٍ:
- أمانة ضخمة هذه المرة!
وحمل الجوال على كتفه وهو يمد له يده بالنقود مكملًا:
- ومقابلها كذلك.
وتعمد أن يتمهل في الانصراف في انتظار ردة فعل الرجل الذي هتف بغضبٍ مفاجئ:
- قف مكانك.
توقف إبراهيم وهو يشعر أن تصرفه أتى برد الفعل الذي ينتظره، وتأكد تمامًا الآن أنه يتحدث إلى الريس بنفسه؛ فالتفت ينظر للرجل الذي عاد يهتف:
- أتعرف إلى من تتحدث أيها الفتى؟
تصنع إبراهيم الارتباك وقال:
- لا يوجد من يعرف بموعد طريق الجبانة سواي أنا وصبية الريس غباشي، وأنت يا سيدي، لست صبيًا صغيرًا مثلهم.. لذا أعتقد أنك.....
قاطعه الرجل سائلًا:
- اسمك؟
- إبراهيم يا ريس غباشي.
عاد غباشي ينقل نظراته بين ملامح إبراهيم- السمراء بلون الطمي- والقط الأسود الذي لا يزال يحوم من حولهما؛ كاد إبراهيم أن يخبره أنه ليس "مخاويًا" لكنه آثر الصمت؛ كي لا يتعقد الموقف أكثر وأخرج من جلبابه بعض الأحجبة الجلدية ليعطيها له في ارتباكٍ متعمد، وقال:
- كدت أنسى.. معذرة.
- من النوبة؟
- من سِنَّار يا ريس.
هز غباشي رأسه وهو يتطلع إليه في صمتٍ؛ بينما وقف إبراهيم ينتظر ذهابه ليعود بدوره إلى مضارب الغجر، لحظات واستدار غباشي عائدًا من حيث أتى بلا كلمة أزيد؛ بينما تابعته نظرات زوجين من العيون الزمردية!
مرت عدة ليالٍ بعد تلك الليلة؛ أكلت بعضًا من وجه القمر المعتم لتتركه هلالًا ضئيلًا بالكاد يضيء. وهناك على أطراف البلدة، جلست جواهر أمام خيمتها في شادر الغجر تتأمله معلقًا بطرف السماء وهي تقلب الأصداف بين أصابعها في شرود، لحظات وتقدم منها إبراهيم في تكاسل ليفترش الأرض بجوارها مسندًا ظهره إلى النخلة التي شدت الخيمة إلى جذعها؛ والقط الأسود يتهادى من خلفه وهو يجييها قائلًا:
- السلام عليكم.
أغمضت عينيها للحظةٍ دون أن تجيبه على الفور؛ ثم سألته بعد أن فتحتهما لتجد القط وقد جلس أمامها على قائميه:
- لا تنسَ موعدك.
أومأ لها دون ردٍ، بينما ماء القط وهو يسير نحوه ويرقد إلى جواره تحت النخلة؛ فطأطأت جواهر رأسها وهي تتمتم في رجفة:
- الله حارس.
أسبل إبراهيم جفنيه وهو يداعب جسد القط مبتسمًا في تهكم من تلك التي تذكر الله وبين يديها أحجبة وأعمال من قلب سحرها الأسود، لحظات ورفعت جواهر رأسها حين شعرت بتلك المرأة التي أخذت تقترب من خيمتها آتيةً من الجهة الأخرى للشادر، تناولت أصدافها من فوق فرشة الرمل التي أمامها وأخذت تهزها بين كفيها هاتفةً:
- نبين زييييييييين.. نبين.. اقتربي أيتها شابة.
ثم التفتت تبحث عن القط الأسود لتطرده بعيدًا عن مجلسها خشيةً أن يخيف الزبونة؛ لكنها لمحته هو وإبراهيم يسيران في روية إلى خارج الشادر.
سار إبراهيم على غير هدى وهو يفكر لو أنه حقًا سوف يصل في أحد الأيام لما ظل يحلم به طوال عمره، وأتى إلى أرض مصر خصيصًا لنيله، فهو- منذ صباه- لم يقنع أبدًا بأن يكون مجرد مزارع أجير كأبيه؛ تهلكه الأرض في زراعتها ولا يناله من خيرها سوى القليل، كذلك لم يحلم بأن يكون ثريًا أو ذا مالٍ وفيرٍ فقط؛ بل كان يرى في نفسه ذكاءً يمكنه من استغلال تلك العقول الحمقاء محدودة التفكير- التي تحيط به من كل جانب- والاستفادة من ورائها بالكثير؛ لذلك حين توفي والده- لاحقًا بأمه- وهو لم يتعدَ الرابعة عشر بعد؛ بدأ يخطط للرحيل إلى المحروسة بعد أن سمع عنها الكثير من التجار الوافدين منها وإليها، وعرف أنها أرض الفرص لمن يستطيع استغلالها، بدأ بترك العمل في الفلاحة رغم اعتراض جدته العجوز التي لم تكن راضيةً أبدًا عن عمله كحمالٍ لدى أحد التجار؛ فقد كانت ترى أنه عمل وضيع لمن يمتلك القدرة على فلاحة الأرض، أما هو فكان يرغب في البقاء لصيقًا بمن يحمل إليه أخبار المحروسة؛ ليعرف أكثر عنها.
بهدوءٍ ورويةٍ أخذ يفكر في خطوات رحيله، متى سيرحل وكيف؟ كم سيحتاج من المال؟ كيف سيقطع الطريق إلى مصر؟ وماذا سيفعل حال وصوله إليها؟ كل شيءٍ فكر فيه وأوجد له حلولًا مرتبة عدا شيءٍ وحيد؛ جدته، لم يكن يدري ماذا سيحل بها حين يقرر الرحيل؛ فلم يجد في نفسه ذلك الإشفاق الذي يدفعه للبقاء بصحبتها في أيامها الأخيرة.
بعد مرور عامين كاملين، كان قد ادخر ثمن بغلة صغيرة؛ دأب على رعايتها قرابة العشرة أشهر حتى أصبحت راحلة شديدة تتحمل رحلته المرتقبة، كما ادخر ثمن جوالين من التمر ومثلهما من الذرة كزادٍ لسفره، وأيضًا كوسيلة مقايضةٍ لما قد يحتاجه في رحلته، وضع في حسبانه أيضًا أنه سيبيع الراحلة وما قد يتبقى من التمر والذرة حين يصل إلى النوبة؛ فمن هناك سوف يسهل عليه السفر على قدميه أو مبحرًا عبر النيل، وعليه فالاستفادة بثمن الراحلة أجدى من بقائها بحوزته.
عامٌ آخر مر تشبع فيه إبراهيم تمامًا بأخبار المحروسة والمماليك الذين يحكمونها رغم كونهم مجرد عبيد مجلوبين، لم يدهشه كثيرًا أنهم أصبحوا بمرور الوقت أمراء ذوي سلطةٍ ونفوذ؛ بل جُل ما كان يفكر به أن في استطاعته الوصول لما وصلوا إليه وأكثر. وحين استعد تمامًا ليبدأ رحلته كانت صحة جدته قد تدهورت تمامًا وهي تشاهده يتهيأ للرحيل دون أن يعبأ بها، أدرك حينها أن القدر كان رحيمًا بها أكثر منه، لكن حتى هذا لم يؤثر به؛ فلم يكن في قلب هذا الفتى مكانٌ للشعور بأي شخصٍ سوى نفسه!
لذلك لم تندهش النسوة اللاتي ضجت بهن الدار- لرعاية جدته- وهن يشاهدنه يستعد للرحيل، الأمر المدهش بالنسبة لهن حقًا كان دخوله عليها ليودعها قبل الذهاب، لم يعد يذكر شيئًا من ملامحها الآن؛ لكنه لم ينسَ رقودها وهي تحملق به في صمتٍ بعينيها الزمردية- التي ورثها عنها- بعد أن فقدت القدرة على الكلام قبلها بعدة أيامٍ.
في تلك الليلة، اقترب منها وجلس بجوارها متجنبًا لمسها؛ وكأنه يريد أن يمنع عن نفسه أي مؤثر قد يثنيه عن قراره، همس لها بصوتٍ باردٍ رغمًا عنه وقال:
- أنا راحل يا جدة.
لم يزد حرفًا؛ فأشاحت بوجهها عنه وهي تغمض عينيها في وهنٍ، وقف يتأملها قليلًا باحثًا عن الكلمات ليشرح لها ما بنفسه لكنه تراجع؛ فهو لا يهمه حقًا ما يظنه به الآخرون، هذا ما ظل يردده لنفسه وهو يقف براحلته أمام دارهم الصغيرة لبعض الوقت قبل أن يمضي وصرخات النسوة الناعية لجدته تشيعه!
مرت الشهور بعد تلك الليلة وكل ما خطط له نفذه حرفيًا؛ وصل للنوبة وباع الراحلة وأخذ يتنقل بين قرى الصعيد باحثًا عن أي عملٍ يدر عليه المال؛ فعمل حمالًا، وسقاءً، وبائعًا في دكاكين الأقمشة، أو الغلال، أو العطارة، ولم يكن يترك عملًا إلا لاستبداله بآخر ذي أجرٍ أكبر.
ظل هكذا يتنقل بين بعض الأعمال البسيطة هنا وهناك حتى وصل إلى قنا مع أحد "النوَّتية" الذي كان يعمل عتَّالًا على مركبه، كان متشوقًا للتجول في أنحاء المدينة الكبيرة؛ لكنه أنفق أغلب النهار- رغمًا عنه- وهو ينقل البضائع مع زملائه إلى البر؛ لذلك فور أن أتم عمله طلب من ريس المركب أجرته بالبارات - عوضًا عن وجبة الطعام التي كان سيقدمها له في المقابل- واتجه للمدينة بصحبة بعض الفتية الذين يعملون معه على المركب.
كانت أقصى توقعاته أن يعثروا على حانةٍ على أطراف البلدة أو على مقهى صغير من الخوص على ضفاف النيل أو ما شابه؛ ففي مثل هذا المساء لن يجدوا مكانًا يرحب بغرباء مثلهم بسهولة، لكنه فوجئ بشادر ضخم منصوب في الجهة الغربية من البلدة ومحاط بالقناديل البراقة من كل جهة؛ وقبل أن يترجم عقله الصورة التي أمامه لما سمعه من قبل عن شوادر الغجر هتف أكبرهم سنًا مصفقًا في حماسٍ:
- اللهمَّ صلِ على كامل النور.
تقدموا نحو الشادر في صخبٍ وكل منهم يقص على البقية أمر، فواحد تندر بكشفه لأغلب ملاعيب الحواة، والآخر شد قبضته وهو يذكره بقوةِ ضربته للطارة الحديدية، وثالث ابتسم ساخرًا منهما وهو يهندم ثوبه ويبرم شاربه قائلًا:
- ملاعيب وطارة! إياك والاستماع لهم يا إبراهيم، إن أفضل ما في شادر الغجر غوازيه.
ضحكوا جميعًا وهم يتنقلون بين خيمات الشادر في شوقٍ؛ بعدما حرموا من زيارة أشباهه في المدن التي مروا عليها خلال الشهور الماضية لضيق الوقت، وعلى عكسهم جميعًا لم يُبدِ إبراهيم انفعالًا مماثلًا رغم أنها كانت المرة الأولى التي يدخل فيها شادرًا كهذا؛ فما سمعه من تجار بلاده طوال السنوات الماضية جعله مهيئًا لكل ما يراه حتى لو كان جديدًا عليه.
ابتسم في وقارٍ لا يناسب عمره الفتيّ وهو يتابع زميله الذي أخذ يشير للحاوي ويشرح لهم كيف يمكنه إخراج ذلك الكتكوت من كُم الزبون؛ بينما انفصل عنهم الزميل ذو العضلات باحثًا عن لعبة الطارة.
الحديدية وهتف حين وجدها:
- تكفي ملاعيب الحواة إلى هذا الحد، وتعالوا لنختبر فتوتكم.
ضحكوا جميعًا وهم يشاهدونه يرفع طرف جلبابه ليضعه بين أسنانه، ثم يشمر عن ساعده الأيمن حتى الكتف تقريبًا ويقف في انتظار دوره، في البداية ظن صاحب النصبة أن إبراهيم هو من سيدق الطارة؛ لما بدا عليه من شدة الجسد ووفرة الطول، لكنه فهم الموقف حين قبض رفيقه- ذو العضلات المفتولة- على "البُمبة" المعدنية في بداية السير الحديدي وهو يجذبها إليه هاتفًا:
- يا قوي.
دفعها بأقصى قوته نحو الطارة الدائرية في نهاية السير، لكنها توقفت في منتصف طريقها ولم تصل إليها أبدًا، ابتسم إبراهيم مرةً أخرى بينما ضج الآخرون بالضحك ومعهم صاحب النصبة، الذي هتف في تهكم وهو يزيح ذا العضلات من أمام النصبة:
- التالي.
لكنه استوقف الفتى الذي عليه الدور ونظر لإبراهيم متسائلًا:
- ألا تريد التجربة يا فتى؟
استحسن رفاقه الفكرة، وأجابوا عوضًا عنه هاتفين:
- نعم يا إبراهيم.. نعم.. نعم.
لم يجبهم إبراهيم على الفور وهو يتأمل ذلك القط الأسود الواقف أسفل الطارة؛ والذي كان يتبعه منذ دخل الشادر، بعد لحظةٍ ابتسم للرجل ولرفاقه وتقدم من "البُمبة" مشمرًا ساعده دون أن يحول عينيه عن القط، جذب القطعة المعدنية في روية ثم دفعها وهو يميل بجذعه عكس اتجاه الضربة، لتندفع بسرعةٍ جنونية وتضرب قلب الطارة الدائرية بدويّ عالٍ، هلل المحيطون به في استحسانٍ بينما اصفر وجه رفيقه ذو العضلات وهو يهندم ثيابه مشيحًا بوجهه بعيدًا في إحراجٍ، ربَّت صاحب النصبة على ظهر إبراهيم في إعجابٍ وهو يقول:
- حماك الله يا ولدي.
وابتعدوا جميعًا دون أن يلحظ أحدهم القط الذي عاد يتبع إبراهيم في غير كللٍ.
قال رفيقهم الأكبر سنًا وهو يلف ذراعه حول كتف إبراهيم:
- دعنا الآن نأكل شيئًا لأريك بعد ذلك ما لم تره في حياتك من قبل.
وغمز له بعينه اليسرى ضاحكًا؛ فابتسم إبراهيم وهو يسير معه هو والرفاق نحو بائع "السمين" ووقف جانبًا ينتظر ما طلبوه من الطعام وكذلك فعل القط، لحظات وبدأ في تناول "الشقة" التي ناولها له رفيقه وعيناه ترقبان القط الذي وقف ساكنًا دون أن يموء طلبًا للطعام كما تفعل القطط الأخرى المحيطة بالعربة، مال نحو رفيقه الأكبر سنًا وسأله دون أن يحول نظراته عن القط:
- هل صحيح أن من على شاكلته يكونون... اللهمَّ احفظنا؟!
نظر رفيقه إلى حيث ينظر؛ فكشر القط فجأةً عن أنيابه وهو يموء في وجهه بصوتٍ حادٍ جعله يجفل متوقفًا عن مضغ الطعام وهو يتمتم بالبسملة، ابتسم إبراهيم في لا مبالاةٍ وهو يرمق رفيقه بنظرةٍ جانبية؛ عاد بعدها ينظر نحو القط فلم يجده!
بعد قليلٍ، كان رفيقه قد نسي ما حدث وهو يتقدمهم نحو خيمة الغوازي في حماس، لكن إبراهيم توقف في منتصف الطريق حين لمح القط الأسود يتأمله بعينيه الضيقتين وهو يموء في خفوتٍ ثم يوليه ظهره ويسير في اتجاه مغاير؛ شعر وكأن القط يشير له بأن يتبعه فأسرع يجذب أقرب الرفاق إليه من ذراعه وهتف:
- اذهبوا أنتم وسوف ألحق بكم.
وتركه قبل أن يجيبه بحرفٍ وأسرع خلف القط في فضولٍ، لم تكن عادة إبراهيم التصديق في الخرافات الموروثة ولا في أي شيءٍ لا يقنع عقله، لكنه أيضًا كان يدرك أن هناك أمورًا أعلى من إدراكه وإن لم يعترف بأي منها حتى هذه اللحظة، ورغم أنه كان مؤمنًا تمامًا أنه لن يصل إلى مراده إلا بإعمال عقله وحده دون الاعتماد على سواه؛ لكنه وجد نفسه يشعر فجأةً كما لو أن هذا القط واحدٌ من تلك الأمور التي تفوق إدراكه، وأن عليه كشفه ليستريح عقله ويتفرغ لما هو أهم.
تابع سيره خلف القط الذي أخذ يبتعد عن الزحام حول خيمة الغوازي متطرفًا به إلى أقصى حدود الشادر؛ ليجد نفسه أمام خيمةٍ تحيط بها مجموعةٌ من النسوة اللاتي بَدَوْن كما لو أنهن ينتظرن شيئًا، اقترب أكثر منهن ليرى غجرية عجوز بعينٍ واحدة- والأخرى فارغة المحجر- تجلس وسطهن أمام الخيمة؛ والقط يتهادى ليجلس أمامها على قائميه في صمتٍ، فجأةً رفعت صوتها هاتفةً:
- نبين زيييييييييييييييين.. نبين.
بعد لحظةٍ، تركت الغجرية الأصداف التي كنت تعبث بها على فرشة الرمل المنشورة أمامها؛ ورفعت رأسها لتتأمل القط الذي ماء في خفوتٍ وهو ينظر نحو إبراهيم، التفتت نحوه تتأمله بعينها الوحيدة، ظل واقفًا يتأملها في ثباتٍ؛ فقالت له وهي تعود لأصدافها:
- تأخرت!
- أكنتِ تعرفين بقدومي؟!
لم تجبه وعادت لزبوناتها لتقرأ لهن الطالع وتفك لهن المربوط وتنثر الملح في عين كل آذٍ وحسود، تتناول من بعضهن "القَطَر" وتمنح بعضهن الأحجبة و"فاسوخات" الحظ؛ حتى فرغت الساحة حولها دون أن يتوقف إبراهيم عن مراقبتها من مجلسه القريب من خيمتها، اعتدلت تنظر نحوه هو والقط الذي تكوم ناعسًا أسفل قدميه، ثم قالت مشيحةً بنظراتها عنه:
- هو كان يعلم.
ولم تزده حرفًا، ولم يترك هو مجلسها هذا منذ ذلك اليوم بعدما قرر التخلف عن المركب التي كان يعمل بها، وإرجاء سفره إلى المحروسة لبعض الوقت متبعًا رغبته غير المفهومة في كشف ما وراء ذلك القط وسيدته الغجرية؛ خاصةً وأن العمل الذي عرضته عليه- رغم بشاعته- يوفر له أضعاف ما كان يحصل عليه من أي عملٍ سابق ولا يكلفه جهدًا كبيرًا؛ فقط بعض الحرص وهو يحضر الأمانات كل ليلةٍ من صبية الريس غباشي.
ومرت منذ تلك الليلة شهورٌ لم يتبدل فيها حال إبراهيم عما هو عليه، يقضي النهار في رعاية بعض الغنمات، أو جمع الحطب، أو أي شيءٍ من الأعمال اليومية التي يقوم بها فتيان الغجر. وفي المساء، يلازم مجلس جواهر؛ لاستقبال الزائرات- وأحيانًا بعض الزوار- حتى يحين موعد الجبانة بعد منتصف الليل بقليلٍ، فيذهب ليحضر الأمانة وبرفقته القط الذي أصبح لا يفارقه أينما ذهب أو حل، حتى هذه الليلة التي شعر فيها أن ذلك القط رسولٌ يحمل له بعض الإشارات، كان يقترب عائدًا إلى خيمة جواهر وهو يفكر أن يسألها مباشرةً عن أمر القط؛ لكنه ابتسم ساخرًا وهو يتمتم محدثًا نفسه:
- ليس كل ما يُعرف يقال أيها المغفل.
وأمام مدخل الخيمة، تسمر واقفًا وكذلك فعل القط وهو يموء في صوتٍ يشبه الصراخ؛ حتى تجمع أهل الشادر جميعًا في فزعٍ ينظرون لما وقف إبراهيم أمامه مصدومًا، فقد افترشت جثة جواهر الرمال مع خنجرٍ مغروزٍ بين ضلوعها ومن حولها انسابت بركةٌ ضخمةٌ من الدماء!

* * *
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.